المركز اللبناني للأبحاث والاستشارات ــ المثقفون العرب والموروث الإسلامي في العقود الأخيرة
المثقفون العرب والموروث الإسلامي في العقود الأخيرة
السبت 23 تشرين الأول 2010 12:11 AM
المصدر: جريدة الشرق الأوسط اللندنية
المثقفون العرب والموروث الإسلامي في العقود الأخيرة
رضوان السيد
حضرت قبل أيام احتفاليتين بالراحل نصر حامد أبو زيد في بيروت؛ إحداهما في اليونيسكو، والأخرى في قاعة عصام فارس بالجامعة الأميركية ببيروت. والاحتفاليتان، شأنهما في ذلك شأن احتفاليات أخرى براحلين آخرين مثل الجابري وأركون، تركزان من جانب المتحدثين على الطابع المدني والعلماني والتحرري والتحريري للمحتفى بهم. وما أثارني ذلك ولا أنكرْته، لأن هؤلاء وآخرين من مثل حسين مروة وطيب تيزيني وحسن حنفي، اهتموا دائما إلى جانب قراءة التراث العربي والإسلامي (وهو الأمر الجامع بينهم)، بمسألتين أخْريين: مصارعة الإسلاميين المعاصرين على المجتمع والدولة، والدعوة للدولة المدنية والفكر العلماني (والجابري لا يحب المصطلح وإنْ قال به مضمونيا)، وإقامة المجتمع الحديث والمتقدم. إنما الذي أثار اهتمامي وانتباهي، ولدى أركون والجابري وحنفي ومروة وتيزيني، أكثر مما هو لدى الراحل أبو زيد، أن هؤلاء جميعا أرادوا توظيف الموروث الإسلامي الديني والثقافي، في مواجهة التقليديين ثم الإسلاميين الجدد - وفي وعيهم جميعا أن هذا الموروث يمثل بحد ذاته مشكلة تحول دون الحداثة والتقدم. أما فؤاد زكريا وصادق جلال العظْم وعزيز العظمة وآخرون فيعتبرون أن الدين بحد ذاته مشكلة تحول دون التقدم؛ في حين يصر المذكورون الآخرون - كما سبق القول - على أن الموروث ذاته قابل لتأويلات وتفسيرات متعددة، وأن المطلوب اصطناع تأويلات أخرى له أو لقسم منه، بحيث يتغير تأثيره أو يتحول لصالح الحداثة، أو تسقط تأثيراته الضارة على الأقل! وهكذا فإن هؤلاء جميعا، وقد قضوا عقودا مع الموروث وفيه، لا يدرسون الفكر الإسلامي الوسيط (من القرآن الكريم، وإلى القرن التاسع عشر)، باعتبار أعمالهم تاريخا للتجربة الإسلامية الدينية والثقافية في سياقاتها النصية والتاريخية؛ بل يهتمون بدراسة تأثيرات النص أو النصوص على العقل العربي أو الإسلامي قديما وحديثا، وصولا لإلغاء ذاك التأثير أو تغيير سلبياته واصطناع إيجابيات مستمدة أيضا من تأويل آخر يعمدون للنهوض به أو الإقناع به باعتباره من ضرورات الحداثة، وإقامة أعلام وصور لها متأسسة على ما ارتأوه من فهم وإفهام. وقد سبقهم جميعا إلى هذا الفهم أو الوعي الشاعر المعروف أدونيس، في كتابه: «الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب». ومع أن أدونيس ركز على الموروث الأدبي، وتيارات الإبداع والاتباع فيه؛ فإنه ما لبث أن طور الصيغة الأولى لأطروحته بحيث عاد لتأسيس الاتباعية الأدبية على اتباعية دينية جبرية قامت عليها أيضا الخلافة والسياسة والدولة منذ السقيفة وخلافة أبي بكر! وبحسب الرؤية الأدونيسية؛ فإن الإبداع العقدي والسياسي والأدبي تجلى