"العلمانية الطائفية" - محمود حداد
"العلمانية الطائفية"
محمود حداد 1
صاغت الحياة العامة اللبنانية والعربية عدداً لا بأس به من المصطلحات السياسية المبتكرة والتي تحمل تناقضا داخليا في باقي أنحاء العالم. فكان مصطلح " الملكية الجمهورية" دالاً عربياً على واقع مرشح للانتشار على المرأى و المسمع. أما في لبنان فخرجنا بمصطلح " حكم الأقلية النيابية" باعتبارها " أغلبية شعبية"! فالانتخابات و نتائجها تعني شيئا في العالم و أصبحت تعني شيئا أخر عندنا.
والآن يبدو أننا بصدد نحت مصطلح " العلمانية الطائفية". فقد اقترح الأستاذ نبيه بري، رئيس مجلس النواب، البحث في إلغاء الطائفية السياسية في خطوة تبدو ضرورية لتحديث النظام السياسي اللبناني. وكان رئيس الجمهورية الأسبق، الياس الهراوي، قد اقترح قانوناً للزواج المدني الاختياري كخطوة لتحديث المجتمع اللبناني. ولكن أياً من الاقتراحين لم يلق الحماسة المتوقعة لأن اقتراح رئيس المجلس الحالي كان يقصد به إحراج الطوائف المسيحية بالتركيز على حقيقة أن الأغلبية العددية في البلاد خرجت من مجموعة الطوائف المسيحية النافذة وأصبحت في المجموعة الإسلامية التي يلوح بأن تصبح هي النافذة اذا ما عاد البعض الى المطالبة بصلاحيات أكثر لرئيس الجمهورية، خاصة اذا كانت على حساب رئيس مجلس النواب. وأما اقتراح الرئيس الياس الهراوي فكان القصد منه احراج الطوائف الإسلامية بالتلويح بافقادها خصوصيتها الاجتماعية، بعد ان كانت قد استطاعت تحسين موقعها السياسي في النظام الطائفي اللبناني، وفقا لاتفاق الطائف في 1989.
في الحالتين، إذاً، كان التلويح بالعلمانية قي خدمة الطائفية، وكان جزءا من لعبة "المكر السياسي" المتبعة في لبنان. صحيح أن هناك ما هو ايجابي في محتوى الاقتراحين على الورق كما يقال، لكنه يدخل في باب "كلام حق يراد به باطل" أو " كلام علماني يراد به طائفي".
هذه "العلمانية الطائفية" ليست جديدة علينا فكثيراً ما استخدمها الغرب للنيل من الشعوب المستعمرة المتعددة الاديان بالقول أن سبب تخلف بعضها—خاصة الاسلامية منها-- هو تمسكها بدينها، وأنه بدون تخليها عن حياتها الروحية لا أمل لها بالتقدم. هذا في الوقت نفسه الذي كان الغرب لا يقبل بالتعامل مع هذه الشعوب الا على أساس تقسيمها إلى طوائف ومذاهب، واعطاء بعض منها الامتيازات المادية و المعنوية كي يخلق الاحتكاكات و النزاعات الاجتماعية والسياسية بينها وبين الطوائف الأخرى.
وقد تطور الأمر في الإطار الايدلوجي والسياسي العربي في القرن الماضي فنشأت أحزاب تقول بالعلمانية كإطار للدولة وللمجتمع، ولكن تحليل المضمون الثقافي لهذه الأحزاب يوضح أنها تعادي تراثا دينياً وطوائف معينة، وترفع أعلام طوائف ومذاهب أخرى! و ضمن هذا المنحى يزداد عدد القائلين: " أنا علماني، و لكن!" و " لكن" هذه قد تعني أن طائفتي هي الأكثر علما، أو أنها وطنية بامتياز بحكم الموقع التاريخي، أو الجغرافي، أو بحكم سبقها الى الحداثة و الاتصال بالغرب، أو بحكم أنها تنتمي الى أقلية مميزة، أو أغلبية ذات فروع، أو غير ذلك من موجبات منطق " العلمانية اللاعلمانية".
و تستخدم بعض الأنظمة شعار " العلمانية" لتشير إلى تأخر جمهور الشعب الذي لا ينتمي إلى مذهبها حصرياً، هذا المذهب الممتاز الذي له الحق، كل الحق، بالانفراد بالسلطة الفعلية و تعتبر أن المذهب الديني الذي تنتمي إليه تقدمي وعلماني بالضرورة، وتلصق تهمة التعصب الديني والرجعية بالشعب الذي لم يتبق له سوى طلب الرحمة الالهية وتبرىء مؤسساتها الأكثر تعصبا و انغلاقا. (يراجع بهذا الشأن مقالة الأستاذ ياسين الحاج صالح في "ملحق النهار الثقافي" الأخير وكذا مقاله في "المستقبل" بتاريخ 6/12/2009). وقد انجر كتاب معروفون يصفون أنفسهم بأنهم "مفكرون" الى هذا الاتجاه بدعوى أنهم علمانيون تقدميون أحرار، بينما أغلبية الشعب دينيون رجعيون متعصبون. وقد ذهب أحدهم الى القول ان الجمهور يعيش حالة "عصاب جماعي". ويصف آخر مواربة هي الى الصراحة أقرب، ان المشكلة ليست في السياسات المتبعة من قبل الحاكم العربي المدعوم بالنفوذ الأجنبي، بل في الارث الثقافي الاسلامي برمته و الذي هو بطبيعته، و منذ أول تكونه، قائم على حب الثبات على القديم الديني و كراهية كل جديد يتصف بالابتداع و الجرأة و الخروج على صراط التراث المستقيم. أما الحاكم الفاسد المفسد، فلا يدخل ضمن هذه الحسابات، و يجري التدليس على دوره و القفز عليه بتغييبه عن مكونات التحليل و اطاره، بل قد يتم التحالف غير المعلن معه فتنهال على " المفكر" عروض المحاضرات و الاشتراك في الندوات و "ورش العمل الفكري’" و طباعة كتبه، و نشرها تعميما للفائدة على جمهور متهم بانه لا يقرأ و ان قرأ لا يفهم. و لذلك لا ضرورة لصرف طويل وقت في الاشارة الى نقص في وعي الجمهور و المجتمع—و هو نقص موجود ووازن بلا شك—اذ لا فائدة ترجى من تغيير لن ياتي بسبب التركيبة الخاصة و غير العقلانية " للعقل العربي"!(كم استخدم هذا التعبير و كأن الذي اكتشفه عالم من علماء الفيزياء).
أما النفوذ الأجنبي فكله خير و صحة و عافية و لا يبغي، ان اراد شيئا في الماضي أو الحاضر. الا ادخال الحداثة الى عقر دارنا-- و لو بالقوة العسكرية، أو الاستعمار الاستيطاني—دولا و مجتمعات. و مشكلتنا الوحيدة أننا لا زلنا نقاوم كشعوب و لو بما تبقى لنا من تراث و روحانيات و أجساد شبه عارية، لان وسائل المقاومة الأخرى ما نفعتنا ولم تنجدنا لا الأنظمة العربية و لا منظمات الرأي العام العالمية. فقد أثبت غرب الاستعمار و الاحتلال ( لا غرب الحضارة و الثقافة) أنه الأقوى و الأفعل. و السلامة هي في حفظ الرؤوس حتى، بل خاصة، عند عدم تغير الدول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] استاذ جامعي.