لبنان الغد: أية هُويَّة؟!.. كلمة الدكتور نزيه البزري
لبنان الغد: أية هُويَّة؟!..
كلمة الدكتور نزيه البزري
الغدُ في حسبان الزمان، له حاضرٌ وماضٍ. فإذا أحببنـا التَّنبُّؤَ بالغد، وجب علينا معرفة الحاضر وما سلفه من ماضٍ. إذا تعاقبت الانتفاضات في لبنان، وإذا طالت الحرب اللبنانية، فإن مردَّ بعضُ ذلك لتجاهل الحاضر والواقع، وللتزوير في التاريخ. ولهذا وجب علينا، ونحن نعدُّ أنفسنا للبنان الغد الأفضل، أن نتمحَّص حاضرنا بكل موضوعيةٍ وتعقُّل وتبصُّر غير مستسلمين لعواطفنا وأهوائنا وتمنياتنا. فالحياة وجودٌ واقعٌ نتعامل فيه ومعه على هذا الأساس. وإذا كنّا نعود إلى الإيمان فقط، فالعودة للإيمان ليست في تخطيط مسيرتنا كحلِّ أزمتنا، وليس الإيمان اتِّكالاً وتسليماً فحسب، بل هو: "إعقل وتوكَّل" (وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملكم ورسوله والمؤمنون (ص ع).
فالإيمان، كما أعرف، يعطينا الشجاعة على الإقدام، ويهدينا للصدق في أعمالنا ومسيرتنا. وإني لست من دعاة الخلط بين العمل والإيمان، فإن لكلٍ شأناً يُغنيه وطريقاً نتَّبعها. وأتمنى على كل مواطنينا، أكانوا أصحاب رسالة روحية يؤدّونها أو أصحاب اجتهادٍ ينشُرونه أو أصحاب عمل يُنجزونه، أن تكون العقلانية أولاً طريقة تفكيرهم. فالعقْلُ العربي الذي يُتَّهمُ بإلقائه كلّ الأمور على الإيمان، لم يكن كذلك في إبَّان نهضته، بل كان فاعلاً، جابه جبابرة تلك العصور من محاربين، ومن ملوك، ومن مفكرين. وكان واسع الصدر، فهضم من ثقافة تلك الأمم من يونانيةٍ وبيزنطية ورومانيةٍ وفارسية وهندية وغيرها، ما أغنى الثقافة العربية التي بدورها كانت من أكبر عوامل النهضة في العالم المتحضّر.
إن الدّين ثروة إنسانية، تُطلق الإنسان من عبوديته لغرائزه وأنانيته، إلى الإنسانية المميَّزة وإلى العقلانية. أما أن نجعل الدين أداةً لخلافات ومَطيَّة لتحقيق مكاسب فردية أو جَماعية، فامتلء التاريخ بمثالب ارتُكبت باسم الدين، وهو أبعد ما يكون عنها. وإذا انحدرنا في علاقاتنا إلى هذا الحَدِّ باسم الدين وباسم الحفاظ على مِنْعته، ولحماية طائفة معيَّنة، فإننا نكون قد بعدنا عن ديننا واتبعنا أهواءنا وأنانيتنا.
وفي لبنان بالذات حيث لا تزال الطائفية السياسيّة تتحكَّمُ بالدولة وتُشكِّل قاعدتها في الحُكْم وتصبغُ مؤسساتها بمثالبها، فإنها وراء هذه الانقسامات والانتفاضات والحرب التي يعاني منها وطننا لبنان. لتكن لدينا الشجاعة: لنتحرَّر من الطائفية السياسية، تاركين للأديان قدسيتها وحرية إقامة معابدها وحرية الأفراد بممارسة أديانهم وعباداتهم لتَطْهُرَ أنفسهم في خدمة المواطن.
إن العقـل الإنسانـي الـذي ميَّزه (أي ميّز الإنسـان) عن المخلوقات كلها (ولحدِّ اليوم، لا نعرف شبيهاً للإنسان في أيِّ من العوالم التي نعرف عنها شيئاً ما، لا حدَّ لطاقته. فكلما استعنت به، ازداد اتِّساعاً ونمواً وأكثرَ عطاءً.
