الجمعيات الثقافيّة في الظروف الراهنة
الجمعيات الثقافيّة في الظروف الراهنة
في الحقيقة ، قبل الإجابة عن هذا السؤال ، لا بدّ من توضيح المصطلحات المستعملة : مؤسّسات ، ثقافة ، مثقّف ، إلخ .. فهناك في الواقع مؤسّسات ، مجمّعات ، جمعيات ، جميعها تطلق على نفسها صفة الثقافة . فهل يمكننا في هذه الحالة أن نُدخل " مجمّع نبيه بري الثقافيّ " مثلاً ، وهو مجمّع حديث وضخم وذو إمكانيات ماليّة وتقنيّة ووظيفيّة كبيرة ، وكذلك وفي هذا النطاق " مؤسّسة الحريري الثقافيّة " ذات النفوذ والسلطة السياسيّة والماليّة الاجتماعيّة ، هل يمكننا ، أقول ، إدخال هاتين المؤسّستين " الثقافيتين "، أو غيرهما من هذا النموذج نفسه ، في جملة ، في " سلة " الأندية والجمعيات الثقافيّة ، الشبابيّة ، التطوّعيّة القائمة والمنتشرة في الجنوب ؟!..
هناك جمعيات وجمعيات ، وأندية ثقافيّة واجتماعيّة ورياضيّة منتشرة انتشاراً واسعاً ، أكاد أقول في كلّ قرية وبلدة ومدينة .. ولكن ، واقعياً وما يجري على الأرض ، أغلبها يخضع بشكل أو بآخر ، لتأثير النفوذ السياسيّ المحليّ ، لهذه القوّة السياسيّة " الحركيّة " أو تلك .. أو بكلمة ، لا تستطيع أيّ مجموعة " ثقافيّة " أن تنتقد علناً أو أن ترفض صراحة عمليات القمع المباشر أو غير المباشر . لا شكّ في أنّ هناك ، بالرغم من هذا الواقع ، جمعيات ثقافيّة تتخذ شكل المعارض مع كثير من الحذر والثوريّة ، أو تعتمد المواربة وأحياناً الانتهازيّة المقنعة .
وهذا ما يدعو إلى القول بأنّ هذه التجمعات الثقافيّة تعيش في الأوضاع الراهنة ، بل وفي مأزق حقيقيّ ، عضويّ وفكر تقليديّ متقلب : كلّ ذلك ، طالما أنّ الديمقراطيّة غير متوافرة عندنا ، وحريّة الرأي والتعبير مفقودة ، ولا وجود لهما في الممارسة والعمل .. هناك هامش من التحرّك "الثقافيّ "، عام في طروحاته ومواقفه وملتبس ، لا تستطيع أيّة جمعيّة في أغلب الأحيان أن تتجاوزه أو أن تقفز فوقه ، خصوصاً في تلك القرى والبلدات وبعض المدن الجنوبيّة ، التي تدخل في ضمن "حظيرة " نفوذ القوى السياسيّة المسيطرة ، هنا أو هناك . هذا طبعاً إذا استثنينا عدداً قليلاً من المؤسّسات الثقافيّة ، الديمقراطيّة ، الحقيقة في صيدا أو في غير صيدا .. مثلاً ، في مدينة صيدا ، إنّ ما يتمّ على الأرض منذ سنوات عديدة إنّما هو الهيمنة التدريجيّة المركزة والسيطرة التامة بأيّ وسيلة كانت ، خصوصاً استخدام سلاح المال كأداة إغراء ، كأداة ترغيب أو ترهيب أيضاً ، واحتواء ما هو موجود حديثاً أو عريقاً من جمعيات ثقافيّة واجتماعيّة وخيريّة وغيرها ، وآخرها رياضيّة .
يضاف إلى ذلك ، وهو ما يلاحظه أيّ مراقب ، تسرع بعض الجمعيات الناشئة حديثاً من أجل الحصول على " علم وخبر " من وزارة الداخليّة عن طريق هذا الزعيم السياسيّ أو ذاك أو للوصول بأسهل الطرق إلى لعب دور اجتماعيّ أو سياسيّ . لذلك نجدها تسعى بكلّ جهد ووسيلة إلى إرساء صلات من العلاقات السياسيّة ، واستجداء المساعدات الماليّة الكبيرة من متمولين وسياسيين على حدّ سواء ، لعقد هذا المؤتمر أو ذاك الاحتفال التكريميّ .. أو في أحسن الحالات ، مراعاة والقوى السياسيّة المهيمنة في المنطقة ، و إدخال ممالأة ممثلين في هيئاتها الإداريّة ، أو رئاستها ..
