نشوء حزب البعث العربي الاشتراكي وتطوره - د. مصطفى دندشلي
مقابلة مع
الدكتور مصطفى دندشلي
بتاريخ 24 أيار 1987
الموضوع: نشوء حزب البعث العربي الاشتراكي وتطوره
في مدينة صيدا: من خلال التجربة الشخصية
أجرى المقابلة: جمال المحسن (دبلوم دراسات عليا في علم الاجتماع السياسي)
* * *
س: … متى نشأ حزب البعث العربي الاشتراكي في صيدا.. وكيف؟ مع الإحاطة قدر الإمكان بالمرحلة التاريخية للنشوء صيداوياً ووطنياً، وإن أمكن قومياً، كون الحزب هو حزب قومي عربي؟
ج: … أولاً وقبل أن أبدأ حديثي عن نشوء حزب البعث العربي الاشتراكي وتطوره في مدينة صيدا، لا بدّ لي من أن أتوجّه بالشكر لك على هذا الجهد الذي تبذله من أجل تحقيق دراسة جِديَّة وعلمية وضرورية في ظروفنا الحاضرة، عن حركة سياسية، بغض النظر عن موقفنا الشخصي منها، سلباً أم إيجاباً، إذ إن هذه الحركة قد لعبت دوراً أساسياً لا يجوز إغفاله على الصعيد المحلي وعلى الصعيد القومي أيديولوجياً وسياسياً. فهذه الحركة، مع قوى وحركات سياسية أخرى، أثّرت وبعمق في مجتمعنا الحاضر. فلا نستطيع أن نستوعب وأن نفهم الواقع الحالي للبلاد العربية دون أن نكوِّن فكرة تفصيلية وشاملة عن دور حزب البعث العربي الاشتراكي ودور الناصرية، على اعتبار أن هاتَيْن الحركتَين قد أثّرتا تأثيراً كبيراً في واقعنا العربي الحالي.
وفي ما يتعلّق بحزب البعث ونشوئه وتطوره في مدينة صيدا، أستطيع بادئ ذي بَدء أن أشير إلى أن حديثي لا بدّ إلاّ وأن يأخذ طابعاً شخصياً، والجانب الذي سأتناوله إنما هو جانب لا يمكنني إلا أن أنظر إليه من زاويتي الخاصة وتجربتي الذاتية أو ما سأقوله إنما هو ما استمرّ في الذاكرة وما طُبِع في ذهني بصورة قد لا تُمحى مع الزمن. فما أقوله هو صحيح وصادق وحقيقي بالنسبة إليَّ شخصياً، لأنني عايشت بفكري ووجداني، وهو ما سأتحدث عنه.
وأُلفتَ نظرك إلى أهمية الاتصال بالرفاق الآخرين، إذ إنه لا بدّ وأن يعطيك كل واحد منهم تجربته الشخصية. ومن خلال إحاطتك بهذه التجارب، تستطيع عندئذٍ أن تكوّن فكرة شمولية عامة عن مرحلة نشوء حزب البعث العربي الاشتراكي في مدينة صيدا. فما أقوله، إذن، يجب أن لا يُنظر إليه على أنني أجعل من نفسي محوراً للحديث أو محوراً لحركة سياسية، ولكن في الوقت نفسه، لا يمكنني أن أتحدث عن ذكرياتي الخاصة والأحداث الوطنيـة والسياسيـة التي عايشتها، إلاّ وأن أنسبها لشخصـي. وهذا لا يعني إطلاقـاً أن الرفـاق الآخرين، كل في مرحلتـه، لم يلعبوا دوراً أساسياً ومهماً في تطوُّر حزب البعث. لذلك، ورغماً عني، سأتحدث عن تجربتي الشخصية، مشاركاً في بناء حزب البعث العربي الاشتراكي في مدينة صيدا. وإذا كنت قد أشرت إلى هذه الملاحظة الأوَّلية وأشدِّد عليها بعض الشىء، فذلك خوفاً من أن يوحي حديثي إلى أنني أركّز كثيراً على ذاتي وعلى شخصي.
أعود إلى الحديث عن كيفية نشوء حزب البعث العربي في مدينة صيدا فأقول: أولاً لا بدّ من الإشارة والتوسّع، إن أمكن فيما بعد، وهذا من مهمتك الشخصية، إلى دور كلية المقاصد الخيرية الإسلامية في مدينة صيدا، إذ إن دور هذه الكلية كبير في نشوء ودفع وبلورة النشاط القومي العربي، ليس في إطارها فحسب، وإنما في المحيط الذي هي فيه وهو محيط صيداوي وجنوبي، وسوف ترى، فيما بعد، بأنه يمتدّ إلى أبعد من صيدا والجنوب ليصل إلى البقاع وطرابلس وبالتالي إلى المشرق العربي. فكان دور كلية المقاصد كبيراً جداً في نشر الفكر القومي العربي، الفكر العروبي إجمالاً، الذي لم يكن ليتباين أو ليتناقض مع الفكر الإسلامي، بل أكاد أقول إن الفكر الإسلامي كان هو مضمون العروبة في تلك الفترة، أي فيما بين الحربَيْن، وبالتالي فيما بعد الحرب العالمية الثانية. ومفهوم العروبة في ذلك الحين هو مفهوم استقلالي تحرُّري وحدوي ولا سيما التحرُّر من السيطرة الأجنبية على الأقطار العربية عامة.
ولأن طلاب المقاصد طوال تلك المرحلة التي أتحدث عنها، قد نظروا للعروبة نظرة شمولية وليست إقليمية، كان تفاعلهم قومياً وسياسياً مع الحدث العربي في أيِّ مكان من الوطن العربي. والعروبة التي نشأت وترعرعت في أجواء المقاصد على مراحل مختلفة، هي عروبة تنحو نحو الوَحدة وتدعو إليها لبلورة الشخصية العربية الحضارية الواحدة في العصر الحديث.
طبعاً، ليس هنا المجال الآن ولا المناسبة للحديث مطوَّلاً عن هذا الدور التاريخي الذي لعبته كليّة المقاصد الخيرية الإسلامية في نشر الفكر القومي العربي والفكر العروبي، ليس في مدينة صيدا فقط ـ وهذا واضح ومعترف به من الجميع ـ وإنما أيضاً في منطقة الجنوب والبقاع ولبنان ـ عَبْر طلابها ـ على وجه العموم. ولا ننسى كذلك الدور الرائد والقيادي الذي قامت به وتحمَّلت مسؤوليته كلية المقاصد وطلاب المقاصد في محاربة الانتداب الفرنسي طوال وجوده في لبنان. وهنا أيضاً صفحات مشرِّفة، وطنية ونضالية، معروفة ومشهود لها، ويجب التذكير الدائم بها، وما لكلية المقاصد وطلابها وأهالي المدينة من ذلك التلاحم التفاعلي الرائع، النضالي والعروبي ورفع راية الوحدة العربية. (أنظر مثلاً: مجلة "وحَيْي الكلية" وكتابات قدامى طلاب المقاصد في هذا الخصوص. وسيكون لنا المجال واسعاً ومتاحاً في المقبل من الأيام….)
