الفكر القومي العربي على صعيد النَّظر والممارسة - منح الصلح
مقابلة مع
الأستاذ منح الصلح
بتاريخ الخامس (5) من أيلول 1990 ـ في منزله ـ بيروت
الموضوع: الفكر القومي العربي على صعيد النَّظر والممارسة
نموذج حزب البعث العربي الاشتراكي
أجرى المقابلة: د. مصطفى دندشلي
* * *
د. مصطفى دندشلي: …. أودّ بداية أن أطرح موضوع حديثنا في هذه المقابلة، وبشكل محدَّد أكثر، ضمن الفكر القومي العربي العام، حول سؤال: كيف ترى إلى الفكر القومي العربي قبل تأسيس حزب البعث العربي ونشوئه في سورية عام 1940؟… بمعنى آخر: كيف ترى إلى التيار القومي العربي على صعيد النَّظرية وفي مستوى الفكر من جهة، وعلى صعيد الممارسة العملية من جهة أخرى؟!…. فلنبتدئ بتصوركم لإرهاصات هذا الفكر القومي العربي منذ بداياته الأولى…
الأستاذ منح الصلح: … الشبان الذين درسوا في اسطنبول وألَّفوا جمعيات عربية: مثل المنتدى الأدبي وغيره من المنتديات، كانوا هم البارزين في الساحة الوطنية والقومية في سورية عند نشوء حزب البعث العربي. ولذلك فمن المستحسن أن نرصد نوع الفكر القومي الذي ينادي به هؤلاء في جمعياتهم التي كانت موجودة في اسطنبول أو في باريس أو في بيروت أو في دمشق أو في مصر أو في خارج المنطقة العربية. لقد كانوا ينادون بوحدة ثقافية عامة وبوحدة اجتماعية عربية، قابلة بالرباط داخل الدولة العثمانية. فلم يكونوا ينادون حتى ذاك الحين بقيام الدولة القومية العربية (المنفصلة عن السلطنة العثمانية). كانوا ينادون ويرفعون شعار القومية العربية من الناحية النظرية. فالدعوة للقومية العربية سبقت الدعوة لقيام الدولة القومية. وقبل أن يتخذ هذا الجيل العربي قراره بالمناداة بوجود الدولة العربية، دولة قومية مستقلة، نادوا بالقومية العربية وشدَّدوا على عوامل الجمع بين العرب وأبرزوا عوامل الاختلاف بين مَن هم عرب ومَن هم غير عرب. لقد كان تفكيرهم باتجاه تحقيق الحريات العامة ضمن دولة اتحادية واسعة هي الدولة أو السلطنة العثمانية. ولكن، من ضمن الدولة العثمانية، كانوا (يطمحون) وينادون أن يكون لهذا القوم الذي يسمى بـ "العرب"، كيان ثقافي خاص بهم والحق في ممارسة ثقافتهم وتطورهم الحضاري ضمن هذه الثقافة. إذ إنهم كانوا يعتبرون أنفسهم كعرب وَحدة ثقافية واجتماعية ويجب أن تعامل هذه الثقافة على هذا الأساس. وكانوا يتحدثون عن الحريات وعن الخصائص التي يجب أن تُحترم فيهم.
هل كان هؤلاء العرب يعتبرون أن الأمة العربية تشمل غير سوريا والجزيرة العربية؟… هذا السؤال طُرح وهو مطروح في كتابات غربية وفي كتابات مَن درس هذه الظواهر القومية آنذاك… أريد هنا أن أروي حادثة تدلّ على نظرتهم لهذا الموضوع بالذات. في المؤتمر العربي الأول الذي عُقد في باريس عام 1913، كان رئيس الجلسة عبد الحميد الزهراوي وهو من مدينة حمص، تقدَّم ثلاثة من المصريين الذين كانوا يدرسون في باريس، بطلب الانضمام إلى هذا المؤتمر. فأجابهم المؤتمرون أنه من المستحسن أن لا يشتركوا في هذا المؤتمر. فسأل هؤلاء المصريون سؤالاً واضحاً وجَّهوه إلى رئيس المؤتمر عبد الحميد الزهراوي: هل المصريون عرب أم لا؟!… أجاب عبد الحميد الزهراوي رئيس الجلسة، وأيَّده الحاضرون: طبعاً، المصريون عرب. فاستفسر المصريون قائلين: إذن، لماذا لا نكون نحن أعضاء في هذا المؤتمر؟… فأجاب الزهراوي: إن هذا المؤتمر معقود لدرس أوضاع الولايات العربية في الدولة العثمانية، وليس عندكم مشكلة من هذا النوع.
يقول أسعد داغر في مذكراته إنه كان جالساً في مطعم في اسطنبول وإلى جانبه شخص مصري. وقد اُسْتدل على أنه مصري من هيأته (وملامح وجهه). وكان الحديث يدور بين أسعد داغر وعرب من سورية ولبنان وظهر عليهم الحماسة. فتدخل هذا المصري الجالس قريباً منهم وعليه بوادر المركز الاجتماعي الرفيع ورصانة الموقف. فقال لهم: "إنكم تنفعلون كثيراً في هذا الموضوع الذي تتكلمون عنه. صدقوني إنكم ستكونون نادمين. إن هذه الدعوة إلى العروبة هي من فعل الإنكليز وقصدهم ضرب الدولة العثمانية"…. لماذا ذكرت هذه القصة؟… لأن الشخص الذي قال هذا الكلام هو شخص مهم جداً وهو محمد فريد الذي كان زعيم الحركة الوطنية في مصر وثانياً، لأن هذا الكلام كان يمثل رأي قطاع معيَّن من المصريين الذين كانوا يعتبرون أن هناك حكماً إنكليزياً في بلادهم ويريدون أن يستعينوا ضد هذا الحكم الإنكليزي بالرابطة الشرعية الإسلامية التي تربطهم بالدولة العثمانية وباسطنبول. وكان المصريون يعتبرون أن هذه الحركة العربية إنما هي لإضعاف الدولة العثمانية. فهي تضرُّ بهم وتضرُّ بالدولة العثمانية وتضرّ بالعرب ككل…
إن رأي الفكر القومي العربي، الفكر السياسي العربي، في موضوع مصر عند ذلك الجيل، إنما هو موضوع هام جداً. وإنني قد تعرَّضت له، كما رأيت، لأهميته، ولهذا تعرَّضت له. فهؤلاء الذين كانوا يدعون إلى الفكرة العربية والانفصال عن الدولة العثمانية من الناحية الثقافية والاجتماعية وغيرها، كانوا يعترفون بعروبة مصر، ولكن يعتبرون أن لها خصوصية وأن خصوصية معركتهم "الوطنية" الخاصة فيهم، تجعل لهم وضعاً خاصاً.
