السفير- من يموّل الثقافة في لبنان وهل يصنعها المال الأجنبي؟
من يموّل الثقافة في لبنان
وهل يصنعها المال الأجنبي؟
تخبّط واضح في الآراء يطفو إلى السطح كل مرة يأتي فيها الحديث عن التمويل، زينة الحياة الثقافية في لبنان وذخرها الأبرز الداعم لرؤية أصحاب المشاريع الثقافية، هؤلاء الذين علقت في حلوقهم غصة يذكيها حضور شعارات مؤسسات أوروبية وأميركية على ملصقات الإعلان عن نشاطاتهم، في وقت يندر فيه العثور على لوغو وزارة الثقافة أو شعار يعود إلى مصادر تمويل لبنانية أو عربية. وبين متحمس للجهات الداعمة هذه، وآخر حذر منها على قاعدة ان الدعم المادي ليس إلا وسيلة لتحقيق أهداف معلنة أحيانا وخفية أحياناً أخرى، يبقى الثابت هو العتب، ان لم نقل النقمة، على إهمال النشاطات الثقافية، وسهولة إلصاق التهم بأهدافها وبغايات الجهات التي تمولها.
ميزانيات عديدة ترصد لدعم النشاطات الثقافية في لبنان، وهي بغالبيتها تتميز بضآلة الحجم مقارنة بالمليارات التي تصرف بهدف رعاية مشاريع تنموية أخرى، إلا أن معظم الجهات المانحة تعتبرها كبيرة نسبياً إذا ما قورنت بالأموال التي تمنح لدعم النشاطات الثقافية في بلدان أخرى أكبر مساحة كمصر أو المغرب أو غيرها. هذا ما يشرحه فرانسيسكو اكوستا سفير بعثة المفوضية الأوروبية في لبنان، فنصف ميزانية البعثة الأوروبية المخصصة بالنشاطات الثقافية يذهب إلى دعم <<مهرجان الأفلام الأوروبية>>، في ما يذهب القسم الاخر المقدر بحوالى 130 ألف يورو إلى استدراج العروض لدعم نشاطات أخرى في لبنان على قاعدة ان التمويل عليه ان يكون مفتوحاً أمام الجميع، وعن الميزانية المخصصة لدعم كل برنامج يشرح أكوستا: <<معدل الدعم لكل مشروع ثقافي يتراوح بين 20 و40 ألف يورو، وعادة ما نلجأ إلى التمويل المشترك مع جهات أخرى عندما يتطلب المشروع ذلك>>.
حجم المبالغ المعطاة إلى المشروع الواحد لا تخضع إلى سقف معين بل تختلف بحسب نوعية المشروع وقدرة الجهات المانحة، ويبرز اسم مؤسسة <<فورد>> التي تركز نشاطها الجغرافي في الشرق الأوسط، شمال افريقيا (فلسطين ومصر تحديداً) بين الأسماء المعروفة بتقديمها مبالغ مهمة، فخلال الدورة الأولى للتمويل التي استمرت على مدى سنتين وانتهت في العام 2001 قدّم مكتب القاهرة 272 منحة مؤسساتية تقدر قيمتها ب236,029,35 دولاراً إضافة إلى 62 منحة أخرى للأفراد بقيمة 441,226,1دولاراً، كما قدمت المؤسسة دعماً لاسرائيل بلغت قيمته 50 مليون دولار منذ العام 1948 أضيف إليها في العام 2003 مبلغ 20 مليوناً إضافياً على مدى خمس سنوات. في حين تكتفي جهات اخرى بميزانية متواضعة تركز على تقسيمها على عدد من الفئات الخاصة بالنشاطات، هذه الإستراتيجية تبرز من خلال حديث باربرا قصير من <<غوته>>: <<ميزانيتنا قليلة بالنسبة إلى غيرنا لكننا نحرص على الإستفادة منها قدر الإمكان وتلفت إلى ان المعهد دعم في العام 2004 ما يفوق المئة نشاط، توزعت على الشكل التالي: 36 نشاطاً في مجال الأدب، 12 نشاطاً خاصاً بالمكتبة، 5 أنشطة في مجال الموسيقى، 47 نشاطاً مخصصاً بالأفلام، نشاطان مسرحيان وثمانية معارض>>.
