الحياة الاجتماعية والسياسية - محمد أحمد البلولي
مقابلة مع
السيد محمد أحمد البلولي
بتاريخ 20 كانون الأول 1983
الموضوع: الحياة الاجتماعية والسياسية في مدينة صيدا
ذكريـات وأحاديـث
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفـى دندشلـي
* * *
س: … كيف يمكن إعطاء صورة عن الأوضاع العامة في صيدا قبل وبعد الحرب العالمية الأولى كما عايشتها أو كما سمعتها؟
ج: … الحرب العالمية الأولى نعيشها في أول العمر. صيدا بلد يعمُّ فيه هدوء وأهلها طيِّبون، بمعنى (إنجبارية)، ليس لديهم عنف وإجرام، يحبون الغريب. في أيام الأتراك، يعني آخرها: كان كل مأمور يتقاعد يختار الإقامة الدائمة، إما في صيدا أو في عكا، لأنه في هذيْن البلديْن هدوء وأهلهما يحبون الغرباء. هذه من صفات صيدا، وهي تحافظ على كيانها ومعنوياتها. فيها "احتشام"، المسلمات والمسيحيات بيلبسن الملاءات.
بعد الاحتلال الفرنسي، بعد الحرب الأولى بأربع سنوات، ملابس السيدة المسيحية كالمسلمة. ثم كان المسيحيون معزّزين مكرمين محترمين. كانت هناك عائلات معروفة مثل آل نمور، وعودة، ورزق الله، وآل صاصي، ودبانة. سليم صاصي مثلاً، كان نافذاً، خدوماً ومسموع الكلمة، لا أحد يذهب إلى الأتراك لفضِّ المشاكل سوى هو. كانت علاقته جيدة مع الأتراك. كان إنساناً له مجلس وتوصية. هناك الحكومة التركية وقت الحرب عيَّنت صيادي السمك، الريس والصياد، لا يذهبون للحرب، بل يصطادون السمك ويسلمونه للحكومة. سليم صاصي كان المتولي لهذه الأمور.
بدأت المجاعة تعمَّ البلد أثناء الحرب العامة، الناس اصفرت وجوههم عند موسم التين، أخـذت تتغيَّر معالمهم، أكلوا الذرة والشعير والبطاطـا مع الطحين، وكثيرون أخذوا يأكلون بذر الأكي دنيا، وقد تضرروا.. ثم يذهبون للمسلخ يأخذون دم الذبيحة ويأكلونه. وجاء الاحتلال العسكري التركي في ذلك الوقت، فكان أهم أسباب المجاعة أن الحكومة التركية، كانت تأخذ القمح للخارج، فقلّ المحصول. وكانت تأخذ الشعير للدابات، والشباب من سن 18 يؤخذون للعسكرية.
النساء، مَن ذهب أزواجهن للحرب بدأن ببيع الخبز على شارع الشاكرية. كان القمح يأتي من حوران، وسعر الرطل ليرة ذهب. إن الأوضاع في صيدا كانت أخفّ وطأة من غيرها. بعض النسوة كانت تذهب لعكا لإحضار القمح، ثم تبيعه هنا في صيدا. المجاعة عمَّت صيدا. كنت أنا في المدرسة أتعلم اللغة التركية. وكان أستاذي منير أبو ظهر. يعلمون الاسم واسم الأب والمهنة. كنت في المقاصد أتعلم اللغـة العربية والدين واللغـة التركيـة وعلوم الدين. كانوا يأخذوننا في أوقات الصلاة إلى الجامع العمري الكبير المحاذي للمدرسة.
س: … ما هي نظرة الناس إلى الحكم التركي؟
ج: … أنت تحب الإنسان، عندما تستفيد منه. وإن كنت لا تستفيد منه تكرهه. الولات الأتراك كانوا متسلطين، ظالمين، يعتبرون أنفسهم كل شئ وفوق البشر. الناس بدأت تشعر بضرورة الخلاص، لترى حياة جديدة. وعندما حصل الاحتلال العسكري ودخل الإنكليز والفرنسيون وأحضروا أرزاقاً كثيرة: أعطوا الطحين والخبز والبسكويت وأخذوا يوزعون ذلك على الناس. عند "النبعة"، مدخل صيدا الشمالي، يذهب الأولاد لإحضار الحصص وعلب اللحم والمربَّى والبسكويت حتى اكتفى الإنكليز بفلسطين وفرنسا أخذت سوريا ولبنان.
