د. دندشلي - ملاحظات نقدية حول مشاريع صيدا العمرانية - حوار مع المهندس غازي مكداشي
مقابلة مع
الدكتور المهندس المعماريّ غازي مكداشي
التاريخ: صباح يوم الإثنين الواقع فيه 29 كانون الثاني 2007
الموضوع: ملاحظات نقدية حول مشاريع صيدا العمرانية،
وتحديداً مشروع واجهة صيدا البحرية
من خلال الممارسة والتجربة الشخصيّة،
رؤية مستقبليَّة
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … يسعدني بداية أن ألتقيَ بك وأجريَ معك هذه المقابلة حول ما كان مخطَّطاً لمدينة صيدا، وبخاصة المدينة القديمة، من مشاريع. فسؤالي الأول في هذا المجال يتعلق بمشروع الواجهة البحريّة في صيدا. ومشروعك الذي تقدَّمت به إلى المباراة التي أُجريت في هذا الموضوع، مع مشاريع أخرى، كان قد حصل في هذه المسابقة على الجائزة الثانية مناصفة، بعد أن حَجبت لَجنة التحكيم الجائزة الأولى. فأريد بادئ ذي بَدء أن أعرف رأيك في هذا الموضوع، بعد مضيّ عقد من الزمن تقريبـاً(1).
المهندس المعماريّ غازي مكداشي: … في رأيي ومن وجهة نظري، فإن المسابقة التي حصلت منذ عشر (10) سنوات تقريباً، كانت غير مُجدية، لأنه كان هناك قرارٌ مُسْبق لدى المسؤولين في الحكومة اللبنانية لتنفيذ المخطّط القديم، وعمره ما يقرب من خمس عشر (15) سنة. وهذا المخطّط القديم هو عبارة عن "أوتوستراد"، أو ما يُسمى أحياناً "الكورنيش"، ولكنه في الواقع أوتوستراد يقع على الشاطىء البحري لمدينة صيدا. وقد ظهر آنذاك اعتراض شديد على مرور هذا الأوتوستراد من الجهة البحرية للمدينة أيام نقيب المهندسيين المرحوم الأستاذ بهاء الدين البساط، ومعالي المهندس المعماريّ أمين البزري ومجموعة المهندسيين الصيداويين. وكان هذا الرأي يشدِّد على أن تنفيذ الأوتوستراد بهذا الشكل غير مجدي ويسبِّب أضراراً جساماً، لأنه يقطع العلاقة التاريخية بين مدينة صيدا وبين البحر.
أما المسابقة التي جرت منذ عشر (10) سنوات، فقد كانت صُوَريَّة ولم تؤخذ قطّ بعين الاعتبار، بمعنى أن نتائج هذه المباراة لم تؤخذ إطلاقاً بعين الاعتبار لهذا، فأنا أعتبرها أنها كانت شكليّة، صُوريَّة، لا أكثر ولا أقل… أنا قمت بهذا المشروع مع شركة "تيم"، وأمضيت وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً، وحصلنا على الجائزة الثانية مناصفة في هذه المباراة، بعد اجتماعات متكرِّرة ومتتالية مضنية، ولكنه في النهاية لم يُنفَّذ شىء من ذلك على الإطلاق، مما ظهر بوضوح أن "العمليَّة" كلَّها من أولها إلى آخرها، كانت عملية "مركَّبة"، صُوَريَّة. وحتى الجائزة المقرَّرة لنا، لم نقبضها حتى الآن.
