النهار - العـــرب المسيحيـــون: نـــزوح أم بقـــاء ؟
الأربعاء 3-11-2010
العـــرب المسيحيـــون: نـــزوح أم بقـــاء ؟
يطرح الدكتور كمال الصليبي(1) في "وجهات نظر"(2) قضية "المسيحيين العرب" من زاويتين: الاولى، انه اذا خلا العالم العربي من النصارى، فلا يعود ممكنا آنذاك تسميته "العربي"، ولا يمكن بعدها التظاهر بوجود عروبة من اي نوع. يقول، ان قادة العرب يدركون ذلك تماما، ولذلك تنادوا الى "الطائف"، واشرفوا على وضع الاتفاق الذي عرف باسم الجبل المطل على مكة.
الزاوية، او المدخل الثاني، هو قول الاكاديمي المعروف والمثير لجدل علمي واسع، ان بقاء المسيحيين في المنطقة هو رهن ارادتهم، هم من يقرر البقاء وهم من يقرر الهجرة الى مناخ اكثر مواءمة لثقافاتهم وتقاليدهم الروحية، مفترضا بذلك، ان اسباب الهجرة الكبرى، والمتواصلة، منذ نحو قرن ونصف قرن، هي هجرة مترفة، سببها الخلاف في الاذواق والمسالك الثقافية!
ثلاثة غير قابلة للنقاش:
مدى انتساب الدكتور الصليبي الى العروبة، كقناعة علمية لا وجدانية فقط، وموقعه بين المؤرخين، وثالثا كونه علمانيا لا يدّعي الايمان. فإن له مؤلفا يشكك كليا في جغرافيا المسيحية (التوراة جاءت من جزيرة العرب)، وله مؤلف آخر عن سيرة يسوع، يتحرر من السيرة التي وصلتنا بالاناجيل، ويعتمد ما يسميه "الانجيل العربي" الذي اخفته الكنيسة. وخلاصة القول، ان المسيح ليس هو المسيح، وان المسيحيين ليسوا النصارى الذين نعرفهم وننتسب اليهم. لقد سبق الصليبي الى بشرية المسيح، جبران خليل جبران في "يسوع ابن الانسان" لكنه لم يغير في هويته ولا في رسالته، كما سبقه وسبق الجميع، ارنست رينان، لكنه لم يجرد ابن مريم بنت داود من صورته يسوعاً.
لا نشير الى ذلك لمناقشة الدكتور الصليبي، وانما في محاولة للقول ان الرجل الذي يطرح قضية "المسيحيين العرب" ليس متعصبا لنصرانيته ولا مأخوذا بها، الا من حيث هي واقع حضاري ومسألة تاريخية. واذا كان لا بد من نسب يرتضيه ويقول به من دون نقاش، فهو عروبته.
ولكن ان يقول عالم تاريخ وسياسة ان بقاء المسيحيين في المنطقة او ذهابهم، هو قرارهم وحدهم، فمسألة فيها نظر. كذلك مسألة فيها نظر قول البطريرك صفير لـ"الجزيرة" يوم السبت الماضي، ان سبب الهجرة المسيحية هو تزايد الاصولية الاسلامية. الحقيقة اكثر تعددا وتعقدا. فالنزوح – وليس فقط الهجرة – المسيحي الاخير من العراق، سببه المباشر جرائم وابتزاز يقوم بها خليط من المتشددين وزعران الحروب والانفلات. لكن هذا تسبب ايضا بهجرة مئات الآلاف من المسلمين.
نزوح نصارى العراق، بعد نسف كنائسهم واغتيال كهنتهم ونهب اعمالهم، ليس، اذاً، خيارهم. وهذه ليست هجرة الى مناخ حياتي اكثر مواءمة. فالنصارى، كما يشير الصليبي نفسه، هم اهل هذه الثقافة والتقاليد والعادات التي نشأت قبل قرون من بزوغ الاسلام. كذلك يلمح البطريرك صفير الى ان بعض الهجرة اللبنانية سببه نمط معين في العيش يلقاه هؤلاء في الغرب. وهذا عنوان فرعي لقضية جماعية اوسع من ذلك بكثير. لقد كانت هناك هجرة كبرى الى مصر، استمرت في التوالد حتى قيام 23 يوليو وموجات التأميم وقمع الحريات. وما هو سبب الهجرة الكبرى من فلسطين، ارض بيت لحم، هل هي الاصولية الاسلامية ام هو النظام الاسرائيلي؟ وهل يغيب عنا هنا ان معظم قادة الحركات النضالية المسلحة كانوا من المسيحيين، او ان اشهر داعية فلسطيني في الغرب كان ادوارد سعيد؟
ثمة اربع هجرات واسعة للمسيحيين: مصر، العراق، فلسطين ولبنان. والقاسم المشترك بين البلدان الاربعة ان المسيحيين مؤسسون في اقامة الدولة والمجتمعات، او كما يقول الصليبي، هم الذين هذبوا اللغة العربية، ونقلوها من لهجات قبلية الى ما صارت اليه. ولم يصطدم النصارى بالاسلام، بل احتضنهم روحيا كشعبة من اهل الكتاب، فيما كانت للرسول (ص) نفسه آصرتان بهم: نسب القربى مع مطران مكة، ورقة بن نوفل، وعلاقة الزواج من ماريا القبطية، بالاضافة الى المودة الروحية مع الراهب بَحيرة، كما يورد "صحيح البخاري".