إن الفكر العروبي الذي كان يحرِّك هؤلاء (المثقفين والشباب والطلاب العرب) المجتمعين سواءٌ في باريس أو في اسطنبول، كان فكراً راقياً جداً، وكان متقدماً ومتطوِّراً. وعلى سبيل المثال، فإن خطبة عبد الغني العريسي، المتضِّمنة في كتاب "المؤتمر العربي الأول" في بارس، هذه الخطبة راقية جداً من ناحية وضوح الفكر القومي العربي: هذا، ومن ناحية أخرى، فإن جماعة "المنتدى الأدبي"، كانوا على اتصال بساطع الحُصْري. وساطع الحُصْري، وإن لم يكن في ذلك الوقت قومياً عربياً أو مرتبطاً بهم كحركة قومية، ولكنه كان هو من المفكرين والمهتمين في ما يتعلق بالظاهرة القومية وكان يدرِّسها في "دار المعلمين" في اسطنبول. فكان جماعة "المنتدى الأدبي" على تماس وعلى اتصال مع ساطع الحُصْري وكانوا على تماس أيضاً مع رشيد رضا الذي كان يزور اسطنبول وكان من المفكرين الإصلاحيين. وفي حديث مسَجَّل نشرته مجلة "القضايا العربية" لعفيف الصلح الذي كان هو عضواً في "المنتدى الأدبي"، شرح أنه كان "المنتدى الأدبي" يستقبل باهتمام الشيخ رشيد رضا… لقد أشرت إلى ذلك كله لأقول: إن القومية العربية التي كانوا ينادون بها، كانت واضحة في علاقتها مع الإسلام وكانت تهتم بموضوع العلاقة مع الإسلام، بدليل أن الشيخ رشيد رضا الذي هو مفكر إسلامي بالدرجة الأولى وقومي عربي في الوقت نفسه، كان ذا تأثير وهو جزء أساسي من الحركة. أما شكيب أرسلان فكان مع الدولة العثمانية على طول الخط ولم يكن مع الحركة العربية، بل كان ضد الحركة العربية…..
هذه هي نظرة العروبيين إلى الإسلام. وكذلك حدَّدنا نظرتهم إلى مصر. وأما موقفهم النَّظري من الفكرة القومية كفكرة، فقد كان من الصّنف الذي عَبَّر عنه عبد الغني العريسي ومن الصِّنف الذي هو معروف عند ساطع الحُصُري. فإذن، فإن الفكر الرائج في ذلك الوقت لم يكن فكراً متخلفاً. ثم، بعد ذلك، عندما نشأ حزب البعث، كان قد سبق ذلك أن نشأ بعض الحركات القومية الحديثة: "عصبة العمل القومي" كحزب. وجماعة "نادي المثنّى" في العراق.
س: … إذا سمحت، قبل أن نصل إلى تلك المرحلة من تطور الحركة العربية، أودّ أن أطرح سؤالاً، ذلك أنك أنت قد عدت إلى البدايات الأولى، "المنتدى الأدبي" ومروراً بالجمعية العربية الفتاة والتجمعات والحركات العربية الأخرى.
الأستاذ منح الصلح: (مقاطعاً)، لماذا عدت إلى "المنتدى الأدبي" وغيره، لأن جماعة "الكتلة الوطنية" الذين كانوا هم المسيطرون على الحركة الوطنية في سورية ولبنان وفي فلسطيـن، كانوا قد نشأوا في اسطنبول وكانوا أعضاء فاعلين في "المنتدى الأدبي" وفي الجمعيات العربية الأخرى:…
س: … طبعاً، وهذا معلوم، ولكن ما أريد أن أقوله هو التالي: أن نتدرَّج مع تطوّر الفكرة القومية مروراً بالمرحلة الوجيزة وهي مرحلة "الحكم الفيصلي" في سورية وحكومته في دمشق، ولننظر إلى هذه المرحلة وما مدى تأثيرها على الصعيد القومي: هل أعطت أو قدَّمت شيئاً هذه المحاولة العربية الوحدوية على صعيد التطور القومي العربي والفكر القومي العربي وعلى مستوى الطروحات الوحدوية القومية؟!…
ج: … "الحكم الفيصلي" في سورية مهم: أولاً، لقد كان تركيبه وتكوينه قومياً، بمعنى أن الحاكم في سورية كان حجازياً وعراقياً ولبنانياً وفلسطينياً، (أي أن تكوين الحكومة كان عربياً وتضم أعضاء من مختلف الأقطار العربية). إذن، لقد كان حكم الملك فيصل في سورية قومياً أكثر من أي حكم عربيّ آخر، وربما أكثر من كل الحكومات التي تعاقبت في البلاد العربية وعرفها العرب جميعاً في تاريخهم من هذه الناحية بالذات، من ناحية أنهم جماعة قيادية من كل الأقطار العربية يحكمون بلداً (أو منطقة عربية).
س: … هل يمكننا أن نعتبر أن هذه المرحلة عَبْر الحكم الفيصلي قصير العمر، قد أحدثت تطوراً أو بالأحرى خطوة متقدمة على الصعيد النَّظري بالنسبة إلى الطروحات القومية السابقة وبصورة خاصة طرحات "المؤتمر العربي الأول"؟!…
ج: … طبعاً، على الصعيد النَّظري (ولكن من الواضح أن التطور إنما هو على المستوى العملي التطبيقي وكذلك من الناحية النَّظرية القومية العربية، فلم يعد الطرح كما كان قبـل ذلك: حكم عربي ذاتي إداري ضمن الدولة العثمانية، بل حصل انقطاع وانطلقت الدعوة إلى قيام الدولة العربية المستقلة منذ اندلاع الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين من الحجاز عام 1916).