مع الأسف، ليس هنا لُبّ الموضوع، الموضوع الأهم هو مصلحة مدينة صيـدا. وإذا لم يُنفَّذ مشروعنا، فليست هنا المشكلة، إنما الموضوع الأساسي والحقيقي هو ما يخصّ مدينة صيدا، وهو الأهم. فإذا كنا نحن لم نقبض قيمة الجائزة، فليست هي المشكلة. المشكلة هي أن ما نُفِّذ في صيدا حتى الآن، هو غير صالح، هو سيىء للمدينة، هو قطع العلاقة بين مدينة صيدا والبحر بخط سريع. ولمجرد ما نُنفِّذ شارع: تسميه الدولة "كورنيش"، ولكنه في الواقع "أوتوستراد"، عريض لمسارَيْن أو لثلاثة مسارات للسير، فأصبح خطاً سريعاً، وبغض النَّظر عن الاسم الذي نطلقه عليه…
فهذه أول نقطة أنه يقطع العلاقة بين صيدا والبحر. النقطة الثانية تتعلق بردم المعالم الموجودة على البحر من أجل توسيع هذا الأوتوستراد. وهذا ما حصل بالفعل. فمجرّد ما نردم المعالم الطبيعيّة للمدينة، أعني هنا الشاطىء الرملي الطبيعي الموجود عَبْر ملايين السنين، والذي أقام توازناً مع البحر، ولا سيما في المنطقة الشمالية لواجهة صيدا البحرية التي رُدمت وأقيم حاجزُ دعمٍ، وكذلك المعالم الصخرية وفيها معالم رملية في الجهة الجنوبية للواجهة البحرية… هذه المعالم وعلاقة المياه بالمنطقة الصخرية الطبيعيّة وعلاقة المياه بالرمول، هذه المعالم لا تُعوَّض، وبمجرَّد ردمها وإقامة سد، لا تعوَّض أيضاً. هذه الآثار التي هي هي منذ ملايين السنين، وهي آثار طبيعيَّة، لا تُعوَّض.
هذا، مع الأسف، ما حصل في مدينة صيدا. وهذا ما أعتبره أول خطأ سيِّىء حصل في صيدا. لقد رُدمت الشواطىء الطبيعيَّة من أجل توسيع ما يُسمى "الكورنيش"، وهو أوتوستراد، ومع الأرصفة، وإدخال هذا الرَّدم في البحر، معنى ذلك ـ ولمجرد ما تردم في البحر ـ فمن المفروض أن نقيم حاجزاً عالياً، أو ما يسمى كاسر الموج. وهكذا تصبح العلاقة بين الإنسان والبحر ضعيفة أو أكثر ضعفاً مع الوقت…
إذن، الرَّدم كان عملاً سيِّئاً للغاية، ونحن كنا قد حذَّرنا منه في مشروعنا لواجهة صيدا البحرية، الذي تقدمنا به للمباراة واعتبرنا أنه من الواجب المحافظة على هذا الشاطىء البحري، ونظرنا إليه في مشروعنا منذ حوالي عشر سنوات على أنه من معالم صيدا الطبيعية الأثرية، يجب عدم التفريط به إجمالاً والتقيَّد بالسير الخفيف بمحاذاة الواجهة البحرية وجعل السير السريع في منطقة أخرى: أي أن يكون على ما يسمى بـ "البولفار الشرقي" الحالي ويقام أنفاق من تحت كل "دوّار" أو ساحة، كما أقيم أنفاق أخرى في العاصمة بيروت، على سبيل المثال… وهكذا، يمكن أن يحصل الشىء نفسه على البولفار الشرقي في صيدا حيث يوجد ثلاث "دوائر"، فينشأ ثلاثة أنفاق تحت الأرض، وذلك حتى لا تتقاطع الطرق بعضها مع البعض الآخر. في هذه الحالة، تبقى العلاقة متواصلة بسهولة بين امتداد مدينة صيدا لجهة الشرق واتجاهها نحو الغرب.