المسألة، اذاً، ليست مدى عمق جذور النصارى في بلدانهم، ولا هي في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين العرب. فالعرب المسيحيون لم تكن لهم اي علاقة بالكارثتين الكبريين اللتين حلتا بالامة الاسلامية. فلا الحروب الصليبية حروبهم، ولا الخروج من الاندلس تبعة عليهم. فقضية العرب المسيحيين، مختلفة من مكان الى مكان، وسياسية في كل مكان. ومعظم الحروب التي هجرتهم، او مناخات اليأس، لم تكن حروبا دينية او طائفية. ففي الحرب اللبنانية هاجر مسلمون كثيرون ايضا من جراء انتشار الفوضى والموت والخراب. وفيها ايضا كان التنكيل المتبادل بين المسيحيين اوسع واشد بكثير مما تعرض له المسيحيون على ايدي فرق القتل الاخرى. ولعل اوسع موجة تهجير حدثت اثر حرب الشرفات والمنازل بين الجيش بقيادة الجنرال ميشال عون والقوات اللبنانية بقيادة الدكتور سمير جعجع، وهي حرب مستمرة الى الآن، وكذلك آثارها على الوجود المسيحي، الذي تهاوى من الطليعية الى التبعية. واحيانا الى ما دون ذلك.
بعدما كان العرب المسيحيون قادة الفكر العروبي والوحدوي، تضاءلت علامات هذا الوجود حتى امحت. فقد كانت القضايا التي طرحوها في مصر وسوريا ولبنان، قضايا انسان القرن العشرين: الاستقلال والحرية والتقدم. وحمل الدكتور فارس الخوري قضية الاستقلال الى الامم المتحدة فيما حمل اليها الدكتور شارل مالك قضية حقوق الانسان في كل الارض. وحمل انطون سعادة وميشال عفلق، كل بأسلوبه، فكرة الوحدة الكبرى. وفقط من قبيل التسجيل لا بد ايضا من ذكر جورج انطونيوس وامين الريحاني وقسطنطين زريق ونجيب عازوري ونجيب نصار وجورج حنا وجبران تويني وسواهم. فماذا يطرح علينا المسيحيون اليوم؟ ما هي القضايا التي يبسطونها والآفاق التي يرسمونها؟ وكيف لا يهاجرون اذا تحولوا مجموعة متشابكين بالايدي ومتناطحين بالرؤوس، فيما يتولى الآخرون طرح مصيرهم على العالم.
على انه من المناسب لفت الدكتور الصليبي وسائر علماء الاجتماع ودارسي الحركات البشرية في الجامعة الاميركية، الى ان الهجرة لم تعد لعنة مسيحية والخوف لم يعد ارثا نصرانيا في الشرق. يجب ان نلاحظ عدد ابناء المسؤولين العرب الذين طلبوا هجرات كندية واميركية. وان نلاحظ ان مئات الآلاف من العرب "المكتومين"، يحملون جنسيات وجوازات طوارئ. وان نلاحظ ان قضية الحريات العامة والمجتمع المدني وحكم القانون والخوف من المستقبل، ليست خصوصية نصرانية. جميع الذين يتظاهرون بالشجاعة والصمود خائفون من العصابيات التي فككت العراق، بدل التوحد في وجه الاحتلال. الجميع مذعورون من ان العراقيين استخدموا الاحتلال بعضهم ضد البعض، وان الفلسطينيين ما ان عادوا الى ارضهم حتى انشقوا الى دويلات. واما الاكثر فظاعة فان قرنين من الطائفية في لبنان، ليسا في سوء ما وصلت اليه المشاعر المذهبية.
سمير عطاالله
((1) الرئيس السابق لدائرة التاريخ وعلم الآثار في الجامعة الاميركية. (2) مجلة النخبة العربية، تصدر عن دار الشروق، القاهرة.