أصل العلّة
المعضلة الخاصة بالتمويل ترجعها كريستين طعمة مديرة جمعية <<أشكال ألوان>> إلى العجز الذي يطاول مختلف القطاعات في لبنان، بدليل ان معظم النشاطات الإقتصادية، السياسية والإجتماعية ممولة من الخارج <<إلا أن الكل يفصل الثقافة عن ما عداها، وهناك من يتوقع أن تشذ عن واقع العجز هذا>> تقول طعمة، وتتابع بنبرة حادة : <<رأسي لن يكون مرفوعاً أمام الممول الأجنبي عندما يعلم أن وزارة الثقافة اللبنانية لا تدعمني بمبالغ محددة، أشعر بالخجل أنه لي بذمة الوزارة مبلغ 4000 دولار لم أتسلمها بعد>>. وفي مقابل هذا العتب على الوزارة التي لا تتجاوز ميزانيتها 2 مليون دولار من الميزانية العامة للدولة يقتطع قسم كبير منها كرواتب للموظفين، تأقلمت متطلبات البعض الآخر مع واقع الحال، في هذا الإطار يقول روجيه عساف مدير مركز <<دوار الشمس>>: <<أدرك جيداً أن ميزانية الدولة متواضعة بالأساس، وهذه حال العديد من المؤسسات الأجنبية أيضاً، ولكن الخلل الحقيقي يكمن في توظيفها في نشاطات غير مثمرة، انا لا اطالب الوزارة ان تعطيني مالاً، لكن عوض توزيعه على أساس المحاصصة والطائفة، بالإمكان استعماله لتقديم خدمات لنشاطات ثقافية، كشراء مقاعد وتغطية تكاليف المسرحيات التي تمثل لبنان في الخارج وغيرها>>.
هذه الآراء المتفهمة نوعاً ما لواقع الوزارة، دون أن تضعها في حِلٍّ من مسؤولياتها، تقابلها أخرى أكثر راديكالية تذهب إلى حد المطالبة بإلغائها: <<أنا ضد وجود وزارة الثقافة، إذ لا يمكنني فصل لحظة انشائها عن لحظة وضع اليد البعثية على لبنان، فالثقافة غير مفصولة عن غيرها>> يقول لقمان سليم مؤسس جمعية <<أمم>>، مشدداً ان لا مشكلة أخلاقية لديه بالحصول على مال من الدولة. نوال طرابلسي رئيسة جمعية <<السبيل>> تلفت إلى ان التعاون مع الدولة لا يأتي دائماً بنتائج سلبية وان مشكلة الوزارة تتعلق بالدرجة الأولى بغياب الإمكانيات وليس وجود إرادة سيئة: <<قررنا التعاون مع بلدية بيروت التي أعطتنا المباني الخاصة بالمكتبات، كما استفدنا من التوأمة مع <> والخطوة كانت ناجحة بدليل طلب البلدية بناء عشر مكتبات جديدة في بيروت>>.
إذا كان غياب المال سبب المشكلة بالنسبة إلى البعض فإن حضوره يمثل <<لعنة>> ومسؤولية أكبر، هذا ما يقوله بيار أبي صعب الذي خاض تجربة البحث عن تمويل مع إطلاق مجلة <<زوايا>>: <<على المشروع أن يثبت شفافيته في الساحة الثقافية العربية، أي جهة مانحة لديها أجندة لا أستطيع أن أمنعها من امتلاكها، لكن بدل التخوين والمؤامرة أضع شروطي كجهة طالبة للتمويل، عليّ أن أعرف ماذا أريد وما الذي لا أقبله>>، مشدداً على ضرورة تغيير جذري يسمح بوجود شبكات توزيع تفسح المجال أمام معظم التجارب التي تملك لغة جديدة بالوصول إلى الناس، على ان تكون منغرسة من خلال مؤسسات أهلية تستطيع الترويج لثقافة بديلة خارج المنطق التجاري.