فهل نستطيع في هذه الحالة أن نتحدّث ، بموضوعيّة ، عن دور هكذا جمعيات أو مجمّعات ثقافيّة وقيامها بمسؤوليّة وتحمّل رعاية النشاط الثقافيّ و" احتضان المثقّف " وأيّ مثقّف ، كما ورد في السؤال ؟!.. الثقافة في مفهومها الحقيقيّ وكما أتصورها ودون الدخول في التفاصيل والتعريفات ، هي الثقافة الاعتراضيّة في النظريّة وفي الممارسة ، الثقافة النقديّة للواقع السياسيّ والاجتماعيّ ، والدعوة والعمل في آن لتغييره ولمصلحة الإنسان وأوسع طبقات الشعب الكادحة والمحرومة والمقهورة .
والمثقّف بهذا المعنى أيضاً هو المثقّف الجذريّ ، الملتزم بقضايا الشعب والإنسان والمجتمع والمعبّر كتابة وشفاهة ، عن طريق الإنتاج الفكريّ أو الممارسة العمليّة أو في كليهما ، عن مصالح الجماهير التي لا صوت لها ، وتوضيح وعيها المتكامل . ففي هذا المعنى فقط ، هناك دور للمثقّف الملتزم ، الجذريّ ، يجب عليه أن يلعبه ، ولا يمكن لغيره أن يلعبه في الظرف الراهن .
وأمّا التمييز ، برأيي ، بين ما هو سياسيّ وما هو ثقافيّ ، فإنذما هو تمييز وهميّ ، اعتباطيّ ، شكليّ : فكلّ ما هو ثقافيّ حقيقيّ هو سياسيّ ، في نهاية التحليل ، وبالمعنى الإيجابيّ للكلمة .. وكلّ ما هو سياسيّ هو ثقافيّ أيضاً ، فكريّ ، في المنطلقات وفي المواقف العمليّة ، بمعنى وعي حقيقيّ وواقعيّ ، نظريّ وفي الممارسة ، لظروف المجتمع ، من أجل تغيير هذا الواقع السياسيّ ولمصلحة الإنسان ..
.. في هذا السياق العام ، تلتبس مفاهيم الثقافة وتضطرب وتتناقض في ما بينها ويصيبها الغموض والضياع ، وتختلط الأمور . فلا يستطيع الرأي العام التميّز في " مواجهة التطبيع " مثلاً أو دعم المقاومة أو رفض مفاوضات الاستسلام والخنوع التي تجري حالياً بين الدول العربيّة والدولة العبريّة ، فيلتبس التمييز والتفريق ـ أقول ـ من قِبَل المواطن ، بين من هو من الموالاة ، ومن هو من المعارضة ، فيختلط الحابل بالنابل في الذهن .. فهنا تكمن ، في ما أرى ، الخطورة الكبرى وصعوبة المرحلة الانتقاليّة وغموضها ..
ولكن ، من هنا أيضاً ، أرى دور المثقّف الجذري ، والثقافة الملتزمة ، لتوضيح بين ما هو حقيقيّ وما هو مزيّف ، بين ما هو ديمقراطيّ وما هو انتهازيّ . لذلك ، فلا يجوز في هذه الحالة أن يستقيل المثقّف الملتزم أو أن تنكفئ الثقافة الجذريّة ، بالرغم من جميع الصعاب ، وهي كثيرة ، التي تكتنف عملهما : فلا شيء يدوم ، كما علمنا التاريخ ، وإنّما في مرحلة الأزْمات والهزائم والتراجعات ، يجب أن تتكوّن وفي هذا الظرف بالذات نواة التغيير ، قوى التغيير المستقبليّة ، انطلاقاً من الثقافة ، وأن تنبثق هذا الواقع السياسيّ والفكريّ المهزوم ومن نقد التجربة أو التجاري السياسيّة السابقة ..