مداخلـة الدكتور محمد الجذوب - ذكرى 32 لإستشهاد معروف سعد
مداخلـة
الدكتور محمد الجذوب(*)
صيدا كانت ولا تزال، منذ فجر التاريخ، منبت الرجال الأبطال، ومصنع القادة الأحرار، وقلعة الأفذاذ والمبدعين في كل فن.
ولكل إنسان ذكريات حميمة عن المدينة التي نشأ فيها وترعرع، يستعيدها في كل مناسبة، ويعتزّ بها، تملأ وجدانه فخراً كلما خلا إلى نفسه أو جرى الحديث عنها أمام الآخرين.
ومن أعزّ الذكريات عندي معرفتي بقائد مناضل بطل أمضى حياته في النضال المتواصل الشاق من أجل بلده ووطنه وأمته، وكان، بشهادة الجميع، مثالاً يُحتذى في شجاعة الرأي والموقف والعمل.
لقد نُسجت الأساطير حول القوة الجسدية التي كان معروف سعد يتمتع بها، والتي أثارت الإعجاب وحرّكت الخيال. إلاّ أن قوته الحقيقية كانت تكمن في العديد من الصفات والخصال السامية، الوطنية والإنسانية، التي عُرفت عنه، وفي طليعتها محبة الناس، واحترام الآخر، والتواضع الجمّ، والتسامح مع الاخصام، والدفاع عن كل مظلوم أو مضطهد، والشجاعة الفائقة في اقتحام الأخطار من أجل الذود عن المبادئ والثوابت والقِيَم، والصمود المذهل أمام الصعـاب والنكبات، والمقدرة الهائلة على زرع الأمل والتفاؤل والإقدام في نفوس الأجيال.
إنني كصيداوي ولبناني وعربي أحمد الله عزّ وجلّ على أنني عاصرتُ مرحلةً من أروع مراحل الوجود العربي الحديث، هي مرحلة المدّ القومي والزَّخم الشعبي والزعامة الناصرية. إنها عصر جمال عبد الناصر، العملاق أو المارد العربي الأسمر الذي علّمنا كيف نرفع رؤوسنا بعزّة واقتدار بعد أن طأطأها الاقطاع والاستعمار،
وعلّمنا كيف نسعى لتحقيق الوحدة العربية بعد أن كانت حلماً بعيد النال،
وعلّمنا كيف نعمل على تحرير الأرض العربية بعد أن بقيت قروناً مرتعاً لشياطين القمع والقهر والابتزاز،
وعلّمنـا كيـف نقـول: لا للاستعمـار ولا للرجعية، ولا للصهيونية، ولا للاحتلال، ولا للاعتراف بإسرائيل، ولا للضغوط الأجنبية، ولا للدولة الطاغية الباغية التي خطفت واستعبدت بشراً من أفريقيا، واستخدمت أسلحة الإفناء ضد الأبرياء في هيروشيما وناكازاكي، وأيّدت وناصرت وموّلت الكيان الصهيوني العنصري في كل اعتداءاته وانتهاكاته للمبادئ الدولية،
وعلّمنا كيف أن كرامة الأمة لا تسلم من الأذى أو العدوان حتى تُراق على جوانبها الدماء، وأن الوطن الجدير بالحياة الحرة الكريمة تُشيّده الجماجمُ والدمُ، تتهدّم الدنيا ولا يتهدّمُ،
وعلّمنا كيف نصحو كل يوم ونترنم بأشعار العزّة: بلاد العرب أوطاني، من الشام لبغدان، ومن نجدٍ إلى يمنٍ، إلى مصر فتطوان، فلا حدّ يُباعدنا ولا دينَ يفرّقنا. نحن الشباب لنا الغد ومجده المخلّد، شعارنا على الزمن عاش الوطن على قدر أهل العزم والشموخ تأتي العزائم. وما نيل المطالب بالتمنّي وإنما تؤخذ الدنيا غلاباً،
وعلّمنا كيف أن المسؤول أو الحاكم أو الزعيم يرحل عن الدنيا الفانية لا يؤرّق جفنه أو قلبه أو ضميره عقار أو مال حصل عليه بوسائل غير مشروعة،
وعلّمنا كيف نفاخر برايتنا العربية الخفاقة التي تمثّل بألوانها الأربعة قيمنا ومواقفنا العربية: بيضٌ صنائعنا، سودٌ وقائعنا، خضرٌ مرابعنا، حمرٌ مواضينا.
