السفير- مسؤولية العبث المشترك بالعلاقات اللبنانية ـ السورية
الجمعة 22-10-2010
مسؤولية العبث المشترك بالعلاقات اللبنانية ـ السورية
احمد جابر
يحتل موضوع العلاقات اللبنانية ـ السورية موقعاً حساساً، على وجه مستديم. لا افتعال في ذلك، بل هي أحكام الموقع اللبناني، ذي التاريخ الذي لم يُصغ توافقياً بعد، و ذي الجغرافيا التي لا تستطيع القفز في الجو، أو الانسياب عبر الأمواج. ضرورات الموقع هذا، الخارجية، ما زالت تجمع تناقض القهر و الاختيار، لكنها لا تخرج إلى رحاب الطوعية الشاملة.
يحتوي الاضطرار البنيوي - الموقعي رؤى عروبية، ونظرات غربية، و نظريات محلية، لكن الخليط يستمر هجيناً، على المستوى «المجتمعي العام»، فلا يكون حاصله ثقافة اجتماعية وسياسية، تنهل من مشارب مختلفة، ثم تعود لتعلن نسختها الخاصة، التي تُعرف بها، و تمكّن من التعرّف إلى «الأقوام اللبنانية»، من خلالها.
هذه «الخلطة» الداخلية، جعلت أمر العلاقات اللبنانية مع التعريب، صعباً، ووضعت السياق «الوطني» الأشمل، في سياق إشكالي دائم، مع «التغريب» و متفرعاته. ضمن هذين الحدين، كانت سوريا السياسة، نقطة الاحتكاك الأقرب، وبات الموقف منها، قرباً أو بعداً، مقياساً لعروبة طرف، و انتقاصاً من عروبة طرف آخر.
فشل العروبة في ديار «فلسفتها»، شكل عائقاً أساسياً أمام عبورها إلى الداخل اللبناني، عبوراً جامعاً، يغري بمثاله المتحقق في أكثر من بلد عربي، و يبرر البرامج التي تدعو إلى إنشاء ما يماثل هذا المثال. خلاصة القول، في هذا المجال، أن الفشل الداخلي اللبناني، عروبياً، انطوى على واردات الفشل العربية، وأن البنية المحلية الضعيفة، تعرضت لأسباب الوهن العربية الإضافية الوافدة، فناءت بأحمالها، وتهاوت تحت وطأة ضغوط شعاراتها، المفرغة من وعودها الأصلية.
تفتقر المارونية السياسية الراهنة، إلى خيالها الكياني، وإلى منطق ابتكاراتها الاستقلالي، الذي أتاح قيام الجمهورية اللبنانية، بتوازناتها القلقة، ولكن بآمالها المفتوحة. لقد صارت المارونية أسيرة مسارها، الذي أنتج لحظة انفجار الكيانية، وهي مقيدة بقيود انكسارها، الذي رسمت حدوده موازين نهاية الحرب الأهلية، في العقد الأخير من العام المنصرم. لذلك، فإن الطائفية السياسية المارونية، التي احتلت المركز الأول من صفوف أهل الصيغة، آلت إلى التهميش، فالتوظيف، من قبل أهل الإسلام السياسي عموماً.
لم تسلم السنية السياسية من شظايا الانفجار الأهلي، واهتزت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فانتقلت خطوات خارج «وسطيتها» و تسوويتها.قد يمكن الاستدراك، لكن ذلك لا ينفي أن الطائفية السياسية المستقرة هذه، قد استجابت لإغراء الغلبة الداخلية، و تخلت، ولو مؤقتاً، عن الاكتفاء بوزن المحيط العربي الأكبر، الذي تنتــسب إليه. تجدر الإشارة إلى أن أحد أهم أسباب استقرار السنية السياسية، هو شعورها الأكثري، أي اطمئنانها إلى أنها لا تنزل منزلة الأقليات الأخرى، التي تتبادل المخاوف لأسباب شتى. ثمة تكرار مفيد، هو أن الشعور المشار إليه، مضمونه «العربية» بالانتساب، و«الإسلامية» بالاعتقاد.
على خط موازِ، راكمت الشيعية السياسية عوامل نهوضها حتى فاضت عن قدرة «الكيان»، و بديلاً من حيويتها الاندماجية، التي كان عنوانها الإفادة من خيرات النظام واحتلال مواقع فيه، مناسبة و متوازنة مع حجم «الكتلة الشيعية» الصاعدة، جرى الانتقال إلى مطلب الفوز بقرار تقرير مسار النظام و التحكم بوجهته، أي إلى ما يعادل السيطرة على الحكم من فوق رأسه، و إلى التحكم «بمصير الدولة»، من دون احتلال الموقع الرسمي الأول فيها.