ما دمنا نتحدث عن أهمية كلية المقاصد في نشوء ودفع وبَلْورة الوعي القومي العربي في مدينة صيدا، لا بدّ من الإشارة إلى دور المرحوم الأستاذ شفيق النقاش، مدير كلية المقاصد في صيدا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى بدايات الخمسينات، فكان أديباً مثقفاً عروبياً، فهمه للعروبة ينطلق من مفاهيم إسلامية، أو نظرته للإسلام تعبيراً عن الوجدان العربي والعروبة الصافية. وهو منفتح الشخصية واسع الأفق الفكري والأدبي، حيوي النشاط، لا يهاب العمل السياسي والوطني، بمعنى أنه كان يحثّ طلابه على العمل السياسي، بصورة أو بأخرى، والتظاهر تأييداً لهذه القضية العربية أو تلك. وإن كان إنتماؤه للنجادة التي لها طابع إسلامي عروبي وإقليمي لبناني ضيّق، إلا أنه، هو من المثقفين العروبيين المتنوّرين والمنطلقين نحو الآفاق العربية الواسعة.
ما أريد أن أعود وأؤكده من خلال هذه المقدمة هو أن التربة الخصبة هي التي سوف يأتي حزب البعث وينشأ ويترعرع فيها. وهنا لا بدّ من الإشارة وأن أكرِّر بعض الشيء في المحنى ذاته إلى الدور الوطني والقومي الذي لعبته كلية المقاصد في مقاومة الانتداب الفرنسي طوال ما بين الحربين وخاصة أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ إن تظاهرات مدينة صيدا وشعب صيدا ضد الانتداب الفرنسي، كانت تنطلق من "ساحة ضهر المير" أي من الجامع العمري الكبير ومن كلية المقاصد، وغالباً ما كان طلاب المقاصد وأساتذتهم ـ كما أسلفت ـ يقودون هم أنفسهم هذه التظاهرات. أما تفاعل كلية المقاصد مع القضية الفلسطينية دعماً وتأييداً ونُصرةً، طلاباً وأساتذة، ودور معروف سعد في هذه الحِقبة، فتلك مسألة يطول الحديث فيها، يُترك إلى مناسبات أخرى….
وهناك حادثة مشهورة في يوم من أيام تشرين الثاني عام 1943، انطلقت التظاهرات في صيدا، تجاوباً مع التظاهرات التي عمّت لبنان في ذلك الحين، تطالب بالإفراج عن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والسياسيين الوطنيين الآخرين المعتقلين في سجون الانتداب الفرنسي. فانطلقت التظاهرة الصيداوية من كلية المقاصد، يتقدّمها طلاب المقاصد صغاراً وشباباً وهم يهتفون: "بدنا بشارة بدنا رياض". ولحظة وصولها إلى "السراي" (التي هي الآن العدلية) قامت قوات الانتداب في صيدا بإطلاق النار على المتظاهرين، فذهب بعض الضحايا وعدد كبير من الجرحى، منهم طلبة صغار في المقاصد. وهذه الحادثة، إن دلّت على شىء فإنما تدل على التجاوب الكبير والتفاعل الكليّ ما بين المقاصد وجماهير مدينة صيدا على الصعيد الوطني.
أما بالنسبـة لحزب البعـث العربـي، فقد نشأ في تربة المقاصد الخصبة وطنياً وعروبيـاً وقوميـاً. فكانـت مـن هنـا البدايـات الأولـى لنشوئـه في العام الـدراسـي 1951 ـ 1952.
س: … ما هي الأحزاب التي كانت موجودة في تلك الفترة في مدينة صيدا؟
ج: … في ذلك الحين، كانت الأحزاب ضعيفة جداً،أو هي غير موجودة فعلياً في مدينة صيدا. ولنأخذ على سبيل المثال، الحزب الشيوعي اللبناني الذي أصابته أَزْمة داخلية عنيفة طالته هنا في مدينة صيدا، فأضعفته كثيراً وذلك كغيره من الأحزاب الشيوعية العربية التي مرّت في أَزْمة حادة بعد حرب فلسطين عام 1948 وبعد تأييد الاتحاد السوفياتي لتقسيم فلسطين عام 1947 وبالتالي مبادرة الأحزاب الشيوعية العربية تبنّي موقف الاتحاد السوفياتي. وهنا كانت ردة الفعل عنيفة على مستوى جميع الأوساط الشعبية والسياسية في الوطن العربي ضد الشيوعيين، مما أضعفهم كثيراً من الناحيتَين التنظيمية والجماهيرية.
أما بالنسبة للحزب السوري القومي الاجتماعي، ليست صيدا هي التربة الخصبة أو المناسبة التي يمكن أن يترعرع وينتشر فيها، هذا الحزب، إذ إن هذه التربة، كما أشرت سابقاً، هي تربة العروبة والوحدة العربية، فلا تستطيع والحالة هذه، أن تتقبّل جماهير صيدا أفكاراً وأيديولوجيات لا تتوافق مع تيارها الفكر ي السائد وهو الفكر العروبي. من هنا ظلَّ الحزب السوري القومي محصوراً في إطار ضيّق.
وفي المرحلة التي أتحدث عنها، مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن للتيارات الإسلامية وحركاتها أيُّ وجود يذكر في صيدا، على الرُّغْم من أن الجماهير الصيداوية هي جماهير مؤمنة ومسلمة. وهنا يجب أن لا يفوتنا ذكر البدايات الأولى لحزب التحرير الإسلامي (الذي كان يرأسه الشيخ تقي الدين النبهاني وهو أردني)، حيث لم يستطع هذا الحزب أن ينتشر الانتشار الواسع في صيدا، مع كل ما له من نضج فكري ونظرة جديدة للإسلام… وأذكر أنني كنت قد دعيت إلى اجتماعات ولقاءات عدة مع قادته، وبالذات الشيخ تقي الدين النبهاني، وذلك قبل التقائي حزب البعث العربي الاشتراكي وفي فترة البحث والتفتيش…
ومن ثمّ لا بدّ من الإشارة وبشكل سريع إلى حزب النِّداء القومي الذي كان يضمُّ بعض المثقفين أو القيادات في المدينة حيث كانوا على علاقة سياسية مع قيادة حزب النِّداء القومي، وخصوصاً مع آل الصلح في بيروت، إذ إن لآل الصلح أقرباء في مدينة صيدا وأصدقاء انخرطوا في صفوف الحزب. علماً أن للمرحوم كاظم الصلح (رئيس الحزب) وتقي الدين الصلح دوراً بارزاً في تأطير بعض الشخصيات السياسية والشباب الصيداوي في حزب النِّداء القومي.
ولكنه كحزب تقليدي عروبي، فقد اقتصر حزب النِّداء القومي على بعض المثقفين الأوائل في صيدا مثل: المرحوم الأستاذ شفيق لطفي والدكتور نزيه البزري وكثيرون غيرهما. وبالتالي لم يستطع أن يبنيَ له قواعد في الأوساط الشعبية ولم يكن لديه برنامج عمل للوصول إلى إرساء قواعد حزبية على أسس صحيحة وسليمة في مدينة صيدا، فكان عمله تقليدياً يقوم على أساس العلاقات العائلية والروابط الشخصية بشكل عام، لم يكن حزب النِّداء القومي بمثابة الاستجابة لطموح جماهير صيدا وطنياً وقومياً.
