الدولة والمجتمع والتطوّر الاقتصاديّ
الدولة والمجتمع والتطوّر الاقتصاديّ
منذ القرون الوسطى وحتى أواخرها ، كان يتمّ تراكم رأس المال في أوروبا الغربيّة ، ومعه العلوم والمعارف والتقنيات ووسائل العمل والإنتـاج ... هـنا يطرح السؤال : ما هـو دور الدولة ؟...
من الملاحظ بداية أنّ التطوّر الاقتصاديّ وتراكم رأس المال كان يتمّ ذلك بطريقة عفويّة ، أو عفويّة تقريباً ، منذ القرون الوسطى : الدولة الرأسماليّة ، الدولة البرجوازيّة قد قامت وتكوّنت نتيجة هذا التطوّر الاقتصاديّ ، وهي نتيجة طبيعيّة . فالنموّ الاقتصاديّ ، إذن ، والتطوّر الاقتصاديّ، كان قد سبق وجود الدولة .
* إنكلترا
أما النموّ والتراكم الاقتصاديّ في إنكلترا ، فقد حصل قبل قيام الدولة : من هنا كان من الإمكان قيام تفاهم أو توافق ، أو حلول وسط ، بين الإقطاع والبرجوازيّة ، ممّا خلق الدولة وساعد على قيامها. الديمقراطيّة الإنكليزيّة قامت على أساس من الحل الوسط السياسيّ بين القوى الاجتماعيّة الفاعلة ، ولم يكن هذا الحل الوسط السياسيّ ممكناً ، إلاّ لأنّه تبع النموّ الاقتصاديّ . والتطوّر الاقتصاديّ سبق قيام الدولة وجهاز الدولة ... إنكلترا لها هذه الصفة المزدوجة : من جهة حل وسط سياسيّ ، ومن جهة أخرى الشكل الأكثر تطوّراً والأكثر عمقاً للديمقراطيّة البرجوازيّة. وهاتان الصفتان يسيران وقد سارا معاً.. من أين جاءتا هاتان الصفتان ؟!...
كلّ ذلك جاء من أنّ جهاز الدولة ، كان قيامه بعد التطوّر الاقتصاديّ .. ( الدولة تبعت إذن التطوّر الاقتصاديّ ). حالة الولايات المتحدة الأميركيّة مختلفة قليلاً ، ولكنها تتشابه من بعض الوجوه مع الحالة الإنكليزيّة . كذلك في الولايات المتحدة لم يتمّ التطوّر الاقتصاديّ بواسطة أو بمساعدة الدولة . لم تكن الدولة هي الحافز ، لم تكن هي التي أوجدت أو شجعت ودفعت التطوّر الاقتصاديّ . وكما كان الحال في إنكلترا ، النموّ الاقتصاديّ كان لـه الأسبقيّة على قيام الدولة ، وجهاز الدولة العامة، وجهاز الدولة الفيدراليّة وجهاز الدولة بمجملها . من أجل ذلك ، فإنّ الولايات المتحدة وإنكلترا هما من البلدان حيث الدولة فيها أقلّ حضوراً ، وأقلّ فاعليّة ، على الأقلّ حتى وقت قريب جداً .
* حالة فرنسا مهمّة وغريبة . في فرنسا ، جهاز الدولة وُجد بين بين ، بالنسبة إلى السيرورة الاقتصاديّة التنمويّة، ذلك لأنّه في فرنسا ولدت البرجوازيّة من التنمية والتطوّر الاقتصاديّ. ولكنّها استخدمت جهاز الدولة من أجل معاً : تراكم رأس المال وتثبيت سيطرتها من خلال هذا التطوّر الاقتصاديّ والنموّ الاقتصاديّ ...
... إنّ تداخل البرجوازيّة في جهاز الدولة ، هو أكثر عمقاً في فرنسا منه في إنكلترا : من هنا، جهاز الدولة وثقلها في فرنسا أكثر وأقوى وأعمق... وفرنسا منذ الملكيّة هي بلد مركزيّة الدولة. والبرجوازيّة تسرَّبت إلى جهاز الدولة ، امتلكته ، واستخدمته من أجل التطوّر الاقتصاديّ والنموّ الاقتصاديّ ، وفي الوقت ذاته من أجل إحكام سيطرتها ...
في ألمانيا ، في إيطاليا ، في روسيا : إنّ سيرورة التطوّر الاقتصاديّ تبعت قيام جهاز الدولة وتمركزها ، وذلك بسبب وضع القوى الاجتماعيّة فيها وعلاقتهم بالمؤسّسة السياسيّة وبجهاز الدولة . ففي هذه البلدان فإنّ دور الدولة الاقتصاديّ كان كبيراً جداً ، والتطوّر الاقتصاديّ كان يتمّ عن طريق الدولة ، والدولة أصبحت المحفِّز والمشجع للتطوّر الاقتصاديّ ... ولم تكن الحالة هذه في إنكلترا .
