د. دندشلي - مشاكل مدينة صيدا البيئيَّة والصحيَّة - المهندس هلال قبرصلي
مقابلة مع
المهندس هلال قبرصلي
رئيس بلدية صيدا السابق
صباح يوم الأربعاء الواقع فيه 11 نيسان 2007
حول: مشاكل مدينة صيدا البيئيَّة والصحيَّة:
محطة تكرير مياه الصَّرف الصِّحي…
مكب النفايات ومعمل معالجة النفايات الصلبة.
مشروع البنك الدولي لتطوير الإرث الثقافي في صيدا القديمة
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … هناك في مدينة صيدا مشاكل اجتماعية وصحية عديدة، يأتي في مقدمتها مشاكل البيئة والتلوّث. فأودّ في هذا الحديث معك، بصفتك كنت رئيساً لبلدية صيدا في مدة ست سنوات (1998 ـ 2004) وكنت على معرفة دائمة، يومية وتفصيلية بهذه المشاكل الشائكة والمعقّدة، أن تحدثني عن جذور هذه المشاكل وتداعياتها، ولنبتدئ بالحديث عن المشكلة الأولى، مشكلة مكب النفايات المزمن الذي مضى على وجوده أكثر من ثلاثة عقود من الزمن حتى الآن… لماذا لم نستطع أن نجد حلاً جذرياً طوال تلك المرحلة لهذه المشكلة؟ وعندما ظهرت بوادر واتخذت القرارات تلو القرارات لإيجاد مشروع حل لمعالجة النفايات الصلبة عن طريق إنشاء معمل لهذا الغرض على شاطىء البحر مقابل جسر سينيق، تعثَّر هذا المشروع واصطدم بصعوبات شتَّى؟… ما هي هذه الصعوبات أو العراقيل التي واجهت مشروع حل مشكلة "جبل" النفايات: هل هي إدارية، سياسية، مالية، اجتماعية، إلخ…؟!…(1)
فمن خلال تجربتك الشخصية في هذا الشأن ومعرفتك التفصيلية لهذا الموضوع الشائك والمزمن، كيف يمكن أن توضح لي هذه المشكلة باختصار شديد؟!..
المهندس هلال قبرصلي: … لم نتوصل بعد في لبنان على المستوى الوطني إلى اعتماد حل مناسب لمشكلة التخلص من النفايات المنزلية. لذلك تكاد لا تخلو مدينة أو قرية لبنانية من مكب نفايات. ومكب صيدا مثل من الأمثال الكثيرة الموجودة في الأراضي اللبنانية. إن مكب صيدا الحالي لم يكن الأول من نوعه في المدينة فكورنيش صيدا البحري بين منطقة الشمون والقلعة البحرية أنشىء فوق مكب للنفايات اعتمد أواخر الخمسينات من القرن العشرين.
كثرت النفايات المنزلية في مدينة صيدا وازدادت حجماً وكمية. والمدينة كما هو معروف، محدودة المساحة، ومؤلَّفة من: شاطىء، وشوارع، وأبنية، وبساتين. فإذا كنت تريد أن تختار مكبّاً للنفايات بين هذه الأماكن الأربعة، فأيّ منها تختار؟… فليس أمامك إلاّ الشاطىء البحري. صحيح أنه ليس باختيار سليم، ولكنه اعتمد كحل موقَّت. أما لماذا لا يكون هذا المكبّ للنفايات خارج مدينة صيدا؟… فلأن جميع المناطق المحيطة بمدينة صيدا وهي التي تقع خارجها، رفضت وترفض ذلك.
س: … إذن، في هذا النطاق، لماذا كانت مدينة صيدا، في مكبّ نفاياتها، الذي أصبح جبلاً مع مرور الوقت، قد أخذت تستقبـل بالإضافة إلى ما عندها، نفايات القرى والبلدات المحيطة بها؟…
ج: … كانت نفايات مدينة صيدا المنزلية محدودة الكمية، معظمها مواد عضوية وهي بعد طرحها في المكب تتآكل بفعل العوامل الطبيعية. وتُحرق في أحيان أخرى. مع مرور الزمن وتطور الحياة، أخذت كمية النفايات بالتزايد ودخل عليها عناصر جديدة غير عضوية: معلبات معدينة، قناني وأكياس بلاستيكية، مخلفات المسلخ، مخلفات المستشفيات، دواليب كوتشوك، إلخ… منها ما هو سام ومنها ما لا يتحدَّد مع الوقت.
ازدادت كمية النفايات المطروحة في المكب مع ازدياد عدد سكان المدينة وانتشارهم باتجاه الشرق حيث أصبح المكب يستقبل نفايات صيدا الكبرى بسكانها الصيداويين والمنتقلين إليها من مناطق لبنانية أخرى، إضافة إلى سكان شرق صيدا ومخيم الفلسطينيين في عين الحلوة…
س: … ونفايات القرى والبلدات المحيطة بمدينة صيدا، أين تصبّ؟!..
ج: … أنت تقصد بقية بلدات اتحاد بلديات صيدا الزهرانـي: نفايات الغازية ومغدوشة تصبّ في مكب الغازية، عنقون لها مكبها الخاص في أطراف المدينة، ثم استحـدث في سنـة 2003 مكب في عبرا لنفايات عبرا والهلالية ومجدليون، ومكب في زغدرايا لنفايات عين الدلب والقِريَّة ودرب السيم.
س: … وفي ما يتعلق بحرق النفايات وتوقفه!!
ج: … كما تقدم، فقد أخذ مكب النفايات في صيدا يكبر شيئاً فشيئاً، ومن ثَمَّ بسرعة متزايدة مع تزايد عدد السكان وزيادة إنتاج الفرد اليومي من النفايات. عندها لم تعد سياسة حرق النفايات مجدية وضررها لم يعد محتملاً، فتقرر ردم النفايات بالتراب بحيث يضاف فوق كل نصف متر من النفايات نصف متر من التراب مما عجَّل بتعاظم حجم جبل النفايات حتى وصل اليوم إلى أكثر من مليون متر مكعب.
عندما استلمنا المسؤولية (عام 1998) في بلدية صيدا وجدنا بتحليل منطقي بسيط أن بقاء المكب في مكانه كارثيّ يجب العمل بشتى الوسائل على التوقف عن استعماله وأن نقله إلى مكان آخر خارج المدينة مستحيل، فمحيط المدينة يرفض ذلك رفضاً قاطعاً. وقد ازداد هذا الرفض بعد أحداث الحرب الأهلية لأسباب سياسية ومناطقية. إذن ما هو الحل؟… يجب البحث عن حل ثالث. وهو إقامة معمل لمعالجة النفايات والإقلاع نهائياً عن فكرة المكب. هكذا بدأ التفكير جدياً في بناء مصنع لمعالجة النفايات بعد ثلاثة أشهر فقط من استلامنا للمسؤولية في المجلس البلدي. وكان العرض الذي تقدمت به شركة I.B.C. بشخص رئيس مجلس إدارتها المهندس حمزة المغربي(2) .
