د. دندشلي - تاريخ حزب البعث - الدكتـور علـي جابـر(5)
المقابلة الخامسة والأخيرة مع
الدكتـور علـي جابـر
بتاريخ 19 آذار 1987
الموضوع: حزب البعث العربي الاشتراكي وتطوُّره
من خلال التجربة الشخصية…
أجرى المقابلة والتحرير: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … في هذا اللقاء د. علي (جابر)، أودّ لو يجريَ الحديث، وبشيء من التفصيل، إن أمكن، حول العوامل أو الأسباب الحقيقية التي أدَّت إلى وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى استلام السلطة في سوريا في 8 آذار عام 1963، مع الإشارة، بحسب المعلومات لديك، إلى التنظيم الداخلي للحزب في تلك الفترة، وعلاقات فروع حزب البعث بعضها مع بعض…(*)
الدكتور علي جابر: … كنا قد أَلْمحنا في الجلسات السابقة إلى محاولة إعادة تأسيس حزب البعث وتنظيمه في سوريا، في مرحلة الانفصال وقبل انعقاد المؤتمر القومي الخامس. بيد أن الطريقة التي اتبعت لإعادة تنظيم الحزب، لم تكن مدروسة كما يجب أن تكون. فقد تأثرت بالجوِّ العام الذي خلفته تجربة الوَحدة الفاشلة، هذه التجربة الوَحدوية المرَّة بسلبياتها، كانت قد أثَّرت في الجوِّ العام في محاولة إعادة تنظيم الحزب بحيث أصبح هناك نوع من السلبية والحذر من كل تعامل وتعاطف مع كل ما ومَن يسمى بـ "الناصرية"، وشخص عبد الناصر بالذات. مع العلم أن تيار أكرم الحوراني كان يُعتبر في الأساس أنه ضد الناصرية (anti - nassériste) بالكامل. في حين، أن التيار الآخر، أي تيار الحزب الأساسي (أي تيار ميشال عفلق والقيادة القومية)، هو أيضاً رغم الهُوية التي يتمتع بها والشعارات التي يرفعها من أجل إعادة تنظيم الحزب وأنه يعمل على أن يُفرِّق بين عبد الناصر والوَحدة أو الاتحاد، رغم كل هذه الشعارات وهذه الأفكار، أيضاً كان متأثراً هذا التيار في تنظيمه بتيار أكرم الحوراني. في هذه الناحية وكأن حزب البعث كان قد "تعقَّد" (أي أصبح لديه عُقْدة عبد الناصر).
س: … يعني، بتعبير آخر، أن التيار العام داخل حزب البعث العربي الاشتراكي بشتَّى تياراته، لم يكن في نهاية التحليل، لا لصالح عبد الناصر، ولا بالتالي لصالح الناصرية… هذا إذا لم نقل بأن الجو العام البعثي كان عدائياً، إلى هذا الحدِّ أو ذاك للرئيس عبد الناصر ولشخصه بالذات!!…
ج: … نعم، إلى حدٍّ ما، ولا سيّما بعد قيام "ثورة 14 رمضان" (8 شباط 1963) ووصول حزب البعث العربي الاشتراكي (القيادة القومية) إلى استلام الحكم في العراق، فقد عزَّز هذه المقولة بأن الحزب يستطيع أن يستمر ولوحده، ولم يعد قاصراً ولا بحاجة إلى تأييد أو دعم من جهة عبد الناصر. والدليل على ذلك أنه قام بـ "ثور مظفّرة" ضد حكم عبد الكريم قاسم واستلم السلطة في بغداد. وفي هذا السياق، نذكر أيضاً الخطاب الذي ألقاه علي صالح السعدي، في القاهرة وبرفقة عبد الناصر، خطاباً عنيفاً وفيه غمز قوي من سياسة عبد الناصر. وبحسب ما عرفنا أن حزب البعث في العراق، قد كان وراء إعادة تنظيم الحزب في سوريا، وكان المساهم الأول في هذا الاتجاه بالتنسيق مع القيادة القومية من أجل إعادة التنظيم. وكذلك، كان مساهماً إلى حدٍّ كبير في تشجيع قيام انقلاب 8 آذار 1963 في دمشق. مع العلم أن القادة المؤسِّسين وعلى رأسهم الأستاذ ميشال عفلق والأستاذ صلاح الدين البيطار، حينما جاءا إلى لبنان وزاراني في المنزل وكنت أنا ممدَّداً على ظهري بسبب وعكة "الديسك" التي أصابتني، كان الاتفاق إرجاء الانقلاب العسكري (البعثي) في سوريا ـ وكان ذلك، كما أذكر، في أواخر شهر شباط 1963، عند عودتهما من مؤتمر السلم العالمي في دار السلام وكانا يزمعان الذهاب إلى العراق من أجل التهنئة، وفي نيَّاتهما تأخير القيام بالانقلاب في سوريا، وذلك لبينما يتقوَّى مركز الحزب ويتثبَّت موقعه في العراق، ويتركَّز أسس وقواعد ما قام به، فهو حتى الآن ليس بالثورة الكاملة ولا بالانقلاب البحت.
إنما، فيما يظهر وكالعادة، لم تكن القيادة القومية على هذا المستوى من الحزم، مستوى فرض القرارات، اتخاذ القرارات ومن ثمَّ فرضها. بل كانت بالأحرى توضع دائماً تحت الأمر الواقع، بمعنى أن فرع الحزب القوي هو الذي يفرض على القيادة القومية وجهة نظره وخططه. وهكذا، وجرياً على العادة، حصلت حركة 8 آذار بشكل معاكس لمخطَّط القيادة القومية.
س: … طيِّب، بمعنى آخر، د. علي (جابر)، في رأيك الشخصي، هل كان باستطاعة القيادة القومية، في تلك الظروف السياسية، الداخلية والخارجية التي نعرفها، ولا سيّما في ما خصَّ حزب البعث بالذات، هل كان باستطاعتها تأخير عملية الانقلاب في 8 آذار في سوريا؟!…
ج: … لو كان باستطاعتها، لأخَّرت حدوثه في ذلك التاريخ. لقد كان لديها الرغبة في التأجيل ولديها الرؤية، وكما كانت القيادة القومية تتصوَّر أنه (الانقلاب) "في اليد". ذلك أن الحديث عن حدوث انقلاب عسكري يتداوله الرأي العام السوري صباح مساء، وليل نهار في الأيام والأشهر القليلة قبل قيام حركة 8 آذار. فكان مطروحاً حدوثُ شىء ما والجميع يتهيأ لانتظاره. والحكم في أواخر مرحلة الانفصال وصل إلى درجة الإفلاس والأوضاع السياسية مهترئة والانقسامات الحادَّة بين القوى السياسية، من كل التيارات، على قدم وساق وداخل الجيش السوري نفسه على وجه الخصوص.