* * *
في البلاد المتخلفة ، فإنّ تكوين الدولة وقيامها ، كان له أسبقيّة على النموّ الاقتصاديّ وعلى التطوّر الاقتصاديّ ... ذلك أنّ هذه البلاد كانت لا تزال في مستوى الاقتصاد البدائيّ ، الاقتصاديّ التقلييديّ [ والمجتمع التقليديّ...]، وانتقلوا إلى التصنيع وقاموا بعمليات التصنيع ، ودولتهم قائمة وعن طريق جهاز الدولة ... وهي حالة مختلفة كلياً ومتعارضة تماماً مع حالة بلد كإنكلترا ، حيث التطوّر الاقتصاديّ سبق ظهور الدولة الحديثة وثباتها وتمركزها ...
إنّ قضيّة الدولة أو إشكاليّة الدولة ، لا تطرح بنفس الطريقة التي تطرح فيها في بلدٍ الدولةُ فيه تتبع النموّ الاقتصاديّ والتطوّر الاقتصاديّ أو تأتي بعده ، أو كما في بلد آخر يسبق فيه الدولةَ وقيامَ جهازها ، التطوّرُ الاقتصاديُّ ...
* * *
أيهما له الأسبقيّة على الآخر : المجتمع بنظمه ومؤسّساته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة ، كان لـه الأسبقيّة على قيام الدولة مثلاً في المشرق العربيّ . أو بتعبير آخر ، إلى أيّ حدّ وصل تطوّر المجتمع ، تطوّره الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ ، في الوقت الذي نشأت فيه الدولة في كلّ من العراق ، سورية ، لبنان ... إلخ ...
وما مدى تأثير قيام الدولة في تطوير المجتمع المدنيّ ـ أو الإعاقة ـ من النواحي الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة . هذه الإشكاليّة ، إشكاليّة علاقة الدولة والمجتمع المحليّ المدنيّ ، مطروحة ولا يجوز إغفالها أو تجاهلها ...
الدولة في مصر :
الدولة في الوطن العربيّ : أرى أن يستبدل هذا التعبير بتعبير الدول في الوطن العربيّ . هذا التعبير : الدولة ، قد يوحي تشابه الدولة وتماثلها مع الدول الأخرى . ذلك أنّه ، علمياً واجتماعياً وسياسياً، لا وجود لدولة عربيّة واحدة ، كنمط واحد ، في الوطن العربيّ . بل هناك دول عديدة ـ إثنتان وعشرون دولة . ولكلّ دولة من هذه الدول لها تاريخيتها ـ على الأقلّ الدولة الحديثة والمعاصرة ـ ولها أيضاً ظروف نشأتها وتكوينها وتطوّرها ، فهذه الظروف قد تختلف في كثير أم قليل عن ظروف تكوين وتطوّر الدولة الأخرى ... فلا نستطيع ، ولا يجوز أن نتحدّث علمياً وواقعياً عن دولة بإطلاق ، وإنّما عن دول في الوطن العربيّ .
كما أنّه في البلد العربيّ الواحد ، قد تختلف الدولة ، إلى هذا الحدّ أو ذاك ، في تطوّرها بين مرحلة وأخرى ، بحسب تطوّر القوى الاجتماعيّة في المجتمع وبحسب هذا التفاعل ، التأثير والتأثر ، وبحسب هذه العلاقة الجدليّة بين الدولة والمجتمع ، وتطوّر قواه الفاعلة : الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة والثقافيّة ...
مصر كمثل :
ما هي طبيعة المجتمع في مصر قبل قيام الدولة الحديثة فيه أيام محمد علي باشا ؟... ما هي القوى الاجتماعيّة المؤثرة فيه ؟... وكيف كانت تمارس المؤسّسات الدينيّة والتنظيمات الإداريّة والعسكريّة عملها ونشاطها ووظيفتها ؟!...
تكوين دولة محمد علي الحديثة ، على أنقاض هذا المجتمع المحليّ : ماذا أبقيَ من هذا المجتمع ؟... وماذا ألغيَ منه ورُفض ؟... وماذا أضيف إلى هذه الدولة الحديثة التي أنشأها محمد علي : كيف تعاملت مع القوى الاجتماعيّة والدينيّة والاقتصاديّة في المجتمع المصريّ المحليّ ؟...
إنّ التطوّر الاقتصاديّ والعسكريّ والإداريّ والثقافيّ ، كان قد تمّ من خلال الدولة الناشئة وعَبرها وتحت تأثيرها ، وليس خارجاً عنها : إذن ، يمكن أن نتحدّث عن هيمنة الدولة وسيطرتها على عمليّة الإنتاج الصناعيّ والاقتصاديّ .
