د. دندشلي - مـقـابـلـة مـع الأستاذ جورج طرابيشي
مـقـابـلـة مـع
الأستاذ جورج طرابيشي
الزمان والمكان : 7 آب 1965 ، دمشق
أجرى المقابلة : د. مصطفى دندشلي
* * *
إنّ أيّ دراسة لحزب البعث ، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أمرين :
الأمر الأول : في مراحل مختلفة من تاريخ البعث ، لم يكن هناك أي تقيَّد بخط فكري معيّن، أو لم يكن هناك أي اتجاه فكري ونظري بالأساس . فكل حزبي يستطيع أن يكتب ما يشاء ، وبأي شكل أراد، ويتبنى أيّ وجهة نظر يراها ويدافع عنها . لذلك نرى كتابات حزبية ولحزبيين متشعبة ومختلفة إلى حدّ ما ، في المنطلقات والاتجاهات ...
مثلاً ، ما كتبه جورج طرابيشي في مقدة كتابه سارتر والماركسية الذي ينتقد فيها الحزب انتقاداً قاسياً ، بل فيها رفض لمنطلقات الحزب الفكريّة ، ومع ذلك لم يحاسب على ذلك ، ولم يفصل من الحزب من أجلها ... وكثيرون غيره .
من أجل ذلك ، لم تكن كتابات البعث لتؤثر تأثيراً عميقاً وواسعاً في القواعد الحزبيّة ... مضافاً إلى هذا ، وقبل استلام الحزب السلطة، صعوبة النشر والتوزيع وربط الحزب فكرياً بين قاعدته وقياداته ، وبين مختلف أقطار الحزب وفروعه ... ولكن الحزب ، كان يدخل معارك سياسيّة في مختلف فروعه وأقطاره تبعاً لتطوّر المجتمع العربي وتصادمه مع قوى خارجية أو داخلية ... كان يكفي الحزب أن يدخل هذه المعارك تحت شعارات عامة ، صفتها الأساسية تقدميّة ... لهذا يمكننا القول إن قواعد الحزب كانت دائماً أكثر تقدميّة وثوريّة من القيادات ...
النقطة الثانية التي يجب أن تراعى في البحث حول موضوع حزب البعث هي : عدم احترام النصوص وتغيير وحذف جمل أو مقاطع كبيرة في بعض الأحيان ، من مقالات قديمة يعاد نشرها لتتناسب مع المرحلة التي يمر بها الحزب ... مثالاً على ذلك : حُذفت هذه الجملة من مقالة : ذكرى الرسول العربي : " يريدنا الله أن نكون جميعاً أبطالاً ، ولا مراد لإرادة الله ". وكذلك حُذف بعض الجمل من مقاله : البطولة ...
البعث وأكرم الحوراني
قبل اندماج حزب البعث العربي والحزب العربي الاشتراكي في حزب واحد ... كان الأول ـ أي البعث ـ حزب المثقفين ـ أي أساتذة وطلبة ـ وكان هؤلاء قد حدّدوا عملهم وأقصى نشاطهم ، بنشر "فكرتهم" المثالية : فكرة الحقّ والخير والجمال ، وتحقيق العروبة " الأصيلة " على أنقاض المجتمع العربي الفاسد ...
أما السياسة ، فليس ذلك من شأنهم ومن صلب عملهم ... السياسة تجرهم إلى مسالك ومهاوٍ، هم مترفِّعون عنها ... السياسة بنظرهم ... خداع وألاعيب ومؤامرات وكذب ... يتنافى كلّ ذلك مع فكرتهم المثالية وأخلاقيتهم ... عملهم أخلاقي لا سياسي ... شعار تلك المرحلة : عقيدة لا سياسة .
ولكن ، تحت حكم الشيشكلي ، وبعد اندماج الحزبين وتحت تأثير شخصية أكرم الحوراني ، وجد الحزب نفسه وجهاً لوجه أمام العمل السياسي ، مع كل ما يتطلبه هذا من عمل يومي وعلى مستويات مختلفة وعلى جبهات متعددة ...
