أيّ لبنان نريد ؟...
تمهيد
يسرّنا أن تقدِّم ، بداية ، ملخصاً لمجمل وقائع النَّدوة الفكريّة ـ الحواريّة التي نظّمها "المركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق" و" لقاء الحوار الوطنيّ "، وموضوعها العام " أيّ لبنان نريد ؟..."، وذلك في قاعة محاضرات " دار سيّدة الجبل " ( فتقا ـ كسروان )، وذلك أيام الجمعة والسبت والأحد (12 ، 13 ، 14) شباط 1993 .(1)
شارك في هذا اللقاء الثقافيّ مشاركة فعّالة ثلاثة عشر (13) محاضراً ، وما يقرب من تسعين (90) متحدّثاً بين معقّب ومناقش ، وجميعهم من محاضرين ومتداخلين ينتمون إلى مختلف الاتجاهات الفكريّة والثقافيّة والمقامات الروحيّة والتيارات السياسيّة في لبنان . كما ضمّ الحضور عدداً من السياسيين ، نواباً ووزراء ، ورجال دين مسلمين ومسيحيين ، وقضاة ومحامين وأدباء وكتّاب وأساتذة الجامعات : اللبنانيّة ، واليسوعيّة والأميركيّة في بيروت وعدداً أيضاً من المؤسّسات الثقافيّة البارزة في لبنان .
وقد تضمّن هذا اللقاء الثقافيّ الحواري الذي عُقد على مدى ثلاثة أيام متتالية ، أربعة محاور رئيسيّة :
المحور الأول وموضوعه " لماذا لقاء الحوار اللبناني ؟... المنطلقات والأهداف والغايات . المنهجيّة في العمل ، نظرة مستقبليّة ". تحدّث فيه على التوالي كلّ من القاضي غسّان رباح ، الدكتور مصطفى دندشلي ، الأستاذ نبيه الأعور ، القاضي طارق زيادة ، المحامي رامز سلامة ...
والمحور الثاني كان تحت عنوان : لبنان ، الهُويّة والدور ، رؤية مستقبليّة . حاضر فيه السيّد محمد حسن الأمين والأستاذ جوزيف أبو خليل والأستاذ محمد السمّاك .
أما المحور الثالث ، فكان مخصّصاً لبحث موضوع : " لبنان ، الطائفيّة والعيش المشترك ونظام الحكم : الواقع والمستقبل ". المتحدّثون فيه هم المطران جورج خضر والسيّد هاني فحص والمطران بشارة الراعي .
وبُحث في المحور الرابع والأخير موضوع : " مسألة الطائفيّة والمساواة في لبنان ، في النظريّة والممارسة ". تكلم فيه كلّ من النائب المحامي أسعد هرموش والدكتور سامي مكارم والوزير السابق الدكتور إيلي سالم .
وكان يتبع كلّ محور من هذه المحاور حوار مفتوح ومناقشة عامة .
إنّ الغاية الأساسيّة من وراء عقد مثل هذه النّدوات الحواريّة ، إنّما هو دعوة التيّارات الفكريّة السياسيّة المتنوّعة إلى التلاقي والحوار المفتوح ، وبحث قضايا لبنان المصيريّة ومناقشتها ، النظريّة منها والعمليّة ، بالعمق المطلوب والشموليّة المرغوبة والصراحة الضروريّة لنجاح أيّ عمل جدّي رصين .
ويسرّنا في هذا السياق أيضاً أن نضع بين يديّ القارئ الكريم ـ رغم الصعوبات الجمّة ـ وقائع هذه النّدوات الحواريّة الفكريّة التي سعينا أن نقدّم من خلالها صورة عنها ، واقعيّة ، حقيقيّة ، صادقة ، وأن نبقي على الجوّ العام الذي ساد فيها... فحافظنا على جوّ المناقشات وحيويتها وحرارتها قدر الإمكان ، وعلى بنية اللغة العربيّة المحكيّة بتراكيبها وجملها الشفويّة في أغلب الأحيان ... وإنّنا لم نتدخل نحن من جهتنا إلاّ في حالات تنقيح اللغة وإعادة صياغتها عند الضرورة و تصحيحها وجعلها واضحة المعنى والمبنى والأسلوب .