هذه بعض الأسئلة ، وهناك أسئلة كثيرة أخرى تُطرح في هذا المجال لتوضيح هذه العلاقة التفاعليّة بين دولة محمد علي الحديثة والمجتمع المصريّ ... إنّ إيضاح هذه العلاقة التفاعليّة وتحليلها ، له أهميّة كبرى في فهم طبيعة الدولة التي أنشأها محمد علي ، وذلك من الناحية التاريخيّة العلميّة ومن الناحية الاجتماعيّة ـ السياسيّة .
* إنّ قيام الدولة وتكوينها وأسبقيّة ذلك على سيرورة التطوّر الاقتصاديّ وسيرورة تطوّر المجتمع المحليّ بصورة عامة له أهميّة كبرى في طبيعة هذه الدولة ، ومركزيتها ، وتأثير هذه الظروف في تطوّرها مستقبلاً ...
* لقد قسّم الباحث تطوّر الدولة في مصر إلى مراحل ، أو حِقب .. وحسناً فعل :
1 ) المرحلة الأولى هي من قيام الدولة في عهد محمد علي حتى بعد الحرب الأولى وحصول مصر على استقلال (1822/1924). والمرحلة الثانية تمتد حتى 1952 . والمرحلة الثالثة من ثورة يوليو حتى الآن ...
وقسم كلّ مرحلة إلى حِقب زمنيّة : ولكنّه للأسف لم يشر إلى مدى تأثير كلّ مرحلة في طبيعة الدولة القائمة، في أجهزتها وفي مؤسّساتها ، ماذا أخذت من المرحلة السابقة وماذا ألغت وماذا أضافت . مثلاً : البرلمانيّة ، الانتخابات النيابيّة ، كيف كانت تتمّ علاقة ذلك بالدولة القائمة ومدى تأثير كلّ منهما في الآخر ؟...
* لنأخذ مثلاً : الدولة الناصريّة : ثورة يوليو عام 1952 وتأثيرها في تطوير الدولة المصريّة . هنا أيضاً أهميّة دراسة الدولة في المرحلة الناصريّة وتحليلها ، ودراسة طبيعة الوظيفة التي أوكلت إليها وقامت بها ، وظيفة متعدّدة الجوانب والمهمّات والأبعاد . إنّ هذه الدراسة لها أهميّة كبرى في أيّ بحث لفهم كيف كانت تتمّ مثلاً هذه العلاقة بين الدولة الناصريّة والمجتمع المحليّ في مصر أو المجتمع المدنيّ :
* ماذا أبقت الدولة الناصريّة من أجهزة الدولة ومؤسّساتها السابقة عليها ، وماذا ألغت ، وماذا أضافت ؟!....
* عبد الناصر ، في محادثات الوحدة الثلاثيّة عام 1963، أشار بصراحة ووضوح وتأكيد، بعد أن وُجِّهت انتقادات إلى ما كانت تقوم به أجهزة المخابرات في ج. ع. م. ، أكد عبد الناصر أنّ الدولة الحديثة تقوم على تقوية الأجهزة الأمنيّة فيها وتحديثها وزيادة فاعليتها ... كلّ ذلك من أجل حماية أمن الدولة فيها ، في وجه خصومها في الخارج وفي الداخل .
* إشارة سريعة يمكن تقديمها في هذا السياق ، وهي أنّ الدولة الناصريّة كانت تقوم على دعامتين واعتمدت على عنصرَين بارزَين منذ أيامها الأولى :
• تقوية أجهزة الإعلام فيها بمستوياتها المختلفة .
• تقوية أجهزة المخابرات وأمن الدولة فيها .
* * *
قيام الدولة الحديثة في المشرق العربيّ : العراق ، سوريا ، لبنان ، الأردن ، فلسطين بصورة عامة ، لقد قامت الدولة في المشرق العربيّ :
*عن طريق الدولة المنتدبة : فرنسا في لبنان وسوريا ، بريطانيا في العراق ، الأردن ، فلسطين . إنّ ذلك سيترك أثراً ، إدارياً ، سياسياً ، عسكرياً ، ثقافياً ، بارزاً في كلا البلدين ، ينبغي أن يُدرس وأن يُحلَّل وأن يُستخلص منه النتائج ....
ـ قيام الدولة في المشرق العربيّ كان لـه أسبقيّة ، إذن ، على سيرورة التطوّر الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ في المجتمع المحليّ .
هذان العاملان ، لا بدّ إلاّ وأن يتركا أثراً بالغاً وعميقاً في مستقبل البلدين ( سوريا ولبنان) وتطوّرهما الإداريّ والتنظيميّ ، وفي مؤسّساتهما الثقافيّة والتعليميّة والبِنى الاقتصاديّة ـ الاجتماعيّة وعلاقاتهما الخارجيّة .