س: … أثناء الحرب قامت الثورة العربية الكبرى، فما هو الشعور الصيداوي؟
ج: … عندما لاحظت الحكومة التركية اتجاه بعض الأشخاص إلى العروبة ونحو الشريف حسين، مثل توفيق البساط، تخلَّصت منهم. ولكن عند دخول فرنسا إلى بلادنا، ظهر شباب مثل نسيب وحسيب شهاب وآل بكار والبيضاوي والجوهري وبدأوا بالاجتماعات في صيدا بالسر، وذلك من أجل العروبة ونصرة العرب. وفي المقاصد تعلمنا أناشيد مثل: إن أمي أرضعتني عشق سلطان حسين وبيدي سلمتني علماً يُدعى بلاد العربي، إلى الأمام…. إلى الأمام…. إلى العروبة…
مرحباً يا فيصل العرب، مرحباً يا وطني العربي"
وعندما توفي فيصل، أقيم مهرجان حفل تأبيني. فحضر الأمير أحمد شهاب (من حاصبيا)، فخطب وألقى قصيدة يندِّد بفرنسا: "بكت الأرض فيصلاً والسماء". وجاءت التَّحريَّة لأخذه وإلقاء القبض عليه، فهـرب. وقال في مطلع القصيـدة: "في صباح السبت خبرٌ لا يُطاق، بكت الأرض فيصلاً والسماء".
س: … من هي القيادات السياسية في صيدا؟
ج: … كان حسيب شهاب ونسيب شهاب وأصدقاؤهم وهم كثر، يسمون "الشبية". كانوا يتلقون من الكبار شعارات: العروبة، العروبة. كانوا يحملون زراً مرسوماً عليه علمٌ عربي. وكان الفرنسيون يقاومون من يضع هذا الزر. الحاج مصباح البزري كان رئيساً للبلدية، "يمشي" مع الفرنسيين، على اعتبار أنه إذا حصل مكروه في صيدا، لمن سيذهب؟ لذلك يجب أن يكون هناك لسان حال معهم، وكان هو سياسياً. وبعد ذلك جاء الحاج سعيد البزري. عملياً لم يكونا مع الفرنسيين، ولكن مسايرة. يوماً خرج في تظاهرة هؤلاء "الشبية العربية" من الشاكرية ووصلوا عند محل القصير (عند مفرق شارع الأوقاف اليوم)، فجاء إليهم الجنود المغاربة. وهناك أحد المغاربة رفع السيف بوجه نسيب شهاب فأصابه في أنفه. فوقعت صدامات، وعند ذلك تفرقت التظاهرة.
شعور الصيداوي عربياً وفي الجبهة الأمامية للعروبة. وكان هناك جمعيات سريَّة وتحركات. وكانت "الشبية" مجموعة من الشباب شعبيين. وكان هناك بعض الشباب لهم جمعية أو نقابة. وإنما الشعـور الوطني العربـي كان عاماً غير مقتصر على فلان أو فـلان، ولكن هؤلاء الشباب يقودون بعضهم مع البعض الآخر دون تفرقـة. أقاموا لهـم لَجنة دون تعصب اعتبرت كل إنسان مجنَّد فيها، وكان الشعار، العروبة، الوحدة السورية، القضية الفلسطينية، والقادة هم: رياض الصلح وآل الجوهري و"الشباب" معهم والشيخ أحمد عارف الزين وعادل عسيران. وهذا الأخير أخذ مركزاً كبيراً، برز منذ ذلك الوقت، وكان عندما "يمشي"، تمشي البلد كلها معه، وعندما يعلن الإضراب تقفل جميع المحلات. ثم عندما يكون هناك عروبة أو موقف وطني عربي، وفي فلسطين خاصة، كانت الناس تتحرك كلها بحماس شديد متقطع النظير.
س: … وبروز معروف سعد، نشأته، حياته، والتحول السياسي…؟
ج: … كان معروف سعد آنذاك في مدرسة الأميركان. كان منعزلاً، من المدرسة إلى البستان في البداية. وعندما اختلط مع "الشبيبة" أصبح عمله واهتمامه بالكشافة. يخرج في الرحلات الكشفية الرياضية مع الشباب. فظهر حينها معروف سعد شاباً نشيطاً (قبضاي)، بدأت الناس تردِّد اسمه، وعندما "يحكي" تخرج خلفه الجماهير. كان هناك معمل زعتر عند القلعة، وكان هناك شاب يهودي عمره من عمر معروف سعد، ولكن أطول منه، يذهب إلى بحر اسكندر ويظهر فتوته. وبعد فترة جئت أنا وحسن عسيران وطلبنا من معروف أن ينافسه ويتبارز معه. فذهب اليهودي عند معروف وتبارزا. فخسر اليهودي، ومنذ ذلك الحين، في كل تظاهرة أو إضراب من أجل فلسطين أو العروبة، تلتفّ صيدا حول معروف سعد ومعها الجماهير.