بين الأطياف هذه، فقدت الدرزية السياسية ميزتها العابرة، أي فقدت جنبلاطيتها الأصلية، التي واءمت بين تشكيلة قوى سياسية، و صاغت محصلة منسجمة لمصالحها، و استطاعت الانتساب إلى «أهواء اجتماعية» مختلفة، و قادت من موقعها «العابر»، قوى و تحركات، لم يكن سهلاً على مناوئيها، رميها بتهمة الطائفية المحضة.
ماذا أنتجت اللوحة المعروضة؟ لم تنتج أكثر من نتف تدّعي النخبوية السياسية، يقارب أداؤها دور الأبواق فقط، بحيث يمكن توقع محتوى خطابها مسبقاً و بحيث يكون معلوماً أنها بلا مرتكزات و قواعد اجتماعية، تتيح لها التدخل بقوة أفكارها، و بوزن قواها المادية. هي «نخبة» هشة، لا تصدر عن ذاكرة وطنية داخلية، و لا عن مرجعية فكرية قومية، أو ما فوق قومية، لذلك فإن سمة الانتقال بين القوى و المواقع، تظل لصيقة بها، مع ما يرافق ذلك من نقص في الجدية السياسية، وفي المصداقية الفكرية.
هذا من الجهة اللبنانية، لكن ماذا عن الجهة السورية المقابلة؟.ليس مطلوباً، في الإجابة عن هذا التساؤل، الخوض في ترسيمة البنية الداخلية السورية، التي لها تمايــزها عن البنية اللبنانية، في نشأتها و في مسار تطورها، و قد يكون متعذراً ذلك، حتى لا يكون الحديث عن تلك البنية حديثاً «استشراقياً»، لكن ما هو ممكن من الخوض في تجليات السياسة السورية، ضمن الوضع اللبناني، هو الإشارة إلى الخلفيات العامة التي تسند تلك التجليات، وكما هو معلوم فإن بعض المستندات معلن، وبعضها الآخر مضمر، وكثيراً ما تلـتف الشعارية السورية، على المضمر والمعلن من منطلقاتها.
لقد قدمت السياسة السورية نفسها من خلال وجهة أحادية، كلما تعلق الأمر بالشؤون اللبنانية. تكمن الأحادية في منطق الخطاب القومي الموروث، الذي لم يُقدم أصحابه على مراجعته، مع أن دعائم ذلك الخطاب صارت إلى الذكرى، ولم يصمد منها إلا توظيفها السياسي اللغوي، الذي بات عاجزاً عن الإقناع، و مفتقراً إلى الاستقطاب الاختياري، الذي يعادل توليد القناعة السياسية والفكرية. ما ينبغي التخلي عنه، من قبل سوريا اللبنانية، كثير، لكن التعمية السياسية تأتي في طليعة الكثرة المشار إليها. معنى ذلك، أن على السياسة السورية أن تتقدم برؤية واضحة لعلاقتها «بشقيقها الأصغر»، تتضمن معنى الأخوة، وتحدد عمق المصالح المتبادلة، و تفصح عن الهواجس المشروعة، و تشير إلى شكل التضامن اللبناني معها، ولا تنسى أبداً ، أنها تتوجه إلى شقيقها المستقل، الذي تشكل استقلاليته شرطاً ضرورياً لازماً، لتأسيس أي علاقة سليمة، قابلة للتطوير، و تتمتع بأسباب الديموية والاستمرار. لكن هل المراجعة السياسية، لسياسة سوريا اللبنانية، ممكنة؟ حتى الآن لم تقدم الوقائع ما يسند إمكانية حدوث هذه المراجعة، بل إن ما يطفو على سطح الأحداث، هو تكرار لسياسات سابقة، لن تؤدي إلا إلى مزيد من التعقيد، في مسألة العلاقات المشتركة، التي يجب أن تغادر كل تعقيد.
على سبيل الاستخلاص، لن تشهد العلاقات اللبنانية السورية استقراراً، ما دامت تقوم على منطق الغلبة الداخلية، التي تستند إلى منطق الاستقواء بالعوامل الخارجية، التي يعتبر ساستها أن الداخل اللبناني شأنٌ خاصٌ بهم أيضاً. عليه ستبقى السياستان، السورية واللبنانية خارج إجراء المراجعة الموضوعية، لأسباب بنيوية تتعلق بكلا التشكيلتين، في البلدين الشقيقين حقاً، لكن العبث المشترك بجوهر العلاقة، يضعهما دائماً في خانة «الأخوة الألداء».