وعصر جمال عبد الناصر كان، في لبنان، عصرَ معروف سعد. بل كان معروف سعد، في لبنان، "ناصر" صيدا ولبنان.
كان معروف سعد بطلاً قومياً وثائراً بامتياز، تأثر بتعاليم بعد الناصر ومبادئ ثورته، وكان، بسلوكه وتصرفاته وأفكاره، من الأوائل المتفوقين في مدرسة عبد الناصر. وكان أولَ تطبيق عملي لأهداف هذه المدرسة القومية رفضُ التبعية والانخراط في الأحلاف العسكرية الاستعمارية. وكانت ثورة العام 1958 في لبنان ضد مشاريع الأحلاف العسكرية شاهداً على ذلك. وكان معروف سعد أحد قادتها الكبار.
ولو تعمقنا في دراسة السيرة الذاتية لمعروف سعد لوجدنا أن الحمية القومية والروح الثورية والنقمة العارمة على الهيمنة الأجنبية وعملائها في الوطن كانت تعمر قلبه منذ بداية شبابه. ونكتفي بمثليْن حدثا في الثلاثينات من القرن المنصرم قد لا يذكرهما شباب اليوم الذين لم يُقدّر لهم العيش في سنوات الانتفاضات في فلسطين وسنوات ما قبل الاستقلال في لبنان.
ففي العام 1935، بدأ معروف سعد كفاحه المسلّح من أجل فلسطين. وكان آنذاك في الخامسة والعشرين من العمر، وكان يزاول مهنة التدريس في مدرسة البرج الإسلامية في حيفا. وفي هذه الفترة كانت ثورة المناضل الشيخ عز الدين القسام في أوجها. وأمام الفظائع والجرائم التي كانت القوات البريطانية المحتلة تقترفها، بالتواطؤ مع العصابات الصهيونية، ضد عرب فلسطين لإرغامهم على القبول بالتهويد، إلتهب الحسّ القومي لدى معروف سعد فراح يُعدّ في مدرسته أنواعاً من القنابل والمتفجرات ويُلقيها ليلاً على المنشآت البريطانية والصهيونية، ويعود نهاريْ الخميس والجمعة من كل أسبوع إلى صيدا ليعمل على تنفيذ قرار مقاطعة البضائع اليهودية، ومنع تصدير الخضار والفواكه من لبنان إلى اليهود في فلسطين.
وكان معروف ورفاقه يتصدّون للمهربينن ويتربّصون بالشاحنات التي تعبر صيدا باتجاه الناقورة، محملةً بالبضائع لليهود والبريطانيين. كانوا يوقفونها وينزلون السائقين منها ويُلقون بحمولتها على الأرض، ثم يتلفونها.
وشجاعة معروف تجلّت بأبهى صورها في 12 تموز 1936، عندما انطلقت في صيدا تظاهرة سلمية للاحتجاج على سياسة الإرهاب والقمع التي تمارسها سلطات الانتداب في فلسطين ضد زعماء الحركة الوطنية. وعندما وصلت التظاهرة إلى منتصف بوابة الشاكرية أمر الضابط المسؤول عن الأمن جنوده بإطلاق النار على المتظاهرين، فسقط منهم شهداء وجرحى. وأمام الهيجان الشعبي انسحب الجنود إلى داخل القشلة. وعندما بلغ معروف الخبر توجّه فوراً إلى القشلة واقتحم بوابتها الكبيرة في جرأة ومجازفة نادرين، فانهمر الرصاص عليه من كل جانب، فاحتمى بأحد السلالم بعد أن أُصيب في كتفه برصاصةٍ أدّت إلى شل أحد أصابع يده اليسرى.
والحديث عن شجاعة معروف ونضاله وخصاله حديث طويل لا نهاية له. والوقت المخصص لمداخلتنا لا يسمح بذلك.
إن حياته كلها كانت حافلة بالنضال والكفاح والصخب والإثارة. وهي تحتاج إلى مجلدات لكتابة تفاصيلها. ومن سماتها البارزة أنها امتزجت بتاريخ صيدا الوطني، وتاريخ الحركة الوطنية في لبنان، وتاريخ الثورات في فلسطين والوطن العربي، وتاريخ الشعوب التي عانت مظالم الاستعمار والاستغلال.