فإذن: "الانقلاب باليد"، كما كانت تتصوَّر القيادة القومية وميشال عفلق تحديداً. والجيش في تلك الفترة بالذات، كان قد تحوَّل إلى كُتل عسكرية متنافرة ومتصارعة فيما بينها، وكل مجموعة من الضباط موالية لقوة سياسية معيَّنة. لذلك، لو كان باستطاعة القيادة القومية تأخير ساعة الانقلاب، فقد كانت لديها الرغبة في ذلك، ولكنها لا تستطيع. إن الغاية من وراء فكرة التأجيل، حتى تأتي الحركة الانقلابية بطريقة مدروسة ومهيأ لها جيداً، ولكي لا تقع تحت قيادة أشخاص غير حزبيين: مثلاً زياد الحريري ولؤي الأتاسي وغيرهما، إلخ… (هذا الرأي يحتاج إلى شىء من التدقيق والتوقف أمام الصراع الضمني، ولكنه حاد وعنيف، بين التيار للضباط الناصريين وتيار الضباط البعثيين وحلفائهم من المستقلين. فإذا كانا يعملان في الشكل معاً من أجل التخلُّص من حكم الانفصال، إلا أنه ضمناً وفي الخفاء، كان يعمل كل فريق منهما على أن يسبق بالقيام بحركته الفريق الآخر. وهذا في الحقيقة والواقع، ما دفع الضباط البعثيين وحلفاءهم لكي يستبقوا الموعد المحدد ويقوموا بحركتهم لحسابهم الخاص. على العموم، لنا عودة إلى تفصيل هذا الموضوع في مناسبة أخرى).
على هذا الأساس، وكما نذكر، فإن حركة 8 آذار 1963، أتت محصِّلة تعاونِ كتلِ سياسية وعسكرية عديدة وفي المقدمة: فريق حركة القوميين العرب، فريق التيار الناصري وآخرون من المستقلين…
س: … أَلَم يكن هناك داخل الجيش السوري من منافسة بين الكتل حول استلام السلطة؟!… وكما يذاع ويقال بأن الضباط البعثيين كانوا قد اضطروا للإسراع في القيام وتنفيذ عملية الانقلاب خوفاً من قيام حركة انقلابية كان يحضِّر لها الضباطُ الناصريون… وهذا ما جعلهم أن يسرعوا في القيام بحركتهم، فيما يبدو…
ج: … نعم!!.. وهذا وارد ومعقول، وإنما لم يكن لديهم (الناصريون) الضمانة في نجاح حركتهم الانقلابية. وذلك لوجود حزب البعث العربي الاشتراكي في الحكم في العراق. لقد كان القطر العراقي ـ كقطر كبير ـ وهو مجاور لسوريا وتحت سلطة حكم حزب البعث، فأيُّ فريق يريد أن يقوم بانقلاب في سوريا، يجب عليه أن يأخذ بعين الاعتبار ذلك الواقع. فمن الصعب جداً أن يقوم الانقلاب وينجح، دون مساهمة الفريق المسمَّى بعثياً….. فضلاً عن ذلك، فإن حركة 8 آذار التي أخذت صفة البعث، جاءت محصَّلة لتنظيمات تدعمها قاعدة حزبية طويلة عريضة في البداية. لهذا، رغبت مجموعة البعثيين العسكريين في القيام بتنفيذ هذا الحدث، ورضيت بأن تكون قيادتها حيادية (في بادئ الأمر) وغير حزبية، وهي قيادة اللواء زياد الحريري واللواء لؤي الأتاسي وغيرهما…
وكما نذكر، فإن بعد حركة 8 آذار، حصلت تطوُّرات عديدة، أدَّت إلى نتيجة (حتمية، ولكنها طبيعية، وهي) تصفية الحكم وجعله في يد الفريق البعثي وبمساعدة حزب البعث وسلطته في العراق. وقد علمنا فيما بعد أن الفريق البعثي الذي كان له الدور والأهمية الكبرى في قيام حركة 8 آذار، هو "اللَّجنة العسكرية". أما على الصعيد الشعبي، فقد كان حزب البعث في التطَّور الأوَّلي لإعادة تنظيمه وبنائه من جديد، وعدده محدود من العناصر القديمة. (ولكن التيارات والكتل البعثية من مختلف الاتجاهات والمتعاطفة معها، كانت كثيرة جداً ومن جميع أنحاء مناطق سوريا، في المدن والأرياف…) في هذه الحالة والأوضاع السائدة لحزب البعث الداخلية، كانت اللَّجنة العسكرية قد استطاعت بمقدرتها (التكتيكية) وبمساعدة الحكم البعثي في العراق أن تصفّي الوضع الجديد القائم في سوريا بالتدريج لصالحها.
س: … هنا وفي هذا النطاق، سؤال يُطرح أو سؤالان ـ لست أدري إذا كنا قد تطرقنا إليهما في لقاءاتنا السابقة ـ من جهة كيف يمكن أن نُفسِّر موقف أكرم الحوراني العنيف ضد الناصرية وضد عبد الناصر بالذات، ومن جهة أخرى هذا الفارق في الموقف بينه وبين موقف القيادة القومية؟!… لا شك في أن هناك التقاءات فكرية وسياسية عديدة، فيما يبدو، بين نظرة أكرم الحوراني والقيادة القومية إلى عبد الناصر ونظامه. ولكن الخلاف في وجهات النَّظر تلك، إنما في طريقة التعبير وفي الشكل وفي الأسلوب المتبع: أكرم الحوراني أخذ موقفاً عنيفاً جداً ضد عبد الناصر حينذاك، في حين أن القيادة القومية وميشال عفلق بالذات، بدا على الأقل ظاهرياً، موقفهما متردِّداً، بمعنى أنهما ينتقدان نظام الحكم السابق في الجمهورية الموحَّدة ويدعوان في الوقت نفسه إلى إعادة الوَحدة الاتحادية على أسس جديدة وتأييدها، ومع الرئيس عبد الناصر، إلاّ هذه الانتقادات إنما هي انتقادات كانت ترتدي طابع الاعتدال على الأقل في الظاهر.. فما هو إذن سبب هذه الحملة الشعواء ضد عبد الناصر وضد فكرة إعادة أي شكل من أشكال الوَحدة معه، لدى أكرم الحوراني؟!…
ج: … هذا راجع، في تقديري، إلى تكوين شخصية أكرم الحوراني. أكرم الحوراني، إنه من النوع السياسي الذي يؤمن بالوضوح والصراحة في المواقف والحسم في اتخاذ القرار. وهذا ما كان يكرِّره دائماً: إن أخطر شىء على السياسي أن لا يكون واضحاً. فالوضوح مطلوب في كل حال. (ولكن العكس أيضاً هو الواقع وهو السائد في العمل السياسي: بمعنى أن أخطر شىء على رجل السياسة أن تكون مواقفه وآراؤه حادَّة الوضـوح وشديـدة الصراحـة، هذا إذا انطلقنا من مقولة: أن السياسة فن الممكن. والسؤال الذي يطرح نفسه، مع البعد الزمني: أَلَمْ تكن مواقف أكرم الحوراني السياسية العنيفة والتي تجاوزت كل الحدود، قد فوَّتت فرصاً عديدة من الناحية المبدئية، لإعادة "لُحمة ما تهدَّم" وإقامة وَحدة اتحادية جديدة وعلى أسس وقواعد سليمة وديمقراطية ولصالح البلدَيْن ولتحقيق هدف مبدئي ناضل الجميع من أجله زمناً طويلاً وهو الوحدة العربية؟!… وقد يقول قائل: ليس أكرم الحوراني فقط، وإنما أيضاً عبد الناصر ومن موقعه القائد، كان قد أضاع فرصاً لا تُعدُّ ومرّات ومرّات في هذا الاتجاه. وهذه الناحية، للأسف، لم تُبحث بعدُ، ولو على سبيل التذكير والاجتهاد والتحليل التاريخي، وإن كان لا يمكننا أن نعود بالتاريخ إلى الوراء!!..).