والحقيقة ، فإنّ هذا اللقاء الثقافيّ بالصورة التي جرى فيها شكلاً ومضموناً ، أشاع جواً من الانفتاح الفكريّ بين الحضور والحوار الهادف البنّاء ، أشعرنا كم نحن ، ومثقّفونا على وجه الخصوص ، بحاجة ماسّة إلى أن نلتقي وأن نتبادل الآراء ووُجهات النظر وأن نتحاور ... ذلك أنّ زمن الإلغاء والإلغاء المتبادل قد انتهى وافتُتح عهدٌ جديدٌ بين مواطنين أحرار ، عهدُ الحوارِ ، الحوارِ مع الآخر ، بكلّ جدّية ووعي وصدق ووضوح ، من أجل انطلاقة جديدة ، قائمة على المعرفة ووعي التجربة الماضية .
فهل نجحنا ، من خلال هذا اللقاء الثقافيّ ، ونثر هذه الوقائع ، في أن قدّمنا صورة حقيقيّة وأمينة عن ذواتنا الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة ؟ا... ومهما يكن ، فإنّها محاولةٌ ، محاولةٌ متواضعةٌ ، آملين أن يعقبها محاولاتٌ مستقبليّةٌ أُخرى ، تستفيدُ من تجاربنا وتصحّح العثرات التي لا بدّ من أن ترافق أيّ عمل جدّي تطوعيّ من هذا النوع ... لكن المهمّ أن نستمر وأن نستمر معاً في العمل من أجل البناء ... رغم الصعوبات ...
ميم . دال .
التقديم
أيّ لبنان نريد ؟!
لماذا هذه النّدوة ؟...
بعد هذه التجارب الطويلة والمنعطفات التاريخيّة المتتالية التي مرّ بها وطننا لبنان منذ وجوده حتى الآن ، وبعد حرب مدمرة كادت تودي بمؤسّساته السياسيّة والإداريّة والعسكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة ، كانت قد تبلورت رغبة عميقة وإرادة صلبة لبقاء الوجود اللبنانيّ واستمراريته ، من قِبَل جماهير الشعب الواسعة ، وكان لا بدّ من أن يقع التوافق والاتفاق بين قياداته أو في معظمها ، على بعض المبادئ العامة والثوابت الأساسيّة ، التي يمكن تلخيصها في الأمور التالية :
* الإقرار بوحدة لبنان بحدوده المعترف بها دولياً : أرضاً وشعباً ومؤسّسات .
* اعتبار لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه والتأكيد على وحدتهم في الحاضر والمستقبل والمصير...
* التمسّك بالسياسة التامة والاستقلال الناجز.
* والجمهوريّة هي النظام الملائم والأمثل ، كما الديموقراطيّة البرلمانيّة والحريّات العامة ، وذلك بسبب من تاريخ وثقافة وجغرافيا . وأخيراً لا بديل عن الوفاق : الوفاق الوطنيّ والاجتماعيّ والدينيّ والإنسانيّ ، وإقرار العيش المشترك وحوار الحياة بين المسيحيّين والمسلمين في لبنان .
هذه هي بعض الثوابت المبدئيّة ، وهناك غيرها أيضاً ، يتفق عليها اللبنانيون ، أو معظم اللبنانيّين أقلّه من الناحية النظريّة ... إنّما الإشكال يبرز والخلاف يظهر ، عند البحث في المضمون والمحتوى لهذه الثوابت والمبادئ العامة ... وعندما يُطرح الموضوع على صعيد التطبيق وكيفيّة الترجمة العمليّة لها في الدولة ومؤسّساتها وفي نظام الحكم ومساره ... هنا في الواقع ، يقع الخلاف في وجهات النظر بين الاتجاهات السياسيّة والقوى الاجتماعيّة والروحيّة ، من الناحية السياسيّة والحقوقيّة وعلى صعيد الفكر والفلسفة والثقافة ، ولجهة المصالح والمواقع والامتيازات ...
ونشيرُ هنا إلى بعض المنطلقات المبدئيّة التي كانت تُثير ولا تزال تُثير كثيراً من الخلاف وعدم الاتفاق ، وكان ذلك ما يعيق في الواقع إرساء قواعد الدولة الحديثة وأسسها المتينة ، ويأتي في مقدّمتها على سبيل المثال :
1) مسألة الهُويّة اللبنانيّة ، أو هُويّة لبنان الوطن . وهذا يستدعي في الوقت ذاته ، طرح أو إعادة طرح إشكاليّة الثقافة (الحضارة )، وبالتالي إشكاليّة الشخصيّة الوطنيّة في لبنان ... ما هو مفهوم الهُويّة : مقوّماتها ومضمونها ؟... وهل الدين أو الطائفة هما اللذان يحدّدان في لبنان " هُويّة " الفرد والجماعة ، هُوية المجتمع والدولة ؟...