هذا أحد الحلول الآنيّ. أما الحلّ النهائي والمستقبلي بعد ثلاثين سنة، مثلاً، فهو إقامة الأوتوستراد في شرق صيدا وفي الهضاب المحيطة بها… والسبب في ذلك هو أن الشاطىء لواجهة صيدا البحرية ـ كما هو الحال في جميع أنحاء العالم ـ ينبغي أن يبقى شيئاً مقدَّساً لا يجوز أن يُمسّ، ويجب علينا أن نكون حذرين جِداً عند إنشاء المشاريع العمرانية من أيِّ نوع فيه، لأنه ثروة طبيعيَّة يجب أن لا نضيِّعها. وإذا كانت الحكومة قد أقامت هذه المشاريع على الشاطىء البحري، فلأنها أرادت أن توفِّر على خزينة الدولة دفع الاستملاكات… فأقاموا الأوتوستراد في واجهة صيدا البحرية وتمّ توسيعه وردم البحر، لكي لا يدفعوا الاستملاكات في المناطق البحرية. ولكن هذا كان يتمّ على حساب المصلحة العامة وعلى حساب مدينة صيدا القديمة وعلى حساب تطوّر صيدا السليم للمحافظة على طابعها التراثي والتاريخي.
ومع الأسف، هذا ما حصل. أما مشروعنا الذي حافظ على واجهة صيدا البحرية وطوَّرها وواصل العلاقة الطبيعية بين الشاطىء البحري والمدينة القديمة، فقد أُهمل ووُضع جانباً وحتى أنه لم يُعرض أمام الجمهور الصيداوي والمهندسين الاختصاصيين، والموفدين من قِبَل الأونسكو أو منظمات الأمم المتحدة والحفاظ على البيئة، إلخ… فلم يُعرض مشروعنا في المعارض الرسمية التي كانت تُقام في بلدية صيدا. فقد كانت النيَّة لدى المسؤولين دفن مشروعنا وتنفيذ المشروع الذي يريدون تنفيذه. وهذا ما حصل بالفعل، على الرُّغم من معارضة مجموعة مهندسي صيدا وفي مقدمهم النقيب المهندس بهاء الدين البساط وفاعلياتها وقواها السياسية الواعية. وهكذا، نكون الآن أمام أمر واقع: ما حصل قد حصل، والمأساة وقعت والخطأ الفادح وقع. فالسؤال في هذه الحالة: ما العمل؟..
س: … لكن، قبل الإجابة عن هذا السؤال، ما مدى، من وجهة نظرك، تأثير هذا الأوتوستراد الذي يسمى: "كورنيش"، والذي أصبح في الوقت الحاضر عملياً موقفاً للسيارات ابتداءً من جامع الزعتري حتى جامع العمري الكبير، ما مدى تأثيره في التُّراث المعماريّ لمدينة صيدا القديمة التاريخية وآثارها؟…
ج: … ستصبح هذه المنطقة التاريخية والتُّراثية أكثر تلوُّثاً والمنطقة المحيطة ستكون أيضاً معرَّضة للتلوُّث بشكل عام. لقد كان من المفروض إقامة مواقف كبيرة للسيارات أو تجمع لمواقف السيارات في مداخل منطقة الواجهة البحرية للمدينة القديمة، وهذا ما لحظناه نحن في مخطّط مشروعنا: قبل الوصول إلى القلعة البحرية، إقامة موقف للسيارات في ساحة كبيرة في المناطق السفلية للمباني ومن جهة الخليج المصري، خليج اسكندر، عند مدخل صيدا الجنوبي إقامة كذلك موقف واسع للسيارات…. والناس تستطيع أن تدخل إلى المدينة القديمة سيراً على الأقدام ومن شوارع مخصوصة للمشاة، ويمكنها استعمال وسائل النقل الكهربائية السياحية. وهذه الأشياء موجودة في كثير من دول العالم…
هذا يعني أن الناس بحاجة إلى رؤية البحر. لذلك فقد أقاموا بالفعل ما يشبه المقاهي وتصرفوا فطرياً من تلقاء أنفسهم. فهم بحاجة، كما في كل مكان، إلى النُّزهة والتَّنزُّه بالقرب من البحر… حتى يتمكنوا من رؤية البحر، وهذا ما يجعل نوعاً من التوازن مع الإنسان وهذا من طبيعته. فلماذا مدينة صيدا موجودة وملاصقة للبحر ومتداخلة فيه، فلكي تتفاعل معه وتتغذى منه مادياً ومعنوياً وروحياً.