ولكن، إذا نظرنا إلى ما جرى من جميع جوانبه، فإننا نحد ما يلي: بالنسبة إلى "الحذر" من قِبَل شخصية عبد الناصر وسياسته الفردية المطلقة، فإنني أعتقد أن الطرفَيْن، أكرم الحوراني وعبد الناصر، هما من موقع واحد، وهو موقع حذر الشك، الواحد في الآخر. وهذا هو رأيي، بعد التجربة والخبرة الطويلة. وترجمة هذا "الحذر" أن يكون موقف أكرم الحوراني شىء وموقف القيادة القومية وميشال عفلق شىء آخر. إن موقف أكرم الحوراني ليس لديه هذا المحذور أن لا يكون واضحاً كل الوضوح، أما القيادة القومية فلديها على العكس محذورٌ (داخلي وذاتي) أن تكون واضحة في مواقفها (التاريخية الحرجة). والسبب بالدرجة الأولى هو حرصها على مراعاة الرأي العام العربي ـ وهي كحركة قومية نشأت من جذور قومية ومنطلقات قومية وأهداف قومية، وبنت تنظيمها على هذا الأساس ـ يهمُّها مراعاة مشاعر الرأي العام العربي، وهذا العالم العربي من المحيط إلى الخليج، الذي أُخذ حتى الأعماق بالرئيس عبد الناصر وقيادته ومَلَك عليه مشاعره وانجذب إليه، إن القيادة القومية، لا تستطيع بأيِّ حال أن تتجاهل هذا الواقع: من جهة فهي تريد وتسعى إلى أن تنسجم مع مبادئها القومية ـ وهي مبادئ تتجاوب مع تطلعات الرأي العام العربي ـ ومن جهة أخرى هي مسؤولة (المسؤولية التاريخية) أن تحذِّر من سياسة عبد الناصر (الفردية وحكمه المطلق). (لهذا، فإن موقف أكرم الحوراني من عبد الناصر وحكمه وقيادته مختلف كل الاختلاف في المنطلقات المبدئية والغايات البعيدة، عن موقف القيادة القومية وأمينها العام ميشال عفلق).
وإن الفترة التي مضت بين 8 آذار 1963 والمؤتمر القومي السادس من السنة نفسها وبعده، كانت تجري طوالها صراعات داخلية في سوريا حول مفاهيم عدة للعمل الوطني وللعمل العربي، بين المفهوم الناصري ومفهوم عبد الناصر تحديداً من جهة، وبين المفهوم العسكري في سوريا للعمل الوطني والقومي، الذي تلبَّس لباساً بعثياً ولباساً ناصرياً ولباساً ماركسياً من جهة أخرى. هذا يعني أن كل هذه المفاهيم كان يختفي من ورائها العسكر.
وبالإضافة إلى هذه المفاهيم جميعاً، هناك أيضاً المفهوم الحوراني الذي هو أقرب إلى المفهوم الإقليمي ـ بمعنى سوريا ومصلحة سوريا في الدرجة الأولى. في تاريخ أكرم الحوراني السياسي، لم نتحدَّث ولا مرة أنه كان قد ضحَّى بالمصلحة الإقليمية من أجل المصلحة القومية(؟!) لقد اقترح حزب البعث مرة أن يُعتمد مرفأ بيروت ويُعزَّز ولا يُخلق منافس له في مرفأ اللاذقية، وبالمقابل، يُعزَّز مطار دمشق الدولي حتى لا يكون منافساً له مطار بيروت. بمعنى آخر، أن يكون هناك تكامل بين البلاد العربية بدل التنافس، ولو حصل نوع من التضحية السورية مقابل إنجاز وتكامل قومي. فأكرم الحوراني لم يكن حريصاً كل الحرص على تجسيد هذا المفهوم وتوضح هذا المبدأ وهذه الرؤية القومية. لقد كان حريصاً أكثر ما يكون، على النهوض بالقطر السوري وأن يقود غيرَه من الأقطار العربيـة أو أن يتعاون مع الأقطار الأخـرى من موقع قويّ وعلى قدم المساواة، موقعٍ له فيه إدارة مستقلة وعدم الاستعداد للذَّوبان. (في الحقيقة وواقع الأمر، فإن وُجهة النَّظر هذه إنما تحتاج إلى مناقشة طويلة وتفصيلية، ذلك أن طروحات أكرم الحوراني الأيديولوجية، الوطنية والسياسية، هي أيضاً ومنذ البداية طروحات قومية عربية واشتراكية ونضالية شعبية في آن، ابتداءً من معركة الاستقلال الوطني والقضية الفلسطينية واشتراكه في خوض غمارها، إلى دوره الفاعل والأساس في قيام الوَحدة السورية ـ المصرية. لذا فإن هذه القضايا وغيرها إنما تحتاج إلى بحث وتدقيق وتوضيح وأكثر تفصيلاً…).
س: … طيِّب، هنا وفي هذا النطاق، حتى ولو عدنا قليلاً إلى الوراء، يُطرح سؤال وكان قد طُرح في حينه عام 1957، هل كان باستطاعة حزب البعث العربي الاشتراكي أن يستولي على السلطة السياسية والحكم في سوريا؟!… وذلك بما كان له من نفوذ سياسي وشعبي وبخاصة من قوى داخل الجيش السوري آنذاك والتيار الجماهيري بقيادة الحزب….
ج: … (مقاطعاً) إن أسئلتك حسّاسة ودقيقة، وهي تدُلّ بالفعل على اطلاعك الواسع في هذه القضايا. صحيح ما تقوله: لقد كان الموضوع مطروحاً فعلاً، فلو كان حزب البعث، بنيانه سليم من حيث التنظيم الشعبي، وقيادته التاريخية قيادة حزبية حاسمة وثورية، فقد كانت الأجواء السياسية جميعها مساعدة لكي يستلم الحكم في سوريا، ويستلم الحكم كحزب. وإنما، رغم هذه الأسباب مجتمعة، هناك عجزُ القيادة، قيادة الحزب (وتناقضاتها) وضعف التنظيم الحزبي. وكما سَبق لي وقلت، لقد نادى حزب البعث بالوَحدة مع مصر للتعويض عن ضعفه، وهذا بنظري الشخصي ، وذلك لحفظ مكانة القائد المؤسِّس، الأستاذ ميشال عفلق، ودوره في القيام بعمل قومي وحدوي جبَّار وكبير، ويأمل أن هذا العمل سيكون مستقبلاً نواةً لتحقيق مبادئ البعث الأساسية. غير أن هذه الفترة بالذات قد كانت فترة "بعث"، فترة البعث من حيث السُّمعة القومية والنضالية وجوّ عام وتفكير محصَّلة نضال طويل.
