إشكاليّة الفكر العربيّ (1)
إشكاليّة الفكر العربيّ ( )
إذا كان لي أن أبديَ بعض الملاحظات السريعة ، فهي تتعلق أولاً بإشكاليّة الفكر العربيّ بصورة عامة .
يبدو لي أنّ الفكر العربيّ الحديث يميل بصورة واضحة إلى التجريد ، إلى المطلق .. فهو فكرٌ نظريّ ، لا يلامس الواقع الاجتماعيّ المعيوش أو لا ينطلق منه ، ولا يحيط به بتفصيلاته وجزئياته . وهو إلى ذلك أو وفوق ذلك كلّه ، فكر بلاغيّ ، خطابيّ ، لفظيّ ، إنشائيّ في معظم الأحيان . فكأنّ هناك هوّةً سحيقةً ، أو عداوةً مستحكمةً ، بين الفكر العربيّ الحديث وبين الواقع الاجتماعيّ المتحرك .
والملاحظة الثانية هي أنّ الفكر العربيّ في الظروف الراهنة ، ربما أكثر من أيّ وقت مضى ، يعيش هاجس الآخر : الغرب ، يعيش تحت سطوته الماديّة والمعنويّة ، أو سحره .. فهو في مواجهته الغرب ، يقع أسيراً لحضارته ، وفكره ، ومفاهيمه ، ومصطلحاته ، فهذه العلاقة هي علاقة غُرْبة ، معقّدة ومتوتّرة دائماً .
وكما أنّ هذا التأثير البالغ للغرب يَظهر أكثر ما يظهر في تكوين الفكر العربيّ المعاصر في كثير من جوانبه ، وعند كثير من المثقّفين ، فإنّه يَظهر أيضاً في مفاهيمه ومصطلحاته ، وفي تعبيراته ، وفي رؤاه لواقعه ولذاته . فالمرجعيّة الفكريّة والاصطلاحيّة وأدوات البحث المفاهيميّ والمنهجيّ هي الغرب ، وذلك تخصيصاً بالنسبة إلى المثقّفين ذوي الثقافة الأجنبيّة الأساسيّة ، وهذا ما يَحجب عنهم رؤية الواقع الاجتماعيّ العربيّ ، أو رؤيته بمنظار الآخر . من هنا اغتراب المثقّف العربيّ الضمنيّ أو غير الواعي ، ربما .
والأمثلة على ذلك كثيرة ، لا تعدّ ولا تحصى ، وأذكر بعضاً ن هذه المفاهيم وهي مثلاً تعبيرات : فضاء espace ، الأرثوذكسيّة ، الأنتروبو ـ ثقافيّ ، حرياقراطيّة ، دولتي étatique ، ومفاهيم الأصالة والحداثة ، التّراث والمعاصرة ، والاتصال والانقطاع ، والآن ما بعد الحداثة ، والمسرح التجريبيّ ، إلى آخر ما هنالك ، والقائمة قد تطول كثيراً .
فلا يعتقدنّ أحدٌ أنّني ضدّ الانفتاح الفكريّ والحضاريّ على الغرب . وحتى لو أردت ذلك فلا أستطيع ، لا أنا ولا غيري ولا أحد مهما كان ، في ظروفنا وظروف العالم الراهنة .
وإذا أردت أن أبديَ هذه الملاحظة ـ وهي تحتاج إلى نقاش طويل ـ فإنّما لأصل فقط إلى نتيجة مفادها أنّ المثقّف العربيّ بصورة عامة و" الحداثوي " بوجه خاص ، قد فَقَد صلته ، على صعيد الفكر ، بواقعه والتأثير فيه . فهو يتحدّث لغة غير مفهومة ، أو عصيّة على الفهم لمن يريد أن يوصل خطابه إليه . من هنا ، في ما أرى ، إرهاصات أزْمة الثقافة العربيّة والمثقّف العربيّ .
والملاحظة الأخرى في هذا السياق ، هي نتيجة الملاحظات السابقة ، لها علاقة بالأسلوب، بالأسلوبيّة العربيّة الحديثة حيث نجد صياغة لكلمات عربيّة ، وإنّما غريبة المضمون والمفاهيم والمصطلحات . لهذا ، فإذا أردنا أن نقرأ نصاً ما من هذا النوع ، فنحن بحاجة إلى إعادة مفاهيمه وتعبيراته ومصطلحاته واشتقاقاته ـ غالباً سريعاً ـ إلى أصولها الأجنبيّة وذلك لفهمها واستيعابها . والطّامة الكبرى عندما لا يحسن القارئ لغة الكاتب الأجنبيّة فتقوم القطيعة بين هذا الكاتب والمتلقي .