س: … هنا سؤال يُطرح بإلحاح، ويطرحه الرأي العام الصيداوي بوجه خاص، لماذا لم يُفكَّر في السابق، وقبل مجيئكم إلى بلدية صيدا، بالبحث الجدّي والجذريّ لإيجاد مخرج أو حلّ علمي صحّي بيئي لمكب النفايات والذي كان مطلباً على الدوام لأهالي صيدا؟!… ما هي العقبات والصعوبات التي كانت تواجه تنفيذ الحلول وإخراجها إلى حيِّز التحقيق الفعلي، وذلك بغض النظر عن النيات الطيبة التي لا يشك أحد فيها، في حين كان هناك غطاء سياسيّ وماليّ كبيرَيْن لبلدية صيدا آنذاك.
ج: … إن المخرج البيئي والصحّي، الذي كان معتمداً في حينه، قد كان هو المكبّات الصحية. وكان دائماً يجري التفتيش والبحث عن أماكن يُقام فيها "مطمر صحّيّ" وكان قد تحدَّد بواسطة مجلس الإنماء والإعمار مجموعة من المطامر، ومنها، كما هو معروف، ونتحدث عنه باستمرار في صيدا، هو "مطمر وادي جهنم". عندما حدَّد مجلس الإنماء والإعمار هذه الأماكن وأعلن أنها هي صالحة لأن تكون مطامر للمنطقة، قامت الضجة وارتفعت الاعتراضات التي منعت تنفيذ هذه المطامر. إذن، لقد نفَّذ مجلس الانماء والإعمار ما هو مطلوب منه، ولكن السياسة أفسدت الحل المقترح. ولكن والمطمر الوحيد الذي نُفِّذ وتحقَّق هو "مطمر الناعمة"، وباقي المطامر ووُجهت باعتراضات شديدة عليها ومنها المطامر التي كانوا قد اختاروها في الجنوب.
س: … هذه المطامر، من الناحية البيئية، هل هي فعلاً صحيَّة، ومن ناحية التلوّث والتلوّث الجوفي، هل هي سليمة؟ إننا نسمع كثيراً من الاعتراضات تصدر من هنا وهناك على هذه المطامر… وهذه الاعتراضات علمية هي أيضاً…
ج: … بالتأكيد إن الذين يعترضون على إقامة هذه المطامر وعلى وجودها في مناطقهم ليسوا على خطأ. فإذا لم تكن المطامر مدروسة ومنفَّذة بشكل جيد وبطريقة صحية وسليمة، يمكن للسوائل السامة الناتجة عن النفايات أن تتسرَّب إلى المياه الجوفية. تجدر الإشارة إلى أن الدراسة التي يجريها مجلس الإنماء والإعمار قبل موافقته على اختيار المكان الصالح لتحويله إلى مطمر صحّي، تأخذ في الاعتبار طبيعة الأرض وقابليتها لتسرُّب السوائل إلى الطبقات الجوفية. وكذلك عدم وجود مياه جوفية في المحيط القريب. لذلك فإن تحضير المطمر الصحّي قبل استعماله، يستوجب تغليف أرض المطمر بطبقات عازلة تمنع التسرَّب. إلاّ أن ذلك لا يعنى أن إنشاء المطامر الصحية هو الحل الأمثل، على الرغم من استعماله في كثير من بلاد العالم حيث المساحات الشاسعة (منها الولايات المتحدة الأميركية).
س: … مساحة هذه البلاد الأوروبية كبيرة عكس لبنان….
ج: … (مقاطعاً)، في البلاد التي مساحاتها كبيرة، بالتأكيد فإن الحل يكون أكثر سهولة. في سورية، مثلاً، وزارة البيئة قد درست جميع المناطق التي يمكن إقامة فيها مطامر صحية وحدَّدتها، إلاّ أن هناك لا أحد يعترض على هذا الاختيار للمطامر، لأن الاختيار يتمّ في مناطق نائية. أما في لبنان، فليس هناك من مناطق نائية، لهذا، فإن المطامر الصحية في لبنان لم تنجح.
للتخلص من النفايات فـي العالم، هناك أكثر من طريقة تتلاءم مع طبيعة البلاد، يأتي في مقدمهـا:
1 ـ المطامر الصحية، كما تم شرح ذلك في ما سبق،
2 ـ الحرق،
3 ـ التخمير بعد الفرز، وذلك إما بوجود الهواء وإما بمعزل عن الهواء. الطمر والحرق والتخمير، كلها طرق لها مساوئها وحسناتها وكلها مستعملة في العالم ولا نستطيع أن نفضل طريقة على أخرى، إلا بعد أن نحدِّد طبيعة النفايات (نسبة المواد العضوية) وطبيعة البلاد التي تجري فيها.
فإذا استثنينا المطامر الصحية للأسباب التي ورد ذكرها سابقاً والحرق بسبب الدخان السام الذي يتصاعد منه وكذلك بسبب ارتفاع نسبة المواد العضوية المرطبة (65%) في نفاياتنا، يصبح التخمير Compostage هو الحل الأمثل لنا (إن حرق النفايات في دول مثل إنكلترا يُنتج طاقة حرارية تحوَّل إلى كهرباء لأن المواد العضوية المرطبة لا تزيد عن 35%، أما في لبنان فيحتاج الحرق إلى استعمال المازوت، أي صرف طاقة بدلاً من إنتاجها)
تعتمد المعالجة بالتخمير أولاً على الفرز بحيث تُفصل المواد العضوية (كل ما هو نباتي أو حيواني) عن المواد غير العضوية (المعادن والبلاستيـك، إلخ…) بحيث تعالج المواد غير العضوية بإعادة استعمالها بعد توضيبها وتعالج المواد العضوية بالتخمير، إما الهوائي compostage aérobique أو اللاّهوائي compostage anaérobique، وبذلك تحول المواد العضوية إلى سماد طبيعي
لقد تم اختيار التخمير اللاّهوائي في معمل نفايات صيدا، وهي طريقة حديثة ينتج عنها سماد طبيعي عالي النوعية وغاز الميثان ذو الطاقة الحرارية العالية.
تتم عملية الفرز بعد استلام النفايات في المصنع حيث يتم أولاً فرمها ومن ثم فرزها يدوياً وآلياً بحيث تُفصل بدقة المواد غير العضوية لتجمع كل مادة منها على حدة ليعاد تدويرها واستعمالها من جديد (حديد، ألمنيوم، زجاج، بلاستيك، ورق، قماش، إلخ…) وترسل المواد العضوية لتنظَّف بالماء من آخر شوائب عالقة بها في آلات خاصة تحوّل بعدها إلى الهاضم، أي خزان التخمير (خزان مغلق معزول عن الهواء سعته 15.000 طن) حيث تبقى مدة أسبوعَيْن إلى ثلاثة أسابيع لتتم عملية الهضم والتخمير.