فلبنان الغد، أين لبنان اليوم؟… فالحرب التي خاضها الشعب، فئةً ضد أخرى، ستبقى مستعرة، إن بقيَ أبناؤه يعتقدون أن لبنان الأمس سيعود لبنان الغد. فهذه الحرب أطلقتْ طاقاتٍ كانت مكبوتة، فتبارى الناس بإظهار طاقاتهم. فئةٌ رجعت إلى الغاب، ولن يُكتب لها النصر، وفئةٌ بقيت تعيش في أحلامها فتخطاها الزمن، وفئةٌ أعلنت وسارت على درب الواقع العقلاني والتقدمي، فأخذ صوتها يرتفع يوماً بعد يوم، رغم أزيز الرصاص ودويّ المدافع وعشرات آلاف الضحايا. إنها، لا شك، هي التي ستقرِّر لبنان الغد.
إن شاباً صيداوياً وَسِعَ رزقُه، قام بدراسة تنموية. فإن دلَّ عملُه هذا على شيء، فهو يدل على تصوُّرٍ واقعيٍّ عقلانيٍّ تقدميٍّ للبنان الغد. إنها الحافز لمزيد من الدراسات المجدية والعلمية، وهي مرجع يفيد كلّ مثقف منه. فلبنان هو قرار إرادة شعبية لإعادة بنائه على أسس علمية وتطورية وموضوعية وتقدمية. وإذا ـ لا سمح الله ـ وبتأثيرات خارجية وداخلية، أُبقيَ على لبنان كما كان، فالشعب اللبناني سيتفجَّر بحروب داخلية أشدّ عنفاً وأكثر دماراً. لهذا، كان الشاب سباقاً، فطرح دراسته عن لبنان الغد، فشكراً له. فقد أضاف مَكْرُمَةً جريئةٍ وثمينة لمكروماته السابقة، وهي كثيرة.
إن هذه الحرب خَلَّفَتْ على الأرض فئاتٍ جديدةٍ وعديدةٍ من حملـة السلاح والشَّبَّاحين، فماذا نحن فاعلون بهم؟ إني أقترح أن يصار إلى تأهيلهم تأهيلاً واسعاً وعميقاً لنزوِّدهم بالعلم والحِرَف اليدوية والصناعية، ليعودوا إلى خِضَمِّ حياةٍ جديدة خيِّرةٍ ومثمرةٍ، تفتح أمامهم آفاق العمل الذي آمل أن يجعل منهم ثروات وطنية عوضاً من أن يصبحوا عبئاً وطنياً.
إن العلاقة بين شرائح المجتمع كالموظفين والدولة، والعمال وأرباب العمل، والتجار والمستهلكين، كلها علاقات مختلفة. فيجب وضع هذه العلاقة على أسس إحصائية وعلمية وبشكل تقدمي، يوفَّر لها الطمأنينة وحماية الدولة لهم. وأقترح أن يُنشَأَ مجلسٌ اقتصاديٌّ اجتماعيٌّ يقرِّر هذه العلاقة الموزونة والعادلة.
إن جيشنا يتمتَّع بتدريب عالٍ، ولكنه جيش ضائع، لا هدف له. فعلينـا تعديل قانونه، ليصبح ذا هدف (وطني وتحرُّري). وكذلك تأمين الخدمة الإجبارية ليؤدي كل مواطن واجبه المقدَّس. وعلينا اليوم أن نحقنه بدم جديد. فقد شاخ، إذ إن معدَّل العمر فيـه يبلغ 35 سنـة، مما أفقده عنصر الشباب وعنجهية العسكر وسرعة حركة الشباب.
إن اللبنانيين، وحتى تترسَّخ فيهم رابطة الوطن والمواطنية والانتماء الوطني، يتوجب على الدولة القيام بواجب ضمانهم الصحي وضمان البطالة وضمان شيخوختهم مع ضمان أمنهم. على الدولة أن تباشر فوراً بتنفيذ اتفاق الصحة العالمية: الصحة للجميع في سنة 2000.