بين الثقافة والسياسة
كثيرة هي الأسئلة التي تطرح كيفية تعامل الجهة المانحة مع الأخرى المستفيدة، تبدأ من طبيعة العلاقة بين الأطراف المعنية: هل هي علاقة الند للند أم علاقة طرف مقتدر بآخر يلعب دور المتلقي السلبي؟ ينطلق لقمان سليم في معالجته للفكرة هذه من مبدأ عدم وجود طرف محلي وآخر أجنبي: <<لا يوجد داخل ثقافي وآخر خارجي جغرافي في فصل قائم على عصبية الدم والدين، الداخل وهم وخرافة وكل ثقافتنا هي محاولة مصالحة مع الثقافة الغربية ونحن لا نملك شيئاً ندافع عنه>>، ويتابع شارحاً سبب قبوله بالتمويل الذي حصل عليه: <<هويتي الوحيدة هي مجموعة قيم لا شأن لها بمعطيات الدم والأرض والولاء القبلي، هناك شراكة في القيم وكل من يملك قيماً متطابقة مع القيم خاصتي هو شريك محتمل، فالمشكلة لا تتعلق بتاتاً بأجنبي قادم كي يفرض أجندته علينا>>.
اختلاف فهم كل جهة للعلاقة هذه، والحرص على تحديدها الدقيق يظهر في اختلاف المفردات المستعملة لدى كل طرف، فبمقابل <<بطارية القيم>> يتحدث اكوستا عن <<شراكة مبادئ وليس شراكة قيم، لان مفهموم القيم يختلف جذرياً مع اختلاف البلدان>>. إلا ان هذه الشراكة التي ينادي بها الجميع لا تلغي حذر البعض من أهداف التمويل، فبيار أبي صعب يقول: <<الموضوع سياسي أخلاقي بالدرجة الأولى، إذا كان عندي وهم أن أي ممول سيعطيني مجاناً فإما أكون ساذجاً وإما كاذبا>>. واللافت هنا أن أياً من الممولين لا يدعي المجانية بل يحرص على <<شفافية>> في عرض أهدافه كي لا يقع في أي التباس، في هذا الإطار تقول كيرستن ماس من مؤسسة هينرش بول المدعومة من حزب الخضر في ألمانيا: <<لا ندعم فقط النشاطات التي تتناول الشؤون الثقافية، نحن نروج للثقافة المدنية، مفهوم المواطنة، تحديات العولمة الثقافية، والنقاط الأساسية التي نعتمدها كمراجع حاضرة بوضوح على موقعنا على شبكة الإنترنت>>، وبالعودة إلى الموقع نقرأ عن المؤسسة كمنظمة سياسية، لا تبغى الربح وتكافح للترويج للديموقراطية، المجتمع المدني، المساواة والبيئة الصحية على الصعيد الدولي. الفكرة نفسها تحضر في حديث أكوستا: <<نحن لسنا راعين لمشاريع ثقافية بحد ذاتها بل كل المشاريع التي لها علاقة بالحوار، بفكرة الإتحاد الأوروبي واحترام الآخر>>، ويتابع أكوستا منبهاً من أستعمال تعبير <<الأهداف السياسية>> بطريقة سلبية: <<السياسة موجودة في كل مكان وبإمكانها ان تكون جيدة كما بإمكانها ان تكون العكس، نحن ندعم الإستقرار ولا نقوم بفرض أي أمر، فلسنا نحاول فرض حضارتنا أو ثقافتنا>>، مبدأ عدم فرض ثقافة محددة يجد صداه بين الساعين إلى الحصول على التمويل، فطعمة تركز على مصطلح الشريك في النشاطات لا الممول: <<هؤلاء شركاؤنا وليسوا أعداءنا، وأنا أتفاوض معهم للوصول إلى الصيغ الأنسب للجميع>>.