إذا كان الأمر كذلك ، وإذا كانت الهُويّة تتحدّد على أساس الدين أو الطائفة ، فهذا يعني أن ليس في لبنان هُوية واحدة ، موحَّدة وموحِّدة ، وإنّما هناك "هُويّات "، تعدّد في الهُوية اللبنانيّة ، هُوية الوطن وهوية المواطن ، وذلك بحسب تعدّد الأديان والطوائف الدينيّة ...
كذلك الشأن بالنسبة للثقافة : العلاقة وثيقة ، تفاعليّة ، جدليّة بين الثقافة والهُوية، بين الهُوية والثقافة . فالثقافة ، ثقافةُ الجماعة ، الثقافةُ السائدة في المجتمع : هي التي تحدّدُ معالمَه ، وتوضّحُ هويتَه وتُعطي لهذه الهُوية معنىً ومضموناً وملامح... ذلك أنّ الهُوية إنّما تستمد مقوّماتها وعناصرها وملامحها الأساسيّة من ثقافة المجتمع . وهي تتكوّن في الثقافة وعَبْر المجتمع ، ونتيجة للتاريخ والجغرافيا والواقع الاجتماعيّ والتراث الفكريّ والإبداعيّ ، وشتّى المصالح التي تربط الجماعات والأفراد بعضهم ببعض ، بشبكة من العلاقات المعقّدة والطويلة ، عبر الزمان والمكان ...
ومن جهة ثانية ، وفي هذا السياق أيضاً ، كيف يمكن أن تتحدّد الثقافة بالهُويّة وبالوطن في لبنان ؟... وهل هناك تعدّد ثقافيّ ـ حضاريّ ، أم أنّ هناك وَحدةً في هذا التنوّع الثقافيّ ـ الحضاريّ في لبنان ؟؟...
2) ينتج عن ذلك ويستتبعه طرحُ ما يمكن أن نسمّيه إشكاليّة دور لبنان في الماضي والحاضر، ودوره في الداخل والخارج (العربيّ والعالميّ)، وعلى شتّى المستويات : الاقتصاديّة ـ الاجتماعيّة ، السياسيّة ـ الوطنيّة ، الثقافيّة ـ الحضاريّة ، الأدبيّة ـ الإبداعيّة إلخ... ما هي مقوّمات هذا الدور وعناصره الأساسيّة ؟... ثمّ ماذا يعني أنّ للبنان "رسالة"، " رسالة الحريّة "؟... ما هي ؟... وكيف يمكن تحديدها ، وتحديد مضمونها في النظريّة والتطبيق ؟... وهل تُؤخذ الحريّة هنا وتُفهم في معناهـا الحقـوقيّ ـ السياسيّ ، في معناها الاقـتصاديّ ـ الاجـتماعيّ ، أم في معناها الدينيّ ـ العقائديّ ؟... أم في معناها الإبداعيّ ـ الإنسانيّ ؟... ومتى حقّق لبنان رسالته، وفي أيّ مرحلة ؟... وكيف تجلّت وظهرت هذه الرسالة في مؤسّساته الداخليّة وفي علاقته مع الآخر ؟!...
هنا أيضاً وعلى هذا المستوى ، تُطرح علاقةُ الحريّة بالعيش المشترك بين المسيحيّين والمسلمين ، وعلاقةُ العيش المشترك بالحريّة . ماذا يعني في الواقع هذا المفهوم الاصطلاحيّ ، كثير التداول: " العيش المشترك" ؟... وكثرة التداول هذه، هل تدلّ على أنّه قد ازداد وضوحاً وتحديداً ؟... فماذا يعني إذن ، حقيقة وعملياً ، على صعيد التطبيق والممارسة ، وفي التنظيم السياسيّ والحقوقيّ والدستوريّ ؟...