س: … وقبل أن ننتقل إلى موضوع آخر ونتحدث عن مرحلة الصراع الحادّ داخل حزب البعث الحاكم في سورية بعد حركة 8 آذار، أودّ أن نتطرَّق إلى الأسباب التي أدّت إلى انشقاق القيادة القطرية في لبنان، بعد المؤتمر القومي الخامس صيف 1962.
ج: … إن انقسام حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان، قد كان ثمرة من ثمرات الصراع الفردي الدائر بين أكرم الحوراني وميشال عفلق. لقد كان أكرم الحوراني وتياره نقطة جذب لفريق من حزب البعث، وعلى رأسه عبد الوهاب الشميطلي في لبنان. وميشال عفلق بالمقابل كن حريصاً على أن تكون وجهة نظره في ما يتعلق بالموقف من الوَحدة وعبد الناصر هي الوجهة السائدة والراجحة في هذا الصراع. ولم أعد أذكر تماماً الموقف الحسّاس الذي بسببه اُتُّخذ القرار بحلِّ القيادة القطرية للحزب في لبنان وسيطرة القيادة القومية واستلامها مقدَّرات الحزب في بيروت. إنما الذي أذكره أنني وغيري من بعض أعضاء القيادة القومية، وتمشِّياً مع قرارها، استطعنا أن نحفظ وَحدة الحزب ونُبعد ونُخرج بعض الكوادر في مستوى القيادة القطرية وفروع الحزب. وأذكر أنني أنا كنت قد لعبت دوراً في المحافظة على تماسك الحزب في صيدا وفي صور وفي النبطية في العمل مع القواعد، وذلك حتى نكسب تأييد القواعد الحزبية لقرار القيادة القومية. ربما لو سألتني الآن هل ألعب هذا الدور، لقلت لك: لا!!…
هناك شىء أساسي لم يوله الحزب احترامه اللاّزم، وهذا ما كان موجوداً في الحزب الشيوعي الصيني، مؤدّاه أن القاعدة الأساسية المعتمدة لديه هي أنه مهما اختلفت الآراء تبقى وَحدة الحزب هي فوق الجميع. فجميع الأعضاء كانوا يقدِّسون هذا المبدأ ـ الأساس: مهما حصل من تباين التيارات المختلفة والمتعاكسة داخل الحزب، على الجميع أن يحترموا وَحدة الحزب ووَحدة التنظيم. لسوء الحظ، هذا الشىء لم يُحترم ولم يُراعَ في حزب البعث العربي الاشتراكي. وكانت التجربة الأولى انشقاق فرع حزب البعث الأردني (والتجربة الثانية انشقاق تيار فؤاد الركابي أثناء المؤتمر القومي الرابع وبعده). وهذه هي التجربة الأخرى: الانشقاق الذي قام به حزب البعث في لبنان. فضلاً عن الانقسامات الحزبية في سوريا، مما أنهك حزب البعث العربي الاشتراكي ككل وفَرَط عقده. وهذا ما يحزّ في النفس. وإن دلّ ذلك على شىء، فإنما يدلّ على مدى التخلف السياسي، بنظري، وإن المستوى الحضاري الرفيع الذي كان يدعو إليه حزب البعث العربي ويعتمده كمبدأ عقائدي أساسي، هو الحزب نفسه كان قد وقع في ارتكاب عكسه. فبدل من أن يعطي للآخرين حقَّهم وتمسُّكهم بالمستوى الحضاري في العمل الحزبي والسياسي (والتعبير عن آرائهم ومواقفهم بحرية وديمقراطية)، كان قد وقع هو نفسه في عكسه.
س: … إذن، وكما هو واضح من حديثك، فإن القيادات الحزبية الشابة في القيادة القطرية اللبنانية هي التي قد أخطأت أيضاً…..
ج: … (مقاطعاً) من المؤكد أنني أنا أخطأت وغيري أخطأ كذلك: لأن هذه الكوادر التي أُبعدت عن الحزب ـ مهما كان قد ارتكبت من أخطاء ـ إلاّ أنها كوادر متمرِّسة في العمل الحزبي وذات تجربة حزبية وكفاءة ومستوى فكري وسياسي، ما كان لها أن تُبعد عن الحزب وأن تُفصل…. بل كان من الواجب الحرص عليها ـ مهما كلف الأمر ـ واحتوائها. فلا يجوز أن نكابر: لقد قلت إن هذه الكوادر الحزبية، لم تكن خالية من الأخطاء، بل فيها نقاط ضعف وميول وصولبة وروح الانتفاع والتسلُّط. ولكن، ومع كل ذلك، لو توفرَّ لها المُناخ الحزبي القويم الديمقراطي السليم، لكانت ترجع مع الوقت إلى سواء السبيل ولديها المقدرة كل المقدرة للإنتاج. وأنا هنا أتحدث بصورة عامة دون أن أدخل في التفاصيل أو في ذكر الأسماء: إن تفكيك حزب البعث في لبنـان خطأ جسيـم، وكان الأوْلى العمل على احتواء هذه القيادات والكوادر الحزبية وهو الأسلم.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن الصراعات التي حصلت، بالنسبة إلى سوريا، والتي كان من نتيجتها، بين 8 آذار ولغاية تشرين الأول، موعد انعقاد المؤتمر القومي السادس، محصَّلتها أن حزب البعث العربي الاشتراكي قد استلم الحكم دون منازع. وبمعنى أكثر دقة، استلام السلطة الحقيقية (عسكرياً وحزبياً، مدنياَ وشعبياً) من قِبَل اللَّجنة العسكرية. وأثناء المؤتمر القومي السادس وبعده، وهذا آخر مؤتمر كنت قد حضرته، كانت القيادة القومية هي أيضاً غائبة، بمعنى أنها لم تُثبت جدارتها ووجودها الفعلي ولا حضورها المؤثِّر ولا رؤيتها الواضحة المحدَّدة. بل كانت منفعلة ومتأثرة بالتيارات القوية التي تجري حولها والمحيطة بها من كل جانب وبخاصة التيار الحزبي البعثي الموجود في العراق، والتيارات المحلية في سوريا.
هناك شيئان كانت القيادة القومية قد ضعفت أمامهما: الشىء الأول، أنها خضعت للجموح الذي رافق وساد الفريق البعثي العراقي. ومَن كان يساعده على هذا الاتجاه الجامح هو الفريق السوري الآخر المتجاوب معه إلى أبعد الحدود: وهو أن القيادة أو القيادات القديمة، يجب إلغاؤها، "على الماشي". وعلى هذا الأساس نظر إلى صلاح الدين البيطار وكان الموقف الرافض له، رغم كفاءاته الحزبية والسياسية، ورغم أنه أحد المؤسِّسين الأساسيين الأوائل. واستمر السكوت عن ميشال عفلق، طالما أنه هو ساكت عنهم وكونه رمزاً للحزب ورمزاً لشرعية الحزب. أما ما تبقى من القيادات القديمة جميعها، فكان قد وُضع عليها علامة استفهام كبير ورفض كلِّي. أبداً، أبداً: هناك جموح، جموح مطلق!!… وأنا كنت قد أطلقت عليها تسمية: "الموجة التَّتريَّة"، وهي بالفعل موجة تتريَّة، وكان المشهد وكأن هناك جماعة يقومون بـ "مجزرة" داخل حزب البعث، ولا يأخذون الأمور برويَّة وهدوء. وعلى سبيل المثال، كل العناصر التي كانت حياتها الحزبية في موقع قيادة في حزب البعث العربي الاشتراكي: إما قيادة قومية وإما قيادة قطرية، أصبحت بين ليلة وضحاها بمثابة أعضاء عاديين في هذه الحلقة الحزبية أو تلك، ولم يفسح لها المجال كي تتابع دورها الحزبي وتكمله.
