الثامن من آذار في التاريخ العربي الحديث كلمة ألقاها د. نزيه البزري
الثامن من آذار في التاريخ العربي الحديث
كلمة ألقاها د. نزيه البزري
* * *
في حياة الشعوب والأمم، كما في حياة الأمة العربية في العصر الحديث، ثمة محطَّات تاريخيَّة وتواريخ مُضيئة، نعود إليها ونستذكرها ونتأملها ونستخلص منها الدُّروس والعِبَر. هنا، وفي هذا السِّياق العام، لا يمكننا، ونحن كشعبٍ عربيّ، مهما كانت انتماءاتنا السياسية والفكرية، إلاَّ أن نضع يوم الثامن من آذار لعام 1963 على هذا المستوى، المستوى التاريخي، ليس فقط لسوريا العربية، وإنما أيضاً لما كان له من تأثيرات كبرى سواءٌ في المشرق العربي أم في مغربه، عندما استلم حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة السياسية بقيادة جحافله العسكرية.
لذلك فإنني أعتبر، وكثيرون كثيرون غيري يعتبرون معي، أن هذه الحركة الثورية التي قامت في الثامن من آذار، إنما هي وفي كثير من الوجوه، حدٌّ فاصل بين تاريخَيْن أو حدٌّ فاصل بين مرحلتَيْن، يفصل ما بين عهدَيْن سياسيَّيْن، أو ما بين طبيعة وأسس ومقومات وتطلعات نظامَيْن سياسيَّين مختلفَيْن كل الاختلاف: عهد ما قبل الثامن من آذار والعهد الآخر ما بعده.
لا شك في أن وصول حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادته الطليعية المدينية والعسكرية إلى السلطة في الثامن من آذار، لم يكن في الحقيقة وواقع الأمر، أمراً مفاجئاً، ذلك أن نضال حزب البعث وكفاحه الطليعي والجماهيري، كان قد انطلق منذ بداية التأسيس، عام 1940، ومروراً عَبْر مرحلةٍ كفاحيَّةٍ نضاليَّةٍ طويلة، بانعقاد مؤتمرْ التأسيس الأول في نيسان 1947، ومن بعدها دخوله عَبْر الانتخابات النيابية لعام 1954 النَّدوة البرلمانية، وصولاً ومن خلال قيادته النضال الشعبي والجماهيري الوحدوي في الجمهورية العربية السورية وفي الوطن العربي، من أجل الوحدة العربية والتحرر السياسي وتحقيق العدالة الاجتماعية.
هذا النفوذ السياسي والشعبي والرسمي ضغط، بل وفرض اشتراك حزب البعث عَبْر نوابه، في حكومة الوحدة الوطنية عام 1956 وبعدها وصوله إلى رئاسة المجلس النيابي السوري عام 1957، واستطاعته بالاعتماد على اتساع نفوذه الجماهيري الواسع في سوريا وفي الوطن العربي، استطاع أن يحقِّق مع الشعب السوري وبقيادته، أول وحدة عربية جماهيرية في التاريخ الحديث بين سوريا، حزب البعث، ومصر عبد الناصر في عام 1958.
لهذا، لا يمكننا، وانطلاقاً من استقراء التاريخ السياسي العربي الحديث في المنطقة، لا يمكننا أن نُغفل أو ننكر أو نُهمل تأثيرات حزب البعث العربي الاشتراكي، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، في الفكر القومي العربي من المحيط إلى الخريج. وكتاباته في القومية العربية وفي الحرية وفي الاشتراكية، كانت قد طبعت أفكار الأجيال تلو الأجيال في هـذه المراحل. فشعارات حزب البعث، وتحديداً شعار حزب البعث، على سبيل المثال فقط لا الحصر، كما نعلم جميعاً، وأجيالنا المتعاقبة تذكر ذلك تماماً، والتي كانت صياغته على الشكل التالي: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. فقد كان لهذا الشعار تأثير كبير، فحرك العواطف الوطنية والوجدان القومي العربي والأحاسيس الإنسانية في شتى أنحاء الوطن العربي.
بل أكثر من ذلك، إن فكر حزب البعث وأيديولوجيته القومية والاشتراكية، كان لها التأثير الكبير في أوساط الحركات السياسية العروبية الموجودة آنذاك وتأثيره بوجه خاص على مستوى المثقَّفين والطلائع الشبابية من المشرق العربي، مروراً بدول الخليج العربي ومصر والسودان، وانتهاءً بالمغرب العربي: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب ومورتانيا.
بل أستطيع أن أقول بأن تلك المرحلة، مرحلة الخمسينات والستينات، قد كانت مرحلة فكر البعث القومي العربي الاشتركي وتأثيراتها الواسعة والعميقة وعلى مختلف المستويات في الأوساط والتيارات القومية العربية…
وأشير سريعاً في هذه المناسبة، لأقول بأنه لا يمكن إدراك فكر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر القومي العربي وفهمه حقيقة وواقعاً ومن الداخل، دون أن نسترجع في ذاكرتنا، ما كان قد استوحى وما تأثَّر به واستوعب من فكر حزب البعث وروحية البعث وأفكاره القومية وشعاراته في التحرُّر، والوحدة، والعدالة الاجتماعية.
وإذا أردت أن أختم وجهة النظر السريعة هذه، والتي لا يمكن إلاَّ أن تكون غير مكتملة أو كافية، فإنه لا بد لي من الإشارة أيضاً إلى الدور النضالي الكبير الذي تقوم به وتتحمَّل جميع أعبائه الجمهورية العربية السورية بقيادة الرئيس حافظ الأسد، في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية والهجمات مختلفة الأشكال السياسية والدبلوماسية والإعلامية.
ففي الحقيقية، فإن الدور الذي تقوم به سوريا في مواجهة عمليات الاستسلام ومقاومة الاحتلال والتنازل عن الحق العربي، ليس فقط في فلسطين المحتلة وفي القدس الشريف، وإنما أيضاً في الأراضي السورية واللبنانية المحتلة.
فإن سوريا الآن، كما كان في الماضي، تخوض معركة نضالية شرسة ضد العدو الإسرائيلي وما يتمتع به من تأييد من قِبَل قوى دولية كبيرة سياسياً، عسكرياً، اقتصادياً، وإعلامياً… إلخ، كل ذلك من أجل كسر الصمود وفرض عمليات الاستسلام على سوريا ومعها لبنان، افتراءً وأجحافاً وإنكاراً لحقهما المشروع، وبحسب القرارات الدولية، في تحرير أراضيهما. فإن الشعار الذي نرفعه بقوة وعزم وتصميم، بتلازم المسارَيْن السوري واللبناني، إنما هو بالدرجة الأولى وفي نهاية المطاف يصبُّ في مصلحة لبنان واستقلاله، وسيادته وحريته….