إن نظامنا الاقتصادي الحرّ يجب أن نقيه من فوضى وعبث اللاّعبين والفوضويين. فنجعله نظاماً حراً منظَّماً نقيه من لعب المافيا والباحثين عن الذهب.
إن نظامنا التربوي، يجب أن يصبح النظام الجامع بين المواطنين، وذلك بتوحيد كُتب التاريخ والاجتماع. وأما اللغات، فتمنياتي النهوض باللغة العربية حتى تصبح لغة العلم عند شبابنا، غير ناسين أهميَّة اللغات الأجنبية، لما فيها من تآليف علمية، عصرية وتقدمية. فكل لغة نتعلَّمها تنمّي شخصية اللبناني. ولكن وجب أن يتمكن من التفكير بلغته الأم حتى لا تضيع شخصيته وتضعف. ولا بدّ من تنشئةٍ التنشئة الديمقراطية التي تحترم آراء الآخرين، وتُسهِّل لهم حرية التفكير والقول والتعبير والنشر والعبادة.
إن لبنان لا يُحكم إلاّ بالديمقراطيـة. وإن نُظم الإدارة، يجب أن تكون ملائمة للديمقراطية التي ننشدها ونتوافق عليها. فنقوِّي المجالس المحليـة في البلديات والمحافظات. فلبنان لا يمكنه البقاء خارج الديمقراطية. ولما حاول الحكام التَّسلُّط والابتعاد عن الديمقراطية، تفجرتْ حربٌ شرسة، أحلَّت الموت بأبنائـه، والدمار في بنائه، والخسارة في اقتصاده. وبناء الديمقراطية هو بناء برلماني، يمثِّل إرادة الشعب بالأكثريـة، تاركاً مكاناً للمعارضة التي بدونها لا تستقيم الديمقراطية. وهذا التمثيل، يتَّفق عليه المثقفـون، ليصبح طريق الحُكْم في هذا الوطن، مشجِّعين العمل الحزبي لتبقى اللعبة البرلمانية سيـدة الموقف، والمعارضة المراقب الأول لحسن سير الأعمال.
إن تطوير لبنان يتمُّ بتطوير شعبه وتعليمه وتهيئة الفئة الأساسية فيه من مهنيِّين وحرفيِّين وعمال ومفكرين. وهذا التعليم، يجب أن نرسمَ مسيرته بشكل يُغني اقتصادنا ويسدُّ حاجاتنا الغذائية والعمرانية والاجتماعية.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الشرائح الاجتماعية في المجتمع اللبناني كالعمال والأطباء والمهندسين والمفكرين والاقتصاديين، غابوا عن الساحة في الحرب. فذهب كلٌّ منهم يستجلب النفع لفئة معيَّنة من وطنٍ مخرَّب مدمَّرٍ، بدلاً من أن يحرِّرَ هذا الوطن من أعدائه واللاعبين بمصيره.
إن بناء لبنان يبقى ناقصاً، إن هو تخلَّى عن مقاومة العدو الإسرائيلي لتحرير أرضه ونشر سلطته على كل شبرٍ من الوطن حتى الحدود المعترف بها دولياً، والاستمرار بالمطالبة بتنفيذ قرارات مجلس المن والأمم المتحدة القاضية بانسحاب إسرائيل فوراً وبدون شرط. وحتى تصبح المطالبة فاعلة، علينا تصعيد مقاومتنا ضد العدو الإسرائيلي. ويصعب توحيد لبنان إذا لم نحقِّق تحرير كامل ترابه.
وهذا يتطلّب من لبنان الذي نتمناه، أن يكون ابن هذه المقاومة وحاميها وحاملها. إن كل المؤسسات يجب تقويتها وإصلاحها لتحمل حكم البلد بصورة ديمقراطية صحيحة، ولتحتوي الدولة أكبر نسبة من الفاعلين على أرض الوطن. ولتكن الكفاءة هي المرشد وليست الواسطة ولا الانتماء الطائفي. فنجد محلاً ومكاناً لكل كفاءة. وليكن الثواب والعقاب قاعدةً لضبط الإدارة وتعجيل دولاب إنتاجها. فالإدارة، إذا تُركت فهي تميل إلى الكسل الممل، ويَتْبَعُ ذلك ضعف الإنتاج، ونحن بحاجة لزيادة إنتاجنا. بمثل هذه الخطة، تُغلق الباب لهجرة الأدمغة والقادرين لننمِّيَ بطاقاتهم وطننا لبنان، إن هؤلاء لن يعودوا إلا إذا لمسوا أن وطنهم أصبح مرتعاً خصباً لطاقاتهم وعلمهم.