سؤال كبير، ومهمّ ، وصعبٌ ، ومصيريّ، سؤال فلسفيّ ، سوسيولوجيّ ـ أنتروبولوجيّ: بمعنى فكريّ ، اجتماعيّ ، حياتيّ ، إنسانيّ ... لا نعتقد أو لا نميل إلى الاعتقاد بأنّه قد جرى حوله في السابق نقاش وحوار هادئ وعميق ومتواصل ، سوى بعض الطروحات الانفعاليّة ـ العاطفيّة ، أو الخلافيّة الصداميّة أو التبريريّة ... وأهميّة العودة إلى طرح هذا السؤال بالعمق المطلوب والحوار الفكريّ الرصين أنّ نتائجه السياسيّة ـ الاجتماعيّة كبيرة وأساسيّة ومؤثّرة في طبيعة الكيان السياسيّ وتوجّهات نظام الحكم والدولة اللبنانيّة في الداخل والخارج ...
3) إشكاليّة الدولة اللبنانيّة ، والأسس التي تقوم أو التي يجب أن تقوم عليها ، وعلاقتها بالمؤسّسات الدينيّة في الداخل والخارج ، أو علاقتها بالأديان والطوائف وتعدّدها... بمعنى آخر، إشكاليّة العلاقة المتبادلة في لبنان : بين الطائفة والسياسة ، بين الطوائف الدينيّة والدولة ، بين الطوائف ونظام الحكم .
4) ينتج عن ذلك طرح الإشكاليّة التالية : هل يمكن أن تقوم الدولة اللبنانيّة والنظام السياسيّ فيها ، على أساس الإقرار بوجود الطوائف الدينيّة المتنوّعة ، وشخصيتها التنظيميّة المستقلّة، وتُحقّق في الوقت ذاته، المساواة بين المواطنين، دون استثناء في الحقوق والواجبات ، واعتماد شُرعة حقوق الإنسان ، واحترام مواطنيتهم كاملة غير منقوصة دون اعتبار لدين أو مذهب أو طائفة ؟...
إلى هنا ، وكما قلنا ، بعد هذه التجارب الكبيرة والمتنوّعة التي مررنا بها ، تجارب مريرة ومؤلمة ، غير أنّها في الوقت ذاته تجارب لها جوانبها المفيدة لنا جميعاً ، والغنيّة بالدروس والعِبَر، بعد كلّ ذلك ، نعود مرّة أخرى لطرح السؤال القديم ـ الجديد: أيّ لبنان نريد ؟!...
سؤال طُرح في الماضي ، ويُطرح الآن ، ويُطرح دائماً في ظروفنا التاريخيّة ، في ظروفنا الانتقاليّة الراهنة على أصحاب القرار ، القرار السياسيّ والفكريّ والثقافيّ ، من كلّ التيارات والاتجاهات... ولكنّه لا يزال حتى الآن ينتظر بفارغ الصبر الإجابة أو الإجابات العلميّة ، الصريحة، الواضحة ، هذا إذا كنّا فعلاً نريد أن نعيش معاً ، وأن نسير معاً ، وأن نبنيَ وطناً معاً ... وطناً مستفيداً من تجارب الماضي والحاضر ...
ولكن كيف ، وما هي الأسس ، النظريّة والعمليّة ، لتحقيق ذلك ؟!... من هنا يأتي دور المثقّفين ، وأهل الرأي والفكر والقرار لتقديم إجابات أقلّه نظريّة وتقديم طروحات ومبادئ أساسيّة ، مبنيّة على التجربة والعلم والعقل ، وتعتمد الحوار المنفتح الهادف الصريح من أجل التمهيد وإرساء الأسس لبناء أو إعادة بناء لبنان المستقبل .
مصطفى دندشلي
* * *
كلمة الافتتاح : الدكتور مصطفى دندشلي
يسرّنا أن نفتتح هذا اللقاء الثقافيّ الحواريّ بكلمة ترحيب طيّبة ، ملؤها المحبةُ الصادقةُ ، والرغبةُ العميقةُ في التلاقي والحوار ... فباسم إخواني منظّمي هذا اللقاء : لقاء الحوار اللبنانيّ والمركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق ، أرحبّ بكم أجمل ترحيب ، وأشكر لكم جميعاً ، محاضرين ومعقّبين ومناقشين ، حضوركم وتلبيتكم دعوتنا وإسهامكم في إنجاح هذه الخلوة الفكريّة الحواريّة ، في هذا المكان الجميل ...