ثم هناك الحزب التقدمي الاشتراكي الذي نشأ عام 1949، فضمّ نخبة من مثقفي صيدا منهم المحامي الأستاذ عبد الله البيضاوي والأستاذ عصام نعمان وغيرهما، إلا أن هذا الحزب لم ينتشر كذلك في الوسط الشعبي وبقي نشاطه محصوراً في جوٍّ طلابي محدود.
وهناك محاولة فردية وآنية لعصبة العمل القومي، انطلقت في مطلع عام 1950 من كلية المقاصد في صيدا، فجمعت بعض الطلبة، بمباركة مدير الكلية آنذاك المرحوم شفيق النقاش. وكان ممَّن يبشّرون أو ينشرون أفكار هذه "العصبة" أستـاذ الفلسفـة في كلية المقاصد رمضان لاوندا الذي كان خطيباً مفوّهاً. وهـذه الحركة، لم تنتشر ولم يكتب لها النجاح حتى على المستوى الطلابي أيضاً.
في هذه الأجواء التي حاولتُ سريعاً أن ارسمها، نشأ حزب البعث العربي الاشتراكي في المدينة. ولكن قبل أن أبدأ حديثي عن كيفية النشوء، لا بدّ أن أشير أيضاً إلى الأجواء السياسية التي كانت سائدة في الوطن العربي ككل.
كما نعلم، إن البلاد العربية وخصوصاً أقطار المشرق العربي بعد الحرب العالمية الثانية، قد تجاذبتها السياسات الدولية وذلك مع اندلاع الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، حيث اعتمدت السياسة الأميركية خصوصاً والسياسة الغربية عموماً، مبدأ الأحلاف لتطويق الاتحاد السوفياتي استراتيجياً على الصعيد العالمي، ابتداءً من الحلف الأطلسي (1949) وحلف جنوب شرق آسيا. ولتكملة الكماشة ضد الاتحاد السوفياتي، انطلقت السياسة الغربية (الولايات المتحدة الأميركية، إنكلترا، فرنسا، إلخ…) باتباع سياسة الأحلاف العسكرية في منطقة الشرق الأوسط من خلال إرغام بعض الدول العربية وترغيبها في الانتساب للأحلاف العسكرية)، وذلك على قاعدة بداية ما يسمّى بالنقطة الرابعة التي تعطي بيد ما تأخذه باليد الأخرى، بمعنى أن تقدّم الدول الغربية مساعدات اقتصادية لبعض الدول النامية، مقابل أن تقبل الدول الأخيرة بالانتساب إلى الأحلاف العسكرية.
ثم هناك مشاريع الدفاع المشتـرك، وكما يعنـي الاسم: الدفاع المشترك ـ مع الدول العربية ـ في وجه الاتحاد السوفياتي بدعمٍ من الغرب. وهناك البيان الثلاثي المشهور (وهو يعني أميركا وفرنسا وبريطانيا) الذي اعتبر أن أطراف هذا البيان هم بمثابة الحامية لدول الشرق الأوسط والعربية منها خصوصاً، ولحدودها بما فيها دولة إسرائيل. ثم أخيراً، الحلف التركي ـ الباكستاني الذي سيتحوّل، فيما بعد، إلى حلف بغداد. ويجب أن لا يفوتنا ذكر مشروع أو "مبدأ أيزنهاور"الذي ظهر في عام 1956. وذلك على أثر فشل الاعتداء الثلاثي: إنكلترا وفرنسا وإسرائيل، على مصر عبد الناصر…
هذه هي السياسة الغربية العامة التي كانت سائدة في منطقة الشرق الأوسط. وبشكل مختصر هي سياسة اعتمدت القوة والضغط والإغراء لجعل البلاد العربية ضمن إطار الأحلاف العسكرية الغربية. ولم تكن السياسة الغربية بعيدة عن سياسة المحاور التي كانت تتنازع داخل الجامعة العربية (فيما بين مصر الملك فاروق وسعودية آل سعود وعراق نوري السعيد وعبد الإله المرتبط بأنكلترا، وسوريا الكتلة الوطنية التي كانت حائرة بين السعودية ومصر والسياسة الأميركية في تلك الفترة،…إلخ…)…
كل ذلك كان بمثابة المقدّمة، إذا صحّ التعبير، لقيام حرب فلسطين عام 1948. وكما نعلم، فإن هزيمة جيوش الأنظمة العربية في فلسطين، كان لها أثرٌ كبير جداً عل المستوى القومي. وعند الحديث عن نشوء وتطور الأحزاب في المنطقة العربية، لا يمكن إلا أن نشير إلى نتائج حرب فلسطين وتداعياتها وردود الفعل التي نتجت عنها، خصوصاً إذا علمنا أن الانقلابات العسكرية التي حصلت في سوريا، لم تكن بعيدة عن نتائج هذه الحرب، فمثلاً: إن الثورة المصرية وحركة الضباط الأحرار عام 1952، لم تكن بعيدة هي الأخرى عن هذه الأجواء. وجمال عبد الناصر له صفحات في كتابه (فلسفة الثورة) عن تجربته في حرب فلسطين وحصاره في فالوجا…إذن، ضمن هذه الخارطة السياسية للمنطقة في ذلك الحين، نجد أن أنظمة عربية مختلفة قد اهتزَّت من أساسها وفقدت احترامها أمام الشعب العربي.
وفي ما يختص بالأحزاب السياسية التي لعبت دوراً قيادياً على صعيد الحكم والنظام في مختلف الدول العربية فيما بين الحربين، هي بمجملها من الأحزاب الاستقلالية التقليدية ذات الجذور الاجتماعية الإقطاعية والبرجوازية والتجارية الكبرى الناشئة في المدن العربية، مثلاً: حزب الوفد في مصر وحزب الكتلة الوطنية في سوريا وحزب الاستقلال في العراق، إلخ… ومن جهة أخرى، هناك الأحزاب الشيوعية التي لا يمكن أن نغفل دورها في نشر الأيديولوجية التقدمية والمفاهيم الجديدة علينا (مثل مفاهيم الأمبريالية والديمقراطية الاجتماعية والاشتراكية).
أما بالنسبة إلى الأحزاب القومية العربية في تلك الفترة، فكانت إما لا وجود لها، وأما أنها كانت في طريق الزوال، بشكل أو بآخر. ففي سوريا مثلاً كانت قد فقدت عصبة العمل القومي وجودها وأثرها. والأمر نفسه حصل للأحزاب القومية الصغيرة في فلسطين وللأحزاب القومية الأخرى في العراق…
من هنا أخذ المثقفون العرب هنا وهناك في التفتيش والبحث عن شىء جديد على صعيد السياسة والفكر القومي، فنشأ حزب البعث العربي كتعبير عن حاجة المجتمع العربي إلى حزب قومي عربي وحدوي، له أبعاد وتطلعات اشتراكية تقدمية، حيث يختلف عن الأحزاب القومية العربية السابقة ويتجاوزها ليشكّل تعبيراً جديداً عن الواقع العربي وأملاً كبيراً للفئات العريضة من المثقفين العرب وللجماهير العربية على وجه العموم… ولكي تُستكمل الصورة الأيديولوجية للحزب، ينبغي الرجوع إلى كتابي: حزب البعث العربي الاشتراكي ـ الأيديولوجيا والتاريخ السياسي 1940 ـ 1963.