أما الشىء الثاني فهو يتلخص في أن الصراع الداخلي في القطر السوري قد استمر وتكامل فصولاً بعد المؤتمر القومي السادس وأخذ هذا الصراع ـ كما نذكر ـ طابع صراع مدني عسكري طوال الفترة اللاحقة. بمعنى أن هذا الصراع الحزبي المدني يقوده وعلى رأسه منيف الرزّاز أمين عام حزب البعث ومعه صلاح الدين البيطار وميشال عفلق وغيرهم، وذلك بهدف تغليب المفهوم الحزبي المدني على المفهوم العسكري ولفصل الجيش عن السياسة وعودته إلى الثكنات.
وهذا الصراع الحاد كان صراعاً رهيباً، وقد استمر من تشرين إلى أبواب 23 شباط 1966، ولبضعة أشهر متتالية. وخلال تلك الفترة، حاولت القيادة القومية أن تقف على قدميها مرة وتفرض قراراتها. وكانت قد اتخذت قراراً بحلِّ القيادة القطرية في سوريا وحلِّ بالتالي التنظيم الحزبي وإعادة تنظيمه من جديد، وذلك في الوقت الذي كان فيه هذا التنظيم ممسوكاً بيد من حديد من قِبَل اللواء صلاح جديد ورفاقه. إلى جانب قرار القيادة القومية وعلى أثره، تشكّلت حكومة تحت اسم: "حكومة قومية" واسعة. وبدأ الاتصال بقواعد الجيش وكان يقوم بذلك الأستاذ ميشال عفلق وغيره من قيادات الحزب القومية لتوضيح هذه الخطوة وخطورة المرحلة بين صفوف العسكر وإقناعهم بصواب هذه النَّظرة وهذا التَّوجه الجديد وأن مَهمات الجيش إنما هي للأمور العسكرية فقط لا غير وإبعاد "اللَّجنة العسكرية" عن الجيش. واللَّجنة العسكرية، وما أدراك ما اللَّجنة العسكرية!!… وهي في الواقع "لَجنة الجيش"، كل الجيش، وهي أدرى وأعلم بقضايا الجيش ووضع الجيش من ميشال عفلق وغيره من قيادات الحزب المدنية. وأما أعضاء اللَّجنة العسكرية من الضباط، فكانوا قد تربّوا في الجيش وعاشوا معه.
في هذه الأجواء، كانت الأخبار ترد للحكومة القومية وللقيادة القومية، أن هناك شيئاً يُدبَّر في الخفاء ضدكم جميعاً دون استثناء. وكما أن حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادته القومية وقيادته القطرية السورية في فترة الخمسينات، كان قد عَجِز عن استلام الحكم آنذاك وأن يقف موقفاً حاسماً ويقفز قفزةً نوعية في هذا الشأن، كذلك أيضاً في هذه الفترة قد عَجِزَ عن أن يحسم الموقف. لقد كان من المفروض على الحزب بقيادته القومية واعتماده على الحكومة القائمة، أن يحسم هذا الموقف بسرعة وذلك باستناده إلى التقارير المتوفَّرة لديه، أن يُبعد أعضاء اللَّجنة العسكرية عن البلاد ويُعيَّنوا في السفارات السوريـة فـي الخارج. ولكن كانـت النتيجة أن القيادة القومية والحكومة القومية ـ نظراً لسذاجة أعضائهمـا ولعدم وجـود المستوى الثوري وضعفه لدى قياداتهما ـ كانتا قد تركتا أن يستمر التحضير للانقلاب ضدهما على مداه الزمني. وكانت وُجهة نظر القيادات القومية، الحزبية والرسمية، تتلخص في اعتقادها "أنه من غير المعقول أن يبطش بنا رفاقنا الحزبيين: هذا لا يصدَّق، ومن غير المعقول". ولكن هذا الشىء الذي كان في أذهانهم غير معقول، كان قد أصبح معقولاً يوم 23 شباط. وكان من ضحاياه الرفيق جبران مجدلاني. فعلى أثر اجتماع القيادة القومية في دمشق، كان قد اتُّخذت قرارات عدة في شأن الأوضاع المستجدة، وكان ينوي جبران تلك الليلة أن يعود إلى لبنان بسيارته "الفولكس فاغن" الصغيرة، ولكن لسوء حظِّه، حدث فيها عطل مما اضطره أن ينام في الشام، فاعتقل وبقيَ في الاعتقال مدة سنتَيْن. خلاصة ذلك كله أن اللَّجنة العسكرية قد انتصرت في هذه المعركة الحاسمة ضد القيادات القومية جميعها.
س: … هل يعني ذلك أن حزب البعث بقيادتـه القومية وأمينها العام الجديد الدكتور منيف الرزّاز بعد الأستاذ ميشال عفلق، غير مهيَّأ للتكيُّف مع الأوضاع الجديدة والمستجدة عليه وهو في السلطة، على أثر انقلاب عسكري قام به بعض الضباط، ينتسبون بشكل أو بآخر إلى تيارات بعثية فضفاضة ودون أيِّ رابط تنظيمي حزبي يربطهم جميعاً سوى صفتهم العسكرية؟!..
ج: … الحقيقة، في تلك الفترة، فإن حزب البعث بقيادته القومية الجديدة، كان قد قرَّر أن يصير حزباً بمعنى الكلمة. إن هذه التجربة، وهي قابلة لأن تتطوَّر نحو الأحسن وأن يستلم فيها الحكم الحزبيون المدنيون وينصرف الضباط للاهتمام بشؤون الجيش انصرافاً تاماً ولبناء جيش قوي ومتماسك، لم يكتب لهذه التجربة النجاح ولا الاستمرار.
وهنا، إذا كنتُ سوف أخرج قليلاً عن الكلام المباح، هل إن حركة 22 ـ 23 شباط 1966 هي محصَّلة ونتيجة صراع بحت حزبي داخلي، مدني عسكري، أم أن هناك تيارات أخرى خارجية خفيَّة لعبت دورها الفاعل في تعجيل قيامها؟!… لست أدري، ولا أعرف شيئاً؟!..
س: … تيارات خارجية، مَن هي؟!…
ج: … لا أعلم!!… ولكنني أنا أتصور أنها لم تكن خالية تلك الحركة من تدخل أصابع خفيَّة في حدوثها وفي التعجيل في تفاقم تلك الأحداث… فأنا لا أعلم!!..
س: … مَن هي، مثلاً: مخابرات مصرية أو غير مصرية، مخابرات بريطانية…
ج: … لا أعلم!! ولكنني أتصور أن هناك تدخل خارجي، والحركة نفسها لم تكن خالية أو بريئة من كل ذلك…
س: … مثلاً، المخابرات البريطانية!!
ج: … أنا لا أستطيع أن أبتَّ في هذا الموضوع….