إن اندماج الحزبين ونفوذ أكرم الحوراني ، كان ذلك منعطفاً تاريخياً في عمل حزب البعث السياسي ... ولكن هذا التأثير السياسي بقيَ ضمن حدود ولم يتعداها إلى الناحية النظريّة والفكريّة ولم يؤثر فيها تأثيراً مباشراً وعميقاً... بعد الاندماج دخل الحزب إلى الحياة البرلمانية والسياسيّة من أوسع أبوابها ، ولكن هذا التطوّر العملي الذي كان يفتقده الحزب في السابق ، لم يجد تعبيره النظري بشكل واضح وأساسي في كتابات البعث ... بل بقي تفكير الأستاذ ميشال عفلق هو السائد والغالب . غير أنه بدخول أكرم الحوراني إلى الحزب ، دخل معه البعث في معارك سياسيّة عملية عنيفة ضد الاستعمار ومشاريعه وضد الرجعية والإقطاعيّة ...
إنّ هذه السياسة العملية التي وجد حزب البعث نفسه في غمارها ... لم يستطع الأستاذ عفلق واتجاهه أن يمنعاه من الدخول فيها . ولكنه استطاع على الرغم من ذلك ، أن يمنع تطوّره النظري وأن تجد هذه السياسة العملية ترجمتها الفكريّة . من أجل ذلك ، كانت مواقف الحزب السياسيّة العملية أكثر تقدمية من مواقفه النظرية ... العمل السياسي اليومي الذي كان يقوم به الحزب ، سواء على الصعيد القطري أو القومي ، كان شيئاً ... وكتابات عفلق وأفكاره شيء آخر .
وهنا ، يبدي جورج طرابيشي ملاحظة مفادها : " أن عفلق لم يذكر كلمة استعمار إلاّ نادراً ومؤخراً ...".
البعث وعبد الناصر
إنّ إمكانية تطوّر حكم عبد الناصر أكثر من إمكانية تطوّر حزب البعث على الصعيد الأيديولوجي والسياسيّ . إنّ للبعث أيديولوجية واضحة ... وقد اكتملت شيئاً فشيئاً وتمّت مع المراحل التي كان حزب البعث يمرّ فيها ... وهي أيديولوجية البرجوازيّة الصغيرة المنسجمة مع تركيب البعث الاجتماعي . فهي من أجل ذلك ، تمنعه عن الحركة الفكريّة وعن كلّ تطوّر ...
إنّ حكم عبد الناصر هو أيضاً حكم البرجوازيّة الصغيرة تعبِّر عن مصالحها ولو أيديولوجياً... ولكن هذه الأيديولوجية غير واضحة وغير متكاملة ، بل هي عائمة غائمة ...
إنّ حزب البعث يتهم عبد الناصر بأنه سرق أفكار البعث . وهذا صحيح إلى حدّ ما . إنّ عبد الناصر لم يأخذ فقط أفكار وشعارات البعث ، بل أخذ منه أيضاً قواعده . وهذه الأفكار التي "سرقها" عبد الناصر من حزب البعث ، لم تكن لها بالنسبة إلى عبد الناصر وحكمه، قدسيتها السحرية، كما لها عند البعث ... لذلك استطاع عبد الناصر أن يغيرها ويطوّرها ليتجاوزها ... في حين حزب البعث ، شعوره ككل وكوحدة وكطبقة ـ وليس في إمكانية البرجوازيّة الصغيرة أن تكوّن نفسها كطبقة ـ ومن هنا قوّة الصراع النفسي الحاد في شخصية البعثي والاستماتة في الدفاع عن الحزب وقدسية وصنمية ، بل وفرضه كطبقة . وإن لكل فكرة عنده لها معنى ورنين خاص ، تجد به خاصتها ، مما دفع الحزب إلى أن يحافظ على أيديولوجيته ويتجمد عندها ويرفض أيّ إمكانية لتطورها ...
ـ إنّ علي صالح السعدي يُحمّل مسؤولية كبرى أثناء حكم البعث في العراق ... في حين أنّ سلطة علي الفعلية إنما هي على الحزب وليست على الحكم ...