العربي - ملف عبدالعزيز الدوري: منهج «الدوري» العلمي في فهم التاريخ وكتابته
الخميس 1 سبتمبر 2011 3/10/1432هـ / العدد 634
ملف عبدالعزيز الدوري: منهج «الدوري» العلمي في فهم التاريخ وكتابته
مسعود ضاهر*
الدكتور عبدالعزيز الدوري (1919 -2010) واحد من أبرز مؤرخي العرب في القرن العشرين، وشاهد حي على أبرز أحداثه، لعب دور الريادة في كثير من الأبحاث التاريخية التي تناولها بالبحث العلمي المعمق، وتعددت أشكال الريادة لديه في مجالات عدة أبرزها التأسيس لمنهج نقدي في تطور الكتابة التاريخية العلمية عند العرب، وأهمية العامل الاقتصادي في التطور التاريخي، ودراسات مستفيضة عن العروبة، والتراث العربي، والقومية العربية. ولد الدوري بقرية «الدور»، في ضواحي بغداد سنة 1919، تعلم في مدارس العراق ثم التحق بمعهد الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن وحصل منه على الإجازة ثم الدكتوراه. عندما بدأ مسيرته الثقافية في دراسة التاريخ العربي على طريق تكوينه الثقافي كمؤرخ، كان البحث التاريخي منصبًا على التاريخ السياسي بالدرجة الأولى، وقد وصف مرحلة الدراسة في جامعات الغرب بقوله: «رغم الاهتمام الكبير بالتاريخ آنذاك، كان التاريخ السياسي هو الأصل. وكنت أميل إلى الاقتصاد، فكتبت رسالتي في التاريخ الاقتصادي».
اتجه الدوري نحو موضوع يثير الكثير من الجدل، لأن من يهتم بالتاريخ الاقتصادي كان يتهم آنذاك بالميول اليسارية، وبالابتعاد عن «الموضوعية» لأنه يحلل التاريخ على أسس اجتماعية طبقية، لكن الدوري أولى التاريخ الاقتصادي الاجتماعي أهمية خاصة، وقدم دراسات متميزة في نقد المنهج الاستشراقي في النظر إلى التاريخ العربي، فكان حضور المؤرخين الاجتماعيين في الغرب كثيفا، لكن غيابهم عن الساحة العربية كان مستهجنا للغاية. فكان الدوري في طليعة المؤرخين العرب الذين قرروا مواجهة مقولات الاستشراق الغربي بالمفاهيم العلمية ذات الحضور العالمي، وليس بمفاهيم تقليدية بائسة تحت ستار خادع من الأصالة، والحرص على التراث. وأثبت قدرة متميزة على امتلاك المنهج العلمي في الدراسات التاريخية الاقتصادية، ونشر الوعي عن الجذور التاريخية للأمة العربية من حيث هي أمة حية تفاعلت مع الثقافات العالمية على مر العصور، ودعا إلى العروبة الحضارية كرابط ثابت يجمع ماضي الأمة العربية بحاضرها، ويمهد لها الطريق لبناء مستقبل أفضل.
في 19 نوفمبر 2010 توفي الدوري عن عمر ناهز واحدا وتسعين عاما، تاركا تراثًا ثقافيًا قل نظيره لدى أي مؤرخ عربي من حيث غزارة الإنتاج الثقافي، وتنوعه، وعلميته الصارمة. وقد أعاد مركز دراسات الوحدة العربية نشر أعماله الكاملة قبيل وفاته بعام واحد، فصدرت في بيروت خلال عامي 2007 و2009 في ثلاثة عشر كتابا.
وقد تضمنت موضوعات تاريخية في السياسة والاقتصاد، ونشأة علم التاريخ عند العرب، والنظم الإسلامية، وصدر الإسلام، والعصور العباسية، والقومية العربية، وأوراق ثقافية، وغيرها. وتناولت نخبة متميزة من المؤرخين أعمال الدوري بالدراسة والتحليل من جوانب متعددة، وحظيت أعماله بندوات تكريمية نشرت في كتب عدة، شاركت شخصيا في بعضها، ونشرت حوارا مطولا أجريته معه. لذلك ركزت في هذه الدراسة فقط على منهج الدوري العلمي في دراسة التاريخ من زاوية التجديد النظري الذي قام به، فساهم في تعزيز وعي العرب بقضاياهم القومية في عصر التبدلات العالمية المتسارعة، ودعاهم إلى تطوير قدراتهم بالانفتاح على العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة لمواجهة تحديات عصر العولمة. ونبه إلى ضرورة تملك المؤرخين الشباب لتاريخهم تملكا علميا معرفيا نقديا بهدف الاستفادة من دروسه لبناء غد أفضل وليس للتغني بأمجاد الماضي. وجاءت اقتباسات الدراسة بصورة حصرية من كتب الدوري ذات الصلة المباشرة بمنهجه العلمي. وأدرجت الاقتباسات في النص بالإشارة فقط إلى رقم الكتاب والصفحة، وذلك تحاشيا للإطالة.. والكتب التي تم الاقتباس عنها هي التالية:
- الكتاب الثاني : «نشأة علم التاريخ عند العرب». بيروت، الطبعة الثانية 2007.
