د.دندشلي-أ.د-نزار الحديثي استاذ التاريخ بجامعة صنعاء
كتب-أ.د-نزار الحديثي
استاذ التاريخ بجامعة صنعاء
"أقصد بهذ العنوان تناول أمرين في التاريخ اليمني
الأول: المشكلات التي تواجه قراءة التاريخ اليمني، وكتابته
الثاني: مشكلات المحاولات السابقة لكتابة تاريخ اليمن. صحيح أن لا فرق كبير بين الأمرين غير أن التمييز بينهما ضروري لمسالة الوعي، وتقدير مضمون المعرفة التاريخية التي نتداولها. وإذا كنت بدأت محاضرتي بعنوان محدد: (مشكلات دراسة التاريخ اليمني)، فهذا يعني ضمنيا أنني أجد اليمن بيئة لصنع التاريخ، وإنتاج المعرفة التاريخية، لكنني قد اختلف مع الآخر أيا كان في توصيف هذه التاريخانية، الأمر الذي يلزمني بتحديد هيكليتي للموضوع كي ابدوا واضحا، ولأتيح للآخر أن يفهمني ويتحاور بوجهة نظره مع وجهة نظري. على هذا الأساس فان محاضرتي سوف تتناول المحاور الآتية:
أولا- توصيف التاريخ اليمني.
ثانيا- تحديد مشكلات التاريخ اليمني "وجهة نظر خاصة".
1. مشكلات ذاتية في التاريخ نفسه.
2. مشكلات موضوعية في البيئة العلمية.
3. مشكلات صنعتها تجربة كتابة تاريخ لليمن سابقا.
4. مشكلات معاصرة في تقييم تأريخانية اليمن وكتاباته السابقة.
ثالثا- مقترحات
رابعا- فلسفة التجربة التاريخية اليمنية، "رؤية خاصة".
أولا- توصيف التاريخ اليمن:
تصدر جميع أشكال التناول للزمن التاريخي في اليمن إيماءات بأنه زمن قديم البداية، وان بدايته ترتبط بنشأة مبكرة يجري البحث الآن في تحديد بداياتها، وتقترن تلك البداية بنشاط تاريخي شمل معظم البيئة اليمنية، نمتلك عنه شواهد صحيح إنها غير متكاملة
( لم نعثر على إنسانها) لكنها تعطي أفكاراً أولية متعددة الجوانب من خلال (جوها الانثربولوجي):
1. فهي تغطي الأزمنة التاريخية التي تعارف عليها دارسوا التاريخ، ففيها شواهد تعود إلى ما قبل الإنسان العاقل، وشواهد ترتبط بالإنسان العاقل في عصوره الثلاث ( الحجري والبرونزي والكتابي)
2. و تغطي البيئة اليمنية جغرافيا بدء من حضرموت إلى الهضبة إلى تهامة إلى الجزر اليمنية.
3. و فيها ملامح تكون سلالي، بمعنى أنها شهدت تداولا بشريا متصلا، وهو الشرط الأساسي لتكوين زمن تاريخي، فبعض هذه المواقع بقيت موضع استخدام بشري طويل الأمد.
4. والأهم أن ذاكرة الإنسان اليمني تختزن صورا لهذا التاريخ بقيت تتداولها، تتسم ببنائية لها ميدانها التاريخي( اليمن)، وعنصرها الأساسي( الإنسان اليمني)، ودورها( الوطني والقومي والإنساني).
يبدأ الزمن التاريخي اليمني وفق هذه الشواهد في حدود 150 الف عام تقاسمها( حسب المعلومات المتاحة) نوعان من البشر، هما الإنسان الأول، والإنسان العاقل الذي نتحدر نحن منه، غير إننا لا نملك معلومات عن هذا الزمن انما عن جزء بسيط منه، وبسيط جدا مقداره ألف سنة غير انه اتسم بسمات حضارية مهمة، فهو كتابي، ويمتلك نظاما اجتماعيا متكاملا لتقسيم العمل، وهي السمة التي تجعل تحديداتنا لبدايته غير دقيقة. فليس من المعتاد ان يوجد الإنسان مرة واحدة في مجتمع يعرف الكتابة، وله بنيوية واضحة متكاملة، ويجيد بناء المنشآت الحضارية ومتمدن. فالطبيعي ان الإنسان يوجد بدائيا ثم يتطور والزمن البدائي هو الأطول، فعلا سبيل المثال الإنسان العاقل في العراق قضى حوالي ثلاثين الف سنة بدائيا، استقر في اخر 15-10 الف سنة منها وابتكر الكتابة في أخر ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة سبقت الميلاد. وإذا كنا نعتقد جازمين في العراق ان الإنسان العراقي ابن حراك بشري جاء به من بيئة حضارية أولى في جزيرة العرب، فلنا ان ندرك كم هي قديمة تلك البيئة اذن؟
أخلص هنا إلى أن تاريخ اليمن الذي نهايته بأيدينا الآن موغل في القدم، وتشكّل مهمة تحديد بدايته من حيث الزمان والمكان، أول التي تواجه المؤرخين اليمنيين، وهي واحدة من ابرز مشكلات دراسة تاريخ اليمن.