حياته سجلّ ناصع يرسم معالم المعارك التي خاضها في مجالات النضال السياسي والاجتماعي والإنساني والسلم الأهلي، في لبنان والوطن العربي والعالم النامي.
إن معروف يمثل طرازاً نادراً من الأبطال الذين تمتزج في شخصيتهم الرجولةُ بالإباء، والشجاعةُ بالحكمة، والقوة بالرقّة، والهيبة بالابتسامة، والواقع بالأسطورة.
إن شباب اليوم في أمسّ الحاجة إلى استلهام مواقفه والمحطات المشرّفة في مسيرته التي انتهت باستشهاده وهو يدافع عن حقوق الصيادين والفقراء.
وستبقى ذكراه متوهجة وخالدة في قلوب كل الأجيال، وستبقى نبراساً للشعوب التي صمّمت على النضال في سبيل تحررها ووحدتها وتقدمها.
إن معروف سعد هو القائل:
ـ إرادتنا تعيد كرامتنا.
ـ إذا أتقنّا صناعة الموت ربحنا الحياة.
ـ المؤمن بالعدالة والحرية لا يفكر في نتائج أفعاله عندما يخوض المعارك دفاعاً عن الشرف والكرامة.
ـ نحن والمقاومة في خندق واحد، قدرنا مصير مشترك ومستقبل واحد.
وقبل ترك المنصّة أرى من واجبـي أن أشير باعتـزاز إلى بطل آخر من صيدا تداول النيابة ورئاسة البلدية، منذ الخمسينات من القرن الماضي، مع معروف سعد. إنه المغفور له الدكتـور نزيه البزري الذي تذكره صيدا بكل إجلال وتقدير لخدماته الجليلة وتضحياته الكبيرة ومواقفـه الوطنية في مجالات كثيرة نعجز، في هذه العجالة، عن تعدادها. نكتفي بثلاثة منها:
1 ـ في مجال الطبابة. فمعظم الصيداويين وأهل الجوار يشهدون بأنه كان الطبيب المداوي لكل بيت، يلبّي كل طلب، ويعالج كل مريض، ولا يسأل، في معظم الأحيان، عن الأجـر.
2 ـ في مجال الصمود في وجه العدو الصهيوني عندما اجتاح لبنان في العام 1982. فأهل صيدا يفاخرون بأن نائبهم لازم المدينة في تلك الفترة العصيبة وتحمل أوزار المعاملات السيّئة من جانب جنود العدو، وبثّ في نفوس السكان روح الصمود والعِبَر والمقاومة، وأعطى، بسلوكه الرائع، مثلاً في الوطنية.
3 ـ في مجال العمل السياسي الرفيع، المقترن بالأخلاق الفاضلة. فالمنافسة بين نزيه البزري ومعروف سعد على النيابة لم تتجاوز يوماً سقف المباراة السياسية الودية بين أخوين يؤمنان بأنْ لا فضل لنائب صيداوي على نائب صيداوي إلاّ بمدى ما يقدم للمدينة والوطن من خدمات. ولهذا لم تعرف صيدا، في تاريخها السياسي المشترك بين الزعيمين، مساجلات ومهاترات وخصومات يندى لها الجبين خجلاً. وجاءت حادثة استشهاد معروف سعد دليلاً على النيّات الطيّبة والعواطف النبيلة والتعاون الصادق على الخير والبر. فقد أُصيب معروف برصاص الغدر عندما كان يتظاهر، جنباً إلى جنب، ويداً بيد، مع الدكتور نزيه البزري، دفاعاً عن حق مشروع لفئة كادحة من الصيداويين أراد الحكام آنذاك حرمانها من مورد رزقها الحلال.
في الختام تحية من الأعماق إلى ذكرى البطلين الكريمين، فالأمم الحية تحيا بذكرى أبطالها، وتستلهم مآرثهم لتجدّد حياتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ مساء الثلاثاء 6 آذار 2007/ في مركز معروف سعد الثقافي بمناسبة ذكرى مرور 32 سنة على استشهاد معروف سعد عام 1975/ شارك في الندوة توفيق عسيران/ باسل عطا الله إلى جانب الدكتور محمد المجذوب.