إنّ موضوعَ لقاءاتنا في هذه الأيام الثلاثة ، طرحناه للنقاش والحوار بصيغة تساؤل كبير: أيُّ لبنان نريد ؟!... والواقع أن السؤال مطروح بإلحاحٍ في ظروفنا الراهنة . وكان قد طُرحَ في الماضي، ولا يزالُ يُطرح في الحاضر إلى أن تتوضّح لنا رؤية المستقبل وأسس المجتمع العادل الذي نطمحُ إلى بنائه . وطرح السؤال بصيغة الاستفهام لا يحملُ تشكيكاً ، وإنّما يشير إلى الخلاف أو الاختلاف في وُجهات النّظر في كيفيّة إعادة بناء لبنان من جديد ... وإذا كانت الإجابة عن هذا التساؤل ليست بالسهولة التي قد تتبادر إلى الذهن ، بل العكس من ذلك ، إلاّ أنّها تضعُنا رأساً في مواجهة نظريّة : سياسيّة وفكريّة وتاريخيّة ، مع الماضي والحاضر والمستقبل .
فالموضوعُ شائكٌ ، ومتعدّدُ الجوانب والطروحات ... وهو يستدعي بالتالي ، لبحثه في العمق ، أجوبةً متعدّدةً وكفاءات متنوّعة ... لذلك ، وتيسيراً للبحث والنقاش ، فقد أرتأينا أن نقسّم هذا الموضوع العام إلى جانبين أساسيين :
الجانب الأول يتعلق بإشكاليّة الهُويّة والثقافة والدور ، والجانب الثاني يتعلق بطرح موضوع الطائفيّة والمساواة ونظام الحكم في لبنان ، تاركين الجوانب الأخرى من الموضوع والتي لا تقلّ أهميّة عن الأولى ، إلى مناسبات ولقاءات حواريّة مستقبليّة ، تتعلق بالقضايا التربويّة والاقتصاد والاجتماع وغيرها . وسوف نبحثٌ هذين الجانبين في ثلاثة محاور أساسيّة : المحور الثاني والثالث ، يوم السبت في ندوتين صباحيّة ومسائيّة . والمحور الرابع صباح يوم الأحد .
أما المحور الأول ، فهو موضوع ندوتنا لهذا المساء ، وعنوانه : لماذا لقاء الحوار اللبنانيّ: التعريف به وطرح منطلقاته وأهدافه ومنهجيته في العمل .
ونشير أخيراً إلى أنّ الدعوة قد وُجهت للمشاركة في هذا اللقاء الحواريّ إلى أكثر من مائة مفكر ومثقّف ، كمحاضرين ومعقّبين ومناقشين ، من تيارات سياسيّة ودينيّة متنوّعة ، تعبّر في ما نرى تعبيراً صحيحاً وحقيقياً ـ قدر المستطاع ـ عمّا يدور في ساحتنا ويسود فيها من اتجاهات فكريّة وسياسيّة عامة .
ولم يكن في ذهن منظّمي هذا اللقاء الفكريّ الحواريّ من شرط للإسهام والمشاركة فيه سوى شيئين :
1 ) قبول فكرة الحوار ، والرغبة الصادقة في التلاقي والحوار مع الآخر وفهمه بقلب وعقول ولسان سؤول .
2 ) الصراحة والوضوح في الطروحات ، الصراحة والوضوح في عرض الآراء ... كلّ ذلك من أجل العمل الجادّ والمخلص لإعادة بناء مجتمعنا على أسس أفضل ، الإنسان فيه يتمتع بحريته وكرامته وإنسانيته كاملة... فتمنياتنا القلبيّة لنجاح هذا اللقاء، وشكرنا العميق لتجاوبكم معنا..
* * *
كلمة الدكتور مصطفى دندشلي
لماذا لقاء الحوار اللبنانيّ
من خلال تجربتي الشخصيّة في لقاء الحوار اللبنانيّ وهي تجربةٌ عمرُها الآن أكثر من ست سنوات ، ابتداءً من عام 1986 ، أستطيعُ أن أقول وأجزمَ في القول : لو لم يكنْ هذا التَّجمعُ أو المنتدى الحواريُّ موجوداً ، لوَجبَ إيجاده : وهو لقاءٌ أو منتدى ثقافيّ فكريّ حواريّ ، يلتقي وينشطُ بصورة فيها كثيرٌ من التلقائيّة والعفويّة ، يجتمعُ أعضاؤه وأصدقاؤه دورياً مرة أو مرتين أو أكثر في السنة تحت اسم " لقاء الحوار اللبنانيّ ".