إذن، فمن المفروض أن هذه السيـارات التي تقـف على جانبَـي رصيف الكورنيش، أن يُؤمَّن لها مُجمَّع مواقف جانبيَّة، في مناطق معيَّنة، ولا يجوز أن تكون في الواجهة البحرية. أما في ما خصّ الكورنيش العريض الذي مع الأسف رُدم البحر من أجل إقامته مع كاسر للموج عالٍ نسبياً، فمن الممكن في المستقبل إنشاء بعض الجزر في البحر ـ أنا أتصوَّر هنا كحل مستقبلي ـ وذلك حتى نخفِّف من الموج الذي يلتطم برصيف الكورنيش العالي، وحمايته من البحر. وهذه الجزر هي جزر اصطناعية سياحية وبينها خلجان داخلية وممرات كي تخفِّف من قوة الأمواج وهي شبيهة بالزيرة في صيدا… وفيها مرافق سياحية: استراحات ومطاعم وما شابه ذلك مما هو معروف. والناس والسواح يمكنهم أن يصلوا إليها، بواسطة المراكب الشراعية الصغيرة واللِّنشات السياحية. وعندما تنظر في الليل إلى البحر من الشاطىء، فإنك ترى الأنوار متلألئة تتماوج كالأنجم تسبح فيه…
هذه من الحلول المستقبلية. كما أن القلعة البحرية، عندما تُضاء في الليل، فإنك ترى الأضواء وانعكاسها على سطح البحر، فيقدِّم لنا منظراً بالغ الجمال والروعة… وواجهة صيدا البحرية يمكن أن تكون إلى حد كبير على هذه الصورة من الجمال، فيما لو أُحسن الاهتمام بها وإبراز معالمها التاريخية والتُّراثية.
أما الكورنيش العريض وهو في الحقيقة أوتوستراد، فمن المفروض مستقبلاً أن يُضيَّق عرضه ويُنشأ في وسطه سلسلة من المباني الصغيرة ذات الطابع التُّراثي الصيداوي مسقوفة بالقرميد، مع بعض المقاهي في مواجهة البحر […]
س: … أعود إلى طرح موضوع واجهة صيدا البحرية: يبدو أنه قد وُقِّع اتِّفاق مع راسم بدران، زميلك الحائز معك مناصفة على الجائزة الثانية، بعد أن عدّل مشروعه، ولا نعلم إذا كان قد ابتدأ بالتَّنفيذ أم لا، ولكن ما يهمني أن أعرف تصوُّرك، أنت، لواجهة صيدا البحرية: هل هناك إمكانية إعادة هذه الواجهة بشكلها التُّراثي، الأثري، التاريخي، الجمالي، وإعادة علاقتها، هذه العلاقة الحميمة بالبحر؟!…
ج: … هذا ما أشرت إليه في بداية هذا الحديث. النقطة الأولى التي أودّ أن أشير إليها، هي أنني لا أعرف شيئاً عن التعديلات التي أدخلها المهندس راسم بدران على مشروعه، ولم أطلع عليها ولا على مضمون هذه التعديلات، بعدما نفَّذوا الأوتوستراد وأساؤا إلى الواجهة البحرية إساءة كبيرة. وإذا أردت أن أعطيك تصوّري الشخصي، فهو أولاً وقبل كل شىء يجب أن يُلغى السير السريع على الأوتوستراد…. وإقامة بعد تضييقه، كما قلت، في وسطه سلسلة من المباني التراثية الصيداوية [….]
س: … إنك تعرف صيدا القديمة وتجوَّلت في شوارعها الداخلية، ما هو تقييمك ووجهة نظرك الجمالية والمعمارية والفنيَّة التُّراثية لهذه المدينة؟..