س: … هل ظهرت أثناء تلك المرحلة طروحات قومية عربية متقدِّمة أيضاً أم لا؟!… أو أن هذه الحركة القومية الوحدوية كانت قد أخذت طابعاً سياسياً وإدارياً ودبلوماسياً وحسب؟…
ج: … لم يكن هناك شىء واضح في هذه المرحلة القومية القصيرة. وإنما تألفت أثناء ذلك أحزاب سياسية تحت الحكم الفيصلي. وهذه الأحزاب التي نشأت تحت الحكم الفيصلي، كانت قد أحدثت نوعاً من الترابط فيما بينها: وُجد "حزب الاستقلال" وغيره أيضاً من الأحزاب داخل "المجلس التأسيسي"، وكان فكرهم القومي العربي واضحاً أشدّ الوضوح
س: … تطوَّر هذه الأحزاب القومية العربية فيما بعد، هل مع سقوط الحكم الفيصلي في سورية، نستطيع أن نقول بأن التيار القومي العربي قد "ضُرب" مرحلياً أو سقط وأصيب بحالة من التفكك والانهيار موقتاً بعد مرحلة الصعود وتطوَّره المتطرد؟!…
ج: … لا، لم يُضرب الفكر القومي، لا على الصعيد النظري ولا على المستوى التطبيقي، ذلك أنه بعدما سقط "الحكم الفيصلي" في سورية، ذهب الملك فيصل إلى العراق، إلى بلد عربي آخر يحتوي على بعض المؤهلات المتقدمة على سورية من ناحية الإمكانات البشرية والاقتصادية والقومية. والملك فيصـل الأول بقي وهو في العراق رمزاً قومياً عربياً، بـدليـل أن أحمد شوقي مدح فيصل في قصيدته: يا شراعاً وراء دجلة يجري…. إلى أن يقول: أمة تُنشىء الحياة وتبني… عن الملك فيصل. أحمد شوقي يمدح فيصل في العراق، وهو في زمانه كان لسان الأمة وشاعر المجتمع العربي. وعندما يمدح أحمد شوقي الملك فيصل، فهذا يعني أنه إنسان نموذجي. بالإضافة إلى ذلك أن حكم فيصل في العراق كان له طابع قوميّ: مدير المعارف ساطع الحُصْري، ورموز الثورة العربية الكبرى في الحكم: ياسين الهاشمي وغيره وأنشىء ما يُسمى "نظام الفتوَّة، الهدف منه إنشاء "جيل حديدي"، وهذا ما كان سائداً في تلك المرحلة، ويُطبَّق في المعاهد والمدارس وله علاقة بالتربية الوطنية وبالتنظيم الحزبي شبه العسكري. حكم فيصل في العراق، كان يحمل ملمحاً قومياً عربياً صريحاً ويتَّجه نحوه العرب على هذا الأساس. وكثيرون يذهبون إلى العراق لمتابعة دراستهم وإما للتدريس والعمل هناك، ذلك أن النظرة إلى العراق حينذاك وإلى الحكومة ذات الامكانات الكبيرة كانت كقبلة العرب القومية من قِبَل مختلف الأقطار العربية: من فلسطينيين ولبنانيين وسوريين. وبقي العراق محافظاً على هذا الموقع (كمنطقة جذب أو ارتكاز إلى حين من الزمن). وعندما حصلت ثورة رشيد عالي الكيلاني، قيل آنذاك إن مَن قام بهذه الثورة هم الحاج أمين الحسيني الفلسطيني وعادل العظمة السوري وغيرهم… ما أريد أن أقوله وما أقصده هو أن وجه العراق هو وجه قومي عربي. ولقد كانت الحركة الوطنية في لبنان وفي سورية تطلب من دولة الانتداب عقد معاهدة معها كالمعاهدة المعقودة مع العراق، حتى عندما قام فيصل بنوع من المساومة مع الإنكليز وعقد معاهدة في الثلاثينات، بقيت هذه "المساومة" نموذجية بالنسبة إلى العمل الوطني السياسي في سورية ولبنان. وفي عام 1936، عندما طُرح مشروع المعاهدة بين سورية ودولة الانتداب وهي فرنسا، فُهم ذلك على أن مشروع المعاهدة هذه سيكون شبيهاً بمعاهدة العراق مع بريطانيا دولة الانتداب…
س: … هنا، على الصعيد القومي، لو حاولنا أن نجريَ نوعاً من المقارنة بين سورية والعراق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، هل هناك من دور لمؤسسات قومية عربية أنشئت في العراق: أندية قومية أو حتى أحزاب؟!…
ج: … هناك يأتي في المقدمة "نادي المثنّى. عندما قامت ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، قيل بأن مَن قام بهذه الحركة الثورية، هم جماعة "الكتاب الأحمر"، وهي مجموعة عربية قومية كان ينتمي إليها قيادات الحركة ومنهم: الصباغ وغيره وكذلك الضباط وجماعة "الكتاب الأحمر" منهم مندر السبعاوي وصدّيق شنشل وغيرهما كانوا قد لعبوا دوراً في هذه الحركة الانقلابية… وأعضاء "نادي المثنّى" قوميون عرب يدعون إلى وحدة الأمة العربية وتحرير فلسطين وفكرهم القومي كان متقدماً…
س: … لو أردنا أن نقوم بمقارنة نظرية بين الفكر القومي العربي في العراق والفكر القومي العربي في سورية، هل هناك من فروقات على هذا الصعيد أم لا؟!…
ج: … في سورية، لقد كان انتشار الفكر القومي عاماً ويشتمل على طبقات (أو مساحة) اجتماعية أوسع. الفكر القومي العربي في سورية هو فكر كل الناس (ومنتشر انتشاراً واسعاً ويشمل كل طبقات المجتمع تقريباً. ويحركها الروح القومي العربي والشعور والأحاسيس القومية العربية بصورة عامة). في العراق، انحصر هذا الفكر القومي العربي ضمن نطاق النُّخب (المثقفة من سياسيين وضباط وأدباء وشعراء)، مما يعني أنه كان أقل انتشاراً بين الناس. مثلاً في سورية، لم يكن منتشراً النَّزعات الكردية (أو الإتنيَّة الأخرى) أو عصبيات عنصرية. والمجتمع السوري عموماً هو أكثر تطوراً (أو انفتاحاً على الخارج) من الناحية الثقافية. لذلك فإننا نستطيع أن نقول إن الشعب أو المجتمع السوري أكثر تشبُّعاً بالنهج القومي العربي من المجتمع العراقي (بكلِّيته، ولربما يعود ذلك إلى تكوينه اجتماعياً وإتنوغرافياً وإتنياً). ولكن، هذا لا يعني أنه لم يوجد في العراق مؤسَّسات قومية عربية مهمة وذات تأثير كبير… حتى إن الحكم في العراق، كان له صفة أو سمة قومية عربية: وكما قلت آنفاً، مناهج وزارة التربية (التي وضعها ساطع الحُصْري)، الأمل والهالة التي كانت تحيط بالملك فيصل، و"نظام الفتوَّة"، ولا سيما الكلية الحربية في العراق وهي من المؤسَّسات الراقية والمهمة كثيراً والتي تخرج منها ضباط لعبوا دوراً أساسياً في الحركات الثورية، وحتى في اليمن عام 1948 الضابط جميل جمال وهو خريج الكلية الحربية في العراق، وفي أقطار عربية أخرى. وبالإضافة إلى ذلك فإن أول انقلاب عسكري حدث في البلاد العربية، قام به بكري صدقي في العراق. وحصل عندنا في لبنان شيىء مشابه، عندما كان يتخرج من الضباط اللبنانيين والضباط السوريين من الكلية الحربية في حمص، فكان هؤلاء وأولئك يشعرون فيما بينهم بعلاقة حميمة ورفاق سلاح وصداقة. واستمر ذلك حتى أيام الجنرال فؤاد شهاب. فكان قد ظهر هذا الشىء من العلاقات الحسنة، ومن جملتها دواعي تحسين العلاقات بين سورية ولبنان، وإن الضباط الذين كانوا يحكمون في سورية وفي لبنان، هم خريجو الكلية الحربية في حمص.
لو أردت أن أعود قليلاً إلى الوراء، فإنني أعتقد أن "عصبة العمل القومي" هي أول حزب قومي عربي حديث كان قد نشأ وطمح إلى أن يكون على مستوى العالم العربي كله. وكان أيضاً "جماعة القوميين العرب" أو "الشباب القومي العربي" نشأوا في حلب، وكان ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار، عند تأسيس حركة البعث، قد اتصلا بهذه المجموعة القومية العربية وكانوا على تفاهم وتواصل معهم. ومن وجوههم البارزة ظافر الرفاعي وزير الخارجية في عهد أديب الشيشكلي. وهذه الجماعة القومية قد كانت رافداً قومياً تعاونت فيما بعد مع حكم الشيشكلي.