وهذا اللقاءُ هو التجمعُ الثقافيّ والفكريّ الوحيد في لبنان ، في ما أعلم ، الذي يَجعلُ من فكرةِ الحوارِ همَّه الأول ومحوراً لنشاطاته واجتماعاته وعلاقاته مع الآخرين. ذلك أنّنا نحن في لبنان، بأمسِّ الحاجة ، بعد هذه الأزمات المتتالية والحروب المتلاحقة ومواجهات الإلغاء المتبادلة ، نحن الآن بأمس الحاجة إلى الحوار، إلى رفض الانسياق وراء الأفكار المُسْبقة ورفض الأهواء الانفعاليّة القاتلة ، خصوصاً بعد هذا الذي نراه من انهيارات في البنى الحزبيّة والقيادات السياسيّة .
أقول : نحن بأمسّ الحاجةِ في ظروفنا الراهنة ، بل أكثر ربما من أيِّ وقت مضى ، إلى الحوار بأشكاله المتنوّعة ، إلى هذا الحوار الديموقراطيّ الهادف والمنفتح والمتجه صوبَ الآخرِ، الآخرِ المختلف سواءً أكان فرداً أم جماعةً أم منطقةً أم حزباً ، أيا كان موقعه وأفكاره . كلّ ذلك من أجلِ بناءِ مجتمعٍ جديدٍ وعلى أسسٍ جديدةٍ مستفيدين من التجربة الماضية .
هل أنا أحلم ؟... ربما! ولِمَ لا! الأعمال الكبيرة ، الأعمال العظيمة في التاريخ ، كانت في بداياتها وفي أذهان أصحابها فكرةً ، رؤيا ، حُلماً ، ثم تحقّق ضمن شروط معيّنة ، وفي سياقِ ظروف مؤاتية وبسبب إصرار ومثابرة وتحدّ وجرأة .
وإذا كنتُ سأعود إلى الواقع وأشير إلى نظرتي إلى اللقاء ، وكيف أفهمُه وماذا أريدُ منه ، فإنّني أقول بأنّ " لقاء الحوار اللبنانيّ " هو بالنسبة لي ، بمثابة نافذة ، إن صحّ التعبير ، نافذة أنفذُ منها وأقتربُ أنا وأصدقائي ومجتمعي المحليّ، لملاقاة الآخرِ ـ فرداً أو جماعةً أو منطقة ـ ومعرفته وفهمه ، وهو أي الحوار رغبةٌ في كسرِ الجليدِ وهدمِ الحواجزِ وبناءِ مستقبل أفضل .
أما منهجيّة العمل والحوارِ ، فلقد آن الأوانُ ، في ما أرى، واتسعت الخبرة وتعمّقت ، لكي تنتقلَ هذه العفويّة في الحوار إلى عفويّة منظّمة، وإلى تلقائيّة ذي أبعاد مضبوطة وإلى حريّة فكريّة لها نظرتُها المستقبليّةُ الواضحة . وإذا كانت فكرةُ الحوارِ ، الحوارِ الديموقراطيّ المنفتحِ على كلّ التيارات الفكريّة والروحيّة والثقافيّة والوطنيّة دون تعصب أو انغلاق ، ينبغي المحافظة عليها كأثمن شيء في حياتنا الفكريّة والثقافيّة ، إلاّ أنّه يجبُ أن ننتقل بها إلى مرحلة أعلى تنظيماً ورؤية مستقبليّة، حتى يكتبَ لهذه الفكرةِ النجاحُ والدوامُ والتأثيرُ الناجعُ في مختلف الأوساط الثقافيّة وفي مناطقنا اللبنانيّة .
* * *
( النَّدوة الثانية )
كلمة التقديم الدكتور مصطفى دندشلي
أرحّبُ بكم أيّها الأصدقاء أجمل ترحيب وأشكرُ لكم حضورَكم ، كما أشكرُ السادة المحاضرين لتلبيتهم دعوتَنا ومشاركتهم معنا في هذه النّدوة ، في هذا اللقاء الحواريّ ، الفكريّ والثقافيّ ، حول موضوع : لبنان ، الهُويّة والدور : رؤية مستقبليّة ...( )
ومفهومُ الهُويّة ، كما مفهومُ الدورِ ، من الاصطلاحات النظريّة ، العامة والمجرّدة ، وعموميتُها تثير كثيراً من الغموضِ والالتباسِ والتفسيراتِ المختلفة ، بل والخلاف النظريّ السياسيّ والفكريّ والثقافيّ ...