- الكتاب الثامن: «أوراق في التاريخ والحضارة: أوراق في علم التاريخ». بيروت 2009.
- الكتاب التاسع: «أوراق في التاريخ والحضارة: أوراق في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي». الطبعة الثانية، بيروت 2009.
الكتاب العاشر: «أوراق في التاريخ والحضارة: أوراق في التأريخ العربي الإسلامي». الطبعة الثانية، بيروت 2009.
- الكتاب الحادي عشر: «أوراق في التاريخ والحضارة: أوراق في الفكر والثقافة». الطبعة الثانية مزيدة، بيروت 2009.
مفهوم التاريخ العلمي عند الدوري
لعقود طويلة، انصرفت الدراسات التاريخية إلى تحديد مفهومي التاريخ والتأريخ، فتبلورت اجتهادات عدة، منها أن مفهوم «التاريخ» لا يقتصر على سرد أحداث الماضي والشخصيات البارزة فيه، بل يتضمن جميع ما قام به الناس من أعمال دالة عليهم في المكان والزمان. أما مفهوم «التأريخ» فيشير إلى عمل المؤرخين ومناهجهم المتعددة في كتابة التاريخ وفق رؤى علمية، وفلسفية، وأدبية، وأيديولوجية متنوعة، ومتناقضة أحيانا، لذلك تعددت مدارس فهم التاريخ وكتابته. على المستوى الأكاديمي تبلورت مدارس عدة لفهم التاريخ، منها:المدرسة الجغرافية، والمدرسة القومية، والمدرسة الدينية، والمدرسة الاقتصادية، والمدرسة الاجتماعية، والمدرسة الثقافية، والمدرسة الحضارية وغيرها، وتبلورت إلى جانبها مدارس متنوعة لكتابة التاريخ على أسس علمية تتميز بالتوثيق الجيد، والدقة في التحليل، والموضوعية في الفرضيات والاستنتاجات. وأبرز المدارس السائدة في التأريخ العلمي هي: المدرسة الوصفية، والمدرسة السردية، والمدرسة الشكية، والمدرسة السببية، والمدرسة الوضعية، ومدرسة التاريخ الاجتماعي، والمدرسة الحضارية. وكان الدوري على معرفة شمولية بمدارس فهم التاريخ وكتابته العلمية، لذلك أكد أن النقاش الراهن في البحث التاريخي وفي اتجاهاته «لم يعد يقتصر على كون التاريخ علما أو أدبا، أو بالأحرى حول نسبة التاريخ إلى أحد فروع المعرفة الأساسيين، بل اتجه الرأي إلى أهمية التاريخ كموضوع حيوي لذاته، له أسسه وطرائق بحثه وأهدافه وله خطورته الخاصة بين حقول المعرفة حتى أطلق بعضهم على العصر الحديث: «عصر التاريخ». (الكتاب الثاني ص 7).
التاريخ وسيلة لفهم الحاضر
بات المؤرخون اليوم أمام وجهات نظر وآراء متباينة في التاريخ ومفهومه يمكن ملاحظتها ضمن خطين بارزين: «أولهما يحاول استنباط قوانين أو وجهات عامة لسير المجتمعات البشرية في التاريخ، وثانيهما لا يرى ذلك، ويقرر أن التاريخ مجموعة أحداث مفردة وأوضاع مفردة لا تنظمها قوانين أو مبادئ عامة رغم ما قد يكون بينها من ترابط وصلات سببية». (الكتاب الثامن ص 121 ).
التاريخ في نظر الدوري وسيلة لفهم الحاضر في ضوء الماضي، ولا يدرس كمادة جامدة تعيد التذكير بأحداث الماضي فقط، بل كسلسلة متصلة الحلقات. فما نعيشه اليوم من أحداث هو نتاج التطورات التي بدأت في الماضي واستمرت حتى الآن، بحيث يصبح الفهم المعمق للماضي أفضل وسيلة لفهم الحاضر. «لذلك يسعى المؤرخ إلى ربط الماضي بالحاضر وإلى توضيح الصلة بين حياة الأمة في حاضرها وماضيها، خصوصا في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وإظهار العلاقة الوثيقة بين علم التاريخ وغيره من العلوم الإنسانية». (الكتاب الثامن ص 16 -20).
أكد الدوري مرارا على أن تأثير الماضي يمتد إلى الحاضر باتجاه المستقبل، وذلك يتطلب تتبع حركة التاريخ في مختلف حقبه وليس الفترة الزمنية التي تسبق الحدث مباشرة، مما يساعد المؤرخ على تشكيل فهم عقلاني شمولي في امتداده عبر اتساع المكان والزمن التاريخي، ويمنحه القدرة على تقديم رؤية شمولية لتطور الأحداث التاريخية وما رافقها من تبدلات سياسية وإدارية واقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها، وهذا ما أشار إليه بقوله: «إن فهم الحاضر لا يمكن أن يتحقق بفهم المدة التي تسبقه مباشرة فقط، وإن التدرج التاريخي وحده لا يوضح الثورات الكبرى، الحضارية وغيرها، بل قد يكون لفترات سابقة أثرها البليغ في التطورات الحاضرة. ودراسة النهضات الكبرى تتطلب الرجوع إلى الأصول الحضارية والبشرية، فقد يكون للتكوين التاريخي الشامل أثر كبير في هذه التطورات». (الكتاب الثاني ص8).