ج: … إن مدينة صيدا القديمة، بحدِّ ذاتها وكونها على قياس الإنسان، يجب أن لا يدخل إليها السيارات بأيِّ حال، إلاّ للخدمات الضرورية للمنازل أو للمحلات التجارية أو في حالة طارئة، فهذا موضوع آخر. أولاً وقبل أي شىء، ينبغي على السيارات أن تبقى في الخارج، في مواقف جماعية مخصوصة لذلك. ذلك أن مدينة صيدا القديمة نادرة الوجود، ولا شبيه لها في لبنان نسبياً، بهذا الكبر وبهذا الحجم وتقع على البحر. مدينة المينا في طرابلس قد زالت ولم يبق منها شىء وقد اندثرت تقريباً. ولكن مدينة صيدا القديمة ما زالت موجودة (من هنا، يجب المحافظة عليها كما نحافظ على حياتنا). فإذا اتُّخذ القرار ورُمِّمت، اللهم كما يجب، فتكون مدينة غاية في الجمال ومن جميع النواحي. فهي مطلَّة على البحر وتضمّ معالم تاريخية وأثرية وتراثية مهمة جداً من جوامع وخانات والقلعة البحرية والقلعة البرية وحاراتها وشوارعها…. والتجوال بداخلها سياحياً من الأهمية بمكان كبير، لأنها على مقاس الإنسان، وذات طابع إنساني، وهذا نادر وجوده في العام، بمعنى أن يكون في المدينة مبانٍ على مقاس الإنسان من حيث الشوارع والساحات والقناطر والعقود، فهذا كله وبهذه الكثافة غير موجود في أيِّ مكان آخر.
غير أن طريقة التَّرميم، هنا تكمن المشكلة. فينبغي إعادة النَّظر بهذه الطريقة التي تُنفَّذ حالياً في مدينة صيدا القديمة. إن البيوت القديمة بُنبت بالحجر الرملي، ولكن يجب أن يكون الحجر الرمليّ محميّاً من العوامل الطبيعية. فكانت تُغطى الجدران بطبقة من الكلس كي لا تُتلف وتتفتفت. واليوم هناك ما أسميه "موضة"، مع الأسف، ابتدأ استعمالها منذ عشرين سنة تقريباً، وهي إظهار الحجر الرملي. وهذا غلط. الحجر الرملي عادة غامق وتعشعش بداخله الرطوبة، فيتلف ويتفتفت. في الماضي، كان يُغطى بمادة كلسية فيها مسام. وفي حال دخلتها الرطوبة، فإنها تتبخَّر. فلا يمكننا تلييفها بمادة التُّرابة العادية التي تضرّ الحجر الرملي. هناك نوع من التُّرابة الخاصة، تُخلط بالكس شبيهة بمادة الكلس التي كانت موجودة في الماضي. ويجب أن تكون الألوان فاتحة، وهذا هو طابع المدن الموجودة على الساحل البحري، كما في تونس أو في الأندلس أو في جنوب إيطاليا أو في اليونان أيضاً. كل هذه المدن الواقعة على شاطىء البحر الأبيض المتوسط شبيهة بعضها مع البعض. أما التَّرميم الذي يُنفَّذ حالياً في مدينة صيدا، فيجب إعادة النظر فيه ووقف طريقة قشرة الجدران وإظهار الحجر الرملي…. وهذه وجهة نظر مَن هم متخصّصون في عملية التَّرميم ومنهم المهندس أمين البزري. وحالياً، في مدينة طرابلس، أخذوا يغيِّرون كلياً طريقة التَّرميم، ويُليِّفون من جديد الحجر الرملي…
س: … وفي هذا السياق نفسه، فما مدى تأثير مشروع المرفأ التجارية الذي كان مزمعاً إنشاؤه في سينيق جنوب مدينة صيدا، من حيث كبره وحجمه، ما مدى تأثيره في واجهة صيدا البحرية؟…
ج: … في الحقيقة، ما حصل في الماضي في بيروت، يُخشى أن يحصل الشىء نفسه في مدينة صيدا. "أكل" مرفأ بيروت باجتياحه المدينة القديمة، لذلك يُخشى مع امتداد مرفأ صيدا كبير الحجم كمشروع مزمع إنشاؤه، وإذا لم يُضع ضوابط قانونية وبيئية صارمة، يُخشى أن "يأكل" مدينة صيدا القديمة كلها. إن شواطىء صيدا كلها إنما هي ستكون خاضعة مع الوقت لاستعمالها خدمات للمرفأ ولسوف يصيبها التلوُّث جواً وبحراً وبراً. وهذا ما حصل في بيروت وفي غيرها من المدن التي أقيم فيها مرافيء… على سبيل المثال فقط لا غير، فإن منطقة رياض الصلح في بيروت أي مدينة بيروت القديمة، وخلف سينما الريفولي القديمة، قد كانت الشاطىء البحري مخصَّصاً للسياحة وللصيد ومقهى الحاج داود الشهير أيام زمان، إلخ… فلم تأخذ الدولة بعين الاعتبار هذا الشاطىء الرملي الجميل. وابتدأ المرفأ في الامتداد تدريجاً باتجاه هذا الشاطىء، ليس الميناء نفسه وإنما خدمات المرفأ، مثلاً مستودعات الخشب. فأخذت الشركات والمؤسسات التجارية تستملك أراضٍ على هذه الشواطىء ويقيمون فيها مستودعات لخدمة المرفأ والحركة التجارية فيه، منه وإليه.