أدخل الآن في صلب الموضوع لأتحدث عن كيفية نشوء حزب البعث العربي في مدينة صيدا: كان لي زميل وصديق في كلية المقاصد اسمه غسان شرارة، وهو من بنت جبيل وابن الشاعر الجنوبي العاملي موسى الزين شرارة، المعروف بأنه من الرعيل الوطني الأول ومن القوميين العرب الأوائل. وجد هذا الصديق عند والده، على ما أذكر في صيف 1951، بعض منشورات حزبية لميشال عفلق وأعداد جريدة "البعث" التي كانت تصدر في دمشق، صاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ صلاح الدين البيطار، وكتَّابهـا هم من البعثييـن الأوائـل في مقدمتهـم الأستـاذ ميشال عفلـق وصلاح الدين البيطار ومدحت البيطـار وجلال السيد وجمال الأتاسي وجلال فاروق الشريف وصدقي إسماعيل وغيرهم. فأخذ غسان يقرأ هذه الجريدة وهذه المنشورات ويُكثر من الأسئلة على والده حول ما تتضمّنه من أفكار ومبادئ. فأخبره والده عن كل ما يعرفه عن هذا الحزب القومي العربي الناشىء والفتي، الموجود بشكل أساسـي في سوريا. عندئذٍ أُعجب غسان بما قرأه وما سمعه من أفكار ومبادئ الحزب. وبشكـل تلقائـي وعفوي اعتبر نفسه بعثياً، كما قال لي، فيما بعد…..
وعندما جاء إلى صيدا بعد انتهاء العطلة الصيفية وبداية العام الدراسي 1951 ـ 1952، اتصل أول ما اتصل بأصدقاء صفّه وأصدقائه البارزين في الكلية، إذ كنت من بينهم، لأن الإنسان عندما يريد أن ينقل أفكاره الحميمة التي يؤمن بها، حتى في غرامياته، لا بدّ وأن يوصلها أولاً إلى أصدقائه وأصحابه الأقربين. وهذا ينطبق على البوحْ بالفكر أو النشاط أو العمل السياسي. فانتقلت الأفكار والمبادئ التي اعتنقها غسان شرارة إلـى أصدقائـه وإلى زملائه على مقاعد الدراسة: عماد النوام ومحمد السيد واتصل أيضاً ونقل الفكرة إلى مصطفى دندشلي. وكنا لا نتجاوز في ذلك الحين السابعة أو الثامنة عشر من العمر، فاعتبرنا أنفسنا رأساً وتلقائياً بعثيين دون أن نعرف الشىء الكثير عن مبادئ الحزب سوى ما نقله لنا غسان من بيانات البعث وشعار الحزب: أمة عربية واحدة / ذات رسالة خالدة، وأهدافه في الوحدة العربية والحرية والاشتراكية. فكان ذلك كافياً لنا في البداية لكي تستهوينا هذه الأفكار التي هي عربية تحررية ذات منحى تقدمي إنساني، ممَّا يثير الحماس والاندفاع، خصوصاً للذين هم في مرحلة الفُتوَّة والشباب…
وهنا أسمح لنفسي أن أفتح هلالين لأستطرد بعض الشىء، بما أنني أتحدث معك في هذه المقابلة عن تجربتي الذاتية. فأطرح هذا السؤال على نفسي قبل أن يطرحه الآخرون علي: لماذا اختارني غسان شرارة من بين أصدقائه العديدين؟!.. يبدو لي ذلك لأسباب عدة يأتي في مقامها الأول أنني كنت في تلك الفترة من الوجوه الرياضية البارزة في كلية المقاصد في لعبة كرة السلة ولعبة "البنغ بنغ"، وخطيباً أكاد أقول دائماً في "لجنة الخطابة" بإشراف المربي الكبير الأستاذ منيف لطفي. وبالتالي كنت نشيطاً في التحركات السياسية والوطنية العربية ـ خصوصاً عند حضوري اجتماعات عصبة العمل القومي الأولى التي كان يدعو إليها أستاذ الفلسفة في كلية المقاصد رمضان لوند ـ وكنت أيضاً "هتَّافاً" في المظاهرات الطلابية الوطنية السائدة بكثرة حينذاك ضد المشاريع الاستعمارية الغربية، بل وحتى كما كان يُقال: "كثير المشاغبة".
وأسمح لنفسي أن أذكر أيضاً، فيما أذكر تماماً، صباح يوم من أيام ربيع عام 1951، وكعضو في لَجنة الطلاب في كلية المقاصد، كنت قد أخذت المبادرة ـ قبل انتسابي إلى حزب البعث ـ ودعوت إلى قيام تظاهرة طلابية مقاصدية ونظمتها ضد المشاريع الاستعمارية الغربية ومشروع الدفاع المشترك المطروح على لبنان آنذاك. وبالفعل، فقد سارت هذه التظاهرة الطلابية من كلية المقاصد حتى السراي الحكومي (مبنى العدلية سابقاً) ونحن نهتف هتافات وطنية ـ عروبية ونرفع شعارات ضد الاستعمار الغربي وضد مشاريعه العسكرية في لبنان والمنطقة العربية.
وعندما وصلنا إلى السراي الحكومي، واجهتنا قوة من الدرك بأمرة الملازم الحركي. فطلب منا، ماذا نريد؟.. ونحن كنا واقفين في مواجهة هذا الحاجز من الدرك، كما أذكر ذلك تماماً. فقلنا له: نريد مقابلة سعادة المحافظ لتقديم احتجاجنا واستنكارنا للمشاريع العسكرية الغربية. فقال لنا: إذن، نظِّموا صفوفكم. ولم نكد نفعل ذلك حتى انهال علينا الدرك وهو معهم بالضرب بأعقاب بنادقهم. فهربنا وتفرقنا وتبعثرت صفوفنا وهرب كل منّا ركضاً ذات اليمين وذات الشمال، وأنا معهم.
وعندما وصلت إلى شارع الشاكرية، إذا بسيارة درك "جيب" تلحق بي فجأة، وينزل منها الملازم الحركي ويلقي القبض عليَّ هو نفسه ويضعني في سجن السراي. ولم أخرج إلاّ بعد مضي ساعتين تقريباً بفضل تدخل المرحوم عبد الله البزري (أبو نجيب). هذه الحادثة التي تدل على التوجُّه الوطني العام، العفوي التلقائي، لا يمكن لي أن أنساها. فهي محفورة في ذاكرتي الوطنية والسياسية.
وأذكر أيضاً في اليـوم التالـي، وفي درس التنشئة الوطنية، طرح عليّ الأستاذ صلاح طـه البابـا هـذا السـؤال: دندشلـي، قم وحدثنـا، كيف نظَّمت هذه المظاهرة الطلابية وشو هو الهدف؟!..