ثانيا- مشكلات دراسة التاريخ اليمني:
1. مشكلات ذاتية:
أ- يعاني الزمن التاريخي اليمني من ظاهرة عدم الوضوح الذي يوحي بوجود انقطاع، يحس به الباحث فيه، وقد ألمحت الى ذلك قبل اكثر من ثلاثين عام عندما قلت بان في التاريخ اليمني فجوة حضارية سبقت الدول التي وصلت اخبارها لنا من (ق.9ق.م)، وان مصدر هذه الفجوة ليس ذاتيا انما فنيا سببه عدم وجود ستراتيجية وطنية للبحث والتنقيب تمكننا من تتبع المظاهر الحضارية للتاريخ اليمني.
ب- طبيعة المخلفات القديمة خاصة الكتابية. فالكتابات المسندية التي وصلت الينا تكاد تكون أحادية الجانب( كتابات نذرية)، غير ان هذا ليس بالسبب القوي الذي يفرض علينا ضمورا في المعرفة التاريخية، إضافة إلى أن هذه النقوش لم تدرس تاريخيا بصورة كاملة انما اكتفينا بترجمتها، وهذا انجاز رائع حققه اللغويون يمنيون وأصدقاء ولكن هناك فرق بين الترجمة والقراءة التاريخية للكتابات المسندية، ناهيك عن ان هذه النقوش هي التي وصلت الينا، فالتقطناها، ولنا ان نتوقع المزيد منها مما لم يصل الينا لأسباب طبيعية( الاندثار)، أو لقصور التنقيبات.
ت- الكتابات التاريخية وومدونات كتابة التاريخ. لدينا من الماضي الإسلامي لليمن نوعين من الكتابات، الأول: كتابة تاريخية صرفة تتمثل في المؤلفات التي وضعها مؤرخون يمنيون اشتغلوا بكتابة التاريخ العام، أو التواريخ المحلية، أو الأنساب، أو تاريخ المدن، أو التراجم والسير، أو الإخبار. والثاني: مدونات ذات نكهة تاريخية، اي أنها تعرضت لمظاهر الحياة اليمنية، وأصبحت الآن أساسية في كتابة تاريخ لليمن.
2. مشكلات موضوعية:
أ- منهجية دراسة التاريخ: يعاني التاريخ العربي عموما واليمني من ضمنه من غياب منهجية وطنية قومية تنهج علميا في كتابة التاريخ، وحتى المحاولات العربية التي بذلت مخلصة لم تستطع مغادرة المنهجية الأوربية. ومما عزز الخلل اننا لم نقيم المنهجية الأوروبية تقييما دقيقا فنقف على طبيعة تشكيل العقلية الأوروبية، ودوافع الأوروبيين في تناولهم لتاريخنا فأستسلمنا، وذهب بنا الاستسلام الى حد نفي ذاتنا واسقاطها من حساب الحضارة والتاريخ والعلم، في حين ان الذين درسوا تاريخنا وحضارتنا وعلومنا لم يكونوا يملكون مثلها انذاك.
ب- القصور في اعداد المتخصصين في الدراسات التاريخية، وغياب ستراتيجية واضحة في الدراسات العليا تراعي التنوع، والتوزيع الجيد للمختصين في جوانب الدراسة والبحث فتاريخنا لم يكن آحادي الجانب(سياسي) انما متكامل الجوانب( حضاري) بل ان السياسي فيه اسوأ جوانبه.
ت- غياب ستراتيجية وطنية للتقيبات، وقصور في رصد المواقع الاثارية، بسبب نقص الخبرات والدعم وغياب الاهتمام الشعبي.