فقبل الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، كانت المدينة القديمة في بيروت تموت أصلاً موتاً بطيئاً، وذلك بسبب امتداد المرفأ وعزلها عن الساحل البحري عزلاً كاملاً. إن وجود منطقة سكنية تقع على الساحل البحري، وليس في إمكانها استخدام هذا الساحل في حياتها اليوم، فلسوف تموت حتماً… وهذا ما نخاف أن يحصل في مدينة صيدا القديمة.
فسكان بيروت القديمة تركوها وهاجروا: قسم منهم ذهب إلى منطقة البسطة وسكن فيها ومنطقة الحمراء ابتدأت في الإزدهار لوجود الجامعة الأميركية فيها، وقسم إلى منطقة طريق الجديدة أيضاً… هذا هو الامتداد الذي حصل. والشواطىء الأخرى البعيدة باتت تُستعمل للسياحة أو للنُّزهة. أما الشاطىء حول المرفأ، فضُرب واُستخدم لخدمة المرفأ كمستودعات وخلافه، لأنه لم تضع الدولة القوانين الصارمة والرادعة التي تحمي هذا الشاطىء الرملي.
فصيدا ومنذ زمن أخذت في الطوّر والاتساع والامتداد وأصبحنا الآن في وقت من المفروض أن يكون الوعي قد ازداد وانتشر. فإذا أنشىء مستقبلاً مرفأ في جنوب صيدا، كما هو ملحوظ، فمن المفروض أن يوضع خطُّ فصلٍ يمنع امتداد خدمات المرفأ باتجاه مدينة صيدا، بل باتجاه الشرق. وتغذية المرفأ لا يجوز أن تكون من الأوتوستراد البحري الذي يمر بواجهة صيدا البحرية، بل من شرق المرفأ أيضاً. فإذا اُتُّبع هذا التخطيط وبهذه الطريقة، فمن الممكن أن يُحفظ كيان مدينة صيدا من الأضرار، وإلا سيدمِّرها المرفأ تدميراً كاملاً مع إنشائه بحجمه الكبير، كما كان ملحوظاً في بادئ الأمر….
س: … أطرح الآن موضوعاً آخر له علاقة مباشرة بما جرى في صيدا من مشاريع عمرانية: لقد كان عند مدخل صيدا الشمالي "فندق صيدون" وبجانبه الملعب البلدي الذي توسَّع بناؤه بعد ردم البحر، وأصبح يسمّى: المدينة الرياضية. أودّ هنا أن تشرح لي وجهة نظرك وتقدِّم لي رأيك الشخصي كمهندس معمارٍ في هذا الشأن.