في هذا المجال، يبرز تباين واضح بين اتجاهات متعددة للمؤرخين في تعريف التاريخ وتحديد دوره، فهناك من رأى فيه بحثا عن الحقائق وتدوينها، وهي النظرة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر بصورة خاصة. وهناك من حدد دوره بتقديم الحقائق التاريخية وتفسيرها، مما جعل من المؤرخ الركيزة الأساسية في الكتابة التاريخية بحيث لا يقتصر دوره على تدوين الأحداث التاريخية، بل يتعداه إلى تفسيرها واستخلاص الدروس منها، مما ساهم في توليد مقولة علمية مهمة تقول: «قبل أن تدرس الكتابة التاريخية ادرس المؤرخ». أي أن فهم الدراسة التاريخية يتطلب أيضا فهم الاتجاهات الثقافية أو السياسية للمؤرخ ومقولاته النظرية. وشدد الدوري على ضرورة الربط بين ثقافة المؤرخ وحسن انتقائه للوثائق التاريخية في بحثه عن حقائق التاريخ، فالمؤرخ دون حقائق لا جذور له، والحقائق دون مؤرخ تبقى من دون حياة أو معنى. التاريخ عملية تفاعل متصل بين المؤرخ وحقائقه، أو «حوار متصل بين الماضي والحاضر». وتعريف التاريخ وتفسيره في الزمن الحديث، يرتبطان أساسا بسير المجتمعات الغربية وبتطور الفكر الغربي. (الكتاب الثامن ص 107 108).
ونظرا للعلاقة الوثيقة بين سكن الناس على أرض محددة وإنجاز أعمالهم، الصغيرة منها والكبيرة، فإنه تبرز علاقة جدلية بين مكان الحدث التاريخي وزمانه، وتجعل من الجغرافيا الحاضن الأساسي للتاريخ، بحيث تفتقد الكتابة التاريخية الجانب الأساسي من علميتها في حال تجاهل دور الجغرافيا في صياغة التاريخ عبر مختلف الحقب. وألقى الدوري باللوم على المؤرخين العرب الذين تجاهلوا دور العامل الجغرافي في كتابة التاريخ أو قللوا من شأنه. «يتناول التاريخ نشاط الإنسان في الزمان والمكان، أي أن الجغرافيا تكون العنصر الثالث، لكننا في دراساتنا نهمل الجغرافيا إهمالا واضحا، ويندر أن توجد خرائط في كتب التاريخ، وإن وجدت فهي صورية لا تفيد في شيء، أما الأطلس التاريخي فهو في مرحلة أولية جدا، تمثل الجغرافيا عاملا مهما للاستمرار في التاريخ، فهي عنصر ثابت ومستمر في تأثيره، وهنا تظهر أهميته الكبيرة في الماضي والحاضر، وقد تثير الجغرافيا أسئلة حديثة، كما أثارت في الماضي». (الكتاب الحادي عشر ص 260).
علمية الكتابة التاريخية
على جانب آخر، حلل الدوري الكتابة التاريخية على ضوء تاريخها، مؤكدا على أنها لم تبن في الماضي على أسس علمية دقيقة، بل كانت تقتصر على تدوين الأحداث التاريخية مقرونة بانطباعات الرواة، السلبية منها والإيجابية، ولم ترتق إلى مرتبة الكتابة العلمية إلا بعد تحويل التأريخ إلى علم بات يدرس في الجامعات والمعاهد، ووضعت له قواعد صارمة يتعرض من يتجاوزها إلى كثير من النقد والاتهام بتشويه الحقائق أو تزوير التاريخ. فتطورت الكتابة التاريخية العلمية لتتجاوز المرويات السردية، والتركيز على تاريخ الشخصيات البارزة دون ذكر الناس، وهذا ما انتقده فولتير بشدة منذ القرن الثامن عشر حين قال: «في كل ما قرأت لم أجد سوى تاريخ الملوك والقادة العسكريين، وأنا كلي شوق لمعرفة تاريخ الناس، كل الناس». وقد تطور فهم التاريخ وكتابته بشكل واضح في القرنين التاسع عشر والعشرين، خاصة بعد بروز مدرسة التاريخ الاجتماعي التي شددت على تاريخ المجتمع، بمختلف طبقاته وفئاته الاجتماعية وليس فقط تاريخ الأفراد البارزين.