طلبات أم أوامر؟
عند معرفة ان معظم الأموال التي تقدمها المؤسسات المانحة هي بالدرجة الأولى مقتطعة من أموال الضرائب التي يدفعها المواطنون الأوروبيون والأميركيون، لا يعود مستغرباً ان تخضع هذه الأموال إلى حسابات دقيقة تتعلق بكيفية صرفها وأين، ويتضح أكثر سبب ارتباطها بسياسات حكوماتها، أكوستا يشدد على هذه الفكرة قائلاً: <<لايمكن استعمال مال دافعي الضرائب مع ما يتعارض وسياسات الحكومات، لا ندعم كل ما له علاقة بالإقصاء الطائفي، ونحرص ان تتلاقى المشاريع مع متطلبات البند الثالث من اتفاقية الشراكة المتوسطية مثلا>>. العديد من المراقبين يرون في هذا الدعم الآتي من القارة الأوروبية والولايات المتحدة، حفاظاً على الأمن الإستراتيجي لتلك البلدان على المدى البعيد، لكنهم في الوقت نفسه يتحمسون له نظراً إلى عمق الحاجة إلى الأفكار والمبادئ التي يروجون لها: <<حلمي أن أعيش في بلد يحترم حقوق الإنسان ويبتعد عن الطائفية، وهذه القيم لم تطلع لا من العروبة ولا من الإسلام، بهذا المعنى أحس بأنني في شراكة سابقة لشراكة المال الذي يمكن أن أحصل عليه مع أطراف تعزز هذه القيم>> يوضح سليم.
كثيرة هي الأخبار التي تتناول طلبات شفهية وأخرى مكتوبة بعثت بها المؤسسات المانحة إلى الجهات المعنية سواء في لبنان أو العالم العربي، ولعل أكثرها مباشرة تلك التي أرسلتها ال<<يو.أس.أيد>> (المؤسسة التي تصرف أقل من نصف الواحد في المئة من الميزانية الفيدرالية الأميركية على نشاطات تغطي أكثر من مئة بلد حول العالم)، إلى الجهات التي تمولها في رام الله، حيث تضمنت الوثيقة لائحة طويلة من الأسماء التي يجب عدم اشراك أصحابها (أو السماح لهم بحضور) في أي من النشاطات التي تنظم، وكانت غالبية الأسماء تعود إلى أشخاص منتمين إلى تنظيمات فلسطينية محددة وحزب الله. في لبنان أيضاً لا تغيب المذكرات عن الساحة وان اختلفت الدوافع والأسباب، فمؤسسة <<فورد>> التي يتركز مكتبها الأقليمي في القاهرة كانت قد بعثت بمذكرة إلى الجهات التي تدعمها في لبنان طالبة التعهد بعدم دعم <<الإرهاب>> بواسطة المال المعطى على أساس حقها بمراقبة الأموال خلال فترة سنة من تاريخ صرفها. طعمة، واحدة من الذين تسلموا الورقة من دون أن يوقعوا عليها تعلق على الموضوع قائلة: <<فورد>> لم تقل لنا يجب عليكم الإعتراف بان جهة معينة هي إرهابية، بل قالت لنا ان المال الذي يأتينا من قبلها، ممنوع استعماله في نشاطات تدعم الإرهاب>>. وتتابع: <<أنا لا أنتظر <<فورد>> كي تقول لي ذلك فهذا مبدأ مفروغ منه في عملي>>، الدافع إلى إرسال هذا النوع من المذكرات يفسره أبي صعب بالقول: <<فورد في موقع دفاعي بشع، فهي تعاني من ضغط شديد من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة كونهم يحاكمون بتهمة دعم تمويل الإرهاب في العالم العربي، هناك مسائل قانونية عليهم القيام بها كي يحموا أنفسهم، وبينهم تعهد الشرف هذا الذي يقضي بعدم دعم الإرهاب>>، وعند سؤاله عن سبب حرصه على تبرير موقف <<فورد>> يجيب: <<أنا محام عن علاقتي ب<<فورد>> وليس عن <<فورد>> شخصيا>>. فكرة الدفاع عن النفس تظهر أيضاً في حديث سليم: <<أنا مستهدف كمواطن، وأدافع عن نفسي وليس عن الأوروبيين أو الأميركيين>>. ويكمل بصوت واثق: <<أنا مع ألا يذهب المال إلى حماس أو حزب الله أو إلى أي طرف يلجأ ويدعو إلى كره الأخر. الممولون يضعون حواجز لأنهم لا يريدون أن تذهب أموالهم إلى أفكار تمارس الإرهاب الفكري أو اليدوي، وهذا أمر مفهوم>>.
