لوموند ديبلوماتيك العربية-أين اختفت مصر؟ تراجع موقع القاهرة الدبلوماسيّ
جريدة لوموند ديبلوماتيك العربية
أين اختفت مصر؟
تراجع موقع القاهرة الدبلوماسيّ
العالم العربي > تشرين الثاني/نوفمبر > 2010
صوفي بومييه
ستجري الانتخابات التشريعية المصرية في خريف 2010 وستتميّز كالعادة بمشاركةٍ ضئيلة وتزويرٍ واسع النطاق يؤمّن للحزب الوطني الديموقراطي الموالي للرئيس حسني مبارك أكثريّة مريحة، لكنّها لن ترسّخ شرعيّة النظام. لكنّ السيّد مبارك يريد استمداد هذه الشرعيّة قبل كلّ شيء من خلال محاولة وقف التقهقر الدبلوماسي لبلاده وتحسين موقعها على الساحة الإقليمية.
أيلول/سبتمبر 2010. غداة قمّة شرم الشيخ، المرحلة الثانية من المحادثات المباشرة المستأنفة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، نشرت صحيفة "الأهرام" اليوميّة المقرّبة من السلطة صورة: يظهر فيها الرئيس حسني مبارك وهو يتقدّم الرئيس باراك أوباما، ويلحق بهما الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو والملك الأردني عبدالله الثاني. وبعد ساعات، انتبه مستخمدو الانترنيت بأنّه قد جرى تلاعب في هذه الصورة، ونشروا اللقطة الأصلية والتي يظهر فيها الرئيس المصري في وضعيّة أكثر تواضعاً إلى الجانب مثل نظيره الأردني، خلف أطراف الحوار الإسرائيلي-الفلسطيني، اللذان كان يتقدّمهما الرئيس الأميركي.
قد تثير هذه الحادثة الابتسامات؛ لكنّها تحمل ما يكفي من المعاني. فهي تبرز حرص القاهرة على الظهور كلاعبٍ أساسيّ في الساحة الإقليمية بغية تعزيز شرعيّة النظام. فإذا كان تراث الرئيس جمال عبد الناصر (1952-1970) عرضةً للانتقادات في أكثر من مجال - وخصوصاً لناحية السياسات الاقتصادية، بعد أن تمّ التخلّي عن الاشتراكية العربية في السبعينات لصالح توجّه ليبرالي - فإنّ إحدى ثوابته، أي مركزيّة مصر الدبلوماسية، ما تزال راسخة.
فالدبلوماسية المصرية المحترفة والمشهود لها، ما تزال تؤكّد حضورها من خلال بعض الأسماء الكبيرة، لا سيما في المنظمات الدولية. فمصر أعطت منظّمة الأمم المتحدة أحد أمنائها العامّين، السيد بطرس بطرس غالي (1992-1996)، الذي ترأس من بعدها المنظّمة الفرانكوفونية الدولية (1998-2002)؛ وكذلك عمر موسى الذي ثبت كأمينٍ عامٍّ لجامعة الدول العربية منذ 2001؛ والوزير السابق للاستثمارات، محمود محي الدين، الذي عُيّن مؤخراً في مركزٍ رئيسيّ في البنك الدولي. إلاّ أنّه، ودون العودة إلى فشل مرشّحها للمديريّة العامّة لليونسكو في أيلول/سبتمبر2009، فإنّ موقع القاهرة على الساحتَين الدولية والإقليمية قد تعرّض لعدّة انتكاسات في السنوات الأخيرة.
فمصر لعبت دور مسهّل لعملية السلام العربية-الاسرائيلية، بصفتها البلد الأوّل الذي وقّع اتفاقية سلامٍ مع الدولة العبرية (1979) وباعتبارها "منارةً للقومية العربية" [1]- وبالتالي لا يمكن اتهامها مبدئياً بالتفريط بحقوق الفلسطينيين-، مصر هذه استقبلت فوق أراضيها عدّة جولاتٍ من المفاوضات وكذلك توقيع جزءٍ من الاتفاقيات المعروفة بإسم أوسلو. لكنّ تعثّر المحادثات وتطوّر الأوضاع على الأرض قد حدّ من حجم هذا الدور المصري. وإذ انخفضت حدّة الصراع الفلسطيني-الإسرائيليّ منذ توقّف العمليات داخل اسرائيل، لم تعد الولايات المتحدة وحلفائها يوليانه اهتماماً كبيراً، في حين يوجّهون معظم جهودهم أكثر باتجاه الشرق - العراق وإيران وأفغانستان وأيضاً باكستان - حيث شبكات وقدرات التدخّل المصريّة أكثر محدودية.