وهنا نأتي إلى تكوين "حركة نصرة العراق" عام 1941 وهي حدث مهم جداً فسح المجال لتأسيس حركة البعث العربي في دمشق. وكما نعلم. فإن حزب البعث قد تأسس من ضمن عدد من المبادرات منها أو من أهمها مبادرة تأليف "حركة نصرة العراق" وهي تضمّ مجموعات من الشاب المثقَّف للذهاب إلى بغداد تأييداً ودعماً لحركة رشيد عالي الكيلاني.
س: … إلى هنا، أودّ أن توضِّح لي، بحسب معلوماتك، بدايات نشوء الفكر القومي العربي لدى ميشال عفلق، مُناخه وتطوره؟…
ج: … ميشال عفلق نشأ في بيئة جدّ عربية. فهو من سكان "حيّ الميدان" وهو الحي العربي (أو العروبي الوطني) في دمشق. والده بوايكي، يعني تاجر حبوب، يأتي الفلاحون وهم يحمِّلون القمح على الجمال إليه ويأتيه أيضاً العرب إلى المضافة عنده. فالجوّ الذي عاش فيه ميشال عفلق هو جوّ عربيّ. وحي الميدان، سكانه خليط من كل الطوائف وبخاصة من مسلمين ومسيحيين، يظلّهم أجواء عربية مشرقية، ووالده كتاجر قمح على تماس مع العرب في الريف. وهو جوّه الطبيعي. وما أعرفه هو أن والده له حرمته وله احترامه في حيِّه. وعمه حبيب عفلق كان شخصاً بارزاً يسكن في باريس وينشط من ضمن الحركة الاستقلالية العربية ومؤيداً للأمير ومن ثمّ الملك فيصل.
وفي عام 1925، أتى "بلفور" إلى دمشق فاستقبل بمظاهرة كبيرة وكذلك في بيروت وفي كل مكان كان يذهب إليه يقابل بغضب شعبي عارم. في تلك الأحداث، برز الشاب ميشال عفلق في التحركات الطلابية وسجن كطالب مع رفاقه الطلاب في تلك الأثناء وهو منتم للحركة الطلابية. المظاهرات الجماهيرية والطلابية ضد مجيء "بلفور"، كانت قد شملت جيلاً سياسياً كبيراً معيَّناً، وهو الجيل الثاني بعد جيل الرعيل الاستقلالي الأول.
س: … هذا يدلّ على أن ميشال عفلق كان قد نشأ وترعرع ووعى في جوّ قومي عربي استقلالي وطني.
ج: … قال لي مرة ميشال عفلق إن والده ووالد صلاح الدين البيطار كانا من المؤيدين للرعيل الاستقلالي الأول، وكان الإثنان من أنصار الكتلة الوطنية في سورية. وهنا يمكننا أن نشير إلى الاختلاف في نشأتيهما عن نشأة أكرم الحوراني. أكرم الحوارني نشأ في بيئة أخرى: أخواله من آل الشيشكلي وأخوه الكبير، لم يكونوا من اتجاه المعارض لفرنسا ولانتدابها على سورية. بل كان أخوه يقيم خطوط تواصل مع الانتداب الفرنسي وحتى إنه لم يكن من بيئة مندمجة (بالحركة الوطنية الاستقلالية). وعندما ذهب ميشال عفلق إلى باريس، إنما كان ذلك عن طريق حصوله على منحة دراسية حكومية. وقال لي: إن سبب نجاحه في الامتحان للحصول على المنحة الدراسية هو أن موضوع الإنشاء جاء كما يلي: العلاقة بين الأدب والعلم. وكان قبل ذلك قد قرأ "تاييس" لأناتول فرانس، يروي فيه قصة راهب عالِم رياضيات لم يستطع أن يحلّ أعمالاً حسابية رياضية صعبة بطريقة جيدة وصحيحة إلاّ عندما يكون أمامه رقص راقٍ أو موسيقا راقية. فكان بالنسبة إلى هذا الراهب العالِم، كيف أن الفن يُلهم ويشحذ المقدرة العقلية العلمية. فروى لي ميشال عفلق أنه استشهد بهذه القصة والتي تحدثت عن العلاقة الخلاّقة والمبدعة بين "الفن والعلم". فأعجب المصحّح بهذا النص وبمضمونه إعجاباً كبيراً وكان ذلك سبباً في نجاحه في الامتحان وانضمامه إلى البعثة الدراسية في باريس.
وروى لي ميشال عفلق شيئاً من حياته في باريس فقال: كنا مجموعة من الطلاب، مَن في فرنسا مَن كان يؤيد القضايا العربية، فلم يكن سوى اليسار الفرنسي وفي المقدمة الحزب الشيوعي. فكنا بطبيعة الحال نتعاطف معه. ولكن، أنا وصلاح الدين البيطار، لم نكن نستطيع أن نتبنّى النَّظرة السائدة في الأوساط اليسارية نحو نهضة ألمانيا. ذلك أنه في الحرب العالمية الأولى، وفي معاهدة فرساي تحطَّمت ألمانيا وتجزأت، فجاءت حركة قومية سياسية وهي حركة هتلر وحزبه، الحزب الاشتراكي الوطني، يريد أن يوحِّد ألمانيا ويُلغي معاهدة فرساي التي فُرضت على ألمانيا المهزومة عسكرياً. ففي الأوساط اليسارية الفرنسية كانوا ينظرون إلى هتلر على أنه دكتاتور. أما نحن ـ والكلام لا يزال لميشال عفلق ـ فكنا نقول: إنه دكتاتور، هتلر دكتاتور، ونحن ضد الفاشية وضد هتلر من هذه الناحية وضد النازية العنصرية أيضاً. ولكن لألمانيا قضية واسمها قضيّة توحيدها. فنحن، عفلق والبيطار، مع اليسار الفرنسي من حيث وجود الطبقات وصراعها كما يقول الحزب الشيوعي الفرنسي، ولكن كنا نعتبر أيضاً وجود "الأمة"، كما تقول ألمانيا. (إذن التفكير القومي لم يغب عن ذهنيهما).
وأضاف ميشال عفلق قائلاً لي: إن تفكيرنا يتلخَّص في أن هناك حقيقتَين: حقيقة الأمة، وهي الحقيقة المهمَّة بالنسبة إلينا، وحقيقة الطبقة (أو الصراع الطبقي والمادية التاريخية). اليساريون الفرنسيون، وهم ليس لديهم مشكلة وحدة بلدهم، لم يكن بمقدورهم أن يروْا هذا الجانب من القضية الوطنية. فنحن كنا يساريين ولكن كنا في الوقت نفسه (وطنيين قوميين وحدويين) نتبنّى الفكر المبنيَّ على أساس وحدة الأمة وحقيقة وجود الأمة، وليس فقط مقولة الصراع الطبقي… وكنا نحن من هذه الناحية "تجديديّين"، ذلك أن الشيوعيين في بلادنا العربية لم يكونوا يعيرون أيَّ أهمية للجانب القومي وللفكر القومي العربي. وكذلك القوميون العرب في بلادنا لم يكونوا ليروْا حقيقة وجود الصراع الطبقي (أو حقيقة الصراع الاجتماعي ـ الاقتصادي في التاريخ) أو الواقع الاجتماعي للعدد الأكبر من الشعب المظلوم الذي كنا تعبيراً صادقاً عن واقعه الاجتماعي، (أو بمعنى آخر الأمراض الاجتماعية وعمليات الاستغلال والفقر والجهل والبؤس، التي تعيشها الجماهير العربية الواسعة).