وهذه الازدواجيّة على صعيد الفكر والأيديولوجيا ، تصبح مشوّهة بل وقاتلة ، عندما لا نستطيع أن نجاري الغرب في تطورّه الفكريّ السريع في التعبير عن واقعه التاريخيّ والاجتماعيّ الخاص ، وأن نستوعب في الوقت ذاته مفاهيمه ومناهجه ، وأن نتمثلها بعمق وروّية حتى تصبح جزءاً من بنيتنا الفكريّة . ومن ثمّ تعجز هذه المفاهيم والمناهج الغربيّة في أن تكون لنا وسيلة حقيقيّة لفهم واقعنا الحضاريّ نحن ، والتأثير فيه سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً .
والملاحظة الأخيرة التي أودّ أن أشير إليها هي أنّ الاحتكاك بالفكر الغربيّ واقتياسه وتمثّله لا يستند ، على الأرجح ، إلى أرضيّة ثقافيّة عربيّة لغويّة متينة . من هنا نلاحظ أنّ ترجمة هذه المصطلحات والمفاهيم الغربيّة إلى اللغة العربيّة ، إنّما يتمّ بكثير من السرعة أو التسرّع ـ حتى لا أقول بكثير من السطحيّة ـ ممّا يفقد المصطلحات والمفاهيم معناها وتأثيرها وفاعليتها الإجرائيّة لمعرفة واقعنا العربيّ وتحليله وتفسيره .
وفي الواقع ، لا يمكن أن يكون هناك فكر سياسيّ فاعل ، في الظروف التي نعيشها في عالمنا المعاصر ، ولا يمكن أن ننتج فكراً متقدّماً حديثاً ، دون أن ينطلق من واقعنا الاجتماعيّ المتحرك ، ومن نقد هذا الواقع والتفاعل معه ، بأدوات منهجيّة ميدانيّة حديثة .. وأن نتحدّث لغته ، أو لغة مفهومة من قِبَله ، لا أن نكون غرباء عنه . فبناء المجتمع المدنيّ إنّما يهيئ له فكر ديمقراطيّ ، والفكر الديمقراطيّ هو فكر تقدميّ ، واقعي ، في الأساس .
نَسَق القِيَم في لبنان ( )
د. مصطفى دندشلي
أودّ أن أبديَ ملاحظات سريعة ومكثفة :
ـ الملاحظة الأولى ، تبدأ الباحثة في حديثها عن نسق القِيَم في لبنان ، مع الحرب وما بعدها .. وذلك ممّا يوحي بأنّ هناك انقطاعاً في مفهوم القِيَم ، في نسق القِيَم ، عمّا كان سائداً قبل الحرب .. في حين أنّنا نعلم أنّ جميع مفاهيم القِيَم التي أفرزتها الحرب كانت موجودة ضمناً أو علناً في المجتمع اللبنانيّ .
ـ الملاحظة الثانية ، في بحث ميدانيّ جرى في مطلع عام 1970 ، طُرح سؤال على ثرثين طالباً وطالبة من الصفوف النهائيّة في إحدى الثانويات المختلطة ، ونصّ السؤال هو التالي :
إذا قُدّر لواحد منكم أن يتبوأ مركزاً مرموقاً في الدولة اللبنانيّة ، يسمح له أن يستغل هذا الوضع وأن يستفيد منه مالياً بصورة غير شرعيّة ، فهل يقوم بذلك ؟!..
فكان جواب 29 طالباً وطالبة ، نعم !.. ذلك أنّه إذا لم " يسرق " الواحد منّا أو يستغل هذا الموقع الذي يحتله ، فقد يُقال عنه إنّه " غبيّ "، أو " أهبل ".
ـ الملاحظة الثالثة ، كنت أتمنّى لو قامت الباحثة بمقارنة ، برأيي مهمّة ، بين نسق القِيَم ، مفاهيم القِيَم ، وبين الأيديولوجيا السائدة في المجتمع اللبنانيّ ـ والأيديولوجيا هنا هي نسق من الأفكار السائدة في المجتمع . وهذه الأيديولوجيا يمكنها أن تتوضح بالاعتماد على عنصر أساسيّ فيها ، وهو مفهوم القِيَم المرتبط بالمال ، بالملكيّة ، بالربح والاستهلاك . وهنا يدخل مفهوم " الشطارة اللبنانيّة " في العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة .
فالأيديولوجيا التجاريّة ـ وهي مفهوم قيمي سائد ـ هي التي تحدّد سمة أساسيّة من سمات المجتمع اللبنانيّ .. وما ظهر أثناء الحرب اللبنانيّة من مفاهيم القِيَم لا يخرج في الأعماق عن هذا السياق .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] ) مداخلة قدّمها الدكتور مصطفى دندشلي في النّدوة الفكريّة التي نظّمها " مركز دراسات الوحدة العربيّة " حول موضوع " المجتمع المُدنيّ في الوطن العربيّ ودوره في تحقيق الديمقراطيّة " في 19 ـ 23 كانون الثاني 1992 . ( أنظر وقائع هذه النّدوة كاملة في منشورات المركز ، أيلول 1992 ),
[1] ) أنظر ، المستقبل العربي ، أيار 1994 ، عدد 183