في فلسطين، تتأثّر الوساطة المصرية بالمواجهة الداخليّة، خصوصاً وأنّ القاهرة انحازت بوضوح إلى جانب السلطة الفلسطينية ضد حركة حماس، الجناح الفلسطيني لحركة "الإخوان المسلمين"، القوّة المعارضة الأولى في وجه نظام الرئيس مبارك [2]. أمّا الإدارة الدقيقة للحدود مع غزة فإنّها تربك السلطات المصرية: فهي مضطرّة أن تبرهن عن تضامنها مع الفلسطينيين وأن تلتزم مع المتطلّبات الإسرائيلية، إضافةً إلى تأمين سلامة الأراضي المصرية. وكلّها ضرورات لا يتفهّمها الرأي العام المصريّ الذي يرفض أن يكون شريكاً في حصار قطاع غزة [3].
ذلك أن المطلوب ليس فقط إقناع الأميركيين بفعاليّة القاهرة، بل إقناع المصريين أنفسهم ايضاً بالأمر. وحتماً ليس صوت صناديق الاقتراع مسموعاً، فالانتخابات التي لا يعيرها السكّان اهتماماً والتي تشوبها التجاوزات تستخدم فقط لتحديد موازين القوى ضمن الدوائر العليا. مع ذلك، فإنّ السلطة في بلدٍ من حوالى الثمانين مليون نسمة، بحاجة إلى حدٍّ أدنى من التضامن الشعبي. فمع ضمور الحريات العامة والحيّز السياسي [4]، يُستعمل شعور التفاخر الوطنيّ لرصّ الصفوف حول السلطة؛ في حين تجعل الخلافات بين النخب والشعب من هذا "التواصل" أكثر صعوبةً.
ففي الحكومة، حلّ رجال الأعمال محلّ الضبّاط، الذين انتقلوا بدورهم إلى الأعمال المربحة. ومديرو الشركات هؤلاء لا يتردّدون في التواصل مع نظرائهم الإسرائيليين وحسب، بل يعتبرون لدرجةٍ ما أنّ الدولة العبرية نموذج الحداثة. أمّا الرأي العام الباحث من جهته عن بطلٍ جديدٍ للقضيّة العربية، فقد دعم حزب الله خلال حرب لبنان في صيف 2006 في لبنان [5]، بل قد يميل - يا للسخرية - إلى اعتبار شخصيّتَين غير عربيّتَين، الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، ورئيس الوزراء التركي، رجب طيّب أردوغان، كأفضل حاملي لواء القضية الفلسطينية ومقاومة الغرب المعتبر منحازاً لإسرائيل. على هذه الخلفية، يمكن فهم حدّة الخطاب المعادي للشيعة لدى السلطات المصرية. فمنذ نيسان/إبريل 2006، كان الرئيس مبارك قد أعلن من على شاشات قناة "العربية"، المحطّة التلفزيونية المموّلة من العربيّة السعودية، بأنّ الجماعات الشيعيّة المتواجدة في البلدان العربية المختلفة تناصر الولاء لطهران التي تستخدمهم لمصالحها.
لقد تكسّرت أسطورة الوحدة العربية الذي كانت القاهرة ترفعها في الماضي. فعلاقاتها ليست جيّدة مع دمشق، الحليف الصلب لإيران منذ ثلاثين عاماً؛ أمّا مع الرياض فهي أكثر حرارةً بقليل، كون القاهرة تغتاظ خصوصاً من رغبة العاهل السعودي في المشاركة بالمفاوضات حول القضية الفلسطينية: ففي آذار/مارس 2002، تقدّم خادم الحرمين الشريفين، خلال قمّة بيروت، بمبادرة حلٍّ شامل للصراع العربي-الإسرائيليّ، ليعود بعد خمسة أعوام ويدخل وسيطاً بين فتح وحماس (اتفاقية مكّة). كما تنزعج القاهرة أيضاً من اضطرارها للتعامل مع دور إمارة قطر الصغيرة التي تزايد نفوذها منذ افتتاح محطّة "الجزيرة" التلفازيّة في أراضيها، عام 1996، والتي تبذل مساعي الوساطة في كلّ مكان، من اليمن إلى السودان، مروراً بلبنان. فبعد أن كانت مصر هي نقطة انطلاق التوجّهات العروبية مع إذاعة "صوت العرب" في زمن عبد الناصر، لم تعُد اليوم تملك أيّة وسيلة إعلامية مماثلة ذات انتشارٍ عربيّ: فرغبتها بالبقاء في صلب السياسة الإقليمية تجعل إنتاجها الإعلامي "غير قابلٍ للبيع" في الخارج.