إن نظامنا الضرائبي غير عادل، فعلينا جعله أكثر عدالة ليشارك القادرون المليئون في إنماء لبنان، وبالتالي إنماء اقتصادهم. إن مبدأ، أنا ازدهر في بلد مزدهر، هو قاعدة اقتصادية صحيحة، فلا نخشى هؤلاء القادرين المليئين من ارتفاع مساهمتهم بإنماء وطنهم. فإن كل ازدهار، ازدهار لهم وكل إنماء له، هو إنماء لقدراتهم. فأفضل أن يكونوا قادرين بين القادرين المكتفين، من أن يكونوا قادرين بين الضعفاء والمحتاجين الحاقدين. فتصاعد الضرائب أرخص من دمار الحاقدين والمحرومين (لهم ولوطنهم).
إن لبنان الذي نتمنى هو لبنان لكل إنسان فيه، لا لبنان الفئة أو الطائفة. والانتماء لوطن قادرٍ وقويٍّ، هو أجدى وأكثر احتراماً من الانتماء لوطن أَوْهن تمزقه أنانيةُ المتعصبين. ففي الأول قدرة وعزة، وفي الثاني مهانة وحِقارة. واللبنانيون اليوم يعيشون زمن المهانة من قِبَل الشعوب المتحضرة، فهم كالموبوئين، يكون وجودهم عندهم غير مرغوب فيه.
إن لبنان عضو في الجامعة العربية والأمم المتحدة ومجموعة عدم الانحياز. ولهذا، فهو مُقِرٌّ بعروبته. ولكن سَمَاحَهُ لتياراتٍ متعصِّبةٍ ولمزوِّرين للتاريخ بحثاً عن انتماءٍ آخر، أخاف الفريق الأكبر من أبنائه الذين يؤمنون بعروبة لبنان، وأنه يجب أن يكون لبنان فاعلاً في هذا المجال، لأنه المجال الحيويّ لنموِّه في أرضه الضيِّقَة المساحة والمتكاثرة التعداد، ولأن انتماءه الثقافي العربي أصيلٌ وفعّالٌ. وأكبر شاهدٍ على ذلك، الكتاب العربي الذي يُنشر في لبنان بأعداد أكثر بكثير ممّا يُنشر في بقية الأقطار العربية. إن الهروب من العروبة هو هروب من لبنان (التاريخ والمستقبل). فلن يكون لبنان إلا عربياً فاعلاً. وإني أعتبر الأصوات من الروابط الثقافية التي أقرَّت وأعلنت عروبة لبنان، هي أصوات أصيلة ووطنية مخلصة، وهي أصوات لبنان الذي نريد.
كثيرون هم الذين يلوِّحون بطلب الحماية، فبعضهم طلبها من دولة عدوة (أي الكيان الإسرائيلي)، ولم تتمكن من إنقاذه. وجلَّ ما فعلته أنها خرَّبته وهدمته. وبعضهم طلبها من دولٍ متعدِّدة (فرنسا والولايات المتحدة الأميركية)، فما عتَّمت أن هربت. وبعضهم يطلبها من الأمم المتحدة. وبعضهم يطلبها بالحياد، والكل، مع الأسف، لم يفكر بعواقب احتلال أرضه وفقدانه لسيادته. فكل حماية، بما فيها الأمم المتحدة، هي انتقاص من السيادة التي بدونها لن ينموَ لبنان، وسيبقى مرتعاً لحروب داخلية بين طالبي الحماية، وطالبي الاستقلال والحرية. ولا ينسى هؤلاء أن بناء لبنان المزدهر لم يكن أيام الاحتلال الفرنسي، بل بعد الاستقلال. إن لبنان لا يعيش بدون حرية مسؤولة، فهي كالرئة له يتنفس منها وفيها، وشرطي أن تكون مسؤولة حتى لا نقع بمطبات الفلتان والفوضى باسم الحرية. فكل حرية حَدُّها حرية الآخرين، أكانوا أشقاء أم في الداخل مواطنين. وكل تجاوزٍ ينال من حرية الأشقاء، وفي الداخل من حرية المواطنين، يفجِّر الاقتتال والعنف من أجل تحرير الوطن ويهدِّد وجود لبنان. حريةُ لبنان ووجودُه صنوان لا يفترقان.