ج: … لقد كان ذلك خطأً كبيراً. ففي مشروعنا، هذه المنطقة، كان من الواجب أن تكون شاطئاً. أصلاً، المدينة الرياضية لا يمكن أن تستفيد من مياه البحر، فلماذا وجودها على الشاطىء؟.. ملعب لكرة القدم، بهذا الكبر والاتساع والمساحة، لا علاقة له إطلاقاً بالشاطىء البحري، فليس هو نادٍ لليخوت أو للسباحة. لو أقمنا مكانه نادٍ للسباحة أو مارينا، فيكون الأمر مقبولاً وصحيحاً. لهذا، ففي مشروعنا ومخطّطنا لواجهة صيدا البحرية، لحظنا أن تكون المدينة الرياضية في البرّ، في المنطقة الشرقية لمدينة صيدا. واعتبرنا هذه المنطقة هي منطقة سياحية وشاطىء لكل الناس، وليس لإقامة ملعب لكرة القدم، الرياح تضرب فيه من كل جانب. ولكنه، مع الأسف، قد نُفِّذ….
س: … للأسف أيضاً، نادراً جداً جداً ما تجري فيه مباراة موسمية، وهو حتى الآن ما زال مقفلاً بسبب وجود بعض المشاكل المالية مع المتعهِّد وخلافات مع وزارة الشباب والرياضة وبلدية صيدا حول إدارته والإشراف عليه.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، هناك شبه إجماع من المهندسيين المعماريين على أن وجود هذا المرفق الحيوي، هذه المدينة الرياضية هو وجود غلط، ومع كل ذلك نفِّذ هذا المشروع في المكان ذاته، كيف تفسِّر ذلك؟…
ج: … أفسِّره ببساطة أننا نحن في لبنان وليس فقط في صيدا، تقوم الدولة بارتكاب الأخطاء وعدم تطبيق القوانين الرادعة. في كل لبنان، الشاطىء البحري يتآكل. وشاطىء بيروت يباع في الوقت الحاضر للفنادق، وكأنه لا يحق للدولة أن تمنع أو أن تعارض في ذلك إطلاقاً. ولكن مع الأسف هذا ما يحصل على طول الشاطىء اللبناني. وهذا يُظهر أن ليس هناك مؤسسات أهلية فعّالة تقدر أن تجابه تلك المخطّطات للدولة اللبنانية [….]. في الحقيقة، ليس لدينا مؤسسات أهلية ضاغطة وفاعلة. لذلك الدولة تتصرَّف بشىء من الحرية.
س: … لا، هناك مؤسسات أهلية متحركة، ولكن تأثيرها ضعيف ودورها لا يلاقي صدى ضاغطاً. لنأخذ على سبيل المثال تحرك مجموعة من المهندسين في صيدا وكذلك المهندسين المعماريين في لبنان، فقد كان لهم وجهة نظر معارضة لإنشاء الأوتوستراد بالشكل الذي تمّ فيه، ومع كل ذلك فقد نُفِّذ كما هو ملحوظ…
ج: … ولكن يجب أن لا ننسى أن مؤسَّساتكم الهندسية المعارضة في صيدا استطاعـت أن توقف تنفيذ المشروع منذ عام 1985، فقد كان سينفَّذ منذ ذلك الحين. وقد لعب المرحوم المهندس بهاء الدين البسـاط دوراً بارزاً فـي هذا الموضوع، ومعه المهنـدس أمين البزري، وكانت دار الهندسة أنجزت له دراسة جاهـزة. وقد استطعتم أن توقفوا تنفيـذه طوال تلك المدة. أما عندنا نحن في بيروت، فلا أحد يتحرك…. وبكل أسف، الدولة اللبنانية لا تراعي المصلحة العامة [….]…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ـ هنا، نصّ المقابلة الحرفيّ، وقد حافظنا كلياً على جوّها العام وعلى لغتها المحكية تقريباً كما وردت دون تغيير يذكر، مع بعض التنقيحات والإضافات التوضيحية والتصحيحات اللغوية الضرورية. وقد أعاد المهندس غازي مكداشي قراءة النصّ وأدخل عليه بعض التنقيح والتصحيح والإضافة. ووافق على نشره كما هو أو مقتطفات أساسية منه، إذا اقتضى الأمر.