بعد توارد هذه الخواطر وتداعي هذه الذكريات الشبابية الطلابية، أعود إلى موضوع حديثي فأتابع لأقول:
عن طريق محمد السيد، نُقلت الفكرة، فكرة تأسيس فرع أو حلقة لحزب البعث العربي إلى جاره خالد البرد (شاب فلسطيني) فنقلها هذا الأخير إلى صديقه حسن الريَّان (فلسطيني أيضاً)، فأصبحنا خمسة، إلى جانب غسان شرارة الذي أخذ أيضاً المبادرة وكتب رسالة إلى الأستاذ صلاح الدين البيطار في دمشق، أخبره فيها اعتناقنا (!!) لمبادئ الحزب، وطلب منه التوجيه اللاَّزم إلى ما يجب علينا أن نقوم به عملياً ورسمياً. فلم يتأخر الأستاذ البيطار في الإجابة، إذ أعطاه عنوان الدكتور علي جابر في النبطية، وهو خريج كلية الطب في دمشق ومنتسب للحزب أثناء دراسته هناك، وأعطاه أيضاً عنوان مجموعة من البعثيين في الجامعة الأميركية في بيروت على رأسها سعدون حمَّادي (رئيس مجلس الشعب في العراق حالياً) وعلي فخرو (وزير التربية والمعارف في البحرين في الوقت الحاضر) وعاطف دانيال (من سوريا) وجمال الشاعر (من الأردن)… ومحمد عطا الله (من لبنان)……
بعد ذلك مباشرة، تمّ الاتصال بالدكتور علي جابر وبسعدون حمّادي وبالطالب البعثي الصيداوي محمد عطا الله الذي كان يدرس الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت آنذاك والذي طلبنا منه المجيء إلى صيدا ليشرف على تنظيمنا. كما أننا قد عقدنا علاقات حزبية وسياسية مع الدكتور سعدون حمّادي والدكتور علي جابر، حيث زُوِّدنا عندئذٍ ببعض النَّشرات والكرّاسات الحزبية، فأخذنا نقرأها بنهم شديد وبشغف منقع النظير، حتى أننا عملنا على إعادة طباعة بعضها في صيدا، في المطبعة العصرية (الأنصاري)، كما أذكر، وبالذات كرَّاس، ذكرى الرسول العربي، وكرَّاس، القومية العربية وموقفها من الشيوعية.
وفي مجال الحديث عن الرعيل الأول للبعث في صيدا لا بدّ من ذكر الأستاذ نجيب الزين الذي انتسب إلى الحزب أثناء عمله كمدرس للأدب العربي في دير الزور في سوريا، إذ إنه تعرّف هناك إلى الحزب من خلال الأستاذ جلال السيد (أحد مؤسسي الحزب). وبما أنه كان مريضاً لم يلعب أيَّ دورٍ تنظيميّ حزبي في صيدا، ما عدا مساعدته المادية للحزب. وهنا أذكر أنني استلمت منه شخصياً في عام 1953 مبلغ خمس وعشرين ليرة كمساعدة للحزب…
وفي تلك الفترة أيضاً، علمنا بأن الدكتور رفيق حنينة، قد انتسب هو أيضاً إلى الحزب أثناء دراسته للطب في سوريا، ولأنه سافر إلى السعودية بعد التخرُّج مباشَرة، لم يلعب دوراً حزبياً في صيدا، إلا أنه كان يرسل مساعدات مالية إلى الحزب.
من هذه الإشارات أريد أن أُلفت نظرك إلى أن عملية انتشار الحزب كانت في البداية تتمّ ضمن أوساط الطلاب والأساتذة، ومن ثَمَّ يكون الانتشار في المحيط الاجتماعي الأكبر. لذا، يمكن القول بأن النَّواة الأولى للحزب في صيدا قد تكوّنت من مجموعة من الطلاب في إطار كلية المقاصد وبعدها تمَّ الانتقال إلى الجمهور العام عَبْر المعارف والأصحاب في المدينة.
وفي كلية المقاصد، تَمَّ استقطاب معظم الطلاب النشيطين بشكل رسمي أو بشكل غير رسمي، من بينهم فؤاد ذبيان الذي أقسم اليمين على يدّي، بعد أن ذهبتُ في يوم عطلة إلى قريته (مزرعة الشوف) برفقة صديقَين غير حزبيين أحدهما المرحوم جمال البيضاوي الذي كان يملك محل نوفوتيه مقابل مكتبة والد غازي البساط الذي رافقنا في هذه الزيارة، وكان في انتظارنا هناك جمع من آل ذبيان وأهالي البلدة، رحبوا بنا كثيراً، إلى حدّ أنني أحسستُ بجوِّ عرسٍ حقيقي، خصوصاً بعد أن قمتُ ولأول مرة بالطريقة التقليدية لتنسيب أحد الأعضاء الجدد إلى الحزب في حَلْوة بيني وبين فؤاد ذبيان….
وفي كلية مقاصد صيدا أيضاً، تعرّف إلى الحزب وانتسب إليه أحد القادة الذين سيلعبون دوراً هاماً على المستوى الوطني العام في المرحلة الراهنة هو المهندس عاصم قانصوه الذي قال لي فيما بعد: إنني أنا الذي كان السبب المباشر في انتسابه إلى حزب البعث، حيث كنا في فريق رياضي واحد. وكذلك الأمر بالنسبة لرياض رعد، أحد قياديي الحزب التقديم الاشتراكي حالياً، إذ إنه وبعد فترة من انتسابه إلى حزب البعث، تركه ليعمل فترة من الزمن في حزب العمال الثوري (وكان هذا الحزب بقيادة ياسين الحافظ في لبنان)، وذلك قبل أن ينتسب في النهاية إلى الحزب التقدمي الاشتراكي.
فيما بعد، لم يقتصر الأمر في صيدا على الأصدقاء والرفاق في جو الدراسة، فتمّ الانطلاق باتجاه الفئات الحِرَفية والشعبيـة في المدينـة، إذ إنه، وبحكم الجيرة بين محمد السيِّد وخالد البرد وبين حسيب عبد الجواد الذي كان ميّالاً إلى أجواء الحزب الشيوعي في بادئ الأمر، ولكن بعد نقاشات طويلة متعدِّدة، انتسب حسيب أخيراً إلى الحزب….
بالإضافة إلى ذلك، فقد تسرّبت أفكار الحزب ومبادؤه إلى أهل كل واحدٍ منا، إذ إنه وبعد انتماء أحدنا إلى الحزب، لا يمضي وقت طويل إلا وينتمي بعض أفراد عائلته، إخوته وأقربائه وأصدقائه وجيرته إلى الحزب. وهكذا، وعَبْر هذا الطريق، انتقل الحزب من كلية المقاصد إلى المدينة بشكل عام في فترة وجيزة جداً.
وفي معرض حديثنا عن تكوين وانتشار الحزب في صيدا، هناك حادثة مهمة يجب التوقّف عندها، تتمثّل في دعوة الطلاب البعثيين في الجامعة الأميركية في بيروت إلى إقامة مهرجان جماهيري بمناسبة 6 أيار عام 1952، يوم الشهداء، كيوم وطني قومي عربي، فارتأى هؤلاء الطلاب أن يكون المهرجان في مقاصد صيدا بالذات تحت عنوان: يوم "شهداء العرب". لا أدري كيف تمّ الاتصال من أجل ذلك، إنما ما أعرفه هو أنه أقيم بموافقة مدير الكلية الأستاذ شفيق النقاش وجمعية المقاصد. وما علمته فيما بعد أن الاتصال كان قد تمّ بين الطالب البعثي في الجامعة الأميركية محمد عطا الله ومدير كلية المقاصد للموافقة على إقامة المهرجان.