قديما في الفِرق الدينية المنشقة، وفي الأقليات الخارجة على «الجماعة» الجبرية والمجْبرة. ولا أقصِد هنا إلى مناقشة أطروحة أدونيس، التي تلتقي مع الأطروحات الأخرى في رفض الفكر العقدي والثقافي السائد قديما وحديثا، لأنها تمضي باتجاهات أخرى وتوظيفات أخرى في القديم والحديث. وذلك لأنها رؤية شعرية إذا صح التعبير، وتعتمد توجها أقلويا في الدين والفكر والشعر شأن الشعراء. فهو على سبيل المثال لا ينصر في التجربة العربية والإسلامية القديمة النزعة الشوروية في وجه الجبرية الأموية؛ بل ينصر تيارات نشورية ومهدوية هي أشد كلوحا وانفصامية عن الجمهور وتطلعاته ومصالحه حتى من تطلعات ورؤى معاوية وعبد الملك؛ فضلا عن أن تفسيره للسقيفة لا يوافقه عليه أحد، فقد انتخب أبو بكر (أو بويع بلغة ذلك الزمان) من جانب أكثرية من الناس، ورفضت انتخابه مجموعتان صغيرتان: مجموعة سعد بن عبادة من الأنصار، ومجموعة علي من قريش. وكل تلك أمور تجري في كل حياة سياسية. ولو كان الأمر إرغاما أو أن الطريقة ما أعجبت عليا لما دخل في الحياة السياسية في زمن الثلاثة الأوائل، ولما قبل أن يرشح نفسه وينتخب أو يبايع بالطريقة نفسها! أما الاحتجاج بالنصوص الواردة عن حق قريش، وعن سلطتها الإلهية، فهي نصوص لاحقة استخدمتها أكثر الفِرق السياسية والدينية، باستثناء المحكمة أو منْ عرفوا بالخوارج، وهم شوريون متشددون، ولا تعنيهم قداسة قريش ولا حقها في السلطة، ولا أعرف أن أدونيس وقف معهم في كتاباته التاريخية أو المعاصرة! وعلى أي حال؛ فقد تنبهْت منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، إلى أن كبار المثقفين العرب عندهم مشكلة مع الإسلام، وأنهم باستثناء قلة منهم يهربون منها شكلا بالتحدث عن التراث وعن الموروث. وبعد فترة بسيطة لا تتجاوز السنوات السبع (1977 - 1985) انصرفْت عن مجادلتهم إلى مجادلة الإسلاميين الذين كانوا يقولون وما يزالون: «الإسلام هو الحل»؛ في حين كان المثقفون الكبار يقولون: «الإسلام هو المشكلة»! والطريف أن الذي نبهني إلى خطلِ وعي كل من الإسلاميين والعلمانيين كان هو ميشال فوكو صاحب مقولة المعرفة والسلطة، ومقولة القطيعة المعرفية. وقد قرأْت ذلك أول ما قرأْته لدى أركون والجابري، ثم قرأت مقولات الرجل بالألمانية والفرنسية، والنقاشات التي دارت حولها في البيئات الأوروبية في السبعينات، مع النقاشات بشأن البنيوية في الستينات والسبعينات. ظللْت استنادا للوعي الجديد أحقق وأنشر نصوصا عربية قديمة وأكتب دراسات في المفاهيم/ المفاتيح في منظومات الفكر العربي والإسلامي القديم، باعتبار ذلك إسهاما في إعادة كتابة تاريخ الفكر العربي والإسلامي. أما في المجال الحديث، فقد انصرفْت عن مجادلة القوميين واليساريين بشأن إدراكهم للموروث، إلى مجادلة الإسلاميين أو جماعات الجهاديين والإسلام السياسي على حد سواء. وكانت دراساتي في هذا المجال وما تزال نقدا للوعي الإسلامي بالموروث الديني والثقافي. إذ لا علاقة لجماهيرية الإسلاميين