الجواب حول هذه المسألة وغيرها من الأسئلة لم نحصل عليه بعد مراسلتنا لمكتب <<فورد>> في القاهرة، لكن خلال الندوة التي عقدت ضمن إطار <<لقاء زوايا>> في مسرح المدينة، برر مختار كوكش من مكتب <<فورد>> الخطوة هذه بالقول: <<عوض أن يقولوا لنا علينا مراقبة أموالكم المصروفة في العالم العربي، بإمكاننا ان نبرز لهم المذكرات ونرد عليهم: <<لا داعي لذلك لقد قمنا بالأمر بأنفسنا>>، ما يمكننا من الإلتفاف على أية محاولة لتعطيل عملنا عبر ابراز الوثائق القانونية التي تحمي نشاطاتنا>>، إلا ان المذكرة الصادرة عن <<فورد>> أيضاً والتي تتضمن طلباً يقضي بمنع دعم الفنانين العراقيين بواسطة أموالها تصبح وثيقة مستهجنة حتى بالنسبة إلى افرقاء تربطهم بها علاقة جيدة: <<الطلب فعلاً غريب ولست أدري على أي أساس طرح>> تقول طعمة. في حين يرجع أبي صعب محاسبة طرف ما بعمله على أرض الواقع لا في التأويلات: <<أنا فهمت نهجاً واحترمته، هناك صراع حقيقي داخل الولايات المتحدة، ولا أحاسب على النوايا بل على السلوك، وفي الإنتظار التعامل والممارسة يحددان مواقفي مع حد أدنى من الخطوط الحمر يضمن عدم التدخل لو باسم الصداقة أوعدم النقد من باب الوصاية>>.
التوافق على حق المانح بتحديد مكان صرف ماله يبدو القاسم المشترك بين العديد من المستفيدين فروجيه عساف يوضح: <<النزاهة تقتضي ألا يصرف المال المقدم من طرف لتمويل نشاط لا يوافق عليه، هو هذا حق الجهات تلك في مالها>>، مشيراً إلى ان الخطر يكمن في الإرتهان إلى مال آت من مصدر معين والتبعات التي يمكن ان يخلفها الأمر هذا.
كثيرة هي الحوادث التي يصنفها البعض <<بالخطيرة>>، فإحدى الجهات الممولة مثلاً تراجعت عن دعمها لمسرحية وجدوها منحازة إلى الفلسطنيين، حول الموضوع هذا يقول عسّاف: <<لقد أوضحوا لنا انهم لا يملكون شيئاً ضد المسرحية، لكنهم كجهة رسمية لا يستطيعون أن يذهب مالهم لدعم مسرحية كهذه>>، لافتاً إلى أن ذلك لم يقف حائلاً دون استقدام العرض مع علمه سلفاً بأنه سيخسر مادياً.