وما أذكره من هذا المهرجان هو أنه كان حاشداً، وأقيم في القسم الغربي السفلي للكلية، المحاذي للبحر، في الساحة الكبيرة المستطيلة والعريضة لصفوف المرحلة الابتدائية. فإلى جانب حضور جميع طلاب المقاصد، حضرته مجموعات كبيرة من الطلاب العرب البعثيين والعروبيين في الجامعة الأميركية، بالإضافة إلى حشد أهالي صيدا ومن المثقفين والبعثيين الجنوبيين مع الدكتور علي جابر، إلخ… ومن الخطباء أذكر: عرّيف المهرجان أحمد الصلح (وهو أحد الطلاب الصيداويين في الجامعة الأميركية)، وأيضاً عاطف دانيال (بعثي من سوريا) وجمال الشاعر (من الأردن) وسعدون حمّادي ومحمد عطا الله وعلي فخرو (بعثي من البحرين) وآخرون. ففي هذا المهرجان الخطابي العروبي، رُفعت في أجواء كلية المقاصد الإسلامية في صيدا شعاراتُ حزب البعث العربي: أمة عربية واحدة/ ذات رسالة خالدة. وهتافات الطلاب البعثيين المحتشدين تدعو إلى الوحدة العربية والتحرُّر من الاستعمار وإلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بصيغة تحقيق الاشتراكية العربية… ثمَّ، عند الانتهاء، سار جمهور المهرجان في تظاهرة مخترقة شوارع صيدا الضيِّقة وفي المقدمة الطلاب البعثيون وهم يهتفون ويرفعون شعارات الحزب لأول مرة في الوحدة العربية، والحرية، والاشتراكية …
إن أهمية هذا المهرجان تتمثل في أنه عرّف أفكار الحزب ومبادئه إلى معظم طلاب وأهالي صيدا. ومن هنا أصبح هذا الحدث القومي هو التأريخ لانطلاقة حزب البعث في مدينة صيدا، ومنذ تلك اللحظة، بدأ نشاط الطلاب البعثيين في صيدا يأخذ بعين الاعتبار هذا الحدث السياسي والجماهيري. بشكل عام، إن التربة الوطنية والقومية في صيدا، كانت خصبة ومستعدة ومهيأة للاستجابة لمبادئ الحزب وأفكاره عفوياً ودون تكلُّفٍ أو تعقيد، وإن لم يكن هناك اهتمام كبير في ما يتعلّق بالناحية التنظيمية في بادئ الأمر.
س: … هل يمكنك الحديث تفصيلياً عن البنية الاجتماعية للمجموعة الطلابية الأولى للحزب في صيدا؟
ج: … جميع الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد نواة لتكوين وانتشار الحزب في صيدا، إذا أردنا أن نصنّفهم اجتماعياً، فهم ينتمون إلى الطبقات الوسطى وإلى البرجوازية الصغيرة، ذلك أن وضعهم المادي لا بأس به إجمالاً وبخاصة طلاب المقاصد.
وبعد خروج الحزب إلى المدينة، استقطب بعض العناصر المهنية والحِرَفية وشرائح اجتماعية من أوساط البرجوازية الصغيرة فمثلاً أذكر: عمر حبلي الذي كان لحّاماً وأبوه رئيس نقابة اللحامين في صيدا. وأنيس الديراني كان نجاراً ووضعه المادي لا بأس به، وكذلك محمد أنيس البزري الذي يعمل في محل نوفوتيه لخاله، إلخ…. وفي مجال الحديث عن الوضع الاجتماعي للمنتسبين الأوائل للحزب، أستطيع القول بأنه لم يكن للعمال الصناعيين بالمعنى الحقيقي للكلمة، أو الشغيلة المعدمة، أيُّ وجود يذكر في ذلك الحين.
وما أذكره أيضاً أنه، فيما بعد، ازداد الانتساب إلى الحزب، فدخل الرعيل الثاني من طلاب المقاصد منهم: فؤاد ذبيان وغازي البساط ونزيه كالو وحسيب عبد الجواد ونديم المجذوب وحسن عبد الجواد ومحمود دندشلي وهشام البساط وبسام الزعتري وعبد الفتاح العبداوي ويوسف جباعي ورائف الزين وفيما بعد حسن بركات ومصطفى شريف حجازي وغيرهم، ومن النقابيِّين إسماعيل النقيب ويوسف فنوني، ومن الكسبة: محمود حبلي (سائق تاكسي) وسليمان الزيتوني (سائق تاكسي كذلك) وغيرهم لا تحضرني الآن أسماؤهم….
س: … ما هي مقاييس الانتساب للحزب في تلك الفترة؟
ج: … في بادئ الأمر، إن العفوية هي السائدة في عملية الانتساب وفي بناء الحزب، وهي ظاهرة عامة لا تقتصر على الحزب في صيدا فقط، إذ إن هذه الظاهرة تصحّ على انتشار الحزب في مختلف مناطق لبنان وسوريا والعراق، وكذلك في الأردن حيث انتشر الحزب بسبب انخراط بعض الطلاب الأردنيين في الجامعة السورية بأجواء البعث. ومع عودتهم إلى الأردن أخذوا ينشرون أفكار الحزب هناك. وهكذا في العراق والسودان والمغرب العربي وليبيا، إلخ…. علماً بأن للأساتذة وللطلاب والمعلمين والمثقفين على وجه العموم دوراً كبيراً في مجال انتشار الحزب وامتداده في الوطن العربي عامة…
وإذا كنا نتحدث عن مرحلـة نشوء وتكويـن الحزب في صيدا، فلا بدّ من الإشارة إلى بعض الحوادث اللاّفتة بالنسبة إلى المرحلة والتي وضعت البعثيين الأوائل وجهاً لوجه أمام الواقع الحيِّ وفي الممارسة السياسية:
أول حادثة، تتمثّل في معارضتنا للهدية التي قُدّمت من قِبَل "النقطة الرابعة" الأميركية، إلى كثيرٍ من عائلات صيدا الفقيرة، وهي عبارة عن أكياس من الطحين، وذلك في عام 1952، أي في بداية عملنا كنواة حزبية صغيرة لم تكن تعتمد في ذلك الحين على أيِّ شكلٍ من أشكال التنظيم الداخلي الدقيق. فكان عملها إجمالاً يتّصف بالعفوية والتلقائية وتلقُّف المبادرة بالبداهة الوطنية ـ الاجتماعية والنشاط الذاتي. وقد تجسّدت معارضتنا لهذه الهدية بإصدار بيان من صفحة واحدة تحت عنوان كبير بهذا القول لأبي ذرِّ الغفاريّ: عجبت، لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرجُ على الناس شاهراً سيفه؟!… وكنت قد شاركتُ أنا شخصياً في إعداده، وطبعناه في مطبعة الأنصاري. فكان عنيف اللَّهجة، هاجمنا فيه سياسة "العطف الأميركية" وهاجمنا فيه أيضاً دون تسميته زعيم صيدا آنذاك الدكتور نزيه البزري الذي جاءت "الهدية" عن طريقه.