وثقافتهم ووعيهم بالمسائل النصية والاقتصادية والسياسية بنصوص التراث الإسلامي إلا على سبيل الرمز والتوظيف في عمليات الصراع على المجتمع والدولة ورؤية العالم والعلاقة به. بمعنى أن الظاهرة الإسلامية هي إحدى ظواهر الحداثة في وجوه تفاوتها وتأزمها. أما الموروث الديني والفكري والثقافي فلا يمكن سؤاله عن مشكلاتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كما يفعل الإسلاميون. وقد تابعت ذلك في كتبي، وفي المجلتين اللتين كنت أحررهما: «الفكر العربي»، ثم «الاجتهاد». وخلال ذلك، كان المفكرون العرب الكبار - فيما بين السبعينات والتسعينات - يمعنون في منهجة الموروث أو تأويله أو تفكيكه، وفي حسبانهم أنهم بذلك إنما يحررون الناس من «الموروث» أو يحررون الموروث نفسه من الناس (أو لم يقل أدونيس في مجلة «مواقف» إنه من الضروري تحرير القرآن من الكثرة الديموغرافية للمسلمين؟!) أو من الإسلاميين الذين يستغلونه بغير حق. فهناك من كان يقول (شأن مروة وتيزيني ثم انضم إليهما آخرون) إن الفكر الإسلامي الكلاسيكي يتضمن اتجاها تقدميا وآخر رجعيا، وإن الاتجاه التقدمي متمثل في الفلاسفة والمعتزلة والقرامطة ومنْ قاربهم، والاتجاه الرجعي متمثل في الفقهاء والمحدثين وبعض المتكلمين، أو أهل السنة، والمطلوب نصرة التقدميين أو إحياء فكرهم للخروج من التقليدية الإسلامية السنية (التي يسميها محمد أركون: الأرثوذكسية). وعندما تنبهوا متأخرين إلى أن التقليدية المسكينة تهالكت تحت وطأة ضغوط الدولة والإسلاميين الجدد وتغيرات الزمان، سارعوا إلى مواجهة الإسلاميين (أتباع رؤية: الإسلام هو الحل) بالهجوم على الأصالية وعلى ابن تيمية وابن حنبل.. والشافعي والغزالي، باعتبارهم ما يزالون مسيطرين على وعي الإسلاميين ومشاريعهم وتصرفاتهم، أما الدليل فهو استشهاد هؤلاء بهم أو اعتبار مشروعهم مشروعا للدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة وهؤلاء رموزها الباقية. وقد نسوا وهم يمعنون في ذلك ما علموناه عن القطيعة المعرفية، وعن الفوات التاريخي، كما تجاهلوا ما يجب القيام به - وهم أهل المناهج الحديثة - من انصراف إلى نقد الوعي لدى الإسلاميين، ولدى أنفسهِمْ هم في هجاسهم بذاك الموروث وتأثيراته الضارة.
ولست أزعم أن جيلينا راد اتجاه «التاريخ الثقافي»، واعتبار النصوص المحققة والمنشورة نشرات علمية جزءا من ذاك التاريخ. فقد سبقنا إلى ذلك جيلان على الأقل: جيل طه حسين وأحمد أمين وشوقي ضيف، وجيل محمود شاكر وإحسان عباس وعبد العزيز الدوري وصالح أحمد العلي. فقد كتب كل من أحمد أمين وشوقي ضيف في التاريخ الفكري والثقافي والأدبي العربي والإسلامي كما أنهما حققا ونشرا نصوصا مهمة. أما أساتذتي المباشِرون (عباس والعلي والدوري) فقد صاروا في أعمالهم الرائعة نموذجا نهضويا للأمرين، وما ادعى أحد منهم أن التجدد في فهم التاريخ الفكري للأمة، سببه ضرورة مكافحة الإسلاميين أو الإسلام الذي ما يزال مؤثرا أو خانقا للتجدد في حاضر الأمة ومستقبلها.
