السفير - مشتـركـات الاستقـلال الضـائعـة
السبت 20-11-2010
مشتـركـات الاستقـلال الضـائعـة
احمد جابر
صار الاستقلال اللبناني مادة تعبوية سجالية، وفقد، على أيادي محبيه والمفسرين، مضامينه الأصلية التي كانت له، وجرى تبديد المسار «السليم»، التوافقي، الذي توصل إليه اللبنانيون ذات يوم، وأعيد تلزيم السياسات العليا المصيرية، «لقناصلة الخارج»، بأسمائهم العربية والأجنبية والأعجمية. لكن ما يدعو إلى العجب والاستغراب من سياسات الطوائف، بالنسبة لمراقب عادي، يقع موقع عادة «وطنية»، أثيرة واعتيادية، لدى من يتولى شؤون الطوائفيات السياسية. مادة الاستغراب ونقيضه واسعة، وأساس الافتراق في التقويم له بداياته المعروفة، ونهاياته التي لما تزل مفتوحة على شتى المنوعات، المألوفة وغير المألوفة.
على صعيد البداية، صيغ الاستقلال طائفياً، وجاءت مواثيقه وعهوده، نتيجة لمحصلة المسار السياسي، الذي سلكه الكيان الطائفي، الوليد حديثاً في العام 1920. ما حملته المواثيق الأولى من لغة تضمن الطائفية وتعلن العزم على تجاوزها، أخلى مكانه ببطء، لكن بثبات، للغة وممارسة، تشهران الطائفية وتمارسانها. جرى الافتراق مبكراً، بين ضرورة إعلان الكيان، مع علله الطائفية، وبين إدراك عدم قدرة تطور الكيان وهو مصاب بكل تلك العلل. بكلام آخر، تمسك «المؤسسون الاستقلاليون»، بكيانهم الذي رسموه في مخيلاتهم، ورفضوا إدخال تعديلات أساسية عليه. أي أنهم راوحوا عند معادلة زمنية – سياسية بعينها، ورفضوا مبارحتها إلى معادلات أخرى، لها سياساتها وأزمنتها المحددة. لم يلبث الحراك السياسي والاجتماعي، أن أطاح بالثبات «الدوغمائي الطائفي»، ولأن المطابقة شديدة، «بين علة وجود البلد، والبلد»، أصاب الاهتزاز البنيان الوطني، و«العمارة الاستقلالية»، عندما هددت التطورات الاجتماعية، بالنيل من الامتيازات والمواقع السياسية – الطائفية.
تطورات الأمس اللبناني، ومشهد اليوم السياسي، يضعان الحقائق اللبنانية على مفترق مصيري مأزوم، ولا يتيحان في المقابل، الحديث الموضوعي الموثق، بالوقائع والدلالات والقوى، عن إمكانية تسوية مستقرة، تتمتع بمقومات العيش لحقبة مديدة. أخطر ما في المشهد الحالي، إعادة استحضار موضوع «الهوية الوطنية»، مع ملاحقه الداخلية والخارجية. يترافق النقاش الراهن، مع فقر شديد في الأفكار والرؤى والبرامج، ويتعارض مع الحيوية السجالية، التي واكبت ولازمت استعراض كل المواضيع الوطنية في السابق. بات الاختزال والابتسار، سمة لصيقة بالطرح وبالاقتراح وبسبل المعالجة. لا وجود اليوم لبرنامج سياسي محدّد، ذي بنود واضحة، تدعمه خلفية نظرية، ويسعى لتحقيقه تحالف اجتماعي، ذو أطر معروفة، ولغة مشتركة بيِّنة. هذا ليس مقصوداً به القول، إن كل ما انطوى عليه الماضي كان جميلاً، بل المقصود أن مقاربات السلف، لامست المواضيع، وركضت في ميادينها، وحاولت، على طريقتها، تغييراً لا يطرق بابه الخلف، بل يبذل جهده في ميدان إعادة عقارب التحول الاجتماعي، إلى الوراء.