عروض مرفوضة
<<شكراً، لكن لا>> هي العبارة التي قوبلت بها بعض العروض <<السخية>>، إذ ان الحاجة إلى التمويل لا تلغي رفض أخذ المال من جهات محددة لاعتبارات مختلفة، فأبي صعب يقول: <<انا أرفض التعامل مع <<سوروس>> لأن مشروعهم السياسي مشبوه، الأشخاص الذين يمثلونهم في المنطقة يعطون دروساً أخلاقية، الأمر أشبه بالكاوبوي الذي يعطي تعليمات بما علينا ان نفعل وما علينا تجنبه، تصرف <<سوروس>> تجسيد حقيقي للأهداف الليبرالية الوحشية>>، رفض آخر قابلت به <<زوايا>> المركز الثقافي الفرنسي على اعتبار ان طلبه إصدار عدد باللغة الفرنسية يمثل استعماراً ثقافياً: <<رفضت أن أطبع ولا طبعة واحدة باللغة الفرنسية مقابل التمويل، وجدت في الفكرة كولونيالية كون مبدأ المشروع يقوم على اصدار المجلة باللغة العربية>>، في مقابل الرفض القاطع لهذا النوع من الطلبات يلجأ البعض إلى إيجاد صيغة توافقية لا تؤثر في أهداف العمل : <<هناك مسرحيات مولت من فرنسا على أساس أنها ستعرض في باريس، أخذت المال وقلت لهم إنني سأقوم بالمشروع باللغة العربية لكني سأسجل نسخة باللغة الفرنسية>>، يشرح عساف. موقف سليم من الموضوع هذا يبدو متفاوتاً تماماً مع وجهات النظر الأخرى: << وافق المركز الثقافي الفرنسي ان يقتصر ملصق <<حروب ذوي القربى>> على اللغتين العربية والإنكليزية لكننا اصررنا على ان تكون اللغة الفرنسية موجودة أيضا>>، مشدداً على ان <<تواجد اللغات المتعددة شرط أساسي لأي نشاط ثقافي>>.
العلاقة الطيبة بالمؤسسة لا تمنع ملاحظات سجلت على نوعية الأعمال التي تدعمها الأخيرة: <<لاحظت ان العاملين في هينريش بول تهمهم الأمور السياسية وهم سياسيون أكثر من غيرهم في انتقاءاتهم، إذ يظهرون اهتماماً ويدعمون مشاريع تتعلق مثلاً بالتنوع الثقافي، العولمة>>.
طرابلسي بدورها تؤكد ان جمعيتها ليس لديها اتجاه سياسي <<ولكن لدينا آراء ومواقف واضحة>>، مؤكدة رفضها عرض القبول بمجموعة من الكتب اذا كان المقابل <<أن يأتي سفير الدولة المانحة بحضور صحافي كثيف كي <<يتصور>> إلى جانب المجموعة>>.
ليست وحدها الشروط المباشرة التي يخشاها البعض، إذ ان التأثير غير المباشر يلعب دوراً في تحديد نوعية النشاطات ومضمونها وذلك عن طريق تحديد مضمون المشاريع التي تحصل على تمويل: <<هناك كثيرون يقعون في فخ إعداد نشاطات محددة كي يحصلوا على المال (حقوق الإنسان أو الجندر)>> يقول أبي صعب.