ارتبطت النظرة إلى التاريخ باتجاهات الوعي العام وتطور البنية الثقافية. وهي تبرز عملية التفاعل أو التصادم بين الآراء والمفاهيم الموروثة والآراء والاتجاهات الجديدة. «فالكتابة التاريخية الحديثة عندنا لا تكاد تتجاوز القرن، ولم تنمُ من الأساليب الموروثة وإنما بدأت مع النهضة الحديثة متأثرة بالأساليب الغربية والأطر النظرية الحديثة، وهذا بث فيها حيوية جديدة، ولكنه أدخلها في فترة تقليد ومتابعة لاتزال تتخلل القسم الأكبر منها. وقد يكون هذا مفهوما حين ننظر إلى التاريخ كجزء من الحركة الثقافية، ولكن مثل هذه النظرة تصدق على العلوم الصرفة أكثر منها على العلوم الاجتماعية. ذلك أن حقل التاريخ كان ولايزال يتأثر بنظرات ومفاهيم عامة تؤثر فيه وقد تعرقل تقدمه». (الكتاب الثامن ص 107).
هناك إذن صلة وثيقة بين فهم التاريخ وكتابته والاتجاهات الفكرية والتبدلات الاقتصادية والاجتماعية التي تترك أثرا واضحا في الكتابة التاريخية، وتدفع المؤرخين إلى إعادة النظر في دراساتهم عبر طبعات جديدة مزيدة ومنقحة، وتختلف رؤية المؤرخين لأحداث التاريخ مع تطور الظروف الموضوعية والمقولات الثقافية التي يعيش المؤرخ في ظلها وتساهم في تكوينه العلمي وفي رؤيته للتطور التاريخي. وساهمت الاكتشافات العلمية الحديثة، وثورات العلوم والتكنولوجيا والتواصل والإعلام في تشكيل وعي تاريخي غير مسبوق في القرون السابقة، كما أن الرؤية الأوربية التي تعتبر الغرب مركز انطلاقة العلوم الحديثة أثرت سلبا على الرؤية الموضوعية لتطور الحضارات والثقافات وتفاعلها بعضها مع البعض الآخر وليس تصادمها كما تروج الكثير من الدراسات الاستشراقية الحديثة والمعاصرة. واتسع الزمن التاريخي الحديث والمعاصر لجميع الشعوب كي تشارك في صناعة التاريخ العالمي وفق الظروف الموضوعية لكل دولة أو جماعة. فالجانب التفاعلي في الحضارات أساسي في فهم التاريخ وكتابته، ويلعب المؤرخون الذين يتبنون المنهج العلمي دورا أساسيا في عملية الربط بين التاريخ الفرعي والوطني والقومي وتفاعله مع التاريخ الشمولي أو العالمي.
«لقد ولدت التطورات الحديثة على المستوى العالمي نظرة جديدة إلى التاريخ، فهي نظرة فيها وجهة عالمية حين تؤكد على اهمية الحضارات الأخرى مع الحضارة الغربية، وحين تشير إلى اشتباك الحضارات وتبادل التأثير فيما بينها، وهي موضعية حين تؤكد أهمية تاريخ الأمة من وجهتها الخاصة جنب النظر إلى التطورات العامة. وبهذا نتبين كتابة تواريخ بعض البلاد من جديد بصورة تتصل باتجاه الوعي الجديد فيها وتساعد على فهم نهضتها، وهذا بدوره يضع المسئولية الأولى من كتابة تاريخ أي شعب على مؤرخيه إن أريد أن يفهم بصورة سليمة». (الكتاب الثاني ص 8).
مسؤولية المؤرخين في فهم التاريخ
فمسئولية المؤرخين المحليين كبيرة جدا، ومن أولى مهامهم الثقافية دراسة الاتجاهات العالمية في كتابة التاريخ، والاستفادة منها في كتابة تاريخ بلدانهم أو قومياتهم على أسس سليمة تبنى على مقولات التفاعل مع التاريخ العالمي ومقولاته، وليس الانعزال عنه تحت ذرائع واهية من الخصوصية الخادعة التي تمجد الانغلاق على الذات ورفض التفاعل مع الآخر. وهذا ما دفع الدوري إلى القول: «نحن بحاجة ملحة إلى أن نفهم النظريات والاتجاهات الحديثة في علم التاريخ، لنستنير منها في بحوثنا التاريخية، وقد لا نستطيع متابعتها، أو تطبيق طريقة البحث التاريخي الغربي بصورة حرفية في دراساتنا، ولكننا نستطيع الاستفادة كثيرا مما نجد من مذاهب ومناهج تمهيدا لوضع مناهج تاريخية منبعثة من طبيعة الدراسات التاريخية الإسلامية». (الكتاب الثاني ص 8-9).
فمقولة «تاريخية الكتابة التاريخية» لدى الدوري تعني أن الكتابة التاريخية وليدة بيئة ثقافية محددة في الزمان والمكان. وهي قابلة للتطور والتغيير مع تطور مناهج التعليم الأكاديمي، وطرق تدريس المناهج التاريخية، ونقد الوثائق، والمقارنة النقدية بين معطيات الأرشيف المحلي والمعطيات المتوافرة في مراكز الأرشيف العالمي. ونبه بصورة خاصة إلى ضرورة دراسة التاريخ على ضوء تاريخه أو «تاريخ التاريخ» الذي يبرز تطور الكتابة التاريخية وما رافقها من مناهج وآراء تاريخية.