س: … هنا، دعني أقول ما كنت أنا قد علمته وقرأته: لقد قرأت في جريدة "الموند" الفرنسية، وما زلت أحتفظ بهذا العدد، خبراً اُتُّهم فيه صلاح البيطار أنه كان على علاقة بالسفارة البريطانية ـ والذي أعلن هذا الخبر وأذاعه هو "فِلْبي" العميل المزدوج المشهور الذي كان على علاقة بالمخابرات البريطانية والتجأ فيما بعد إلى الاتحاد السوفياتي ـ . ثم بعد ذلك عدَّل نص الخبر وغيَّره في تصريح آخر قائلاً: لا، ليس المقصود صلاح البيطار، وإنما المقصود هو صلاح جديد… فهو في هذا التصريح كان قد أصاب الاثنين معاً وفي الوقت نفسه.
فهل كان الإعلان عن هذا الاتِّهام من الاتحاد السوفياتي، المقصود من قِبَل المخابرات السوفياتية أن يصيب الاثنين معاً ويوجِّه الاتِّهام إليهما ولو بهذه الطريقة الملتوية، على أن لهما علاقة مع السفارة البريطانية؟!… ثم، بعد ذلك، كان قد قيل لي: إن أحد أعضاء القيادة القومية يُتَّهم في تلك الفترة بالذات أن له علاقة بالسفارة البريطانية. والآن أنت أشرت إلى أن حركة 22 ـ 23 شباط عام 1966، لا بدّ إلا وأن يكون وراءها أصابع أجنبية خارجية. أصابع الاتِّهام هذه، لمن تتَّجه؟!… هل للدكتور منيف الرزّاز.. ومن خلفه المخابرات الأردنية مثلاً؟!…
ج: … صدِّقني إذا قلت لك إنه ليس لديَّ شىءٌ محدَّد، ليس لديَّ شىء محدَّد… أما كلام "فِلْبي" وغير "فِلْبي"، فهذا كلام مخابراتي (لا يجوز أن يؤخذ على محمل الجِد والمصداقية). ولكن هناك رواية كانت قد رُويَت في الحزب مفادها أن أكرم الحوراني تلقى تقريراً من هلال رسلان، سفير سوريا في الصين وهو من جبل العرب، وهذه الرسالة المستعجلة من قِبَل السفير السوري استناداً إلى معلومات حصل عليها تفيد أن هناك اتهاماً يوجَّه إلى صلاح جديد ورئيس الأركان في ذلك الوقت، لم أعد أذكر اسمه، إنهما على علاقة مع "الحلف السانتو". وكان قد اُطُّلع على هذه الرسالة في نطاق ضيِّق، هذا ما سميته، أنا شخصياً، وإن لم أكن، أنا، في سوريا ولا في القيادة القومية حينذاك عام 1965 وقبل 22 ـ 23 شباط… وقد جرى مداولة حول هذه الرسالة على نطاق ضيِّق جداً. أكثر من ذلك، لا أعلم شيئاً: هل بحثت أم لم تبحث، هل اتخذ أيُّ قرار بشأنها أم لم يُتّخذ، لا أعرف البتّة… الشخصية العسكرية، ضابط من حوران وهو رئيس الأركان آنذاك… وبعد 23 شباط قد اعتقل. خفايا هذه المرحلة، يعرفها بتفاصيلها رفيقنا خالد الحكيم وهو مطلع عليها منذ البداية.
س: … لقد تحدثنا عن المؤتمر القومي السادس، وعن ظهور التيارات الحزبية المتعدِّدة، ولكن، هل صدام حسين، كان قد لعب دوراً بارزاً أو لافتاً أثناءه؟!…
ج: … لا!.. أبداً!!… العضو البارز في هذا المؤتمر هو علي صالح السعدي…
س: … ولكن كفريق حيادي من مجموعة الأعضاء العراقيين، ألَمْ يبرز أحد؟!…
ج: … لا!!
س: … هنا، نأتي الآن إلى طرح موضوع يخصُّك شخصياً: إنك كنت قد عاصرت حزب البعث العربي الاشتراكي منذ البداية وبقيت فيه ولعبت دوراً قيادياً دائماً، سواءٌ في القيادة القطرية في لبنان أو خاصة عضواً في القيادة القومية فترة طويلة جداً، ما هي الأسباب التي جعلتك ودفعتك إلى ترك الحزب والابتعاد عنه؟!…
ج: … بعد انعقاد المؤتمر القومي السادس في تشرين الأول عام 1963 وابتعادي عن عضوية القيادة القومية، انصرفت لعملي المهني في لبنان. وكان قد حصل عندي نوع من الانكماش والموقف السلبي من العمل الحزبي بعد الذي عاينته وشاهدته في هذا المؤتمر القومي السادس. حصل عندي موقف سلبيّ على أثره، يعني نوع من القرف: أن يصل حزب البعث العربي الاشتراكي إلى هذا المستوى من الصراع المهين والتجريح الشخصي المسيىء، من قِبَل الفريق القويِّ للفرقاء الآخرين، والمواقف المتصارعة بين الحزبيين، والمتشنِّجة بالنسبة لقيادة عبد الناصر. على الرُّغم من أنني أنا كنت قد قسوت في خطابي السالف الذكر في سينما سلوى في بيروت على سياسة الجمهورية العربية المتحدة وضعفها الثوري، إنما لا يمنع ذلك كله أن أبقى أنا كحزب قومي عربي مع إيجابية تجاه قيادة عبد الناصر وعلى احترام له. فإن ما حصل في المؤتمر القومي السادس هو هيمنة الجوّ العام المعادي، فيه كثير من الغرور والنَّظرة الفوقية للآخرين واعتماد نهج ماركسي في التحليلِ السياسي، تحليلٍ غير مدروس بما فيه الكفاية الضرورية، ولم تكن قد نضحت تلك التجربة: هذا يعني أن حزب البعث، بين ليلة وضحاها، أخذ يعتمد الماركسية بعد مضيِّ خمس وعشرين سنة من النضال القومي العربي الطويل.
س: … أَلَيْس بسبب وجود بعض الأعضاء الحزبيين الجدد في هذا المؤتمر والذين هم في الأصل ماركسيون وكانوا قبلها أعضاء في الحزب الشيوعي السوري؟!..
ج: … طبعاً، طبعاً، وهذا لا يعني إطلاقاً أن حزب البعث العربي الاشتراكي قد أصبح بجميع أعضائه ماركسياً. وهذا ما كنا نقولـه ونصرِّح به. إن وجـود الأمين العام للحزب الأستاذ ميشال عفلق، الذي هو غير ماركسي (ولا يمتُّ بأيِّ صلة، لا من قريب أو بعيد، إلى الماركسية)، لم يقدر أن يقف في مواجهة هذا الاتجاه الماركسي أو أن يتدخَّل أو يعدِّل أو يُبدِّل أو يخفِّف الوطأة الطاغية على الحزب. لكنه وقف موقفاً كعادته، سلبياً، حيادياً… إن الرجل الحزبي الـذي صارع في المؤتمر القومي السادس هو صلاح الدين البيطار. وبما أنه كان عضواً في اللَّجنة السياسية، فهو الوحيد من بين الحضور الذي أخذ على عاتقـه تصحيح المفاهيم ويناقش ويحاور. أولاً وأخيراً، هو رئيس الحكومة ووزير خارجية سابق وصاحب تجربة طويلة عريضة. ورغم أنه على معرفة تامة أن الموقف العام إنما هو موقف سلبيّ تجاهه، لم يكن ذلك ليهمَّه إطلاقاً. إن ما كان يهمَّه في الدرجة الأولى هو التعبير عن آرائه والدفاع عن قناعاته، وهي التي يتحدث عنها، وتجربته الحزبية الشخصية التي يسعى إلى شرحها وتقديمها للآخرين.