كذلك بعد أن كانت لردحٍ طويل من الزمن قطباً فكريّاً ودينيّاً، تراجع تأثير جامعة "الأزهر" بسبب اقتراب مفتيها الأكبر من السلطة. فالشيخ محمد الطنطاوي، الذي توفّي في 10 آذار/مارس 2010، والذي عيّنه رئيس الجمهورية مباشرةً، تبنّى مراراً المواقف الرسمية، داعياً إلى الاقتراع في الانتخابات العامة أو مبرّراً بناء حاجزٍ فولاذيّ تحت الأرض على طول الحدود مع قطاع غزّة. هكذا حدّ البعد المحليّ جدّاً لهذا المنصب من الهالة الروحية للمرجع الكبير الذي يلقى منافسةً شديدة من مبشّرين يستخدمون تقانات الإعلام الحديثة. ومن أجل اللحاق بالحركة، وخصوصاً للوقوف في وجه التيار السلفي الراديكالي الذي يملك عدّة محطّات تلفزة في مصر، افتتح الأزهر محطّة خاصةً به عام 2009، لا تبثّ فقط باللغات الأصليّة للجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط وآسيا - العربيّة والأوردو أو البشتون - بل أيضاً بالإنكليزية والفرنسية. يشكّل تبشير الذي تبثّه هذه القناة صورةً متسامحةً ومنفتحةً عن الإسلام. وخير رمزٍ لهذا التوجّه ولطموح مصر تحويل نفسها إلى حصنٍ للإسلام المعتدل، هو الإمام الجديد أحمد الطيّب، المشهود له بثقافته الفقهيّة المتينة، المتخرّج من جامعة السوربون، المتقن للغة الفرنسية، والمتحمّس للحوار بين الأديان. كما يمرّ تثبيت النفوذ هذا أيضاً عبر تدريب أئمةٍ أجانب، في الأزهر نفسه داخل الجامعة، أو من خلال إرسال شيوخٍ أزهريين إلى أكثر من ثمانين بلداً. فالدول الغربية التي تضمّ عدداً كبيراً من المسلمين، مثل فرنسا، والحريصة على احتواء موجة الإسلام المتطرّف، تطالب بهؤلاء الأئمة وتسعى إلى تنمية العلاقات مع المؤسسة الدينية المصرية الذائعة الصيت. لكن يبقى على الأزهر، في سبيل تحسين نفوذه، أن يكيّف تموضعه المتمحور كثيراً حول مصر، وأن ينمّي قدراته - اللغوية منها خصوصاً - وجهازه البشري للدخول إلى الحداثة الإعلامية التي لا يتقن أساليبها جيداً.
تراجع في الحديقة الخلفيّة الإفريقيّة
في زمن العولمة، تعيد مصر تحديد موقعها. فمن حيث المبدأ ولتعزيز حضورها، تضاعف القاهرة من مشاركتها في المشاريع الدولية. هكذا اندفع الرئيس مبارك، من الأساس، في مشروع "الاتحاد من أجل المتوسّط" الذي أطلقه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في تموز/يوليو 2007؛ لكنّ النتائج ليست واضحة حتّى الآن... وإذا كانت الشركات المصرية، باستثناء قطاعَي البناء والهاتف، ضعيفة الحضور في الخارج، فإنّ القاهرة قد نجحت في السنوات الأخيرة في اجتذاب حجمٍ كبيرٍ من الرساميل الأجنبية (إذ يقدّر مخزونها بـ59.9 مليار دولار عام 2008)، القادمة خصوصاً من الخليج؛ وتلك هي نتائج مشجّعة لا يفترض أن تتأثر سلباً كثيراً بالأزمة المالية. كما تطوّرت سياسة تنويع الشركاء بالارتكاز على حرص بلدانٍ مثل الصين والهند أو روسيا تعزيز مواقعها في الشرق الأوسط. كما تواترت الإتصالات مع مناطقٍ كانت مهملة حتّى الآن في أوروبا الشرقية وآسيا وأميركا اللاتينية.