والمؤرخون بأمس الحاجة إلى دراسة تاريخ التاريخ، إذ من دونها تتعذر الكتابة التاريخية النقدية. في الوقت نفسه، لا يستطيع المؤرخ فحص مصادره التاريخية، ونقد رواياتها من دون دراسة نقدية للمؤرخين، وتطور علم التاريخ، «فهناك دوافع لكتابة التاريخ تبرز اتجاهات المؤرخين، وآراءهم التاريخية، وأسلوبهم في تمحيص الروايات، وفي الكتابة، ونظرتهم إلى أهمية التاريخ ودوره في الحياة الثقافية والحياة العامة... ومن دون دراسة هذه النواحي يتعذر علينا أن نفهم قيمة المواد التاريخية المتيسرة لدينا، أو أن ننقد بحوث غيرنا، أو أن نخلص تاريخنا من الشوائب التي لحقت به في الماضي والحاضر». (الكتاب الثاني ص 9).
مقاربة الدوري لمقولة «فلسفة التاريخ» عند بعض المفكرين الأوربيين
تناول الدوري مقولة «فلسفة التاريخ» عبر التعريف ببعض منظريها على المستوى العالمي، مرد ذلك إلى أن النظرة الفلسفية إلى التاريخ وطرق كتابته وتحليله قد اختلفت باختلاف العصور، وكانت شديدة الصلة بتطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة، وما رافقها من ثورات علمية وصناعية، وبروز مقولات فكرية وفلسفية حديثة، «فتأثرت دراسة التاريخ وفكرته بتطور الفكر العلمي والفلسفي خاصة، وساهم الفلاسفة والمؤرخون معا في فلسفة التاريخ وربما كانت مساهمة الأولين أكبر». (الكتاب الثامن ص 121).
كان من الطبيعي أن يتأثر علم التاريخ بصورة واضحة وعميقة بالثورات الصناعية والاتجاهات الفلسفية التي انطلقت من أوربا في عصر الأنوار وحملت معها مقولات الحرية، والمساواة، والإخاء، والمواطنة، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، والديمقراطية وغيرها لتعم مقولاتها العالم كله، فتوسعت الفروع المعرفية لعلم التاريخ، وتعددت مناهجه واتجاهاته، والرؤى الفلسفية لفهمه وكتابته. فأشار الدوري إلى وجود مجالين مختلفين للبحث التاريخي يندرجان عادة ضمن مقولة «فلسفة التاريخ»:
الأول: التحليل الفلسفي لعلم التاريخ، أي تشخيص منطق ومفاهيم وأساليب أعمال المؤرخين. والثاني: محاولة اكتشاف معنى أو دلالة في طبيعة المسيرة التاريخية، تتجاوز الفهم الذي يوصل إليه العمل التاريخي الاعتيادي، ويشار إلى الأول بمفهوم «الفلسفة النقدية» للتاريخ، وإلى الثاني بمفهوم «الفلسفة النظرية أو التأملية للتاريخ. (الكتاب الثامن ص 122)
وأبرز الدور الذي لعبه الفيلسوف الألماني هيجل Hegel، وأطلق على نظريته المثالية صفة «النظرية الجريئة» التي ساهمت في فهم المسيرة التاريخية بصورة أشد عمقا، ففي كتابه «فلسفة الحق» Philosophy of Right وبصورة أوسع في محاضرات في فلسفة التاريخ «Lectures on the Philosophy of History »، لم يفسر هيجل التاريخ بقوانينه الخاصة بل بأسلحة الفلسفة ومفاهيمها (الحرية، المطلق، الروح، الجوهر)
فللتاريخ بعدان: البعد الأفقي والبعد العمودي. والقوة التي تشكل معين سير التاريخ هي العقل. والتاريخ، في جوهره، هو كفاح الإنسان ليحقق أمنياته البشرية إلى أقصى حد. والعمل هو الذي يحول دنيا الإنسان. وتاريخ المجتمع هو تاريخ الجهود المبدعة التي تغير الإنسان ورغباته ونظراته. وأثناء الإنتاج الاجتماعي الذي يقوم به الناس يدخلون في علاقات معينة لابد منها، مستقلة عن إرادتهم. وهذه العلاقات الإنتاجية تتناسب ومرحلة معينة في تطور قواهم المادية للإنتاج». (الكتاب الثامن ص 127 129 )
علم دراسة التاريخ
لقد شهد القرن التاسع عشر ولادة «التاريخ العلمي» كرد فعل على فلسفات التاريخ، فحلت الطريقة العلمية محل المعرفة الشمولية، ويعود الفضل في ذلك التحول إلى جهود المؤرخين الألمان. وانتشرت على نطاق واسع فرضيات نظرية تدعو إلى كتابة التاريخ على أسس نقدية. «ومقياس التاريخ النقدي هو المؤرخ نفسه، لأن له تجاربه التي يستعين بها لتفسير البينات التاريخية ولتقدير صدق الرواية، والمعرفة العلمية هي معرفة قوانين الطبيعة» (الكتاب الثامن ص 134).