إن تقسيم لبنان الحالي محفوفٌ بالتقسيم الطائفي. فبعض محافظاته وجب إعادة تقسيمها لنعيد اختلاط الفئات السكانية فيها، ونجعلها إدارياً أسهل وصولاً لخدمات المواطنين، وبعضها قُسِّم ووضع بشكل جعل المذهبية والطائفية تلعبان دوراً مهماً في تكوينه. فيجب إعادة خلط هذه المحافظة لإعادة تقسيمها بشكل تؤمِّن سهولة وصول المواطنين لمراكز الدولة ونجعل تفاعل السكان على أساس المواطنة أكثر منه على أساس الانتماء الطائفي.
إن قانون الانتخاب لبلد مثل لبنان، فيه كثيرٌ من التعقيدات. ولكلٍ نظامٍ حسناته وسيئاته. ولكن الأفضل هو الذي يؤمِّن احتواء أكبر عددٍ من فاعليات الوطن، ويكون ممثلاً لاتجاهاتهم الأيديولوجية. فلربما كان نظام المحافظة أكثر إبْعَاداً لنموّ الروح الطائفية والفئوية حيث يضطر النائب أن يكون متفاهماً مع مختلف الفاعليات التي يتكوَّن منها لبنان. إن النظام النسبي الذي يؤمِّن تمثيل المعارضة بنسبة نجاحها، له حسنة احتواء المعارضة داخل المجلس، لا بقائها في الساحة الخارجة عن نطاق المجلس. ولكن أصواتاً كثيرة ارتفعت برفضه. ولكن حين إقرار قانون انتخاب جديد، أرى أنه من الواجب أخذ المعارضة بعين التقدير والاعتبار لتمثيلها في مجلس النواب. ومدة المجلس حدَّدها القانون بأربع سنوات، وهو أمدٌ جيِّدٌ ليتمكن النائب من تأدية واجبه الوطني. وأرى أن يُنتخب رئيس المجلس لمدة سنتين. وهو معدَّل اتجاه النواب. والبطاقة الانتخابية أكثر تأميناً لحرية الانتخاب. وهذه الحرية في الانتخابات تفيد لبنان. وكل تزوير أو لعب بالانتخابات ينتقص من روح الديمقراطية ويكون سبباً لانتفاضة الشعب المؤذية.
إن المؤسسات العامة يجب تطويرها وعصرنتها لتصبح أكثر إنتاجاً وأدقَّ تقريراً، وهي بالنهاية المسؤولة عن حسن سير الدولة. ولهذا وجب تجهيزها بكل ما يؤول إلى الإسراع في عملها وزيادة إنتاجها وتزويدها بالآلات الألكترونية، الحاسبة والمسجلة والحافظة Computers، إذ في عصرنا بدون هذه الأجهزة، يبقى العمل بدائياً. إن عصرنـة المؤسسـات العامة مسؤوليـة تقع على كاهل لبنان الغد أن يحققه. سوف لا أذهب بعيداً بتعداد مواصفات لبنان الغد وأعيدها مختصرةً على مسامعكم:
1 ـ معرفة حاضرنا وماضينا معرفة دقيقة وصادقة دون تمويه أو تزوير.
2 ـ العقلانية في تقرير إعادة بناء لبنان.
3 ـ الديمقراطية، فلبنان والديمقراطية صنوان لا يفترقان.
4 ـ الحرية والسيادة بما فيها حرية الأديان والعبادات والمعتقدات والأيديولوجيات.