بلاطة وطربوش
الحذر الذي يصل إلى حد النفور لا يغيب عن ألسنة معظم من يبحثون عن التمويل عند سؤالهم عن سبب لجوئهم إلى المصادر الأوروبية والغربية عوض المحلية أو العربية التي يعتبرونها تقوم على مبدأ <<إمدحني وخذ>> عدا عن تفضيل نشاطات أخرى على تلك الخاصة بالثقافة، فطعمة تقول بلهجة تعكس معاناة من لم يترك باباً إلا وطرقه على مدى سنوات عديدة من دون أن يحصل على جواب إلا نادراً: <<الممول العربي لا يكلف نفسه حتى بالرد عليك لأنه لا يوجد اهتمام حقيقي بالثقافة في كل العالم العربي>>، في حين يركز أبي صعب على الحرية والإستقلالية التي تطبع علاقته بشركائه الغربيين: <<المؤسسات العربية تقوم على مدح الشخص وتغطية أخباره وأخبار تلفزيونه، ومقابل فكر تنموي ومنفتح لشركائي الأجانب يبرز آخر طفيلي لشركائي المفترضين في العالم العربي>>. إضافة إلى نسب الجهات المانحة إلى شخص معين، يظهر انتقاد آخر يتعلق بانتقاص الشفافية والوضوح في التعاطي، يعلق سليم ساخراً: <<مع كل مبلغ من المؤسسات العربية هناك بلاطة وطربوش هذه المؤسسات>>. ويتابع: <<في المؤسسات الأخرى هناك طلب يوضح الشروط المطلوبة من أجل الحصول على منحة ما، بينما يغيب الوضوح تماماً في هذه المؤسسات>>، وعند سؤاله عما إذا كان قد حاول الحصول على دعم من أحد الجهات العربية ام ان موقفه هذا مبني على أحكام مسبقة يرد: <<لا أنا أعرف ولا هم جربوا القيام بمجهود من أجل أن يقولوا على سبيل المثال هذا الشهر نستقبل الطلبات وهذه هي شروطنا، هذه مؤسسات لها عيب أساسي في ولادتها لنسبتها إلى شخص ما>>. انتقاد النقص في الشفافية لا تنجو منه طريقة تعاطي المؤسسات الخاصة كالبنوك والمؤسسات التجارية: <<الأمر يمر بالعلاقات الشخصية وليس هناك طريقة واضحة للحصول على دعم، ففي البنوك تبرز أهمية العلاقات الخاصة وتصبح الدائرة المغلقة محصورة بزبائنهم الكبار>>، ولا تغفل طعمة انتقاد المنطق التجاري لبعض المؤسسات: <<معظم البنوك لا تدعم إلا الحفلات والسهرات وغيرها بحيث يصبح لكل بنك مشروع يدعمه وغالباً ما يتم انتقاؤه على أساس منطق الربح لا الثقافة>>، هذا الهجوم الصارخ على المؤسسات الخاصة لا يمنع وجود استثناءات ميزت بعض الأسماء عن غيرها إذ يعتبر عديدون ممن خاضوا تجربة البحث ان البنك العربي هو الوحيد الذي يملك نظرة خاصة، ولا تغفل زينة عريضة ذكر بنك عودة الذي دعم <<المؤسسة العربية للصورة>> على مدى عدد من لسنوات.
انتقاد الطبقة البورجوازية وغياب الدور الذي كان من الممكن ان تشغله في هذا القطاع يعبر عنه ابي صعب بالقول: <<البورجوازية العربية بمعظمها طفيلية، ولا يوجد مال داعم للثقافة من القطاع الأهلي>> ويستدرك انطلاقاً من مبدأ ان التعميم جريمة: <<وحدها البورجوازية الفلسطينية تمثل استثناء وقدمت فكراً تنويريا>>. بدوره سليم يضرب مثلا عما يمكن ان تحققه تلك الطبقة في حال قررت ان تكون فاعلة <<من لديهم فائض ومستعدون للفعل يستطيعون احداث فرق، ف<<دبانة>> مثلاً خرق البلادة التي كانت مسيطرة في مدينة صيدا>>. عريضة من <<المؤسسة العربية للصورة>> تلفت إلى انها لجأت الى العديد من الأشخاص بهدف الحصول على تمويل ووفقت بذلك، إلا ان الأمر أصبح أكثر صعوبة بعد حرب الخليج الثانية ومن ثم حرب العراق>>.وإذا كان هناك اتفاق على ان الطبقة البورجوازية لا تقوم بدورها المفترض إلا ان مسائل أخرى لا تحظى بالإجماع نفسه وفي طليعتها <<match funding>>او التمويل التوافقي الذي يقوم على مبدأ ان تقدم المؤسسة الغربية المبلغ نفسه الذي تستطيع الجهة الطالبة للتمويل تأمينه من الجهات المحلية، ففي حين يرى أبي صعب بالنمط هذا فخاً خطيراً لا يتردد برفضه بصورة قاطعة على أساس أنه <<بلف ثقافي>> لا حاجة إليه إذا كان المرء يستطيع تأمين المال من طرف محلي أو عربي، لا يجد سليم مشكلة بتاتاً في أخذ المال عن هذه الطريق، دون أن يوافق على ما يعتبره أبي صعب: <<آلة رقابة نريد الهروب منها، بحيث تتجمع كل الأموال في صندوق واحد ضخم يحجب عن كل غير المرضي عنهم ايديولوجياً أو سياسياً تحديداً بين فئة الشباب>>.