س: … قراءات ميشال عفلق، حسب معرفتك، وبمن تأثَّر أكثر ما تأثَّر فكرياً وفلسفياً وسياسياً؟…
ج: … كان الأستاذ عفلق يقول لي بأنه كان يقرأ "الفكر الألماني" وكان معجباً كثيراً بهذا الفكر، لأن "الوحدة العضوية" في المجتمعات، "هي الفكرة الجوهرية التي ركَّز عليها الفلاسفة الألمان وهي الفكرة التي كانت تستهويني وكنت أقرأها كثيراً، وفكرة "فرادة الأمة" (في التاريخ الإنساني بصورة خاصة). وقال لي أيضاً: إنه كان يقرأ في التُّراث (الفلسفي والقومي) الألماني، وكان في الوقت ذاته معجباً بالكتَّاب الفرنسيين: "مرسيل بروست" و"أندريه جيد" ومن قرّاء مجلة Esprit.
س: … وقراءات الأستاذ عفلق في الفكر الاشتراكي أو الماركسي؟… هناك مقال للأستاذ ميشال عفلق نشره في مجلة "الطليعة" السورية عام 1936 تحت عنوان "ثروة الحياة"، يعتبره البعثيون من الكتابات الأولى في مفهوم اشتراكية حركة البعث العربي. في الحقيقة، ليس مقالاً في الاشتراكية بمعنى الاصطلاح، بقدر ما هو يتضمن هذه النفحة الإنسانية. ومطلع المقال يقول: إنه لو أراد أن يبحث عن الاشتراكية، لا يفتِّش عنها في كُتب لينين أو ماركس، وإنما أقول بأن الاشتراكية هي دين الحياة وظفر الحياة على الموت إلخ…
ج: … في الحقيقة، لقد كان الأستاذ عفلق في البدايات الأولى في الأوساط اليسارية والاشتراكية. عندما عاد إلى سورية، كان أحد مؤسسي مجلة "الطليعة" في دمشق وأحد كتّابها البارزين. وإذا كان في الوسط اليساري أو الاشتراكي الماركسي، إلاّ أنه كان يريد دائماً أن يميّز نفسه عن هذا اليسار الاشتراكي الماركسي. فقضيَّته هي قضيَّة التميَّز عن اليساريين في سورية، وليست عن اليمينيِّين الذين حكم عليهم. إن قضيَّة عفلق هي أنه يساري من نوع جديد: يساري تقدمي قومي عربي. فلذلك كان يؤكد دوماً على كل ما يميِّزه عن اليساريين الآخرين ولا يحب أن يتكلم لغتهم السياسية أو الفلسفية). يعني وبكلام أكثر وضوحاً، كان يستطيع ميشال عفلق أن يأخذ أي كتاب صادر عن الاشتراكية ويلخِّص مضمونها وينشرها. وعلى كل حال، فهو يعرف الاشتراكية أكثر مما يعرفها اليساريون في زمانه. ولكنه كان يرى أن هناك توجُّهاً خاطئاً لدى الشيوعيين والحزب الشيوعي في سورية الذي لم يلتفت إلى النواحي التي تتعلق بالقومية العربية وبوحدة الأمة العربية وبتراثها وموقع الإسلام فيها. ولذلك كان يؤكد كثيراً هذه النقاط ويركز عليها، وهذا التأكيد كان تعبيراً عن اعتراضه على طريقتهم وأسلوبهم السياسي والفكري، وليس أبداً تقصيراً عن مجاراتهم. لقد أراد عفلق باعتماده هذه اللغة وهذا الخطاب، أن يضيف عليهم ويدلّهم على أشياء تنقصهم (بكلام آخر: يريد أن يجمع الفكر القومي العربي والفكر الاشتراكي في وحدة جدليَّة وهذا إنجاز بالغ الأهمية وبهذا الوضوح من الناحية النظرية..)
س: … لا شك في أن لكل مفكر تجربة اجتماعية خاصة به، فما مدى تأثير إقامة ميشال عفلق في فرنسا، أقصد اجتماعياً وبحسب معرفتك وتقييمك، وما مدى إفادته فكرياً، سياسياً، عاطفياً؟!…
ج: … سأروي لك هذه الحادثة: سأل مرة أحد الأشخاص ميشال عفلق بوجودي، فقال له: هل "انبسطَّت" (بمعنى هل كان لك علاقة عاطفية) أثناء إقامتك في باريس؟!.. فأجابه عفلق: أقل واحد انبسط في فرنسا هو أنا، في المعنى الذي أنت تقصده…. وهو يريد أن يقول إن هذه الناحية لم تلعب أيَّ دور في حياته أثناء وجوده في باريس.
س: … طيِّب، من الناحية العاطفية ألم يحبّ؟…
ج: … لا أعلم شيئاً حول هذا الأمر…
س: … طيِّب، دراسته في علم التاريخ، بكلام آخر، عندما تجلس مع ميشال عفلق، هل كنت تلاحظ ـ أنا للأسف الشديد لم أجلس معه إلاّ في مناسبات قليلة جداً وخاطفة، وحتى إنه لم تسمح لي الظروف أن أُجريَ معه مقابلة، إذ إنه كان كثير الانتقال والسفر فلم أستطع أن ألتقيَ به ـ أنت، في حديثك معه، هل كنت تشعر أن الشخص الذي تجلس وتتحدث معه، هو مؤرخ، وأنه ينظر إلى الفكر القومي من منظار تأريخي وتاريخي، أم أنه كمفكر قومي أقرب إلى أن يكون كأديب، كشاعر، كفيلسوف؟!… ذلك أن تخصُّصه العلمي والأكاديمي قد كان في علم التاريخ، وتدريسه التعليمي كان في علم التاريخي والتاريخ الحضاري. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى: هل تعتبره قرّاءً، بمعنى كثير القراءة والاطلاع على تيار الفكر والفكر القومي تحديداً؟!..