أثناء وجود المواد العضوية في الهاضم معزولة عن الهواء، أي مع عدم وجود الأوكسجين، وبما أن المواد العضوية مؤلفة من كربونC وهيدروجين H، يستحيل إتحاد الكربون أو الهيدروجين مع الأوكسجين فلا ينتج Co2 ولا H2o، بل يتحد الكربـون مع الهيدروجين لينتج غاز Ch4 الميثان ذو الطاقة الحرارية العالية، والذي يخرج من الخزان الهاضم ويُجمع داخل أسطوانات كبيرة ليستعمل فيما بعد لتوليد الطاقة الكهربائية. عندما ننتهي من التخمير، نلاحظ بدء خروج غاز النيتروجين. عندها تُوقف عملية الهضم وتُسحب المواد الموجودة في خزان الهضم، والتي تكون قد تحولت إلى سماد طبيعي، فتعصر، والسائل هو سماد سائل. أما الباقي فسماد طبيعي، يتم تجفيفه وتهوئته ليخزن ويبـاع.
ميِّزة هذه المعالجة أنها تعيد النفايـات إلـى أصلها، إلى ما كانـت عليه، دون أن نخسر أي شىء: يعني البلاستيك الموجود في النفايات يعود إلى البلاستيك، والورق إلى الورق، والحديد إلى الحديد، والألمنيوم إلى الألمنيوم… والمواد العضوية التي أتت من الأرض تعود إلى الأرض، والغاز نحرقه. فإذن، كل شىء صدر من الأرض يعود إلى الأرض، كما كان في السابق: لا نحرقه ولا نخسره… يعني وبشكل آخر، لم نخسر النفايات، بالعكس من ذلك، فإننا نستفيد منها. صحيح بكلفة مرتفعة، ولكن بدل من أن نستورد السماد الطبيعي من الخارج، فإننا ننتجه، وكذلك بدل من أن نستورد الغاز من الخارج ننتجه أيضاً وبدل من أن نشتري كميات كبيرة من حديد وألمنيوم، إلخ… فإنه يمكننا أن نختصر هذه الكميات التي نشتريها من الخارج، مما ننتجه نحن عندنا في الداخل.
فإذا عمَّمنا ذلك على مستوى لبنان، فإننا نكون، فيما أعتقد، قد استطعنا أن نساهم جديّاً في إنعاش اقتصادنا.
س: … هذا لا يمكن إلاّ أن يكون ضمن سياسة شاملة وتخطيط عام للبلد ككل…
ج: … (مقاطعاً)، إن قيمة المواد المنتجة من هذه العملية مثل الحديد والألمنيوم والورق، إلخ… أو السماد أو الغاز، قيمة هذه المواد أقل من الكلفة لإنتاجها. وهذا طبيعي، نظراً لكلفة إنشاء المعمل العالية. مع التأكيد على أن قيمة بيع المواد المنتجة تخفِّض كلفة معالجة النفايات لحدود مقبولة.
س: … هنا، قد انتقلنا إلى موضوع وإلى نقاش آخر… المشكلة عندنا إنما هي مشكلة النفايات في نطاق محدود وفي منطقة معيَّنة وفي ظرف خاص، وهذه العملية تحل مشكلة جزئية من مشكلة النفايات العامة في لبنان والتي تحتاج إلى سياسة عامة أن تتَّبعها وتقوم بها وتنفِّذها الدولة اللبنانية.
ج: … المعمل الذي أخذنا قراراً بإقامته ويجري إنشاؤه في الوقت الحاضر، تمَّ توقيع العقد بشأنه مع شركة I.B.C. لمعالجة نفايات صيدا واتحاد بلديات صيدا ـ الزهراني لمدة 20 سنة مجاناً بحدود 200 طن يومياً، على أن ما يزيد عن هذه الكمية يُدفع للشركة قيمة معالجته، على أن تكون لبلدية صيدا أفضلية المعالجة المجانية.
س: … ماذا يعني ذلك في الواقع؟
ج: … تنتج مدينة صيدا حالياً 100 طن يومياً، تتمّ معالجتها مجاناً ويعالج المعمل أيضاً 100 طن للاتحاد مجاناً. طالما أن الكمية المنتجة في صيدا تقل عن 200 طن، تبقى معالجتها مجانية، وما لا يعالجه المعمل لصيدا (دون 200 طن) يبقى أيضاً مجاناً للاتحاد. إن تطوَّر صيدا السكاني لن يصل إلى الضعف خلال 20 سنة، مما يعني أنها لن تنتج أكثر من 200 طن يومياً من النفايات، لذلك يمكن اعتبار معالجة نفايات صيدا مجاناً طيلة مدة العقد.
معمل معالجة النفايات الذي وُقع الاتفاق على إقامته في مدينة صيدا، قد أنشىء لكي يعالج أربعماية (400) طن من النفايات في اليوم. وكنا نحن، بحسب الاتفاقية التي أقمناها مع شركة I.B.C.، قد سمحنا أن يعالج فقط نفايات الجنوب تحديداً، عندما تزيد طاقة المعمل عن حاجة اتحاد بلديات صيدا ـ الزهراني. فيستوفي عند ذاك عن الفائض من البلديات رسماً معيَّناً عن كل طن، وذلك عن طريق اتفاق خاص بين شركة I.B.C. وبلديات الجنوب تحديداً. وعندما تنتهي مدة العشرين (20) سنة، يصبح المعمل مِلكاً للشركة التي أنشأته، مع التجهيزات والمعدات والمكان والردميات، بحسب نص الاتفاقية. ولماذا الجنوب فقط؟… لأن المعمل أنشيء على حدود صيدا الجنوبي. وسيارات النفايات لا تمرّ في مدينة صيدا، عندما تأتي من الجنوب.
س: … بعد هذا العرض التفصيلي الواضح، هناك نقطتان أودّ أن أطرحهما وأستفسر بعض الأشياء حولهما: بعد مضي عشرين (20) سنة، ما هو الملحوظ من حقوق لبلدية صيدا ولمدينة صيدا في الاتفاقية مع شركة I.B.C. وتجاه الشركة ذاتها…
ج: … بلدية صيدا ومدينة صيدا، ليس هناك أي التزام من قِبَل شركة I.B.C.، تجاه بلدية صيدا وبالتالي تجاه مدينة صيدا، وبالتالي لا التزام لبلدية صيدا تجاه الشركة. وبعد مضي المدة الملحوظة في الاتفاقية، فقد يكون هناك اتفاق جديد كلياً. ولكن لا يجوز للشركة استعمال الأرض المردومة إلا لمعالجة النفايات.
س: … إذن، تكون بلدية صيدا في هذه الحالة تحت رحمة الشركة، شركة I.B.C.