في المقابل، رأى شبنجلر Shpingler في كتابه «تدهور الغرب» The decline of the West أن التاريخ لا هدف نهائيا له، وهو يعبر عن عدد من الوحدات الحضارية ومنها الحضارة العربية كواحدة منها، وهي كزهور الحقل تنمو ثم تندثر. (الكتاب الثامن ص 137).
ونشر أرنولد توينبي Toynbee تحت عنوان: «دراسة التاريخ A Study of History ، عشرة مجلدات درس فيها تاريخ البشرية من خلال نماذج حضارية بارزة بهدف الوصول إلى مقولات نظرية وقوانين تؤكد أن للتاريخ صفة العلم الشمولي. وبعد أن اعتمد طريقة استقرائية لدراسة مجمل نشاطات الناس بأسلوب علمي، تبين له أن الحضارة وحدة متكاملة، وجديرة بأن تشكل موضوعًا متكاملاً للدراسة التاريخية، في حين أن عزل الأجزاء المكونة لها بعضها عن بعضها الآخر يقدم صورة مصطنعة أو غير معبرة عن تلك الحضارة، كما هو الحال في الدول المحلية التي تنتسب إلى دولة قومية جامعة.
وعلى عكس حالة المجتمع البدائي حيث يسود الاطمئنان والركود، تبدو الحالة الحضارية فاعلة وفي حركة مستمرة، فمسيرة التاريخ، حسب نظرية توينبي، تصدر عن التحول من حالة الركود والمحافظة إلى حالة التقدم الخلاق، وبمثل هذا التحول تنمو الحضارات، وهذا ما يحصل حين تتعرض الحضارة لتحدٍ Challenge، فتستجيب له استجابة ناجحة Response لا تقتصر على تجاوز المحنة بل تولد في نفسها القدرة على مواجهة تحديات مقبلة. وبتوالي مواجهة التحديات باستجابات أكبر تنمو الحضارة وتنمو حيوية الناس الداخلية، ويتحول العمل والتحدي في الخارج إلى الداخل، ومن كفاح الناس للسيطرة على محيطهم إلى كفاح للسيطرة على نفوسهم، ومقياس النمو هو تقرير المصير. (الكتاب الثامن ص 138 -139).
دعوة الدوري لتصويب الكتابة التاريخية العربية وطرق تدريسها
للدوري رؤية متطورة عن سابقيه في مجال النظر إلى الانتفاضات الشعبية في مختلف حقب التاريخ، وقد عاب على بعض المؤرخين نظرتهم السلبية إلى حركات الاحتجاج التي قام بها العامة أو الانتفاضات الشعبية. «فلم يفهم المؤرخون حركة العيارين (العامة)، واتهموهم بأنهم «سفلة»، و«غوغائيون»، و«لصوص»، و«أهل الزعارة»، وأنهم نهابون، فرد على تلك المواقف بالقول:
«نرى في وضعهم وفي استمراريتهم ما يدل على أنهم يمثلون حركة اجتماعية ثوروية ناتجة عن ظروف العامة (وفيهم أهل الصناعات والحرف) وأوضاعهم المعيشية الصعبة. وأنهم استفادوا من التخلخل السياسي لممارسة فعالياتهم علنًا في بعض الأوقات، وهذا يفسر أعدادهم الكبيرة حتى قدروا في الحصار الثاني لبغداد بخمسين ألفا، لذلك نجد حركتهم موجهة ضد الحكام والأغنياء والشرطة والوجهاء». (الكتاب التاسع ص 34 -35).
ودعا إلى كتابة علمية عقلانية تظهر دور الفرد البارز إلى جانب الفرد العادي أو الجماهير الشعبية التي يعود الفضل إليها في صنع التاريخ. فالتاريخ، شمولي بطبيعته لأن من يصنعه هم الناس، على اختلاف مواقعهم، ونشاطاتهم، واتجاهاتهم، وألوانهم، وأديانهم. ونبه إلى مخاطر تركيز بعض المؤرخين على أدوار للأفراد البارزين بمعزل عن الجماهير التي تصنع التاريخ وتقدم التضحيات الكبيرة. «فقد نسب المؤرخون الحركات الكبرى في التاريخ إلى أفراد، وأغفلوا أو أهملوا دور الجماعات التي عملت وضحت لفترة من الزمن. ألم يكن هناك دور لتلك الفئات في التاريخ ؟» (الكتاب الحادي عشر ص 260).
وشدد على ضرورة التوازن بين الأصالة والمعاصرة في المجتمعات العربية الحديثة، لأن التوازن يحافظ على كل ما هو إيجابي في التراث دون أن يضع العوائق أمام العلوم العصرية التي تشكل صمام الأمان لبناء مجتمع عصري قادر على مواجهة التبدلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتحديات التي أنتجتها الثورات العلمية الحديثة وتكنولوجيا الاتصال والتواصل السريع بين الأفراد والجماعات على غرار ما شهدته المجتمعات الحديثة، بدءا بالمجتمعات الأوربية والأميركية، وصولا إلى اليابان، والصين والهند وغيرها.
