المثـقّفون والسياسة اللبنانيّة
المثـقّفون والسياسة اللبنانيّة (1 )
أيّها السيّدات والسادة
أيّها الأخوة الأعزاء
يطيبُ لي في بداية كلمتي أن أتوجّه بالشكر والتقدير إلى الحركة الثقافيّة في أنطلياس ، بشخص رئيسها وأعضائها ، الذين فسحوا لي مجال اللقاءِ بكم والحديثِ في هذه المناسبة ، مناسبة ذكرى الاستقلال ...
وإنّني أنتهزُ هذه الفرصة لأنقلَ إليكم تحية إخواني أعضاء المركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق في صيدا ، بل ولا أبالغُ إذا قلت تحيّةَ مثقّفي صيدا والجنوب الذين يكنّون لكم كلَّ احترامٍ وتأييد ، والذين هم يخوضون أيضاً نفس المعركة التي تخوضون أنتم هنا وإن كان يتمّ ذلك بأشكالٍ ووسائل مختلفة ...
إنّ مشاركتنا في هذه الذكرى إنّما تحملُ معنىً نريدُ دائماً أن نؤكد عليه وهو إرادةُ تهديمِ الحواجزِ بيننا وخرقِ القيود والحدود ورفضِ محاولاتِ فرض التقسيم علينا ، والإعلانِ في أشدِّ المخاطر والصعاب ، أنّنا وطنٌ واحدٌ قلباً وفكراً ومصيراً . وإنّ يَدنا ممدودةٌ إليكم من أجل أن نعمل سوياً لإعادة بناء لبنان المستقبل ، لبنان الديمقراطيّ العربيّ اللا طائفيّ المستقل استقلالاً ناجزاً حقيقياً لا عودة عنه ولا رجوع ...
واسمحوا لي أن أبديَ في هذا المجال رأياً قد يَصْدمُ البعضَ أو قد لا يوافقُ عليه البعضُ الآخر وهو أنّنا لم نكتب بعد تاريخنا الحقيقيّ الواقعيّ ، وتاريخنا الحديث منه على وجه الخصوص... إنّنا نشارك في الأحداث التاريخيّة ، أو نكون شهوداً عليها ، وغيرنا يصنعها نيابة عنا ... هكذا كان في الماضي ، وهذا ما هو حاصل في الحاضر .
لكن الأنكى من ذلك أنّنا ، نحن ، نبدي عجزاً عن استيعاب هذه الأحداث وفهمها وإدراكها واستخلاص العِبَر منها ... فنستعيض عن ذلك ،عند الحديث عنها بالمبالغة والتضخيم والتحريف ، كلّ حسب وجهة نظره وطائفته وأيديولوجيته ... أو نرفع أحياناً صور بعض هذه الأحداث إلى مصاف التقديس والتعظيم . فهنا تضيع الحقيقة وتلعب اللغة دورها والخطابة سحرها . فيدخل الخيال مكان العقل وتصبح الوقائع التاريخيّة أوهاماً .
والمثل الذي أسوقه في هذه العُجالة هو مفهوم الاستقلال ومفهوم الميثاق الوطنيّ لعام 1943 ... وهناك مفاهيم أخرى كثيرة ، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ، مفاهيم الخوف والغُبن والحرمان . هذه المفاهيم التي سأحاول أن أتوقف عندها قليلا وأشير إليها إشارات عابرة ، وأن أطرح بعض الأفكار بصيغة تساؤلات تحمل في داخلها مضمون الإجابة عنها .
كيف تحقق الاستقلال ، فعلاً وحقيقة، في العام 1943 ؟!... وما هو دور القوى الخارجيّة، الدوليّة والعربيّة ، في هذا الحدث التاريخيّ ؟... وهل ما تحقّق هو استقلال حقيقيّ ، داخليّ وخارجيّ، أم أنّ الأمر اقتصر على شبه استقلال آو استقلال ظاهريّ ، كما يقول البعض ؟! ...
وسؤال ملحّ آخر : هل الدول الصغرى التي يقوم نظامها السياسيّ على أساس من توازن الطوائف والمذاهب الدينيّة ، هذه الدول هل هي صالحة للحياة وللاستمرار ، أم أنّها ستكون دائماً وأبداً عرضة للتدخلات الخارجيّة والأزْمات السياسيّة الداخليّة والدوريّة ؟!...
وفي هذا السياق أيضاً ، ما هي الأسس التي قام عليها الميثاق الوطنيّ لعام 1943 ؟... وهل يعقل أنّنا لم نستطع ، أو لم يكن بمقدورنا ، طوال هذه المدة الزمنيّة الطويلة ، تحديد مفهومه وتوضيح مضمونه .. ممّا أثار ولا زال يُثير كثيراً من الخلاف والاختلاف في التفسير والآراء والمواقف ؟!...
وهل يمكن قيام دولة ونظام وكيان على مفاهيم غامضة ، مبهمة ، فيها كثير من الالتباس ، أو أن يُبنى نظام سياسيّ على ميثاق شفويّ وعلى تفاهم بين زعيمين ، بشارة الخوري ورياض الصلح ، لا يعرف أحد منّا حقيقة ما تمّ الاتفاق عليه بينهما ؟!...