أما علاقة معروف سعد مع أصحابه فكانت ممتازة، رغم أن مادياته قليلة. والده كان بسيطاً. وعندما يحصل على 10 قروش أو 25 قرشاً، يجلس مع أصحابه في المقهى، لا يدفع أحد حتى تنتهي القروش الموجودة بحوزته. لم يكن ميالاً للمال، قرشه للغير، أخلاقه طيِّبة مع أصحابه.
معروف سعد لم يستغل قواه البدنية قطُّ ضد الغير. في إحدى المرات وفي حفل كان ينوي ضرب مسمار في الخشب، عندما طلب مني أن أضعه له. ولكن، من ناحية أخرى لم يكن معه الكثير من المال، بل كان محبوباً من الناس وهو عزيز النفس.
في سنة 1936 قاموا بإضرابات شبه متواصلة بقيادة معروف سعد، قطيعة لليهود، كانوا يمنعون عنهم شاحنات الغذاء والفواكه. فقمنا برفقته بتكسيرها وبمنع وصولها لليهود، مع كل الأهالي. كان يقفل عليها الطرقات من البحر ومن مرجعيون، ومن هنا بواسطة الزوارق. كان معروف سعد في مقدمة التظاهرات. كان شفيق الحلواني هو مَن يتعامل مع اليهود من الخارج.
كان آل البزري وآل أبو ظهر، يريدون التنافس مع آل الجوهري على رئاسة البلدية والنيابة. وكان هناك احتفال بمناسبة المولد. وكان المفتي مع آل بزري. ومقرّ جمعية نشر العلم والفضيلة على باب السراي. فجاء آل الجوهري ومعروف سعد. فبدأت الخلافات بين وطني وخائن وجاء شباب معروف لإنهاء الاحتفال. فدخل معروف سعد إلى الجمعية. وكان هناك بركة ماء، فتناوله بشير أبو ظهر وضربه بالعصا. وبدأت المناوشات والمعارك والاشتباكات بين الفريقين والد معروف كان مع أبو وجيه أبو ظهر. وهكذا انتهى الاحتفال بعدما كان هناك جرحى وحصول مناوشات بين آل البزري والجوهري.
آل الجوهري كانوا بالاتجاه العروبي، وكانوا يأخذون التوجيهات من رياض الصلح الذي كان يعتبر هذه الفئة من ضمنه. وآل البزري كانوا يُعتبرون مع السلطة والقوات الفرنسية. وفي سنة 1936 كان هناك دور لعادل عسيران.
أما د. نزيه البزري فجاء ظرف الانتخابات بعد الاستقلال وفي سنة 1951. وكان رياض نائباً. وكان عادل مختلفاً مع رياض. وفي قائمته يريد شخصاً سنياً، فعرض على بعض الأشخاص، منهم معروف سعد الذي كان إلى جانب رياض، وأبو الفضل القواص فرفض، ود. لبيب أبو ظهر أيضاً رفض، فجاء نزيه البزري في القائمة. شفيق لطفي لم يتقدم ويطرح نفسه في هذه الانتخابات، ولا أعرف لماذا. شفيـق لطفي شخص (بيخّوِّف) سياسياً، كان لامعاً، مع عادل عسيران: عروبة وعروبة، جاء نزيه البزري في قائمته، ولكن شفيق لا أظن أنه كان راضياً. (على العكس من ذلك، فقد كان هو العرّاب…)
كان يوجد كومندان يدعى المدور، تكررت التظاهرات والإضرابات عام 1936، كان المدور صاحب محمود الترياقي. فطلب أن يتحادث مع معروف سعد وطلب منه أن يتفاهموا لإنهاء القضية (المظاهرة). ولكنه رفض ذلك. ويوماً كان مقرراً التظاهرة، فأرسل لهم الجوهري بأن لا تتم وتوقف التظاهرة. ولكنهم تجمعوا في ساحة باب السراي وخرجوا إلى الشاكرية وخرجت فرقة العسكر من القشلة. وطلبوا أن تتفرق التظاهرة. وهناك مَن يمنعها من أن تتقدم، فأطلقوا النار عليهم وأصيب عبد الحليم الحلاق. وعندما رأى معروف ذلك، غضب وهجم إلى القشلة، ودخل القشلة وصعد إلى فوق وكان فياض موجوداً فحماه. وكان خلف معروف شاباً يدعى محمد النعماني فأصيب أيضاً. كانوا يهتفون أثناء التظاهرة لفلسطين والعروبة، تعيش فلسطين، تعيش العروبة، إلخ… بعد أن أصيب النعماني هدأت هذه التحركات حتى أيام بشارة وقضية راشيا، عندما أخذوا رياض وبشارة وعادل بدأت الناس تهتف "نريد رياض"، "نريد عادل" "نريد بشارة": يا أم عادل إفتحي البوابة/أجا عادل زعيم الشبابا.