وهكذا، عدت إلى لبنان وأنا أحمل هذه النَّظرة التشاؤمية واعتبرت أن ما وصل إليه حزب البعث في المؤتمر القومي السادس، هو بالنسبة إليّ "خطٌّ أحمر" ولم يعد لديَّ إمكانية أو قابلية للاستمرار في هذا الاتجاه… وقد رأيت أن الحزب سلّم العمل الحزبي في لبنان لعناصر غير سليمة، وهي معيَّنة تعييناً فوقياً من قِبَل هذه الموجة "التَّتريّة": من العراق، إلى سوريا، وامتداداً إلى لبنان. إن العلاقة الرفاقية قد انفقدت وانعدمت، وغدت علاقة "سَنِّدْني لحمِّلَّك"، أو "إمشي معي حتى أيْدك".
في هذه الفترة، ورغم ابتعادي عن المواقع المسؤولة، عن القيادة القومية أو عن القيادة القطرية، لم أتخلَّف عن واجبي الحزبي العقائدي والقومي. المثل على ذلك، جاء يوم قُتل فيه خمسُ جنود لبنانيين على الحدود السورية، حادث قَتْل من الطرف السوري. فانتظرت صدور توضيح من القيادة القومية الحزبية، من القيادة القطرية السورية، من الحكم البعثي السوري، من القيادة القطرية اللبنانية. لم يحصل شىء من ذلك قطُّ، وكأن ليس من المهمِّ، من جهة هذا الحزب الحاكم في سوريا والذي له سمعة عربية واسعة، أن يقع عمل سيِّىء من هذا النوع، وأن لا يصدر توضيح أو اعتذار عن هذا الحادث الخاطىء غير المقصود… أعمال قام بها "المكتب الثاني"، وحزب البعث الحاكم في سوريا ما زال يتفرَّج، وكأنه في وادٍ آخر.
ولم يكن منِّي، أنا، في هذه الحالة، إلاّ أن أُدلي بتصريح للصحافة اللبنانية في بيروت، كناطق باسم حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان، يستنكر ما حصل ويطالب القيادة السورية بإجراء تحقيـق بالحادث والتعويض على ذوي الضحايا، إلى آخر ما هنالك. طبعاً، دون أن أوقِّع باسمي هذا التصريح. طبعاً، عرفوا في سوريا مَن أَدْلى بهذا التصريح ولم يكونوا مسرورين قطٌّ وغضبوا جداً… هذه هي البداية، وقناعتي الحزبية لم تجعلني أن أقف متفرِّجاً.
والشىء الآخر، هو المسعى الذي حاولت أن أقوم به أنا وتقي الدين الصلح والمرحوم مَهدي بن بركة الذي كان في لبنان. لقد اتفقنا نحن الثلاثة على أن نقوم بمسعى ونلعب دوراً في ردم الهُوَّة بين سياسة حزب البعث في سوريا وسياسة الرئيس عبد الناصر والتقريب بينهما. على هذا الأساس، قمت بزيارة خاصة إلى الشام وعرضت هذا الموضوع على الأستاذ صلاح الدين البيطار ـ لا أذكر تماماً إذا كنت قد طرحت الموضوع على الأستاذ ميشال عفلق ـ وكان الأستاذ البيطار رئيساً للحكومة في حينه، فبارك هذه الخطوة وشجَّع السَّير فيها.
وبالفعل، قمت بمسعى خاص وسافرت إلى القاهـرة واتصلـت مع أحد المسؤولين المصرييـن والقادة الكبار في النظام وهو زكريا محيي الدين. وعدت من هذه المقابلات واللقاءات بجواب إيجابي مؤداه أن على كل طرف أن يحقِّق في بلده حكماً وطنياً وَحدوياً. وهذا الحكم الوطني في كل قطر ينبغي حتماً أن يلتقي مع الحكم الوطني الآخر. وبهذا الشكل وعلى هذا الأساس، يمكن أن تعود الوحدة على قاعدة اتحاد بينهما. وكنت قد كتبت رسالة تفصيلية إلى المرحوم صلاح الدين البيطار. ولكن، للأسف الشديد، هذه الرسالة كانت قد وقعت في يد فريق في السلطة في سوريا، لا يرضى بالقيام بهذا المسعى ولا بهذا التَّوجُّه الوَحـدوي مع عبـد الناصـر. عـرف بهذا المسعى ففشل المشروع وهو في المهد….
وبعد هذَيْن الموقفَيْن، هناك شىء ثالث أيضاً، وهو أن المخابرات السورية كانت قد أُعْطِيت لها بعض الأسماء لشخصيات اجتماعية في لبنان، وذلك كي يستعينوا بها خلال القيام بمهماتهم وبناء علاقات لهم في البلد، من أجل "تنويرهم" وتقديم النصائح لهم وتُصحِّح أخطاءهم وأغلاطهم وتصحِّح سَيْرهم. ومن جملة الأسماء التي أُعْطِيت لهم اسمي واسم جبران مجدلاني وخالد يشرطي ولربما أيضاً غيرنا من الأشخاص الذين لهم علاقات اجتماعية ومركز اجتماعي وصلات بكثير من الأوساط السياسية والثقافية اللبنانية.
وفي ما يظهر أن هذه المخابرات السورية كانت تقوم بأعمال مخابراتية هنا، ونحن لا نعرفها ولسنا على علمٍ بها. ويبدو أنهم قاموا بعملية خطف ضابط سوري ـ ناصري في بيروت ـ مشهور، ولكنني لم أعد أذكر اسمه ـ وكان لهم عميل مزدوج (مخابرات سورية ـ لبنانية)، يتعاملون معه وهو من حماه من عائلة دياب، قدَّم تقريراً كلّه غلط بغلط، ملفَّقاً تلفيقاً كاملاً من أوله إلى آخره. ولمجرد أن زارتني مرة المخابرات السورية، اتهمني ووضعني في "المغطس". وأنا، لم يكن لديَّ علم بأيِّ شىء مما حصل، ولم أساهم، أنا، في هذه الأشياء.
وكان المكتب الثاني اللبناني (المخابرات اللبنانية) يبحث ويفتِّش عن "شحمة ع فطيرة"، عن "شغلة" وعمل ما حتى يُظهر براعته ومقدرته أنه هو حامي حمى البلاد وهو يحضِّر للتجديد لللواء فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية مرة ثانية. فجاءت هذه القضية "شحمة ع فطيرة": أي أن حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان يعمل على التحضير للقيام بانقلاب في لبنان. وهذا طبعاً غير صحيح، وغير طبيعي، غير معقول إطلاقاً.