ثمّ لنر ماذا يعني هذا التعبير : " لبنان ذو وجه عربيّ " لا شكّ في أنه يعبّر عن جانب من جوانب ما يسميه البعض بـ" العبقريّة " اللبنانيّة ، وذلك في إيجاد التخريجات الوفاقيّة والنصوص المبهمة والعامة . فهو قد أرضى الجميع دون آن يقنعهم . وفسح المجال لكلّ واحدٍ أن يعطيَه تفسيراً ومضموناً يتناسب مع وجهة نظره أو موقفه أو أيديولوجيته السياسيّة والقوميّة . وهو من كونه حمّال أوجه ، يأتي الغموض فيه والإبهام .
وهكذا لبنان ، كمفهوم تاريخيّ سياسيّ قوميّ حضاريّ ، يبدو لنا " أسطورة " Un mythe، أو ما يشبه الأسطورة في أذهان البعض . الأسطورة هنا بمعنى هذه النظرة إلى الحقائق والأحداث نظرة خياليّة غيبيّة ، فيها كثيرٌ من التقديس والبعد عن الواقع ، وفيها كثيرٌ من التصوّرات الذهنيّة البعيدة عن الحقيقة التاريخيّة .
كنت دائماً أراقب باهتمام بالغ وكباحث اجتماعيّ ، مدى تأثير ما أسميه بالأساطير الثلاث : الخوف والغبن والحرمان وما تثيره من انفعال وتوتر وهيجان في حياتنا العامة :
1 ـ مفهوم الخوف : الخوف هنا أعطيه معنى الأسطورة ومفهومها . فهو يستمد عناصره من بعض أحداث التاريخ ، مع تفسيرها طبعاً بكيفية معيّنة . ثم تُعاد هذه الأحداث وتُصاغ بطريقة أخرى مع تضخمها والمبالغة فيها . وهنا نستنجد بالحاضر لإحيائها وتجديدها . فنستخدمها في معاركنا السياسيّة الراهنة كأسطورة ، بالمعنى الذي يعطيه " جورج سوريل "، للأسطورة . فنحرك لها الأحاسيس والعواطف ، ونلهب المشاعر . ونُظهر للجمهور أو للطائفة وكأن الخطر المميت داهمٌ وهو على الأبواب .
وعدوّ الحاضر يتحدّد بسرعة، وهو الذي تجب محاربته من دون هوادة أو توقف : وتصبح المعركة معركة حياة أو موت . ففي وقت كان " العدو " هو المسلم ـ العربيّ بإطلاق ( أنظر منشورات " اللجنة المركزيّة السوريّة " في باريس في مطلع القرن الحاليّ !!...) وفي وقت آخر كان الناصريّة . ولاحقاً الفلسطينيّ . ثم يأتي بعد ذلك السوريّ !!...
والأهميّة في كلّ ذلك هي في الاستمراريّة ، في استمراريّة الأسطورة وتأثيرها الكلّي وهيمنتها على الأذهان ، وذلك من أجل تماسك الطائفة ووحدتها والدفاع عن وجودها ، فتنطلق العواطف وتتفجر الانفعالات . وتتوقف لغة المنطق والعقل . . . فالمعركة هكذا مستمرة في سلسلة مترابطة . والشواهد على ذلك كثيرة ، لا مجال للدخول فيها الآن .
2 ـ مفهوم الغُبن : وهنا أيضاً تأتي الأسطورة الثانية ، أسطورة الغبن ، لتعمّم المفهوم وتنشره ، وتُلهب عواطف المعنيّين به وتثير فيهم الحساسية والغصب وبوادر العصيان ... وإذا كان للغبن من وجود حقيقيّ وفعليّ في لبنان ، فإنّما يُمارس على الجميع ، وعلى الإنسان : الإنسان ، كلّ إنسان هو مغبون وهو المغبون .
فالغبن بهذا المعنى حقيقة واقعة . إنّما تأتي طبقة طائفة معيّنة وتستغله ، بعد أن تعمل على إعادة صياغته في أيديولوجية ، يتمّ تعميمها على عناصر الطائفة الاجتماعيّة التي يُنسب الغبن إليها . ويأخذ هذا الشعار في الظهور ،عندما تكون هذه الطبقة الحاكمة قد فقدت بعضاً من قواها في الاضمحلال والذبول ، فترفع شعار الغبن ضدّ الآخرين ، بعدما كانت هي أول من مارس هذا الغبن بحقّ جماهيرها ومناطقها . والشواهد على ذلك أيضاً أكثر من أن تحصى .