ويعيش عالم اليوم مرحلة من التنافس الحاد على اكتساب وإنتاج العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة وتوظيفهما في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية بين الشرق والغرب. «فقد ساهم التقابل والتبادل والصراع بين الغرب والشرق العربي بصورة فعالة في إيجاد المسألة القومية التي هي في الأساس مسألة هوية ووعي لها. وكانت القضية الأولى للعرب منذ المواجهة مع الغرب مسألة تثبيت الهوية في وجه الأخطار الخارجية، أو بث روح جديدة وتركيز الهوية بلغة وأسلوب العصر، أي تحقيق الأصالة والمعاصرة في آن واحد». (الكتاب العاشر ص 300).
بين دراسة التاريخ وتدريسه
وبالانتقال من دراسة التاريخ إلى تدريسه في المدارس والمعاهد والجامعات العربية، حدد الدوري الأسس المنهجية الواجب اعتمادها من جانب مدرسي التاريخ العربي على مختلف المستويات، بحيث يقدم التاريخ بصفته علما شموليا يرسم تطور المجتمع بجميع فئاته، وعلى مختلف الصعد. وأبرز تلك الأسس: أن يدرس التاريخ باعتباره تاريخ أمة متصل الحلقات وليس تاريخ أسر تعاقبت على الحكم، لأن تدريس تاريخ الأمة وليس تاريخ الأسر الحاكمة أقرب إلى الروح العلمية من طريقة التجزئة. وأن يدرس التاريخ بروح توجيهية دون إغراق، وأن يكون الاتجاه نحو تقوية الروح العربية في نفس الطالب، وزرع الثقة لديه بقابلية الأمة العربية للنهوض والتقدم، والتأكيد على نواحي الإنتاج الحضاري، وإبراز عناية العرب بالحياة الثقافية، وبمؤسسات العلم، وتأكيد خدماتهم في الكيمياء والطب والرياضيات والفلك، وتحليل تنظيماتهم البلدية والتقدم الاقتصادي والتنظيم المالي. وأن يكون الهدف منه تنمية الروح العلمية من خلال التأكد من صحة المعلومات التاريخية. فالتوجيه العلمي يكون قبل كل شيء في اختيار المادة التاريخية وفي طريقة التوثيق لها وعرضها بصورة علمية وليس من خلال الدعاية الجوفاء، كما أن دراسة التاريخ تفترض بالضرورة فهم المشكلات الاجتماعية والسياسية في التاريخ دون حرج ومعالجتها بالكشف عن جذورها وأصولها، وتحليلها بمنهج تاريخي علمي مستنير لتفهم على حقيقتها، وتجريدها من التعاويذ والترسبات التي لحقت بها عبر العصور. «ويستحسن في هذا المجال عدم الوقوف على الشخصيات في عرض الحوادث ومناقشتها بل الأفضل أن تعرض الاتجاهات العامة مع تبيان أثر الشخصيات التاريخية فيها. ولا يكفي في هذا المجال أن يكون منهج التاريخ وصفيًا يسرد الحوادث ويصف ما حصل، بل من الضروري إعطاء أهمية خاصة للتحليل مع ذكر المقدمات والأسباب وتوضيح النتائج، مما يساعد على الوحدة والانسجام في البحث التاريخي. وموضوع التاريخ ليس موضوع ديانات أو عقائد، كما أن أصول العقائد والديانات تدرس في علوم أخرى غير علم التاريخ الذي يتناول أعمال البشر وتصرفاتهم ولا يتصل بعلاقتهم بالله وصلتهم بالخالق إلا من الناحية التاريخية». (الكتاب الثامن، صفحات 12 -15).
نشير أخيرا إلى دور الكتابة التاريخية العلمية في بلورة الهوية الثقافية العربية. ويأخذ تدريسها في الدول العربية أهمية استثنائية تصل إلى حد الأزمة كما هو الحال في لبنان، أو الكتابة المؤدلجة التي تتبدل مع تبدل الحكام كما يجري في كثير من الدول العربية التي تركز على تاريخ الأفراد أو الأحزاب وليس تاريخ المجتمع. وقد أساءت الكتابة التاريخية المؤدلجة كثيرًا إلى التاريخ العربي لأنها قدمته على غير حقيقته العلمية، وأدت إلى تراجع الدراسات التاريخية بشكل واضح، بسبب ضعف التوثيق، وغياب نقد المصادر والمراجع على أسس سليمة، وعدم الالتزام بقواعد البحث التاريخي العلمي. فدعا الدوري إلى الالتزام الصارم بقواعد المنهج العلمي النقدي في كتابة التاريخ لأنه المدخل الأساسي للحفاظ على الثقافة العربية القادرة على مواجهة ثقافة العولمة، والتفاعل معها من موقع الندية. «فدور التاريخ في الثقافة العربية كبير، ودوره في بلورة الهوية الثقافية كبير. وهنا تتبدى أهمية مناقشة آثاره وتصويبها». (المجلد الحادي عشر ص 260).