ج: … من الممكن أن بلدية صيدا لا تتعامل مستقبلاً مع الشركـة نفسها، وقد يكون هناك حل آخر…
س: … كيف يمكن أن يكون ذلك؟..
ج: … من الممكن أن لا تتعامل بلدية صيدا مع شركة I.B.C، بعد عشرين (20) سنة. وقد يكون هناك معمل آخر تتعامل معه وقد يكون هناك حل للنفايـات في لبنان، وعلى مستوى كل لبنـان.
س: … إذن، هنا، الأمور في هذا المجال غير واضحة بتاتاً.
ج: … لا، الاتفاقية تحدّد المدة فقط لعشرين (20) سنة. إلا أن الاتفاقية قابلة للتمديد بموافقة الطرفين.
س: … إنتاج الكهرباء للمعمل، هل تستفيـد منه بلدية صيـدا وبالتالي مدينة صيدا؟… إن المعمل سيتيح إنتاج طاقة يمكن تحويلها إلى طاقة لتوليد الكهرباء والبخار، يتمّ تزويد المعمل بثلث الطاقة ويصدِّر الثلثين، وسيعرضهما للبيع، فهل صيدا سوف تستفيد من هذه الطاقة الكهربائية؟…
ج: … بالنسبة إلى مسألة الكهرباء، ينبغي إبداء ملاحظة بالغة الأهمية قبل كل شىء: إن القانون في لبنان لا يسمح للقطاع الخاص أن يبيع الكهرباء، على الأقل حتى الآن. وإنما مع مشروع الخصخصة الذي يُطرح حالياً، فإنه سوف يسمح بذلك. في أوروبا، مثلاً، إذا كنت تملك مولداً كهربائياً ضخماً فباستطاعتك أن توصله بالشبكة الكهربائية العامة وتربطه بها وتضع عداداً على هذه الشبكة، وتحاسب على الفرق الذي يكون لصالحك أو لصالح مصلحة الكهرباء. في لبنان، لا وجود حتى الآن لهذا القانون الذي يسمح لمؤسسة خاصة أن تبيع القطاع العام الكهرباء. ولكن، عند تطبيق الخصخصة في لبنان، فإنه ملحوظ هذا الوضع وأنه من الممكن للقطاع الخاص أن ينتج طاقة كهربائية ويصلها بشبكة القطاع العام ويربطها به ويتقاضى ثمن ما يبيعه منها.
س: … الآن، نحن لم نصل بعد إلى هذا الوضع أو إلى تطبيق مشاريع الخصخصة المطروحة في لبنان، وبالتالي، بحسب الاتفاقية مع شركة I.B.C.، فهناك شركة ستنتج كمية من الكهرباء، وسوف تبيعها ـ كما تقول ـ لمن يرغب في شرائها. ما هو موقف بلدية صيدا من هذا الموضوع، فهل تشتري الكهرباء من هذه الشركة، وأنت تقول بأنها لا يحق لها قانوناً أن تبيع الكهرباء التي تنتجها؟!..
ج: … إن الكهرباء التي تنتجها هذه الشركة، تستهلك هي داخلياً ما بين ثلث أو نصف الكمية المنتجة، (متعهّد المشروع يقول: ثلث الطاقة الكهربائية المنتجة)، أما الجزء الباقي، فمن الممكن أن تنشىء خطاً خاصاً للمدينة الصناعية. حينذاك تعطي الكهرباء بشكل دائم للمدينة الصناعية، وهذا حل ممتاز. فبدل من أن تشتري المحلات الصناعية الكهرباء من أيِّ مولدات كهربائية موجودة، فيكون بإمكانهم أن يأخذوا الكهرباء من هذه الشركة ولربما بأسعار تفضيليَّة… كذلك تخطط الشركة لإنشاء مصانع تدوير للمواد غير العضوية وبصورة خاصة البلاستيك الذي ربما يستهلك كامل طاقة المولدات الكهربائية.
س: … ألا يمكن أن يكون ذلك نوعاً من تجاوز القانون، أو بالأحرى وبتعبير أصح خرق للقانون المعمول به في لبنان، كما أشرت أنت إلى ذلك فيما سبـق؟ على أي حال، هناك أيضاً وفي هذا المجال، مشكلة التلوُّث البيئي بسبب كثافة السيارات الثقيلـة التي سوف تخدم معمل معالجة النفايات، على اعتبار نقل يوميـاً مائتي (200) طن من النفايات، فهناك بطبيعة الحال، كما يقول بعض المسؤولين في بلدية صيدا، استهلاك للطرق من ناحيـة، وتلوُّث البيئة في المنطقة المحيطة من ناحية أخرى، هل هذا الجانب من المشكلة العامة كان ملحوظاً في الاتفاقية بين بلدية صيدا وشركة I.B.C.؟…
ج: … سواءٌ وُجد المعمل أم لم يوجد، هذه السيارات المحمَّلة بالنفايات ستمر على نفس الطرقات، كما أنها تمرّ للوصول إلى المكب. والدولة من واجبها تأمين الطرقات للسيارات، بصرف النَّظر عن موضوع تأثيرها السلبي، إن طريق المرفأ يمر عليه بالاتجاهَيْن، كمٌّ هائل من السيارات الثقيلة، وهي محمَّلة بحمولات من كل الأصناف والأنواع، أضعاف السيارات التي تمرّ على طريق معمل معالجة النفايات. كذلك تمر على طرقات المدينة مئات الشاحنات المحملة بمواد البناء والإنتاج الزراعي. فلا أعتقد أن هذه هي مشكلة، لذلك لم ترد ولم تكن ملحوظة في الاتفاقية…
س: … ألا يُحدث ذلك كلّه تلوَّث البيئة والجوّ المحيط؟ إنني أشير هنا إلى هذه الناحية، لأنه قيل لي من مصدر مسؤول في البلدية إن هذا الجانب من المشكلة لم يُلحظ في الاتفاقية بين البلدية في صيدا وشركة I.B.C.، وإنه ينبغي طرحه وبحثه من جديد.