5 ـ الابتعاد عن وهم الحماية، أكانت لدولة عدوة كإسرائيل أم لدولة كبيرة أم لأمم متحدة أم طلب الحياد المستحيل للبنان.
6 ـ احترام الأديان وإلغاء الطائفية السياسية وإبدالها بالمواطنية السياسية.
7 ـ إعادة تحديد أهداف الجيش وإعداده وحَقْنِه بدم الشباب، إذ إن هذه الحرب جعلت معدَّل العمر فيه 30 سنة، وهذا قد اعتبر مقبولاً، إذا أردنا جيشاً قادراً.
8 ـ عروبة لبنان ووضع حدٍّ لكل ما ينتقصها، والعلاقة الفضلى مع الشقيقة سوريا، وضمان انخراط لبنان بكل مشاريع جامعة الدول العربية: كالدفاع المشترك والسوق العربية المشتركة وسوى ذلك…
9 ـ إن حرية وسيادة لبنان، لا تعني أبداً إنفراد لبنان بتصرفه الخارجي وسياسته الخارجية، تصرفاً يؤذي أشقاءه العرب. فهو لن يكون مأوى للمؤامرات والمخابرات ضد الدول العربية وخاصة الدولة الشقيقـة سوريـا التي ضحَّت وما زالت تضحّي من أجل حل أزمة لبنان.
10 ـ إعادة النظر في قانون الانتخاب وجعله أوسع احتواءً لكل الفعاليات المؤثِّرة في هذا الوطن، وإعادة التقسيم الإداري.
11 ـ نظام الاقتصاد الحر المنظَّم بدلاً من نظامٍ حرٍ فوضوي.
12 ـ نظام الضرائب بحيث يساهم القادرون أكثر في إعادة بناء لبنان.
13 ـ الضمان لكل المواطنين صحياً وضمان التعويض عند البطالة وعند الشيخوخة، وضمان أمن المواطنين.
14 ـ إنشـاء مجلس اقتصـادي اجتماعـي ليُقِرّ حسن تـوازن العلاقـة بين شرائح المجتمع من عمـال وموظفين وتجـار ومستهلكين ومالكيـن ومستأجريـن، بصورة مستمرة ومتطـوِّرة.
15 ـ البَدء بتحسين المؤسسات العامة لتصبح قادرة على حمل مسؤولية الدولة ومراقبتها وفق قانون الثَّواب والعِقاب.
16 ـ عصرنة وتحديث الدوائر الإدارية وتزويدها بالمعدات الألكترونية التي أصبح لا غنى عنها في كل محاولة لتقدُّم الإدارة وتحسُّن أدائها…
* * *
ليست هُويّة أيُّ امرءٍ في شعب ما، شهادةً على انتمائه العنصري، ولكنها تُثبت انتماءه الثقافي والاجتماعي ووحدة الهدف وطُرق الوجود الاجتماعي والسياسي له.
الهُويَّة هي بطاقة تُعلن ترابط جماعات، أكثر منها حدٌّ لوجودها. فكل هُوية يجب أن تؤمِّن لحاملها إنسانية الإنسان وحريته ومنفعته من هذه الهُوية التي ليست وحياً اُستلهم، بل نتيجة تفاعل هذه الجماعات في محيطها: اقتصادياً ولغوياً وثقافياً وتاريخياً وتطلعاً للمستقبل. فلبنان بهذا التعبير، لا يمكنه التفكير لا من حيث إنسانيته ولا عروبته، إلا باعتماده على ثوابته التاريخية: فثقافته وتطلعه ووجوده المثمر والفاعل هو محيطه العربي، لا كدخيل عليه، بل هو في أساس تكوين هذا المحيط تاريخياً واجتماعياً ولغوياً وسياسياً واقتصادياً وتطلعاً لمستقبل شعبه. فهو إن تنكَّر لعروبته أو قيَّدها بشروط، يعرِّض نفسه للتخلِّي عن ذاته الاجتماعية والسياسية، والهروب إلى ذاتيَّةٍ، إن قَبْليَّةً فهو غريب منها.