ج: … نعم، كان يقرأ كثيراً. وكانت له علاقات وصداقات وثيقة مع مثقفين وشعراء ومفكرين وكُتَّاب. كان على تماس ويلاحظ الظواهر الثقافية في سورية وفي البلاد العربية ويرصدها ويتابعها باستمرار. وكان يهتمّ، على سبيل المثال، بمتابعة المناقشات بين القديم والجديد، واتجاهات الأصالة والحداثة. مثلاً، كتب ميشال عفلق مقدمة لديوان الشاعر يوسف الخطيب، وهو شاعر سوري، يقارن في هذه المقدمة بينه وبين بدويّ الجبل ويقول كيف أن يوسف الخطيب يعبِّر عن حسِّ حداثة، وهذا لم يكن موجوداً عند بدويّ الجبل. مثلاً، يقول يوسف الخطيب في إحدى قصائده:
أكـاد أجـزم من شـك ومن رِيَـبِ
هـذه الملاييـن ليسـت أمة العـربِ
يقول عفلق: هذا الشعر الحديث يتضمن في البداية: أكاد أجزم، ومن ثم يستعمل تعبير: من شكٍ ومن رِيَبِ… بينما بدوي الجبل في قصيدته عن سقوط باريس: واشهروا للحقود حقودا… أو مثلاً قوله: إني لأشمت بالجبّار يوسعه طاغٍ ويوسعه ظلماً وعدوانا… يعلِّق عفلق: الشعر القديم يقول: اظلموه، لأنه كان ظالمه وبينما الشعر الحديث لا يقول: اظلموه… إذن، هذا التردُّد عند الشاعر يوسف الخطيب، إنما هي أمارة حديثة، أما عند بدويّ الجبل، هذه القطعيَّة معناها الانتماء إلى المدرسة القديمة…
س: … عندما نقرأ ميشال عفلق، وعند قراءتنا له، ما هي الصورة التي تتكون في ذهننا عن هذا الكاتب؟…
ج: … إن كتابات ميشال عفلق الأدبية من قصص وشعر، وعلى الأخص القصص، بعضها، فيما أعتقد، له قيمة أدبية. الكتّاب الذين كانوا من جيله ـ وأنا لست من جيله فأنا لا أعرفه كشخص منتج أدبيّاً ـ والذين كانوا يعرفونه في تلك الفترة، يقولون عنه إنه كان "وعداً كبيراً" في عالم التأليف والقصة والأدب. وله مناظرة مشهورة بينه وبين منير العجلاني وهو مثقف سوري، الذي كتب عن باريس وحياتها وإعجابه بها. فردّ عليه عفلق في إحدى الجرائد السورية (جريدة "الأيام") عن خفايا فهمه لباريس، في حين أنه هو يرى فيها الثقافة والفكر وما نستطيع أن نأخذ به لأمتنا…
س: … هذا من الناحية الأدبية، فأين هي قيمة ميشال عفلق الفكرية القومية، في رأيك، وإذا فارنّاه، مثلاً، مع بعض المفكرين القوميين المهمين: ساطع الحُصْر، قسطنطين زريق، عبد الله العلايلي، وآخرين غيرهم، كيف يمكن، من وجهة نظرك، أن تبرز لنا قيمة عفلق الفكرية القومية؟!…
ج: … أنا أعتقد أن ميشال عفلق ـ مع احترامي لكل الذين ذكرتهم ـ له خصوصية وله تميَّز. لقد تحدَّث عفلق عن أشياء جديدة وله نظرة خاصة به. هم الآخرون (المفكرون القوميون) لا… مثلاً، موضوع الإسلام، نظرته إلى موضوعة الإسلام، العلاقة بين الإسلام والعروبة. هذه الناحية هي التي ركَّز عليها أكثر من غيره وبصورة خاصة. فإذا أخذنا كلام قسطنطين زريق في ما يخص الفكرة القومية العربية، فلا يختلف عن موقف عبد الغني العريسي، هذا إذا لم نقل ربما يكون أقل منه. كذلك فإن كلام ساطع الحُصُر لا يختلف عن أي كاتب كتب في القومية في ألمانيا أو في إيطاليا. لكن ميشال عفلق إنما يتحدث عن شيىء اسمه: "العروبة" كشخصية (أو كهُويّة) خاصة، مكوَّنة من تراث روحي وحضاري وإسلامي… فهو لا يتحدث عن "القومية" بإطلاق، وإنما عن القومية العربية (ذي الجذور التراثية العربية الإسلامية والأصول الروحية العربية الإسلامية) وعن "الذات" (بمعنى الهُويّة) العربية. بينما المفكرون القوميون الآخرون فإنهم يتكلمون عن القومية عن "الذات" القومية (بمفاهيمها الغربية وبخاصة الألمانية والإيطالية)، وهي تتشابه مع كل قومية وأي قومية أخرى، إلى هذا الحد أو ذاك… في حين أن ميشال عفلق ليس كذلك، (وإنما هو يتحدث عن شىء له خصوصية خاصة به، عن هوية عربية اقترنت برسالة سماوية، لها أصولها وظروفها المميَّزة الفريدة والخاصة بها دون غيرها).
وأهم شىء كتبه ميشال عفلق هو عن موضوع الوَحدة: له مقالة بعنوان، وَحدويو التجزئة، يقول فيه: إن قضية الوحدة، لا أن تأتي في نهاية المطاف، بمعنى أن نسعى لتوحيد الأمة العربية في نهاية المطاف، لا… وإنما الوَحدة، الوحَدة الحقيقية، هي أن نضعها في أول المطاف وفي بداية الطريق، التفكير الوحدوي هو الذي ينبغي أن يكون أساس أي عمل قومي… مناسبة هذا المقال، كما قال لي مرة الأستاذ ميشال عفلق، أنه في عهد الشيشكلي في سورية، كان قد أنشأ حزب التحرير العربي، وأخذ يرفع شعارات قومية عربية ويتحدث كلاماً في القومية العربية، وأنه يدعو إلى قيام وحدة عربية. وفي أثناء ذلك، أرسل الشيشكلي موفدين إلى بيروت لكي يجتمعوا مع أكرم الحوراني، عند لجوء الأساتذة الثلاثة إلى لبنان، عفلق والبيطار والحوراني، ويقولوا له: هذا هو العقيد أديب الشيشكلي رئيس الجمهورية في سورية، يدعو إلى القومية العربية وإلى قيام الوحدة العربية، كما هي مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي. أَخْبر أكرم الحوراني رفيقيه بهذا الاتصال وما يقترحونه… فذهب ميشال عفلق إلى منزله وكتب هذا المقال: وَحدويو التجزئة… فهو ينتقد هؤلاء الذين يعيشون التجزئة وفي التجزئة (بكل معانيها الحقيقية والواقعية)، وبعد ذلك ينادون بالوحدة العربية (لفظاً وشعارات)، فهم غير وحدويين. إذن: هناك مَن هم وحدويون لفظاً، ولكنهم، هم، وحدويو التجزئة. (مثل ذلك كمثل الحكام العرب والقيادات السياسية العربية الذين يحافظون على التجزئة العربية ويعيشونها سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، ولكنهم في الوقت نفسه يدَّعون أنهم مع الوحدة العربية ويرفعون شعارات الوحدة العربية: فهؤلاء لا يمكن أن نسميَهم وحدويين حقيقة وفعلاً، بل هم، كما يقول عفلق، "وحدويو التجزئة").