ج: … أولاً، يجب التوضيح أنه لا ينتج عن عملية المعالجة تلوُّث للبيئة، ولا ينبغي أن يكون هناك تلوُّث إطلاقاً. كما أن مرور شاحنات النفايات غير مرتبط بوجود معمل أو عدمه. أما القول إن وجود هذا المعمل لمعالجة النفايات سيكون له أضرار بيئية أو تلوّث الجو المحيط ـ بشكل أو بآخر ـ أستطيع أن أؤكد أن هذا غير صحيح إطلاقاً، وبالتأكيد!! وإذا قيل من هنا أو من هناك، إن هذه الناحية لم تُدرس، ويجب أن تُدرس من جديد وهي تُدرس الآن، يعني ذلك التفتيش عن إثارة المشكلة. وبمعنى آخر إذا كان الواحد يريد أن يعارض شيئاً ما أو أن ينتقده، فإنه يُفتش في الزوايا عن أشياء صغيرة من أجل أن يثيرها ويعلنها. ليس هناك من كسَّارة فُتحت في لبنان والتي يخرج منها في اليوم الواحد بين 50 ـ 100 كميون، ويحمل كل واحد منها 20 طناً، وكانت هذه الكسَّارات هي المسؤولة عن الطرقات التي يمرّ عليها كميوناتها!!… كذلك، فليس هناك من مرفأ موجود في مدينة ما، وكان هو المسؤول عن الطرقات التي تمر عليها السيارات التي تدخل أو تخرج منه!!… وفي المعنى نفسه، لا يوجد معمل حمضيات الذي يدخل إليه ويخرج منه سيارات شحن من الحمضيات، أكثر من السيارات التي تخدم معمل النفايات، وكان قد سأله كائن مَن كان لماذا أقيم هذا المعمل للحمضيات؟… يعني، بكلام صريح، عندما يحاول أحد أن يثير هذا الموضوع، فهذا يدل على أنه يفتش عن إثارة مشكلة من لا شىء…
س: … إلى هنا، أنتقل الآن إلى موضوع آخر، موضوع بالغ الأهمية ومشكلة معقَّدة، غاية في التعقيد، لم تجد لها حلاً منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وهي مشكلة ما يسمى بـ "جبل النفايات" في صيدا، ما هي العقبات والصعوبات والعثرات ـ بحسب معرفتك واطلاعك الطويل والتفصيلي على هذه المسألة الشائكة ـ التي كانت ولا تزال تُعيق وضع حل أو حلول لها؟!…
ج: … لقد تحدثنا، فيما سبق، عن معمل معالجة النفايات، وقلنا سوف يكون جاهزاً للعمل قريباً… وعندما ينتهي معمل النفايات من تجهيزاته النهائية ويصبح جاهزاً للعمل، فإن النفايات الجديدة جميعها ستذهب إلى المعمل. أما مكب النفايات الحالي، فإنه سيبقى كما هو الآن وفي وضعه الراهن ولن يُنقل إلى المعمل الجديد. أي أن مكب النفايات الحالي يبقى كما هو، على حاله الآن، ولا توضع فيه نفايات جديدة. ذلك أن معمل النفايات الجديد، لا يعالج ما هو موجود في هذا المكب حالياً. لأن ما هو موجود في المكب حالياً، نصفه من التراب، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم، وليس مكوَّناً كله من النفايات. وهذه النفايات القديمة كانت قد تخمَّرت مع الزمن. والمعمل الحديث لا يستقبل إلا النفايات الجديدة، ولا يستقبل وليس مهيَّأ لاستقبال النفايات المتخمِّرة. فإذن، المعمل في هذه الحالة لا يأخذ النفايات الموجودة في هذا المكب الموجود حالياً.
يبقى وضع مكب النفايات بحد ذاته. والسؤال الذي يُطرح هو التالي: كيف يمكن معالجته؟… هناك إمكانيتان لمعالجته: إما ببقائه مكانه، وإما بنقله… أما بقاؤه في مكانه، فالحل هو أن نتمكَّن من أن نسحب منه الخطر نتيجة الانفجارات التي من الممكن أن تحدث من وقت لآخر من جراء وجوده. والخطر الثاني هو بسبب اتّصاله بالبحر. ولتوضيح ذلك، فإن الحل، إذا أردنا أن نبقيه في مكانه، إنما يكون عن طريق إقامة سو واقٍ في البحر من حوله ويحيط به على مسافة خمسين (50) متراً تقريباً، داخل البحر، وإعادة فلش النفايات للاستفادة من المساحة الإضافية. وإن هذا السور سيمنع مستقبلاً كل اتصال بين مكب النفايات وبين البحر…
أما سُحب الغاز المنبعث من تفاعل النفايات العضوية، فيتم عن طريق حفر سلسلة من الآبار بعمق المكب، يوضع فيها قساطل شبيهة بالآبار الإرتوازية، تسمح بواسطة الثقوب المنفَّذة على طول كل منها بخروج الغاز من عمق النفايات ووصولها داخل القساطل حتى سطح المكب حيث يتم وصل كافة القساطل ببعضها البعض بتمديدات خاصة لجمع الغاز المنبعث (غاز المثيان CH4) لحرقه بالهواء الطلق أو لتوليد الطاقة الكهربائية بواسطة مولدات خاصة تعمل على الغاز.
تستمر عملية سحب الغاز عدة سنوات حتى ينضب ويتوقف نهائياً، عندها تنتهي عملية التخمير داخل النفايات ويتحول إلى تربـة لا تصدر أي روائح وصالحة للزراعة حيث يمكن تحول المكعب إلى تلة خضراء.
أما إزالة المكب بغربلته ونقله، إذا سمحت لنا الظروف أن ننقله، فإننا نستطيع أن ننقله. وبحسب ما قال الدكتور عبد الرحمن البزري في الاحتفال الذي أقيم بجانب المكب، عندما أعلن عن الهبة المالية التي قدمها الأمير الوليد بن طلال والاتفاق مع الشركة التي ستقوم بتنفيذ التخلص من وجود المكب وإزالته، فقال: هذا المكب سيغربل، وسنأخذ المواد غير العضوية نبيعها، والمواد العضوية يجب أن نردمها في مكان ما. أولاً وقبل كل شىء، المواد غير العضوية غير صالحة للاستعمال، لأنها كانت موجودة داخل النفايات العضوية منذ زمن طويل جداً. والقسم الكبير منها، كان قد سُحب منها من قِبَل "العمال" الموجودين بصورة دائمة على المكب يقومون يومياً بجمع المواد غير العضوية. بمعنى آخر أكثر دقة، نستطيع أن نقول: لا يوجد في المكب من المواد غير العضوية كمية "حرزانة"، ذات أهمية.
أما المواد العضوية، فإن المشكلة ليست في غربلتها فقط الآن، وإنما المشكلة هي في إيجاد مكان آخر مناسب لوضعها فيه. ونحن، لو استطعنا أن نجد مكاناً خارج مكب النفايات الحالي، لما تأخرنا بالحل. صحيح أن غربلة مواد المكب ونقله تحتاج إلى دراسة للأثر البيئي وهذا متيسر، ولكنها تحتاج أيضاً لمكان آخر تُنقل إليه لتدفن بعد غربلتها، وهنا تكمن الاستحالة لأن المحيط القريب وحتى البعيد يرفض استقبالها، على الرغم من الوعد بتأهيل المكب الجديد الذي ستنقل إليـه، وهذا التأهيـل هو شرط أساسي يجب توافره في دراسة الأثر البيئي الذي تطلبه وزارة البيئـة.