ث- غياب قانون وطني يحسم ملكية الموروث التاريخي والحضاري، ويجعلها ملكية وطنية بدل ان تكون ملكية شخصية تنهب ولاتحمي من أطراف تنشد الربح على حساب الوطن والهوية.
ج- المهددات الكثيرة التي تهدد الموروث الحضاري ماديا أو علميا، وفي مقدمتها عبث الجهل والتخلف، وتهديدات البيئة الطبيعية( الرطوبة والحشرات)، والتهريب.
3. مشكلات صنعتها الكتابة الأولى لتاريخ اليمن:
نقف على هذه المشكلة عند قرائتنا لكتابة تاريخ اليمن سابقا، ومع اننا لم نتوصل الى تحديد بداية دقيقة لأول كتابة لتاريخ اليمن في الاسلام، الا ان الذي نعرفه ان هذه البداية تبلرت في كتابة الهمداني الحسن بن احمد بن يعقوب(ق.4هـ)، في كتابيه الاكليل وصفة جزيرة العرب، وحتى هذه الكتابة لم تصل الينا كاملة انما وصلت الينا برواية محمد بن نشوان بن سعيد الحميري(الاكليل،ج/1/ص57) مقدمة راوي الكتاب، في حين احدا من الذين ارخوا للتراث اليمني لم يذكر ان لمحمد رواية للاكليل، انما الرواية لابيه نشوان بن سعيد الحميري الذي اوردت له المصادر عنوانان الاول ( الخلاصة مختصر كتاب الإكليل) و(خلاصة السيرة الجامعة لعجائب الملوك التببابعة) وهي منظومة في اقيال حمير واخبارهم(الوجيه، اعلام،1005،1060-1064).يعني هذا اننا امام رؤيتين لاكليل الهمداني، رؤية نشوان ثم رؤية ابنه، اي ان الرؤية الحقيقية غائبة.
يتحدد جوهر الكتابة اليمنية الاولى للتاريخ اليمني( الهمدانية مجازا) في تقديم صورة تاريخية للزمن اليمني كله- وان كان بدون بداية زمنية محددة- من سبا الى الاحتلال الاجنبي. لقد اصبحت هذه الصورة ارثا تاريخيا يملأ الذاكرة اليمنية رغم كل مايعتريها، وبدت بالنسبة لكثير من المؤرخين اشبه بالاسطورة، ليس بالضرورة لانها كذلك، ولكن ايضا لاننا لم نستطع اسيعابها. واذا كان التعامل الفلسفي مع الاسطورة يعتبرها نواة حقيقة، فالاجدر بالذين سفهوها واسقطوها من المعرفة التاريخية ان يتوقفوا عندها ويمعنوا في دراستها. الوحيد الذي دعى الى ذلك دون ان تلقى دعوته صدى لدى الاخرين هو المرحوم الدكتور محمد علي بافقيه قبل وفاته بزمن.
ادت الكتابة التاريخية الاولى لتاريخ اليمن الى اختلاط المعلومة الواقعية بالمعلومة الاسطورية، من خلال اختلاط الادب الشعبي بالرواية التاريخية، وغابت الحدثية في الكتابة ولم نعد بمقدورنا التمييز بين الواقع والخيال، واصبح من الصعب اقناع شخص ما برواية أو تصور مخالف لما يعتنق من صورة في ذاكرته، واصبح الباحث المعاصر اسير وعي بالتاريخ تسود الضبابية الكثير من مفاصلة.
4. مشكلات معاصرة:
أ-مشكلات ناتجة عن تقييم تأريخ اليمن وكتاباته السابقة: ظهر جيل من المؤرخين المعاصرين رفض الكتابة التاريخية السابقة لتاريخ اليمن، وانطلق من مسألة فنية تمخضت عن التطور المعاصر في مناهج البحث التاريخي، القائلة بوجوب توفر الوثيقة التاريخية، وهو أمر مشروع جدا. فنحن نفتقر إلى تنقيبات حقيقية، ونفتقر إلى دراسات جادة معمقة في تفاصيل تايخية كثيرة، ونفتقر إلى وعي بدور العلوم المساعدة في كشف خوافي التاريخ، نفتقر إلى الكثير، ولكن كيف نطبق هذا على الكتابة التاريخية السابقة؟ لقد أغفل القائلون بهذه الإشكالية( الافتقار إلى الوثيقة التاريخية) الإجابة على السؤال. إن من مستلزمات البحث عن الوثيقة معرفة الشكل التاريخي المتداول للوثيقة حسب العصور، ومعرفة فن الكتابة ووسائلها حسب العصور، معرفة الهدف من إنشاء الكتابة. لان مثل هذه الأمور أساسية لتحديد دور الوثيقة. الموقف السليم كان هو الذهاب الى نوع من المطابقة النسبية بين معلومات الوثيق، وبين تفاصيل الرواية لان الوثيقة كتبت لغاية لاتلزم كاتبها بتفاصيل، أما الرواية فأنها تحوي الكثير من التفاصيل.