س: … دعني، إذا سمحت، أن أطرح عليك سؤالاً وهو الأخير في هذه المقابلة، فلا أريد أن أُتعبك، وخصوصاً وأن جلسات أخرى سوف تتبع هذه الجلسة، أقول: عندما نتحدث مع الأستاذ ميشال عفلق، أو أن نقرأ له شيئاً من كتاباته القومية الفكرية، هل يتبادر إلى ذهننا وإلى عقلنا ووعينا أننا نقرأ لأمين عام لحزب سياسي أم المفكر، بمعنى آخر ألا تعتقد أن شخصية ميشال عفلق هي شخصية أقرب ما تكون للأستاذ، للأكاديمي، للمفكر، للمنظِّر، منها لقائد حزب سياسي، لسكرتير حزب، ديناميكيّ متحرك؟!…
ج: … أنا، أعتقد أن ميشال عفلق، لا شك في ذلك، أنه قائد حزبيّ. لأنه لو لم يكن قائداً حزبياً، لم يكن ليقدر أن يلعب هذا الدور في حياة حزبه. هو قائد حزبي. بالإضافة إلى ذلك أنه لم يكن لديه همُّ ولا تفكيرٌ إلاّ بما يمكن أن نسميَه "عالَم الحزب". ولذلك فإن وحدة الهمّ عنده، كانت أمارة حرص قيادي. ولكن، من جهة أخرى، فإنه لمن الملاحظ أن ميشال عفلق قد كان يتصرف على أساس كأنه هو ـ وهو وحده ـ رئيس هيئة التصحيح لمسيرة حزب البعث، أكثر مما هو قائد لحزب سياسي (بالمعنى المباشر والعام للكلمة). رئيس هيئة التصحيح لمسيرة حزب البعث: كان دائماً يتصور أنه هو وأشخاص آخرون في حزب البعث، مكلَّفون أو مدعوّون إلى أن يكونوا في حالة مراجعة دائمة لمسيرة حزبهم. وكان دائماً عنده اعتراضات وملاحظات ونقاط انتقاد يبتعد بها عن مسيرة قيادة حزبه بشكل عام. فهل كان يسلك هذا المسلك ويتخذ هذا الموقف، لأنه كان يعتقد أن هذا الأمر ضروري حتى يكون حزبه ماشياً على الطريق الصحيح، أم أنه كان يسلك هذا المسلك، لأن سليقة المفكر الحرّ عنده كانت تتغلب عليه؟!… لكن، في الفترة التي عرفته فيها، مع العلم أنني بقيت مدة طويلة في الفترة الأخيرة لم أره فيها ـ فأنا كنت أعرفه قبل الخمسينات وبعد الخمسينات من القرن العشرين ـ بعد حركة 23 شباط 1966، التقيت به لوقت قليل في لبنان، وبعدها لم أره قطّ. ولربما كان في آخر حياته شيىءٌ، لم يكن في حياته الأولى.
س: … إن الوقت يداهمنا، ولديّ أيضاً أسئلة كثيرة حول شخصية الأستاذ عفلق لأهميتها أتركها للقاءات أخرى لاحقة، فهناك موضوع أريد أن أطرحه للنقاش وبتوسع أكثر حول شخصيته، إنما الآن عندي سؤال تقييميّ مفاده أنه يظهر للمراقب المحايد، عربي أو غير عربي، بأن شخصية الأستاذ عفلق هي أقرب ما تكون إلى شخصية "نبيّ"، أو إلى شخصية "مبشِّر" أو إلى شخصية "داعية إصلاحية" أكثر بكثير منه إلى شخصية قائد حزب سياسي تقدمي ثوري يلعب دوراً فاعلاً ليس فقط في قطر عربي معيَّن وهو سورية، وإنما أيضاً وعلى وجه العموم في مختلف أقطار الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه… على أساس أن قيادة حزب عربي على هذا المستوى تحتاج إلى شخصية ديناميكية فاعلة متحركة سريعة البديهة، يقظة، نستجيب لتحديات الأحداث وتطورها وتؤثر فيها وتتفاعل معها كي تستطيع أن تسيطر عليها….
ج: … ربما هذا الشىء ناتج من اعتقاده أن قيادة هذه الأمة العربية يجب أن تكون من نصيب شخص مسلم. فكان يعتبر ـ أقول هذا لك شخصياً، هذا الحديث خاص لك ـ ، وكما قال لي، إنه يرى أن الطريقة التي يطرح بها جورج حبش نفسه للزعامة، لزعامة الشعب الفلسطيني، فيها شيىء غير موضوعيّ. هذه الملاحظة منه ـ وكما قالها لي شخصياً ـ وكأنه يعني نفسه (هذه الملاحظة مهمة ويجب التوقف عندها وتفسيرها ومعرفة مدى صحة مطابقتها على شخصية ميشال عفلق). وفي مرة أخرى، سأله مراسل جريدة "التايم" وقال له: إنني أنا اجتمعت بك واجتمعت مع الأستاذ صلاح الدين البيطار. لقد وجدت أن صلاح الدين البيطار لا يكتِب بشكل جيد أو كما يجب أن تكون. فقال عفلق: لا، كتابته جيدة، بل وأصبح يكتب أحسن مني. فسأل المراسل: هل معنى ذلك أنَّك أنت أحسن منه سياسياً وصلاح الدين البيطار ككاتب أحسن منك؟ فأجاب عفلق: ربما يكون هذا الأمر صحيحاً. فأردف المراسل بسؤال آخر: هل تعني بذلك أنك تصلح لرئاسة الوزارة أكثر منه وصلاح الدين البيطار يصلح أكثر منك للكتابة فأجاب عفلق قائلاً: ربما!!… هكذا يفكر ميشال عفلق… إنني أروي لك ذلك لأقول إن الأستاذ عفلق لم يكن يعتقد أن صلاح الدين البيطار أو غيره من السياسيين، أجدر منه على مستوى العمل السياسي.
س: … ولكن مَن يعرف الإثنين عفلق والبيطار يستطيع أن يقارن بينهما وكفاءة أو جدارة أو موهبة كل واحد منهما…. بعد ذلك، سوف نقوم معاً، أنت وأنا، بالمقارنة بين الإثنين… غير أن كل الذين يعرفون صلاح الدين البيطار يعتبرون أنه قد تمرَّس في السياسة وكان طموحاً سياسياً وهو ديناميكي وإداري وتنظيمي.