س: … في هذا المجال، سؤال يخطر في بال أيِّ مواطن عادي، ولربما كل مواطن غير اختصاصي في هذا الشأن، ومؤداه أن هذا الجبل من النفايات، ألا يمكننا لفترة زمنية متوسطة رميه تدريجاً في البحر؟…
ج: … بالتأكيد لا!… كيف يمكن أن يكون ذلك: هل عن طريق الردم؟…
س: … أجل، لقد جرت عمليات ردم في البحر في أماكن عدة، قمنا بردم مساحة من البحر مقابل الملعب البلدي لإقامة المدينة الرياضية، وكذلك لإقامة معمل معالجة النفايات بالقرب من جسر سينيق، وقد أشرت، أنت، إلى عمليات ردم جرت في السابق، فلماذا لا نحاول أو نفكر ـ وأنا لا أعلم إذا كان ذلك ممكناً علمياً أو بيئياً أو تقنياً ـ أن نفكر في عملية ردمٍ ما، من أجل التخلص من هذه النفايات، فهل هي مفيدة أو غير عملية، مضرّة أو غير مضرَّة ـ طالما أننا طوال مدة أكثر من ثلاثة عقود ماضية، لم نجد المكان الذي يستقبل هذه النفايات ونضعها فيه؟
ج: … صحيح جرت عمليات ردم لإقامة ملعب بلدي جديد (أو مدينة رياضية) على مدخل صيدا الشمالي وكذلك لإنشاء معمل للنفايات على مدخل صيدا الجنوبي، وفي كل من المشروعَيْن كاسر للموج منفَّذ بواسطة حاجز صخري كبير. أما المساحة المستحدثة، فقد ردمت بمواد صخرية بأحجام صغيرة ومتوسطة، ولا يمكن أن يتم ذلك بالنفايات العضوية التي تحتوي على كل أنواع السموم ومخلفات المستشفيات والمسالخ.
إن السائل الأسود الذي نستطيع أن نراه كجدول صغير يتسرَّب من مكب النفايات (ليتشيه) هو شديد السميَّة. وإذا اختلط بمياه البحر يلوثّها ويقتل الثروة السمكية والكائنات الحية في البحر. وهو نفس السائل الذي يتسرَّب إلى المياه الجوفية في المكبات العشوائية ويلوِّثها.
يكفي أن نراقب مدى التلوُّث في البحر الذي نتج عن انهيار جزء بسيط من المكب حتى نقدِّر الكارثة التي تنتج عن ردم البحر بكامل جبل النفايات.
إذن، وباختصار شديد وببساطة كلية، إن المشكلة كل المشكلة هي أن تجد المكان الذي يمكن أن تنقل مكب النفايات إليه. وأنا لا أرى الآن، في المنظور، المكان المناسب والمقبول من الجهات أصحاب القرار. لقد طُرح في الماضي أمكنة عديدة ـ وقيل في البلدية إن المشكلة قد حُلَّت ووجدنا المكان المناسب ـ . ولكن برزت الاعتراضات من كل جهة…. وأنا أقول وأكرِّر بأنه في الوقت الذي يجدون فيه المكان المناسب لدفن المواد بعد غربلتها، تكون المشكلة محلولة من تلقاء ذاتها، لأن الأموال موجودة، ومن السهولة معها أن توجد التجهيزات اللاّزمة للتنفيذ….
صحيح أننا نحتاج إلى موافقة وزارة البيئة، هذا صحيح…. ووزارة البيئة لا تُعطي موافقتها إلاّ إذا حُدِّد لها المكان وتمت معالجته ليصبح مطمراً صحيَّاً: بمعنى أنه يجب عزله عن المياه الجوفية وتوافر الشروط البيئيَّة والصحيَّة الأخرى. بيد أنه يجب تحديد المكان في بادئ الأمر. وهذا المكان حتى الآن غير متيسِّر، للأسف الشديد، وليس هنا فقط في محيطنا، وإنما في لبنان كلِّه، المكان غير متيسِّر… والأسباب معروفة وهي أننا نحن في لبنان لم نعد نفكر إلا بمصلحتنا المباشرة. فلا نبحث عن حلول مشتركة لمشاكلنا. كل منّا يبحث عن تأمين مصالحه الذاتية حتى لو كانت على حساب الآخر.
في حين أننا نحن (في غفلة من الزمن) في صيدا، كنا قد استقبلنا نفايات الآخرين عندنا، وأقمنا معمل النفايات في مدينة صيدا وقبلنا إنشاء محطة تكرير مياه الصرف الصحي للقرى والبلدات المحيطة في مدينة صيدا أيضاً…
إن الموافقة على إنشاء معمل النفايات مرَّت بصعوبات ومراحل متعدِّدة ولم تصبح ناجزة إلا بعد موافقة وزارة البيئة على ملف دراسة الأثر البيئي. فالمعالجة المعتمدة تتم على درجة حرارة التخميـر التي لا تزيد عن 60 درجة، أي لا دخان ولا روائح، لأن المعمل معزول ومجهَّز Biofilter "بيوفلتر" يمنع تسرّب أي رائحة إلى الخارج. ولكن على الرغم من كل الاحتياطات ونظافـة المعالجـة، كما ذكرت، فإن الرفض كان سيواجه هذا المشروع لو اقترحنا إقامته في المحيط القريب من المدينة، لأن كلمة نفايات أصبحت عقدة المجتمع اللبناني بسبب الممارسات الخاطئة التي مورست في المكبات المختلفة على الأراضي اللبنانية حتى في المكبات الصحية مثل مكب الناعمة.
إن لوجود محطة التكرير (مياه الصرف الصحّي) بجوار معمل معالجة النفايات، فائدة مزدوجة لأن الوحول ـ وهي مواد عضوية ـ الناتجة عن تكرير مياه الصرف الصحي، تعالج مع النفايات العضوية المنزلية في خزان الهضم لتحسِّن إنتاج غاز الميثان والسماد الطبيعي، وبذلك نتمكن من التخلص من هذه الوحول بدلاً من طمرها في مطامر صحية خاصة.
س: … إلى هنا، لننتقل إلى الحديث عن محطة تكرير مياه الصرف الصحي، طالما أننا وصلنا إلى هذه النقطة بالذات. يبدو أن البدايات في مرحلتها الأولى قد شارفت على النهاية، والقسطل قد مُدِّد في البحر عَبر شركة تُركية. والآن وُصلت المصبَّات بعضها مع البعض الآخر. ما هي، بحسب معلوماتك، المشكلة المطروحة: هل هذه المرحلة من المشروع تحتاج إلى اتفاقية جديدة وعقد جديد؟… إن المواطن غير الاختصاصي أو حتى الرأي العام، لا يفقه شيئاً من كلِّ ما يجري في هذه القضايا وقضايا أخرى غيرها أيضاً، ذلك أنه ليس هناك في الاتفاقيات التي لم يطلع عليها أحد، من رؤية شاملة، كاملة متكاملة منذ البداية، وكأن الأمور كانت تجري وفيها شىء من عدم الوضوح، أو إذا لم نقل، في بعض منها، فيها شىء من الارتجال؟!…
ج: … تقع محطة تكرير مياه الصرف الصحي على شاطىء مدينة صيدا عند مدخلها الجنوبي. اتخذ قرار إنشاء المحطة واختيار المكان في عهد اللجنة البلدية التي كان يرأسها المهندس أحمد الكلش. ينفِّذ المشروع مجلس الإنماء والإعمار بموجب بروتوكول القرض الياباني. وكان قد نفذ قبل ذلك الكورنيش البحري الذي يمر بمحاذاة المحطة.