تعليق الدكتور نزيه البزري، في ردِّه على مَن كان بجانبه، مشيراً إلى حضارة لبنان الفينيقية:
"إننا نتكلم كثيراً عن الفينيقيين، وهم فرع من فروع القبائل العربية. وأقول لك: إذا كنتم تؤمنون بالتاريخ الفينيقي أو القومية الفينيقية أو بالفينيقيين، فيجب عليكم أن تؤمنوا أيضاً بوجودهم أينما كانوا: فقد كانوا في عُمان وفي حضرموت وفي شمال أفريقيا وفي شمالي سوريا وساحلها وحتى في الجزيرة العربية. هؤلاء هم الفينيقيون…."
يتابع "الحكيم": علينا أن نحقِّق وطننا لنعطيَ المنتمين إليه هُويتهم. هل يُعقل أن نَفْصِلَ لبنان عن محيطه العربي ثقافياً واقتصادياً وتحريراً وتطلعاً؟… إني لا أجد ذلك ممكناً. فعلينا أن نكون علميين واقعيين في بحثنا.
إن الوهم عند البعض بمطامع سورية في لبنان هو إدّعاء أَخْرسَه تصريحُ الرئيس السوري (حافظ الأسد)، حينما أجاب عن سؤال أحدهم: أن لا مطامع لسوريا في أرض لبنانية وسوريا ولبنان: شعب واحد في وطنَيْن (أو دولتَين). فاعترف بالوطن اللبناني. والكل يعرف أن القادة السوريين كانوا في صميم مساعدة صنع الوفاق، مع المطالبة باستقلال لبنان، دون المطالبة بوحدة سورية، قد كانت ولزمن طويل، تطلُّع قسمٍ كبيرٍ من الشعب اللبناني. فأتى الاستقلال ودخل لبنـان عضواً في الجامعة العربية وبموافقة سورية.
إن عروبة سوريا أعطتها مركزها المهم في صراع المنطقة. وعروبة مصر أعطتها قوتها للشعب العربي، وحتى بعد "كامب دايفيد" لم يتجرأ موقِّعه على تغيير اسم مصر العربية. وما فتئت المساعي لإعادة مصر إلى عضوية الجامعة العربية، لأن ما حدث لم يتمكن من أن يَخلق من شعبها انتماءً غير عربي، رغم محاولات الاستعمار والحروب العديدة التي خاضتها مصر الشقيقة. والمملكة العربية السعودية، يعطيها مركزها العربي قوةً أكبر، وكذلك العراق ودول المغرب العربي، رغم استعمار دام عشرات السنين ومحاولة تبديل الهُوية الأصيلة. فناضلوا لاستقلالهم واسترداد هُويتهم العربية.
صحيح أن الدول العربية في فترة ركود بعد 1973 و1974، حينما خرجت مصر العربية على ميثاق الجامعة العربية، ولكنها ستنهض بفضل علاقاتها العربية وأصالتها العربية، كما أنها ستحارب من أجل إبقاء هذه الأصالة العربية، لأنها صلة وصل واتصال لا غنى عنها.
أيها الأخوة، إن عروبة لبنان ليست مِنَّة من أحد عليه، ولا مِنَّة منه على أحد، بل هي واقع يفرض نفسه على مجتمعنا اللبناني. ونحن، إذا تمكَّنا من التخلُّص من أنانيتنا الطائفية، واتجهنا نحو مواطنيَّة لبنانية ـ عربية، ستكون ثروة للعروبة تُفيد ونَفيدُ منها. إن العرب في أحلك ظروف تاريخهم، بقوْا مخلصين لعروبتهم، ولبنان في مقدمتهم.
وأخيراً، نريد لبنان القابل للتطوُّر في مؤسساته العامة وعلاقته الخارجية ليجاري التقدم المستمر مع الأمم الحيَّة والمتقدّمة، لا أن يبقـى متكوكعاً في الخوف والحذر، بل أن يكون وطناً قادراً على مواجهـة كل المشاكـل العصريـة ومتحدياً كل ما يعيق تقدُّمه، فمزيداً من الشجاعة ليتحقق كل هذا.
وعشتم وعاش لبنان العربي الديمقراطي.