هجوم مضاد
<<من غير المقبول أن يتهم من شارك بثورة قامت بها <<ساتشي أند ساتشي>> مؤسسة <<فورد>> بأي اتهام، يقول بيار أبي صعب رافضاً الإنتقادات التي وجهت إلى نوعية النشاطات التي تقوم بها <<فورد>> والتي وردت في إحدى المقالات الصحافية، بدوره يخرج لقمان سليم مجموعة من مقالات من عدد من الجرائد ينتقد فيها كتّابها بعض الأطراف التي تستفيد من التمويل الأميركي تحديداً، يقدم مقالة كتبها جوزف سماحة وأخرى كتبها الياس خوري ويعلّق: <<فضيحة الرأسمال أنه لا يدافع عن نفسه ولا يساهم بتمويل الثقافة التي يمكنها أن تدافع عنه، كل من يردون على جوزف سماحة على سبيل المثال لا الحصر، هم فضيحة هذه المساعدات، لأنهم لم يملكوا الشجاعة المعنوية للدفاع عن منحهم>>، وينقر على موقع مجلس النواب اللبناني مشيراً إلى انه ممول <<شخصيا>> من جهة أجنبية، ويتابع: <<أي طرف تقبل الدولة اللبنانية أو مؤسساتها بالأخذ منه، نعتبر ان من حقنا الطبيعي ان نطرق بابه>>. بدوره يعتبر عساف ان هناك سوء نية بالتفسير والتأويل عند الحديث عن الشروط التي تفرضها المؤسسات المانحة: <<يريدون التأكد من عدم وجود تمييز عنصري اولاً، وأن يكون هناك مشاركة نسائية في الإدارة ثانياً، وألا نكون بخدمة حزب سياسي أو رجل سياسي>>، معيداً طلب كتابة تقارير مفصلة تشرح كيفية صرف المال إلى الحرص على ضمان الشروط هذه، أما طعمة فتصر على ان الممول الذي يتكلم عنه البعض استناداً إلى نظرية المؤامرة على أساس أنه سيتقصى معلومات ويستخبر لا ينتظر تمويلاً أو جمعيات ليحقق أهدافه.
في المحصلة، يبدو ان <<اللاأمان>> المتمثل بالخوف من إمكانية توقف التمويل أو انخفاض قيمته نتيجة للتأرجحات السياسية الخارجية يرخي بثقله على خطوات أصحاب المشاريع، الذين باتوا يسعون جاهدين للحفاظ على توليفة متمثلة بتنوع مصادر التمويل، بهدف عدم الإرتهان إلى جهة من دون أخرى، فيما يختار الآخرون خطوات أكثر تقدماً تتمثل بالتكتل في مقر واحد كما هو مقرر ان يحصل بين <<أشكال ألوان>>، <<زوايا>> و<<المؤسسة العربية للصورة>>.
السفير / مايسة عواد