وقد قلت من قبل إن الراحل نصر أبو زيد ما كان بداية من القائلين بأن الموروث مشكلة بسبب تأثيراته الضارة والمستمرة. بل أراد أن يجدد في مناهج فهم النص القرآني ودراسته. لكنه اشتبك مع الإسلاميين في التسعينات، فانصرف إلى ما انصرف إليه المثقفون البارزون الآخرون، أي قراءة الموروث قراءة تصنيفية رجعية أو تقدمية، وفي حسبانه أنه بذلك إنما يتصدى لاستغلال الإسلاميين لذاك الموروث في صراعهم الثقافي والسياسي على المرجعية في المجتمع والدولة. ولو أنه مضى في مشروعه الأول (قراءة القرآن قراءة أدبية أو تاريخية) لظل استمرارا بناء للجيلين السابقين، جيل طه حسين، وجيل أمين الخولي وإحسان عباس. وهذا يعني أنه لو تابع اتجاهه الأول، لظل بمنأى عن أدلجة التراث سلبا أو إيجابا، وهو الأمر الذي وقع فيه أكثر منه بكثير كل أعلام الفكر العربي والإسلامي أمثال العروي (الذي بدأ متميزا أيضا) وأركون والجابري وحنفي.
ما معنى هذا الآن، ولماذا يكون علينا أن نعود لمراجعته؟ معناه أن الفكر العربي الفلسفي المهجوس بالموروث وعبئه، إنما انهمك بإشكالية مغلوطة أو لا جدوى منها. فهؤلاء بالذات – وبسبب تلك الإشكالية الموهومة - ما أسهموا كما ينبغي في فهم أفضل لتاريخنا الفكري، ولا استطاعوا مكافحة الإسلاميين النضاليين بهذه الطريقة. ومن جهة أخرى فإن الحاضر العربي يغص بالمشكلات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي كلها من نتاجات الحداثة والعولمة، ولا يفيد في شيء تأصيلها إيجابا (كما يفعل الأصوليون) ولا سلْبا (كما يفعلون هم) في التراث أو الموروث. بل الأجدى توظيف المناهج الحديثة التي يتقنونها في نقد الوعي، وإعادة بناء الحاضر، والعمل على بلورة أطروحات لفهم تلك المشكلات، والنضال من أجل تحقيقها في الحاضر، وبقيم المعاصرة الضرورية بالفعل في إدراك المشكلات المشهودة والوصول إلى حلول لها.
لقد أفدْت كما أفاد أبناء جيلي من تقنيات قراءة النص، ومن العروض الكاشفة في التاريخ واللسانيات والأنثروبولوجيا والاجتماعيات، ونظرية الأدب، التي أتْقنها الأساتذة الكبار، لكنهم استخدموها في مناطحة الموروث الإسلامي المقدس وغير المقدس. وإنه لجهد كبير، وإنها لمعرفة هائلة؛ إنما أخشى ما أخشاه أن تكون رؤاها وفائدتها في الأمد القريب والمتوسط فضلا عن البعيد، ضئيلة أو غير منظورة ولا مؤثرة.
كان الراحل حسن حمدان (الملقب بمهدي عامل، وهو أحد منظري الحزب الشيوعي اللبناني) يسمي جيلنا المرتبك من غير اليساريين أو المرتدين عن اليسار: «جيل التراثيين الجدد من أهل الفكر اليومي»، ولا شك أن «الخلود» ما كان من سِمات ولا طموح محاولاتنا البدائية، لكنني أبقى عميق الاقتناع بأن المراجعة المستمرة ضرورية، وبخاصة إذا تعلق الأمر ببراديغم أو «إشكالية» صارت هجاسا وعنوانا لمرحلة استمرت على مدى خمسة عقود، وقد تستمر لعقود مقبلة، وهي وجهان لعملة واحدة: «الإسلام هو المشكلة»، أو «الإسلام هو الحل»!
حقوق النشر محفوظة © 2010، المركز اللبناني للأبحاث والاستشارات.