3 ـ مفهوم الحرمان : والشيء نفسه في ما يتعلق بمفهوم الحرمان . فهو مفهوم حقيقيّ ، واقعيّ ويُمارس على فئات اجتماعيّة عريضة وواسعة من الشعب اللبنانيّ ، بنسب مختلفة ، وليس فقط على فئة اجتماعيّة أو طائفة معيّنة .. فترفع الطبقة الجديدة لهذه الطائفة ، هذه الطبقة الدينيّة والتجاريّة والماليّة ، شعار الحرمان وتعمّمه وتصيغه صياغات شتّى مدعومة باستشهادات متنوّعة وجاهزة ، كلّ ذلك حتى تجد هذه الطبقة الجديدة حصتها ، على الصعيد الطائفيّ والسياسيّ والإداريّ، في هذه التركة التي أسموْها " لبنان ".
سؤال مقلق : والسؤال المقلق بعد هذه التجارب السياسيّة والأزْمات العميقة التي مرّ بها لبنان ، منذ ما يقرب من نصف قرن ، يبقى مطروحاً وهو الآتي : هل يمكن قيام دولة على أساس من الخوف والغبن والحرمان ، كمفاهيم متغلغلة في المصالح قبل النفوس ؟!... أو بتعبير آخر ، هل يمكن قيام دولة حديثة ، دولة تُعايش العصر وتجاريه ، على أساس من التوازن الطائفيّ والمذهبيّ ، توازنٍ دقيقٍ باختلاله ـ بسبب داخليّ أو خارجيّ أو كليهما ـ تختل التركيبة بكاملها وتنهار ؟!... وتبدأ دورة العنف من جديد . والعنف يولد العنف في كلّ مكان ، وفي شرقنا العربيّ والإسلاميّ أكثر من أيّ مكان آخر .
أَوَليس قيام دولة تعتمد النظام الطائفيّ والمذهبيّ تخدم ، بوعي أو بدون وعي ، المخطّطات الصهيونيّة ، ليس في لبنان فحسب وإنّما في المنطقة العربيّة قاطبة .
وإذا تبقّى لي من رأي أبديه ، فهو توجيه الدعوة إلينا جميعاً ، بمناسبة ذكرى الاستقلال ، كي نعيد النظر ، نحن المثقّفين والهيئات الثقافيّة في لبنان ، بجميع هذه المفاهيم الخاطئة والمسلمات الوهميّة ووضعها على محكّ البحث العلميّ والنقاش الجريء والحوار الهادئ الرصين ، البعيد عن الانفعال والغرض والمصالح الطبقيّة أو الطائفيّة الضيّقة . كلّ ذلك حتى نرى ماذا حقّقنا ، وهو قليل قليل ، وماذا لم نحقّق ، وهو كثير كثير .
العالم من حولنا يتقدّم بخطوات هائلة مذهلة، وأبواب الحريّة والديمقراطيّة وتحرير الإنسان، تُشرّع على مرأى ومَسْمع منّا ، وإسرائيل واستراتيجيتها العنصريّة ـ الطائفيّة في المنطقة، تهددنا في وجودنا وفي حياتنا . وهذا التهديد سيزداد خطورة وهولاً في المستقبل ، ونحن لا نزال نختلف ويشتدّ الخلاف بيننا ويعلو حول : توزيع المناصب وحصص الطوائف والمذاهب . تُمتهن كرامة الإنسان في كل بقعة من لبنان ، ويُهدّد لبنان في وجوده كوطن لجميع أبنائه ، لا لطائفة من دون أخرى ، ونحن عن ذلك لاهون ، بسفائف الأمور ...
فماذا قدّمت الأنتلجنسيا في لبنان ، في مختلف العقود والعهود ؟!... وهل لعبت دورها في زيادة الوعي لدى اللبنانيّين : في وحدتهم الوطنيّة العضويّة ، وفي وحدة مصيرهم المشترك ، أم أنّ مثقّّفينا كانوا على شاكلة مجتمعنا اللبنانيّ الطائفيّ والمذهبيّ ، فأنتج هذا المجتمع ، هو أيضاً ، كثيرين من المثقّفين الطائفيّين والمذهبيّين المرتبطين بمصالح طوائفهم ووجودها وتناقضاتها ؟!...
لا شكّ في أنّ المثقفين اللبنانيّين عموماً يتحملون جانباً من مسؤوليّة الانهيار والتفكك والانحلال ... فهم لم يلعبوا الدور الذي كان من الواجب أن يضطلعوا به ، أقلّه على صعيد الفكر والكلمة .
فالسؤال يبقى مطروحاً : هل نريد أن نبنيَ مستقبلنا على صورة استقلالنا التليد ، أم أنّ تجربة الحرب القاسية في الخمس عشرة منة الماضية ، قد أعطتنا درساً وزودتنا بإرادة صلبة ، من أجل بناء المستقبل على أسس من الاستقلال والحريّة والمساواة وبناء دولة حديثة تعتمد الديمقراطيّة واللاطائفيّة وتقديس كرامة الإنسان وحريته ، من دون اعتبار لطائفة أو مذهب أو دين ؟!...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) مقتطفات من الكلمة التي ألقاها الدكتور مصطفى دندشلي ، بدعوة من " الحركة الثقافيّة " ـ أنطلياس ، بمناسبة ذكرى الاستقلال في 22 تشرين الثاني 1989 … ونشرت في جريدة " السفير " بتاريخ 30 تشرين الثاني 1989 ...