وهنا سؤال أو أسئلةٌ تُطرح في هذا المجال : ما هو مفهومنا ، نحن في لبنان ، للهُويّة ؟... ما هو مضمونُها ؟... وما هي المقوّمات الأساسيّة التي تقوم عليها ؟... وهل الدينُ أو الطائفةُ هما اللذان يحدّدان ، في لبنان ، هُويّة الفرد والجماعة ، هُويّة المجتمع والدولة ؟!...
إذا كان الأمر كذلك ، وإذا كانت الهُويّة تتحدّد على أساس الدين أو الطائفة ، فهذا يعني أن ليس في لبنان هُويّة واحدة ، موحِّدة وموحَّدة ... إنّما هناك " هُويّات "، تعدّدٌ في الهُوية اللبنانيّة ، تعدّد في هُويّة الوطن وهُويّة المواطن ، وذلك بحسب تعدّد الأديان والطوائف الدينيّة في لبنان ...
ومسألة الهُويّة تَسْتدعي في الوقت ذاته طرحَ إشكاليّة الثقافة أو الحضارة من ناحية ، وطرحَ إشكاليّة الشخصيّة الوطنيّة ومقوّماتها في لبنان من ناحية ثانية .... ذلك أنّ العلاقة ، كما هو معلوم ، هي علاقة وثيقة ، تفاعليّة ، جدليّة بين الهُوية والثقافة . فالثقافةُ ، ثقافةُ الجماعة ، الثقافةُ السائدة في المجتمع ، هي التي تحدّد معالمه ، وتوضّح هُويته وتُعطي لهذه الهُوية معنىً ومضموناً وملامحَ ... فالهُوية تتكوّنُ في الثقافة وتستمدّ مقوّماتها وعناصرَها وملامحَها من ثقافة المجتمع ...
ينتج عن ذلك ويستتبعهُ طرحُ ما يمكن أن نسمّيه إشكاليّة دور لبنان في الماضي والحاضر، ودوره في الداخل والخارج ـ في محيطه العربيّ والعالميّ ـ وعلى شتّى المستويات ، الاقتصاديّة ، والوطنيّة، والأدبيّة، والإبداعيّة إلى غير ما هنالك. فما هي مقوّمات هذا الدور وعناصره الأساسيّة؟... ثمّ ماذا يعني تعبير " دعوة لبنان التاريخيّة "، وأنّ للبنان " رسالة "، " رسالة الحريّة "؟... فما هي وماذا تعني ؟... وكيف يمكن تحديدُها ، وتحديدُ مضمونِها في النظريّة والممارسة العمليّة ؟... ومتى حقّق لبنان رسالته ، وفي أيّ مرحلة ؟... وكيف تجلّت هذه الرسالة وظهرت وتجسدت في مؤسّساته الداخليّة وفي علاقته مع الآخر ؟...
هذه هي بعضُ التساؤلات، وغيرُها كثرٌ التي تُطرح حول إشكاليّة الهُوية والثقافة والدور... ورغبةً منّا نحن في لقاء الحوار اللبنانيّ والمركز الثقافي للبحوث والتوثيق في مناقشة هذا الموضوع المهمّ الخلافيّ ، بالعمق المطلوب والتنوّع الفكريّ المرغوب فيه ، دعونا السادة المحاضرين : سماحة السيّد محمد حسن الأمين ، قاضي الشرع الجعفري في صيدا، وهو صديق ، ومفكر وأديب وشاعر... والأستاذ جوزيف أبو خليل ، كاتبٌ وصحافيٌ ورئيس تحرير جريدة " العمل " الكتائبيّة سابقاً ، وعضو سابق في المكتب السياسيّ لحزب الكتائب ، والأستاذ محمد السمّاك ، كاتب وصحافيّ ومفكر..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] ) " أيُّ لبنان نريد ؟..."، عنوان المؤتمر الذي نظّمه " المركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق "، أيام الجمعة والسبت والأحد بتاريخ 12 ، 13 ، 14 شباط 1993 ، في قاعة محاضرات " دار سيّدة الجبل " (فتقا ـ كسروان).