تم تلزيم تنفيذ محطة التكرير لشركة "المقاولون العرب"، والعقار الذي ستقام عليه غير مستملك بعد، لأن مرسوم الاستملاك كان قد أُعد لمشروعَيْ المحطة والكورنيش البحري، في الوقت الذي يجري تمويل المشروعيْن من مصدريْن مختلفيْن. لذلك وجب علينا قبل البدء بالتنفيذ استصدار مرسوم جديد يفصل قسم العقار الخاص بالمحطة عن الآخر. وبانتظار صدور المرسوم الجديد، طلبنا من صاحب العقار وهو دولة الرئيس رفيق الحريري أن يسمح لنا بتسليم مواقع العمل للشركة الملتزمة حتى نضمن بدء التنفيذ ضمن المهلة القانونية وإلإ وجب إعادة التلزيم.
هكذا بدأ العمل على مسؤولية صاحب الأرض ولم يتم الاستملاك إلاّ بعد انقضاء عدة أشهر حيث تحدَّد سعر المتر المربع بخمسة وسبعين (75) دولار أميركي فقط. ولم يعترض صاحب الأرض على السعر الذي حددته المحكمة.
تجدر الملاحظة هنا إلى أن الأرض التي ردمت بجوار محطة التكرير لإنشاء معمل النفايات والتي أصبحت حسب العقد مِلكاً لصاحب المعمل على أن تستعمل حصراً لمعالجة النفايات بعد أن يبدأ العمل الفعلي، قد تكلفت حوالي ستة (6) ملايين دولار أميركي (حوالي مئة وخمسون (150) دولار أميركي للمتر المربع الواحد) أي ضعف المبلغ الذي حددته لجنة الاستملاك لعقار محطة التكرير.
س: … هنا، أنا لا أريد أن أدخل في نقاش هذه النقطة القانونية، فأتركها لأصحاب الاختصاص في هذا الموضوع، وأنا لست منهم. وإنما أعتمد على رأي اختصاصي في هذا الشأن واقتصادي معروف في لبنان وهو الدكتور إيلي يشوعي وكان قد شرحه بالتفصيل وسينشر في الجزء الثالث من كتابنا "مشاريع صيدا العمرانية"… ومفاده أنه لا يجوز تمليك الأراضي المردومة لغير الدولة اللبنانية، وإن كان بالإمكان تأجيرها ضمن شروط. ولكن في لبنان، كما يقول، يجري في كثير من الحالات التحايل على القانون، باستصدار فتاوى قانونية جديدة…. وهذا الرأي لا علاقة له بما جرى ويجري في مدينة صيدا، وإنما ما حصل في مناطق أخرى في لبنان.
ج: … مقابل هذا الرأي، هناك رأي آخر لـ "هيئة الاستشارات والتشريع" في قصر العدل وكنا نحن قد أخذنا رأيهـا، وبناء على هذا الرأي صـدر المرسـوم. وهي تجيز ذلك التملُّك. لذلك أعيدك إلى هذه الدراسة لمقارنتها بدراسة الدكتور يشوعي.
س: … المهم، هذا موضوع قانوني آخر. لنرجع إلى النقطة التي وصلنا إليها…. ولكن بشكل مختصر شديد…
ج: … بدأ تنفيذ مشروع محطة تكرير مياه الصرف الصحي انطلاقاً من دراسة موضوعة في العام 1995. ولم يكن من الممكن تعديل هذه الدراسة حتى لا نخسر المشروع الذي كانت اليابان قد وافقت على تمويله، على أن نسعى لاستكماله فيما بعد.(3) بين تاريخ الدراسة وتاريخ التلزيم، حدثت تغيُّرات كثيرة، كذلك أحصينا نواقص عديدة أهمها أربعة:
1 ـ نشوء منطقة سكنية جديدة في حارة صيدا وبصورة خاصة وادي الحارة، وهي تصب مجاريرها في مجرى القملة متجهة نحو البحر.
2 ـ استعمال مجرى نهـر البرغوث كمصب لمجاريـر كل المنطقة المحيطة به، بما فيه مخيم عين الحلوة.
3 ـ استعمال مجرى نهر سينيق كمصب لمجارير المنطقة المحيطة به.
4 ـ نشوء منطقة سكنية جديدة في شرحبيل، القسم الأكبر منها غير موصول بشبكة الصرف الصحي.
لذلك مع ابتداء عمل شركة "المقاولون العرب" بتنفيذ المرحلة الأولى، بدأت أيضاً دراسة استكمال المشروع وطلب موافقة اليابان على رصد المبلغ اللازم له.
الآن أنهى "المقاولون العرب" تنفيذ المحطة وتمت دراسة المراحل اللاحقة وهي حالياً قيد التنفيذ وتشمل تمديد كافة خطوط الصرف الصحي اللازمة لخدمة صيدا ومنطقها والفصل بين المياه المبتذلة ومجاري مياه القملة والبرغوت وسينيق.
يمكن الآن تلخيص مشروع الصرف الصحي بما يلي:
1 ـ إنشاء خط مجرور رئيس يمتد بطول الكورنيش البحري من نهر الأوَّلي حتى محطة التكرير جنوباً يحتوي على محطتَيْ ضخْ وتصب فيه جميع روافد مجاري الصرف الصحي المنحدرة بالجاذبية من الشرق، أي من كل القرى الواقعة شرقاً حتى كفرفالوس.
2 ـ إنشاء محطة تكرير أوَّلي في منطقة سينيق (إنتهت الأعمال).
3 ـ مد قسطل في البحر يصل إلى مسافة حوالي 2000م بحيث تصب المياه المبتذلة بعد تكريرها الأوّلي في عمق البحر على مسافة 2000م من الشاطىء (إنهت الأعمال).
تجدر الإشارة إلى أن المشروع الحالي عندما تنتهي كافة مراحله التي لحظتها سابقاً، يبقى مشروعاً أوليّاً، أي أن مراحل التكرير غير مكتملة. لذلك يجب التحضير للمرحلة الثانية لمعمل التكرير الذي لحظ المشروع مكانه في نفس العقار بحيث تخرج المياه المبتذلة منه صافية تماماً ولا تسبب أيَّ تلوُّث للبحر.