ب- ضعف الدراسات التاريخية المعاصرة في تاريخ اليمن وعزوف الباحثين عن الاستعانة بالعلوم المساعدة والتقنيات الحديثة وغياب الرؤية الفلسفية للأحداث، بسبب الإعداد الناقص للطلبة في الدراسات الأولية والعليا، الأمر الذي ترتب عليه نقص في المعرفة المحصلة، وعدم واقعية المعرفة، ونقص مهارات البحث العلمي.
ت- قلة الاهتمام بالتراث اليمني( الكتابات المسندية- المخطوطات) ونقص الخبرات المساعدة على التعامل معهما، وبشكل خاص في ميدان تحقيق المخطوطات، وخلو المناهج من دراسات حديثة في التراث والتحقيق.
ث- ضعف الوعي الاجتماعي في اليمن بالتاريخ اليمني، وبان اليمن صاحب تاريخ، وان تاريخه موغل في القدم. وتقف خلف هذه الإشكالية عوامل عدة، في مقدمتها هيمنة الرؤية الأسطورية للتاريخ اليمني، والتسليم للاستسهالية في إدراك مفاصله، ومنها عجز النظام التعليمي عن تقديم تعليم يعلم الإنسان تاريخه، وغياب دور المتخصص الجامعي، ونقص الإعداد المعرفي والمهاري له، مما حرم المجتمع من معرفة تاريخية حقيقية، و القطيعة بين علم التاريخ والعلوم المساعدة في إعداد المختص بالتاريخ. تعمقت هذه الإشكالية في استسهال التضحية بمصادر التاريخ( الكتابات المسندية، والمخطوطات).
ج- ضعف النشر التاريخي العلمي مثل المؤلفات التي تدرس حقبا تأريخية، والموسوعات، وعدم وجود مدونة يمنية للكتابات المسندية باللغتين الأصلية والعربية، وضعف المكتبات الجامعية، وغياب المكتبة اليمنية التي تضم ما يكتب عن اليمن داخليا وخارجيا,
ح- غياب إستراتيجية وطنية للتعامل مع التاريخ، مصادرا وتنقيبا وموروثا، وضعف الجدية في حماية الآثار والتراث.
مقترحات:
1. تطوير تدريس التاريخ في التعليم العام والجامعي وفق منهجية موحدة، تستوعب الزمن اليمني كله، وتعكس تصالحا مع أحداثه، فهو أيا كانت معتقدات أو ميولات صنّاعه ، يمثل انجازا يمنيا.
2. تطوير الدراسات العليا والحرص على خطط علمية تزود الطالب بالمعرفة العلمية، والاتقان الجيد لتقاليد البحث العلمي ومهاراته.
3. اهتمام الإعلام والثقافة بالتاريخ الوطني والقومي، والاعتماد على المتخصصين الحقيقيين.
4. حماية المواقع الاثرية، وحماية التراث المدون، وإصدار التشريعات اللازمة لذلك.
5. الاتفاق على ستراتيجية وطنية في التعامل مع المواقع والاثار، وتنشيط دور أقسام الآثار والتاريخ، والتوسع في الدراسات التراثية، وتشجيع تحقيق المخطوطات.
6. الاهتمام بالسياحة الحضارية، فاليمن متحف حضاري إضافة إلى كونه متحفا طبيعيا، وخزينه الحضاري يمتاز بالتنوع، والإبداع.
7. توعية المجتمع اليمني والتنويه بدوره أفرادا ومؤسسات في حماية التراث.
8. العمل على إصدار المدونة اليمنية للكتابة المسندية، والموسوعة اليمنية الكبرى.
9. تأسيس المكتبة اليمنية لتكون مركز تجميع وتنظيم لما يكتب عن اليمن، وإعداد وتدريب للباحثين في حقل التاريخ والآثار والتراث".