وعلى أثر توزيع هذا البيان، حصل أول صدام سياسي بيننا كبعثيين ونحن ما زلنا طلاباً في كلية المقاصد وبين أنصار الدكتور نزيه البزري. وهذا العمل له معنى كبير تأكّد في الشعور بأننا نشارك في عمل سياسي على الصعيد الصيداوي، دافعه الشجاعة والإقدام في مواجهة الخصم، انطلاقاً من اعتبار أنفسنا بأننا قيادة ناشئة وطليعة المستقبل، وما إلى ذلك من شعـارات تقمَّصْناها ودخلت في وجداننا ونحن كطلاب حديثي العهد في العمل الحزبي في تلك الفترة، حيث إنه إذا فُرضت علينا معركة، ندخلها دون تردُّد… وهنا كانت تقع بعض المشاكل الصغيرة والمناكفات خصوصاً مع أنصار الدكتور نزيه البزري…
وفي عام 1952 أيضاً، طُرحت مشكلة حقوق العمال والموظفين في مصفاة الزهراني (التابلاين)، فقمنا كنواة بعثية في صيدا، بتحريض العمال والأجراء كي يستمروا في إضرابهم إلى أن يحصلوا على مطالبهم المشروعة. وذلك انطلاقاً من اعتقادنا بأن هذا العمل هو عمل مستوحى من اشتراكية البعث. وكانت تتمُّ هذه الاجتماعات العديدة مع العمال والموظفين والأجراء في "المصفاة" في بيت محمد أنيس البزري، الكائن في ساحة باب السراي من الجهة الجنوبية….
لهاتَيْن الحادثَتيْن أثرٌ كبيرٌ في إعطائنا ثقة كبيرة بالنفس وفي تعريف الآخرين بنا. صحيح أننا لم نحصل على النتائج المطلوبة أو المرجوَّة، فلم تُسحب أكياس الطحين من صيدا ولم تمتنع القيادات السياسية عن توزيع هذه "الهدية الأميركية"، إلا أن أهمية هذا الموقف المبادر في هذيْن الحدثَين مثلاً، تكمن في أنه قد عرّفنا الحزب ووجوده وحضوره الناشىء للآخرين ولجمهور الطلاب وأهل المدينة، خصوصاً في مرحلة التكوين والبداية الأولى.
وفي مجال الحديـث عن عامل الجـرأة في مواجهة الخصم، هناك حادثة مهمة، حصلت بين البعثيين وبيـن القومييـن السوريين في صيدا ربيع عام 1953، عندما وصلتنا بيانات من دمشق تهاجم نظام حكم أديب الشيشكلي في سوريا المتحالف مع القوميين السوريين في ذلك الوقت. وهذه البيانات تؤلّب الجماهير العربيـة وتحرِّضها ضد هذا النظام العسكري المرتبط بالاستعمار الغربي والأميركي خاصة والمحور العربي السعودي. فقمنا بتوزيـع هذه البيانات في مدينة صيدا…
وبينما كان محمد السيد وهشام بساط (طالبان بعثيان في كلية المقاصد) يقومان بتوزيع هذه البيانات في شوارع صيدا، اعترضهما أحد القوميين السوريين، فأخذها منهما ومزّقها وضرب أحدهما بالكف، فانفعلنا كثيراً عند سماعنا بالخبر. وبعد خروجنا من كلية المقاصد ظهراً، وكنا مجموعة من الطلاب، وقفتُ كالعادة مع رفاقي أمام "مكتبة البساط" في شارع الشاكرية، وإذا بأحد القوميين السوريين يتحرّش بي، فواجهته شخصياً، مما دفعه إلى أن يأخذ من جيبه "موس" أراد به الوصول إلى وجهي، فلم يتمكّن من ذلك، إلاّ أنه استطاع أن يجرح يدي اليسرى جرحاً بليغاً ما زالت آثاره بادية حتى الآن، وذلك قبل أن أضربه على وجهه ويسقط الموس من يده على الأرض. ومباشرة انتشر الخبر في صفوف رفاقي البعثيين، فابتدأت معركة أكثر شدَّة وعنفاً، ذهبنا فيها لنفتّش في كل مكان عن كل عضو في الحزب القومي السوري لنضربه.
وفي سياق هذه الحادثة، أذكر صداماً وقع بيني وبين شخص اسمه حسين قطيش وهو مسؤول الحزب السوري القومي في صيدا، حيث يدي كانت مبلّلة بالدم، فطرحته أرضاً وانهلت عليه ضرباً وأنا فوقه، فكدتُ أن أقتله بعقب زجاجة "كولا"، لولا أن أحد الأشخاص أخذ يصرخ من ورائي وبإلحاح أن لا أقتله. ثم، بعد ذلك بقليل، جاء مسؤول آخر في الحزب القومي السوري في صيدا، وشهر مسدسه في وجهنا، فلم نخف منه، بل قمنا بملاحقته حتى عقر دار أقربائه داخل المدينة القديمة، على الرُّغم من أن المسدس كان يحمله في يده.
كل هذه الحوادث، أسمّيها "فولكلورية"، لكنها ضرورية لإعطائنا الثقة بالنفس ولإثبات وجودنا وحضورنا السياسي الناشىء أمام الآخرين في بداية عملنا السياسي، حيث إن أية حركة ولكي تضمن وجودها واستمراريتها، يجب أن يتمتّع أعضاؤهـا بالشجاعة والجرأة والإقدام، لأن الجماهير لا تحترم إلاّ الأقوياء، وخصوصاً إذا كانت هـذه الشجاعـة مبنيّـة على الحق والعدل ومن أجل القضية الوطنية، لا بهدف اغتصاب حقوق الآخرين.
نحن كنا في اعتقادنا في موقع مَن يدافع عن قضية وطنية واجتماعية وإنسانية ويدافع عن نفسه، فلم نعتد على أحد، وإنما اعتديَ علينا، فكنا أمام أمرَيْن: فإما أن نسكت وأن نتراجع، وإما أن نقابل الاعتداء بمثله حتى نُثبت أمام الآخرين وجودنا ونستمر. طبعاً، لم يكن كل ذلك مقرّراً سلفاً أو مدروساً، ولم تكن هناك خطة معيَّنة موضوعة. فكانت أعمالنا وتصرفاتنا عفوية وتنطلق بشكل أو بآخر بالبداهة السياسية الوطنية، لأنه وفي ذلك الحين، لم تكن قد قامت علاقة رسمية محدَّدة بين القاعدة الحزبية والقيادة القطرية وبين الفرع والمركز…
وعلى وجه العموم، لقد أثبتنا وجودنا في الساحة ولفتنا نظر الآخرين، طلاباً ورأي عام محلي، إلى هذه المجموعة الطلابية الشابة والجريئة، الوطنية والعروبية، والتي لها أوساط عائلية معروفة ومحترمة اجتماعاً، إذ إن كل واحدٍ منا قويَ بحسب الأوضاع الاجتماعية التي ينتمي إليها، فكنا أقوياء بأنفسنا وبأهلنا وعائلاتنا في آن معاً…
س: … د. مصطفى، الناحية العفوية في التنظيم تأكّدت من خلال حديثك عن إثبات الوجود في البدايات، ولكن فيما بعد وخصوصاً بعد المؤتمر التأسيسي الأول للحزب في لبنان عام 1956، كيف أصبحت العلاقات التنظيمية وهل هي تغيّرت عن مرحلة البداية؟
ج: … في الحقيقة، إنني أتحدث عن مرحلة (1952 ـ 1954) وهي مرحلة البدايات الأولى التي عايشتها وعشتها في صميمها. وبعدها سافرت للدراسة إلى القاهرة. طبعاً، وفي كل الأحوال، بعد أن تأسّس الحزب في لبنان وتركّز وأصبحت له لوائح داخلية وقواعد وأسس تنظيمية إلى حدّ ما جديدة علينا، تمَّ ضبط الوضع التنظيمي الذي كان يتّسم في السابق بشيىء من العفوية. وهنا يجب أن لا يفوتنا ذكر، أنه وفي إطار عملية التبلور التدريجي لوضع الحزب تنظيمياً، كانت قد تكوّنت قيادة مركزية مؤقتة في بيروت برئاسة الدكتور علي جابر، قبل عقد المؤتمر الأول عام 1956.