في المقابل، تتراجع القاهرة في حديقتها الخلفية الإفريقية. فبعد أن عملت لترسيخ وحدة السودان، بات عليها أن تستعد، مع الاستفتاء حول تقرير المصير المتوقّع في كانون الثاني/يناير 2011، لبروز لاعبٍ جديدٍ هو جنوب السودان. علماً بأن تقاسم موارد النيل المائية يسمّم علاقتها بالبلدان التي يمرّ فيها هذا النهر. ففي آيار/مايو 2010، وجّهت كلّ من الحبشة ورواندا وتنزانيا وأوغندا صفعةً للقاهرة من خلال توقيع اتفاقٍ منفصلٍ يعيد النظر بتقاسم المياه المبرم في العام 1959، والذي كان يعطي مصر كما السودان حصّة الأسد.
وتبقى القاهرة حليفٌ رئيسيّ لواشنطن على المستوى الإقليمي؛ فهي ثاني مستفيد، بعد إسرائيل، من المعونات الأميركية، التي تتوزّع بين 1.3 مليار دولار للمساعدات العسكرية و250 مليوناً من المعونات المدنية سنوياً. هكذا يبرز السيد عمر سليمان، رئيس جهاز المخابرات المصري، محاوراً منتظماً في الملفّات الرئيسية مثل فلسطين أو العراق. وبعد مرحلة توتّر في حقبة رئاسة جورج والكر بوش، كانت معاناة القاهرة خلالها مزدوجة بسبب السياسة العدائية لواشنطن في الشرق الأوسط، وأيضاً بفعل الضغوط التي مورست من أجل الديموقراطية، تميل المرحلة الراهنة إلى الانفراج [6]. فقد ساعد في هذا الاتجاه الموقف التصالحي للرئيس أوباما تجاه البلدان الاسلامية، الذي عبّر عنه في خطاب 4 حزيران/يونيو 2009 في القاهرة، وكذلك رغبة الإدارة الجديدة بعدم إضعاف النظام المصري بمطالب "الحوكمة الصالحة" والديموقراطية. إذ أنّ الاختراق الذي حقّقه "الأخوان المسلمون" في انتخابات 2005 التشريعية، وفوز حماس في الانتخابات الفلسطينية في كانون الثاني/يناير 2006، قد دفعا واشنطن إلى التريّث... وفي مواجهة غموض مرحلة ما بعد مبارك، تمارس الولايات المتحدة الحذر، بحيث لا تتبنّى ولو ضمنياً تكريس السيد جمال مبارك كوريثٍ مفترض للحكم. في حين يجهد هذا الأخير في تأمين حضورٍ دوليّ له؛ فقد شارك في الوفد المرافق لوالده إلى واشنطن بمناسبة استئناف مباحثات السلام الفلسطينية-الإسرائيلية مطلع شهر أيلول/سبتمبر. لكن في بداية العقد المنقضي، كان تكاثر رحلاته إلى الخارج مناسبةً لسيلٍ من الانتقادات من قبل معارضي توريث السلطة.
بيد أن هذه النشاط الفائض الديبلوماسي يبقى محور تأمين شرعية النظام. وخير دليلٍ على ذلك هو الوقت الذي يخصّصه الرئيس مبارك للزيارات والمبادلات الدبلوماسية، المتعبة بالطبع لرجلٍ تجاوز الثمانين من العمر. وستكون قدرة وريثه على حسن ممارسة هذا الجانب من وظيفته، لا بل على جعل مصر تستعيد دورها الإقليمي، عنصراً هاماً في تأمين نجاح المرحلة الانتقالية المقبلة.
* مديرة مكتب ميرويه للاستشارات، مؤلّفة Egypte, l’envers du décor, La Découverte, Paris, 2008.
[1] إقرأ: سمير العيطة: "حديث مع شابّة مصريّة"، افتتاحيّة لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، كانون الثاني/يناير 2010، http://www.mondiploar.com/article.p...
[2] إقرأ: حسام تمام: "تحوّلات مؤلمة في صفوف الأخوان المسلمين"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، أيلول/سبتمبر 2005، http://www.mondiploar.com/article24...
[3] إقرأ: سمير العيطة: "غزّة ومصر... الإرادة والمصير"، افتتاحية لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، شباط/فبراير 2009، http://www.mondiploar.com/article.p...
[4] إقرأ: معاذ محمود: "المدوّنات... السلطة الخامسة في مصر"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، شباط/فبراير 2009، http://www.mondiploar.com/article.p...
[5] إقرأ: برنار روجييه: "هل من مواجهة بين الإسلام السنيّ وحزب الله"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، كانون الثاني/يناير 2007،
http://www.mondiploar.com/article78...
[6] إقرأ: سمير العيطة: "مصر والسعودية... بانتظار الإدارة الأمريكيّة الجديدة"، افتتاحيّة لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، آب/أغسطس 2008،
http://www.mondiploar.com/article.p...