الأحداث السياسية، التي ترصد حركة الارتداد السياسي والاجتماعي، كثيرة، والأسئلة – المداخل إلى المواضيع، لا تنتظر طويلاً على باب الأجوبة. موضوع الاستقلال، الذي نعيش أيام ذكراه، لن يعثر على إطارٍ «مفهومي» واحد له، ومن الصعب تعريف من هم حلفاؤه، ومن هم الأعداء. مصدر الصعوبة، تعريف «الشعوب اللبنانية» لذواتها، ولمصالحها ولتحالفاتها، فالخصم الاستقلالي، في بيئة طائفية، حليف سيادي في بيئة طائفية أخرى، وعلى ذلك يمكن القياس في شتى المواضيع الخلافية.
الحاجة إلى أسس جاذبة ملحّة، وهي تشكل مطلباً موضوعياً «للوطن المعذب»، إذ أنه خارج الأسس الاستقطابية الجامعة، لا إمكانية لافتتاح مسيرة بناء المشتركات. عودة إلى الهوية الوطنية، للقول، إن إعطاءها بعضاً من المضامين، يشكل ضرورة ماسة. على هذا الصعيد ما الذي يمكن الدعوة إلى نقاشه، نقاشاً تأسيسياً جديداً، في ظل التراشق الشامل بالتجزئة الطائلفية؟ مسألة الاعتراف بالتطور الخاص للبنية اللبنانية، أمر استهلالي هام، هذا يعني التخلي عن «يوتوبيا» الشعب العربي الواحد، في بلدان متعددة، والانصراف إلى معاينة معنى السياق الخاص، الذي حكم تطور كل «شعب» على حدة. هذه المعاينة تتيح تشخيص الخصوصيات، وتظهير المشتركات، فتجعل الخصوصية الواقعية، ممراً إلى العمومية الأشمل، وحدوية كانت أم تكاملية.
هنا تحضر العروبة بمحمولاتها الغنية، بصفتها رابطة داخلية لا غنى عنها، لأنها، أي العروبة، تؤمن اللحمة الداخلية، التي تحتضن الخصوصيات، في كل داخل، وتجعله منفتحاً ورحباً، حيال الدواخل الأخرى. حيث يترنح «الدين»، تنتصب العروبة، وحيث تسد المذاهب قنوات الاتصال، تفتح العروبة مسالك التواصل، وحيث تعلو اللهجات المحلية، ترفع العروبة لغتها العالية، دون نفيٍ أو تحقيرٍ أو تزمتٍ أو انعزال. على هذه المعاني، العروبة مكمل داخلي لكل داخل، وعلامة على ديموقراطيته، وعلى قدرته على التواصل مع الآخر، وابتكار الأسس الموضوعية لتكامل المصالح والأهداف.
هل يمنع ذلك من معاينة النسخ التي سادت، وما زالت، باسم العروبة؟ كلا بالتأكيد، بل إن إعمال أقلام النقد، في التجربة العروبية في أقطارها، ممر إجباري إلى استقامة موضوع العروبة، على صعيد شامل.
على قاعدة الوطنية والعروبة، تقاس كل السياسات الأخرى، التي يقول واقع الحال، إنها تفرط بالأمرين معاً. فمن امتنع عليه معنى الوطنية الواسع، ما زال يجري وراء الاستقواء بهذا الخارج أو ذاك، ومن أغلق عليه باب العروبة، معنى وممارسة، ما زال يختفي، بالديماغوجيا، خلف أقنعته العروبوية. عليه ما الاستقلال الذي تتداوله أطياف السياسة، عندما تكون الإمرة للخارج؟ وما قاعدة هذا الاستقلال الاجتماعية، عندما يكون الأمر والنهي لقوى الالتحاق الطائفية؟ وما السيادة والاستقلال والوطنية والمستقبل...، عندما ترى كل طائفة في البلد أدوات لتحقيق مصالحها الضيقة؟ هذا بديلاً من أن تكون دروبها المتفرعة، «وسائل نقلٍ» إلى الدرب الوطني العام!
إقرأ للكاتب نفسه
• مسؤولية العبث المشترك بالعلاقات اللبنانية ـ السورية 22/10/2010
• أيلول الانقسامات الأهلية 02/10/2010