وفيما أذكر، حتى في فترة البدايات الأولى، كانت لنا اجتماعات دورية كحلقات حزبية، من خلالها حاولنا تنظيم أنفسنا حسب النظام الداخلي الذي جاءنا من دمشق، حيث فُسّر لنا عن طريق الدكتور علي جابر وسعدون حمّادي، إذ إن الأخير كان يتّصف بصفة ما زلت أذكرها، وهي الجدّية الصارمة والانضباطية الكلية والتركيز على أهمية التنظيم. وهنا أعتبر بأن الدكتور سعدون حمّادي قد لعب دوراً أساسياً وعملياً في إرساء القواعد الأولى لتنظيمنا.. وهنا أيضاً لا بدّ من التوقف والتنويه بالدور الأساسي والمهم الذي لعبه الأستاذ إنعام الجندي (سوري، أستاذ الأدب العربي ومقيم في لبنان) في الجنوب اللبناني وفي صيدا بالذات طوال بدايات نشوء حزب البعث وتطوره، وذلك عَبْر اللقاءات والاجتماعات الدورية وحلقات التثقيف الحزبي الفكري والقومي والعروبي…
هذا من ناحية وناحية أخرى: ما زلت أذكر أنني كنت أمين سر الحلقة الأولى للتنظيم في صيدا، حيث إن غسان شرارة (أول من أخذ المبادرة بالدعوة إلى نشر مفاهيم الحزب) كان تلميذاً في القسم الداخلي في كلية المقاصد وبالتالي كان لا يستطيع الخروج من كلية المقاصد ساعة يشاء وخالد البرد وحسن الريّـان فلسطينيـان. وعندما أقول إننا تكوّنا في "حلقة حزبية"، يعني أننا قمنا ومنذ البداية بإرساء القواعد التنظيمية حسب النظام الداخلي للحزب، كما جاءنا في البداية عن طريق الطالب محمد عطا الله من الجامعـة الأميركيـة في بيروت، والذي كان هو المشرف عملياً على تنظيمنا، بما أنه من صيدا هو أيضاً، وإن كان لا بدّ من إدخال بعض الأمور العفوية في التصرّف والممارسة في بادئ الأمر.
وفي هذه الحلقات الأولى، لم يكن هناك فرق بين حلقة الطلاب وغير الطلاب، ولم يكن هناك فرق بين فلسطيني ولبناني (فخالد البرد وحسن الريّان، فلسطينيان، كانا في حلقتي التنظيمية) إذ إننا تنظيم قومي عربي واحد.
وفي مناسبة الحديث عن مرحلة النشوء، أذكر أننا في عام 1953 قد ذهبنا حوالي عشرة بعثيين من صيدا لمقابلة الأستاذ ميشيل عفلق في أحد مقاهي بيروت، أعتقد أنه مقهى نصر في الروشة، وهي أول مقابلة لنا مع الأستاذ ميشيل عفلق الذي كان قد غادر سوريا حينذاك هو وصلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني هرباً من ديكتاتورية أديب الشيشكلي آنذاك.
لم يبق في ذهني شىء يُذكر من حديث الأستاذ ميشيل عفلق، إنما الذي أذكره تماماً أننا خرجنـا من هـذا الاجتمـاع معجبين بحديثـه الهاديء وفخورين بانتسابنا إلى الحزب وفرحين جداً باجتماعنا مع مفكر الحزب ومؤسسه الذي كان بطيئاً جداً في الحديث، وكثير التدخين. وما أذكره أيضاً أن أحدنا كان يسجّل الحديـث كتابـة، وهذه طريقة يتّبعها الأستاذ ميشيل عفلق دائماً، فمعظم ما كتبه هو عبارة عن إملاء ما يقولـه في الاجتماعـات خصوصاً الطلابية والشبابيـة. أنظر كتابه "في سبيل البعث" مثلاً، تراه مجموعة من الأحاديث المسجّلة كتابة في مناسبات مختلفة…
وفي مجال الحديث عن البدايـات الأولى، لا بدّ من التوقّـف أيضاً عند انتخابات عام 1953، بعد أن عدّل كميل شمعون (رئيس الجمهورية في تلك الفترة) نظام الانتخابات النيابية العامة في لبنان، فجعل مدينة صيدا دائرة انتخابية مستقلة. عندها ترشّح الدكتور نزيه البزري ضد الأستاذ تقي الدين الصلح، خليفة رياض الصلح الذي اغتيل وهو في الأردن عند عودته إلى لبنان في تموز عام 1951. وإن لم يكن لأحدنا الحق في الانتخابات في ذلك الحين لعدم توفّر شرط السّن، فلقد برزنا في هذه الانتخابات كقوة سياسية طلابية ناشئة عن طريق تحركنا ونشاطنا وبياناتنا وخطاباتنا في المهرجانات الانتخابية وعن طريق تأثيرنا على الأهل.
وهنا أعتقد أن حزبنا قد ارتكب خطأً تكتيكياً كبيراً لا أنساه، عندما وقف بقرار مركزي ضد الدكتور نزيه البزري، مؤيّداً الأستاذ تقي الدين الصلح، مع العلم أن الدكتور نزيه البزري كان يمثّل آنذاك الوجه الشعبي والتقدمي لمدينة صيدا، حيث التفّت حوله الجماهير الصيداوية من الطبقات الفقيرة حتى جزء كبير من الطبقات الغنية، لذا كان من المفروض أن نؤيّد الدكتور نزيه البزري، ونحن جميعاً في صيدا كنا في هذا الاتجاه، إذا انطلقنا من محيطنا الصيداوي.
إلا أننا لم نكن على مستوى من الوعي والإدراك لفهم مقدمات ونتائج اللحظة التاريخية للحدث بشكل سليم، فأيّدنا الأستاذ تقي الدين الصلح بضغط من قيادة الحزب في بيروت والذي فشل في هذه الانتخابات، وعزلنا أنفسنا عن الفئات العريضة لجماهير صيدا، إذ إنه من غير المعقول أن نتخلّى عن تأييد إنسان صيداوي شعبي وتقدمي اجتماعياً وقتذاك، وكان يقوم في تلك الفت