ونظراً لأن اسمي جارح، هنا، لدى "المكتب الثاني" في لبنان، فوَجّه الاتهام إليَّ و"غطَّسني" في هذه الورطة: أي أنني أنا الذي خطَّط لخطف هذا الضابط السوري ـ الناصري في بيروت وساهم في التحضير للقيام بالانقلاب في لبنان، إلى غير ما هنالك من أشياء لا أساس لها من الصحة ولا من المصداقية، لا من قريب أو بعيد. وقد ظهر كل هذه الأشياء أثناء المحاكمة وصدور الحكم بالبراءة من التُّهم التي وُجِّهت إليَّ، وكنت بريئاً بشكل خاص، بمعنى أن الحزب لم يساندني ولم يحمني. وقد جرى ذلك في أيار 1964. وبدل من أن يحميني الحزب كي لا تصل القضية إلى المحاكمة، ويعمل على إيقافها عند التحقيق فقط، فكان بمقدوره أن يفعل ذلك عن طريق ممارسة شكل من أشكال الضغط، لا، تركني وتخلّى عنَّي، وتخليه عن وجه حزبي بعثي معروف…
س: … لماذا، د. علي (جابر) هذا الموقف السلبي منك؟!..
ج: … لقد قلت لك سابقاً: هناك مقدّمات": التصريح للصحافة ومسعايَ لإعادة الوَحدة مع الرئيس عبد الناصر…
س: … ولكنهم كانوا يتعاونون معك….
ج: … هناك اتجاهات عدة، "هيك وهيك"، يوجد أطـراف عديـدة في أجهزة المخابرات…. إن "اللَّجنة العسكرية" من وراء الستار هي الفعّالة وهي الممسكة بزمام الأمور الأساسية. هناك أطراف حزبية أخرى، لا شك في أنها تكن كل الاحترام لنا، وهناك أطراف وكتل حزبية صقور أخرى. وأنا بقيت على موقفي الناكر لهذه الأشياء كلها. وتوقفت ثلاثة أشهر، وكنت معرَّضاً لأن أُحكم بالسجن ثلاث سنوات: هذه جناية، مع إلغاء مهنتي والإساءة إلى سمعتي. وهذا يدلّ على عدم موقف حكم البعث في سوريا الموقف السليم في هذه القضيَّة. وتوقَّفت القضية عند القرار الظنِّي فقط. وأين هي هذه الأدلة الاتهامية؟!… لقد تبيَّن أثناء المحاكمة أن هناك أشياء أخرى وأشخاصاً عديدين: مثلاً قحطان حمادة وغيره، وأنا لا أعرفهم أبداً…. وأنا اُدخلت معهم بسبب غباء المخابرات وعملائهم.
وبعدما خرجتُ وأُفرج عني، لم يُعجبهم موقفي أثناء المحاكمة. بل كان يجب عليَّ، وأنا واقف في قفص الاتهـام، أن أقـف موقفـاً عنترياً، وأن أسبّ وأشتم وأهاجم. وكأن حالهم تقول: "ولا يهمك في نهاية الأمر". وهذه على طريقة "سليمان المرشد" الذي كلَّف صبري العسلي أن يكون محامي الدفاع عنه: فكان يقول له المحامي صبري العسلي: اطمئن، لا تهتم!!.. حتى ولو وصلتَ إلى حبل المشنقة، يجب أن تعتقد دائماً أننا سوف نخلّصلك وننقذك…. ووصل إلى حبل المشنقة وأعدم ولم ينقذه…
فهناك تفاصيل كثيرة جداً تعْرفها زوجتي: لقد اتصلت برئيس الدولة في سوريا اللواء أمين الحافظ، والأستاذ صلاح الدين البيطار والأستاذ ميشال عفلق، واسمعتهم جميعاً كلاماً قاسياً جداً جداً ورفعت صوتها عالياً أمامهم…. ولكن، لم يكن موقفهم في نهاية المطاف كما يجب أن يكون. وصلاح الدين البيطار وهو رئيس الحكومة آنذاك وكان أكثرهم إيجاباً من حيث موقفه تجاهي، لم يستطع مع كل ذلك أن يفعل شيئاً يذكر. ميشال عفلق الأمين العام للحزب، لم يكن كذلك بمقدروه أن يقوم بأيِّ شىء.
وأنا، بعد ما أُطلق سراحي، مدَّ (الحزب) خطاً معي من أجل أن أخفِّف من لهجتي وتجريحي وانتقادي لهم ولسياستهم (الحزبية والقومية). فكان جوابي: إنني لا أقوم بأيِّ شىء أكثر من مطالبتي بتشكيل "محكمة حزبية" وتحاكمني، وذلك لنرى مَن هو المخطئ بحقِّ الحزب: أنا أو القيادات الباهتة المتهافتة. فلم تتشكل هذه المحكمة ولم يرضوا بمناقشة مجرد فكرة إنشائها….
وهكذا: لا أنا كنت قد قدَّمت استقالتي من حزب البعث العربي الاشتراكي، ولا هم فصلوني من حزبهم… وكان ذلك على الطريقة المعتادة في طوي الموضوع دون أن يعرف الواحد الأسباب أو المسبِّبات… وأنا كنت أتحدّاهم مراراً: أنا أطالب بتشكيل "محكمة حزبية" ويُعرض الموضوع وتُطرح القضيَّة عليها. وكان صلة الوصل بيني وبينهم الرفيق خالد العلي وهو محامٍ ولربما معه علي الخليل. وقد جرى ذلك كما أذكر تماماً في شهر أيار عام 1964. وأُفرج عنّي في شهر آب، أي بعد مضي ما يقرب من أربعة أشهر وأنا في السجن.
وبعد استردادي كامل حريتـي، استأنفت نشاطي من أجل إعـادة الوَحدة الاتحادية مع الأستاذ صلاح الدين البيطار. ونشاطي هذا إنما هو نشاط قومي مستقل نابع من قناعتي الشخصية. وبعد خروجي من السجن، كتبت سلسلة المقالات بتوقيع: جماعة من البعث: حزب البعث في الطريق المسدود. وكتابة هذه السلسلة من المقالات كانت نتيجة معاناة حملتها في قرارة نفسي. إن الخطأ الذي ارتكبته بحقِّ نفسي هو أنه بعد المؤتمر القومي السادس، مرّات عديدة، كنت راغباً في أن أختلي بنفسي فترة من الزمن وأكتب تجربتي الحزبية وأحدِّد موقفي، وهو موقف أنا مقتنع به أشد الاقتناع، موقف مستقل يتحدَّث عمّا رأيته فيما بعد. ولكن، لقمة العيش ومشاغل الحياة وضيق الوقت حال دون تحقيق تلك الرغبة، ولم أقدر أن أقوم بذلك. وهذا ما كان قد كلفني غالياً بعد ذلك: لقد كان من المفروض بعد انعقاد المؤتمر السادس أن اتخذ الموقف المستقل. ولكن استمر الوضع غامضاً "ملخبطاً" (بمعنى أن علاقته بحزب البعث لم تنقطع) إلى أن أوقفتُ ووضعتُ في السجن. وفي أثناء التوقيف، كانت قد حصلت لديَّ الرؤية الواضحة (لوضع حزب البعث في تاريخه ا