ج: … إنني أركِّز على نقطة معيَّنة وهي أنه ربما ميشال عفلق كان يعتقد، انطلاقاً من وضعه وكونه مسيحياً، أو يظن الناس أنه مسيحي أو منظور إليه على أنه من الأقليات المسيحية في المنطقة العربية، فلربما يعتبر أنه لكونه شخصاً منظوراً إليه أنه ينتمي إلى أقلية، هذا يجب أن يحدّ من ظهوره على مسرح القيادة السياسية العملية، لأن هذا الشىء يخلق تعقيدات ضارة بمسيرة حركته السياسية والقومية العربية على الساحة السورية والعربية على حد سواء.. لقد ذكرت لك قصة عفلق وقصة جورج حبش وصلاح الدين البيطار، حتى أصل لأقول لك هذه النقطة بالذات: إنه هو، ميشال عفلق، كان يرى في نفسه الكفاءة السياسية. ولكن، موضوعياً، يعتبر أنه هو كمسيحي ربما له الحق في أن يلعب أكثر من دور "القديس" و"النبيّ، بل أن يلعب دور القائد السياسي العملي. بمعنى أن الرأي العام قد يقبله على أنه "المفكر القومي"، ولكن لا يقبله غير ذلك، لا يقبله رئيس دولة، بل يقبله رئيس حزب سياسي، لا يقبله رئيس جمهورية، وإنما يقبله أقل من ذلك… هذا شىء واقعي. وهنا أيضاً أريد أن أقول شيئاً آخر وهذه النقطة أنا أركِّز عليها لسبب، لأنني أعتقدها أمراً أساسياً: لقد حكى لي مرة شخص وقال: كان ميشال عفلق في اجتماع صغير في مرحلة تأسيس الحزب، فالتفت حوله فوجد نفسه محاطاً بأربعة أشخاص مسيحيين. فانتبه لهذا الأمر. فقال لهؤلاء الأشخاص وهم: إلياس فرح ومعن بشّور ونقولا الفرزلي وشخص آخر: أريد أن أقول لكم شيئاً: مسيحي عربي من الجائز أن يكون، من الممكن أن يكون إنسان عربياً ومسيحياً في آن، مسيحي عربي نهضوي وتقدمي وأخلاقي ضروري وجوده، والمساواة بين المواطنين في الدولة العربية الواحدة، ولكن بعثي ومسيحي لا يجوز أن يكون الوضع على هذه الصورة: بمعنى أن يعتبر الواحد نفسه طليعة ونموذجاً وقدوة ومحركاً لروح الأمة العربية وواصل حاضرها بماضيها وأن يكون مسيحياً، فهذا لا يمكن أن يكون الحال كذلك. فاذهبوا واعتنقوا الإسلام ومن ثمَّ انتسبوا إلى حزب البعث… (هذا شىء أو رأي أو موقف في منتهى الخطورة، وهو يتناقض أكاد أقول كلياً مع ما هو واقع على أرض الممارسة والحياة السياسية العملية داخل حزب البعث أو خارجه). وهذا ما أقوله وأضعه بين هلالين وهو لك بصورة خاصة.
س: … ولكن ما أنا أراه، ولنأخذ المسألة بشكل مجرّد، هل تتكوَّن في شخصية الأستاذ عفلق وتقوم عناصر مقوِّمات القيادة السياسية، نعم أم لا، هذه هي القضية الأساسية؟!…
ج: … عملياً، إذا لم يكن عنده كل مقوِّمات القيادة (أو الزعامة) السياسية، إنما هو أكثر إنسان توافرت فيه متطِّلباتها منهم جميعاً: كل واحد من القادة في حزب البعث كان ينقصه أشياء معيَّنة. ولكن ميشال عفلق قد توافرت فيه صفات بمجملها نسبياً أكثر منهم، أكثر من القادة الآخرين، لأنه هو عملياً كان قائداً للحزب منذ نشوئه حتى وفاته. فإذن، إذا جئت بالقائد السياسي النموذجي وقارنته به، فلا شك في أنه ينقصه أشياء أو صفات معيَّنة. ولكن إذا أخذت ميشال عفلق بالمقارنة مع كل واحد من قادة الحزب، فلربما يمكننا أن نجد أنه يتمتع بصفات قيادية أكثر من القادة الآخرين. خذ مثلاً صلاح الدين البيطار، كان يحرد سنوات ويترك العمل الحزبي ويعلن أنه لم يعد له علاقة بالحزب، في حين ميشال عفلق لم يفعل ذلك ولا مرة في حياته. فليس من صفات القائد أن يحرد ويترك العمل الحزبي!.. فعلى مَن تركت تحمُّل المسؤولية القيادية؟… القائد، ومَن يعتبر نفسه قائداً. لا يترك الحزب ولا للحظة: صلاح الدين البيطار ترك الحزب. أما ميشال عفلق، فلا يعتبر نفسه بعيداً عن الحزب ويعيش خارج حزبه، بينما القادة الآخرون، عملياً، كانوا يتصوَّرون أنهم يعيشون خارج حزبهم: صلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني كذلك.
الخلاصة: إذا أخذت ميشال عفلق مقارنة مع غيره من أعضاء قيادة الحزب، فهو يمتاز عنهم في كثير من الوجوه بمجمل المقومات، وأيضاً بالمقارنة مع منيف الرزّاز، فهو يفوق من هذه الناحية وعلى مختلف المستويات منيف الرزّاز… ربما يكون بعض المقومات عند منيف الرزّاز، ليس موجوداً عند ميشال عفلق… ولكن بالمجمل العام تتوافر في شخصيته القيادية المقومات أكثر من الرزّاز. بدليل أن هذا يترك وذاك يبقى… القائد: مَن هو القائد؟!.. القائد، قبل كل شىء إنما هو صفة معنوية، وهو أن يعتبر نفسه باستمرار مسؤولاً عن مسيرة معيَّنة ولا يستطيع أن يتصور نفسه خارج هذه المسيرة ولا يستطيع أن يتصور هذه المسيرة بدونه. إذن، هذه هي الصفة الأولى. لو كان القائد عنده كل صفات الأرض، وليس لديه هذه الصفة الأساسية، فلا يتَّصف بصفة القائد. وهذه الصفة القيادية الأساسية نادراً ما تتوافر في شخص. وعندما تتوافر فيه هذه الصفة، يكون هو "أبا الحركة" (وأمها).
س: … ولكن، عندما نحن نركّز على هذه الناحية ونحاول أن نقيِّم هذا الجانب من الشخصية القيادية، فإننا ننظر وبوجه خاص إلى الناحية الديناميكية، سرعة الحركة، الحيوية العملية، الحسم، الحزم…
ج: … ميشال عفلق، كان حازماً. في مرحلة الانفصال، هو أول مَن حزم أمره في أن يكون ضده، في حين أن غيره من قيادة الحزب، بقوا مدة لم يحسموا موقفهم. عندما وقع الانفصال، وكان هو هنا في بيروت، قال وأعلن أنه ضده، وأن هذه الحركة لم تكن موجَّهة ضد عبد الناصر فقط، وإنما هي موجَّهة ضد كل مشروع وحدوي. لقد حزم ميشال عفلق أمره من أول لحظة، ومشى في هذا الخط. بينما صلاح الدين البيطار تراجع بعد التوقيع على وثيقة الانفصال، وأكرم الحوراني استمر في خطة.
س: … نكتفي بهذا القدر من الحوار الشيَّق والممتع، وسنتابع المقابلة في المستقبل القريب، ونبتدئ بتحليل الشخصيات الأخرى، بعد تحليلنا لشخصية ميشال عفلق، شخصية صلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني والمقارنة بين هذه الشخصيات القيادية الثلاث، ومن ثمَّ تتدرج منذ نشوء حزب البعث والمراحل التي مر بها وتطوره، وبعدها مقارنة حزب البعث والناصرية وعبد الناصر وقادة البعث من جهة أخرى…