ملاحظات ختامية
على هدي من سبقه من رواد المنهج العلمي في كتابة التاريخ، لم ينظر الدوري إلى التاريخ بوصفه استعادة لأخبار الماضي من خلال الوثائق والمصادر الدالة عليه، بل اعتمد منهجًا نقديًا لقراءة أحداث الماضي بعيون الحاضر ومعارفه المتطورة. على أن تكون كتابة التاريخ نقدية بهدف تملكه معرفيًا واستخراج العبر منها كما أوصى ابن خلدون، أو الاستفادة من دروسه كما أوصى هيجل، أو فهم أوليات التحدي الحضاري والرد على التحدي من موقع الندية بهدف إقامة التفاعل الإيجابي بين الحضارات الإنسانية كما أوصى توينبي، ورفض التنظير لصراع بين الحضارات يدمر بعضها البعض الآخر وفق مزاعم هانتنجتون.
امتلك الدوري مقولات المنهج العلمي النقدي الشمولي، واستقى مقولاته العلمية من أرقى ما توصل إليه الفكر التاريخي العالمي، وقدم مساهمات بارزة لتطوير هذا المنهج في النظر إلى التاريخ العربي، والارتقاء بالكتابة التاريخية العربية إلى مصاف الفكر التاريخي العالمي. وقد توزعت دراساته وتنوعت كثيرا لتشمل أبحاثا نظرية، وسياسية، واقتصادية، واجتماعية، وإيديولوجية، وحضارية، وجمع بين النقد التاريخي وفلسفة التاريخ العربي والإسلامي في مختلف مراحله. وأعاد تأريخ عدد من القضايا التاريخية الخلافية وفق منهجية جديدة تميز بها أسلوبه النقدي الخاص في تحقيب التاريخ العربي ونشأة علم التاريخ عند العرب. وأعطى نماذج بالغة الدلالة على أهمية الأبحاث التاريخية العلمية في تصويب النظرة إلى القومية العربية، وموجبات تجديد الفكر القومي العربي في النظرية والممارسة معا بما يتلاءم مع موقع العرب ودورهم في عصر العولمة والتكتلات الجغرافية والسياسية الكبيرة، فشكلت دراساته الوفيرة مشروعًا متميزًا لكتابة التاريخ العربي بطريقة لم يرقَ إليها أي من المؤرخين العرب الذين تناولوا مسار القومية العربية، خاصة من غلب الإيديولوجيا القوموية المهيمنة على البحث التاريخي الرصين مما أدى إلى تراجع القومية العربية والبحث التاريخي معها.
كما بنى الدوري منهجه العلمي في كتابة التاريخ العربي بالاستناد إلى الوثائق والمصادر العربية الأصيلة، والرد على المقولات الاستشراقية المغلوطة، والتركيز على المنهج الشمولي في رؤية مختلف جوانب الحدث التاريخي من عسكرية، واقتصادية، واجتماعية، وسياسية، ودينية، وثقافية، وحضارية وغيرها. ونبه إلى أن مسار الأحداث يوضح الخلفية أو الجذور التاريخية التي انطلقت منها. فالحاضر يفسر الماضي، ولا يجوز أن تبعدنا دراسة الماضي عن المشكلات والقضايا التي لاتزال تؤثر في حاضرنا لأن التاريخ وحدة متكاملة الحلقات قاعدتها بنية حضارية لا تتوقف عن التطور، فالمنهج الشمولي الممتد وليس الفرعي الضيق هو الوحيد القادر على فهم حركية المجتمع العربي في تبدلاتها التاريخية المتلاحقة.
ختاما، لا تستمد مكانة الدوري الرفيعة في مجال الفكر القومي العربي مشروعيتها من كونه عربي الانتماء والهوى والآمال فحسب، بل لمقولاته التاريخية النقدية الرائدة التي امتازت بالدقة والموضوعية، وساهمت في تعميق الوعي العلمي بالقضايا الأكثر حساسية في التاريخ العربي. فأسس لجيل جديد من الباحثين العرب يكملون اليوم مسيرة البحث العلمي التاريخي على خطى جيل الرواد. وأمضى عمره المديد في تجديد البحث العلمي التاريخي عن العالم العربي بشكل متواصل. وكانت لديه ثقة كبيرة بقدرة الباحثين العرب الشبان على امتلاك التراث العربي معرفيًا من طريق الفكر العلمي النقدي. وردد مرارًا: «أشعر دوما بالحاجة إلى كتابة جديدة أو رؤية جديدة أو قراءة جديدة لمصادرنا. لكن ما يدعو إلى الاطمئنان هو بروز تيار ثقافي عربي جديد يعمل على تطبيق المنهج العلمي في فهم تاريخية الفكر التاريخي العربي». فنشر الوعي العلمي بتاريخ العرب والعالم مسئولية أجيال متعاقبة من المؤرخين. وكان الدوري من أبرز واضعي الركائز الصلبة لبناء ذلك الوعي.
------------------------------
* أكاديمي من لبنان.