س: … وفي كل الأحوال، لنتحدث الآن ولكن بشكل مختصر جداً عن مشروع المسار الثقافية والتنمية التراثية في صيدا القديمة ـ باختصار شديد، لقد دخلنا في تفصيلات كثيرة متشعِّبة. فأخشى أن يلتبس الموضوع نوعاً ما على غير الاختصاصي… ما هو المسار الثقافي في خطوطه العريضة، كيف قرأته؟
ج: … هذا المشروع أعده البنك الدولي لخمس مدن لبنانية لتنمية وتطوير قدراتها السياحية كونها مدن تحتوي على تراث أثري مهم (بعلبك ـ طرابلس ـ جبيل ـ صيدا ـ صور) ولها القدرة لتكون نواة لتطوير السياحة الثقافية.
ولا عجب أن تكون مدينة صيدا القديمة ضمن هذه المدن كونها من المدن القادرة في العالم، التي حافظت على طابعها القديم واستمرت مدينة تنبض بالحياة، مدينة متكاملة يستطيع من يسكن فيها أن يجد كل مستلزمات حياته العادية.
تبين لنا بعد اجتماعات متقدمة أن المبلغ المرصود لمدينـة صيدا من مشروع البنك الدولي هو في حدود الستة (6) ملايين دولار. وقد تناقشنا في أفضل الطرق لتطوير المدينة وتحضيرها لاستقبال السياح على أن لا تتجاوز الكلفة المبلغ المرصود.
س: … مبلغ زهيد للغاية بالنسبة إلى ما حصلت عليه باقي المدن التراثية: على سبيل المثال، كما قال لي معالي المهندس أمين البزري، طرابلس حصلت على عشرين (20) مليون دولار أميركي…
ج: … هذا ما حصلنا عليه بنتيجة التفاوض. المهم ما هي الحلول المتاحة لتطوير مدينة صيدا سياحياً في حدود مبلغ الستة ملايين دولار أميركي، مع العلم أن المشروع لا يلحظ أيَّ ترميم داخلي للبيوت والمحلات؟.. إن ترميمَ كاملِ واجهات مدينة صيدا القديمـة وشوارعها وبِناها التحتية مستحيل، لأن كلفته تتعدى أضعاف المبلغ المرصود. لذلك اتَّجه تفكيرنا لاختيار مسار سياحي يمر بمحاذاة أهم معالم المدينة القديمة، ينطلق من الكورنيش البحري بجوار القلعة البحرية وخان الإفرنج، ليعود بعد أن يمر بباب السراي والمصلبية، مروراً بفرن معنيَّـة حتى الجامع العمري الكبير، فساحة ضهر المير حيث مدخل ثانوية المقاصد، صعوداً حتى القلعة البرية، ومن ثمَّ نزولاً إلى شارع الشارع فسوق الذهب ووصولاً إلى نقطة الانطلاق. إن هذا المسار الذي يبلغ طوله حوالي 1800م يمر بالإضافة إلى ما ذكرنا، بالقرب من الجوامع والحمامات العامة وخان الصابون.
إن ترميم واجهات الأبنية بما يشمل البناء والنوافذ وكذلك ترميم واجهات المحلات يشكل العنصر الرئيسي في المشروع. أما ترميم شوارع المدينة القديمة وبناها التحتية من صرف صحي وتصريف مياه الأمطار وتمديدات كهرباء وهاتف تحت الأرض وتبليط كامل شوارع وأزقة المدينة القديمة بحجر البازليت، فقد تم تلزيمه وتنفيذه قبل مشروع المسار السياحي بواسطة إتحاد بلديات صيدا ـ الزهراني وبكلفة بلغت ملياريْن وثلاثماية مليون ليرة لبنانية.
بالإضافة إلى المسار السياحي، يشمل مشروع البنك الدولي ترميم ساحة باب السراي وكافة الأبنية المحيطة بها ومبلغ تسعماية وخمسون (950) ألف دولار رُصدت لترميم القلعة البريـة.
لقد بدأت نتائج هذه القفزة النوعية في تأهيـل المدينة القديمـة وشوارعها تظهر في عودة أبناء صيدا للدخول إلى مدينتهم القديمـة والزيـارات الواضحة للزوار من خارج المدينة، إن أثناء سهرات رمضان أو في مقاهـي ومطاعم الكورنيش البحـري تجـاه القلعة البحرية. كذلك بدأت "عدوى" الترميم تظهر على مباني ومراكز عديدة، إن في داخـل المدينة القديمة (مقاهي ومطاعم متعدِّدة) أو على طول الكورنيش البحـري (مطعم الذوات، أوتيل القلعة) أو ترميم مقاطع من مسارات سياحية أخرى لم يلحظها مشروع البنك الدولي مثل شارع النجارين وساحة السوق المجاورة التي تبرع بترميمها السيد محمد زيدان أو الشارع الموصل إلى خان الصابون الذي رمَّمه السيد ريمون عـودة مع ترميمه لخان الصابون، أو ترميم قصر دبانة بواسطة العائلة.
انطلقت مسيرة ترميم مدينة صيدا القديمة فعلياً […] من تأهيل شوارعها وأزقتها، فأوجد دينامية جديدة نتمنى أن تستمر، لأن صيدا القديمة تستحق من أبنائها هذا الاهتمام. فهي عن حق كنتر سياحي كبير لا مثيل له في العالم من حيث كونه يختلف عن كل آثار لبنان والعالم بأنه مدينة أثرية متكاملة تفيض بالحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ـ هنا نصّ المقابلة الحرفي، وقد جرت باللغة المحكية العامية، فحافظنا على جوّها العام، مع إعادة الصياغة اللغوية بطبيعة الحال وتنقيحها وإضافة عند الضرورة بعض الجمل أو الصيغ فقط للتوضيح مع المحافظة الكلية على السياق العام وعلى المعنى شكلاً ومضموماً. وقد أعاد المهندس هلال قبرصلي، أواخر أيار وأوائل حزيران 2008، أي بعد أكثر من سنة على إجراء المقابلة، قراءة النصّ وتنقيحه ومراجعة مصطلحاته وإعادة صياغة بعض فقراته والموافقة على طباعته ونشره بنصِّه أو مقتطفات أساسية منه، إذا اقتضى الأمر…
(2) ـ وافق مجلس الوزراء على الاقتراحات المقدمة إليه، في الجلسة المنعقدة في 23 آب 1995 على إنشاء محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي ومعالجة مكب النفايات في خليج اسكندر، وإنشاء مرفأ تجاري لصيدا ـ ولمزيد في التفصيل أنظر كتاب "مشاريع صيدا العمرانية"، الجزء الأول، ص 155 وما بعدها.
(3) ـ الواقع، وافق مجلس الوزراء في أواخر عام 1995 على اقتراح إنشاء محطة تكرير مياه الصرف الصحّي ومعمل معالجة النفايات في صيدا. أنظر أعلاه ص 3.