السفير- خلفيات التفرقة والوهن لدى العرب في العالم المعاصر(1)
الأثنين 1 تشرين الثاني 2010
خلفيات التفرقة والوهن لدى العرب في العالم المعاصر (1)
جورج قرم
لا يشكّ في أي محلل مطلع على تاريخ المجتمعات العربية المعاصرة بأنَّه تاريخ مليء بالفتن في ما بين الأقطار العربية، كما داخل العديد من المجتمعات القطرية، مما وضع معظم المواطنين العرب في حالة حيْرة وقلق، بلْ بالنسبة إلى الجيل الشاب، في الرغبة الشديدة إلى هجرة الوطن نظراً لصعوبة الظروف المجتمعية والاجتماعية فيه. لذلك، وأمام هذا المشهد المفجع، لا بدَّ من أن نسعى إلى استيضاح أسباب التفرقة والفتن التي أصبحت سمة رئيسية من حياتنا العربية المعاصرة، لكيْ نتمكّن من المساهمة الفكرية المتواضعة من أجل تسريع ظهور نهضة عربية، قطرية وقومية، تغيّر من المسار الانحطاطي الذي نحن فيه، منذ الحرب العربية ـ الإسرائيلية في عام 1967، والقضاء على ما سمَّيْتُه في مؤلَّفي «انفجار المشرق العربي. من تأميم قناة السويس إلى غزو العراق 1956-2007» «دينامية الانحطاط».
وسنستعرض هنا معطيات أزمة الوجود العربي المتواصلة على محوريْن. يتعلَّق الأوَّل بما يمكن أن أسمّيه الأسباب الأنتروبولوجية التراثية في تاريخ المجتمعات العربية؛ والثاني سيركّز على المعطيات الحديثة التي قد تتشابك مع المعطيات التاريخية لتجعل من الدول العربية والمجتمعات التي تديرها دولاً رخوة غير متعاونة في ما بينها، مما يحطّ من شأن العرب في النظام الدولي ويعرِّض الأمة بشكل متواصل إلى الفتن والقلاقل والتدخل الخارجي الذي يمكن أن يأخذ أشكالاً استعمارية متجددة من الغزو العسكري والاحتلال.
أولاً: المعطيات التاريخية والانتروبولوجية
أـ ضرورة تجنُّب النظرة الأنتروبولوجية الجوهرانية
يجب أن نعالج تلك المعطيات بدقة متناهية لتجنّب الوقوع في النظريات الغربية حول العلم الانتروبولوجي الذي يدّعي تبيان سمات وطبائع وعقليات تميِّز المجموعات الإنسانية بشكل ثابت لا يتغيَّر عبر التاريخ، وهو طرح مهيْمن في علوم الانتروبولوجيا التي تمارس بأشكال مختلفة نوعاً من الرؤية الجوهرانية إلى طبائع الشعوب والمجتمعات، بحيث نعتقد أنَّ لكل شعب أو مجتمع أو ملّة أو إثنية أو مذهب ديني عقيدي موروث جيني الطابع لا يتغيَّر عبر التاريخ. هذه الجوهرانية قد اعتُمِدَت في كثيرٍ من الدراسات الاستشراقية حول المجتمعات العربية أو المجتمعات الإسلامية، وكأنَّ المقولتيْن مترادفتان أيْ كأنَّ هناك «مجتمع إسلامي» متطابق من أقصى شرق آسيا والقارة الهندية إلى المحيط الأطلسي، لا فرق بين عربي وأعجمي وتركي وأجزاء الشعوب الهندية أو الصينية المختلفة التي اعتنقت الإسلام ديناً.
وفي المجادلات الصاخبة بين المثقفين العرب في العصر الحديث، نرى البعض منهم ـ كما سيظهر لاحقاً في الجزء الثاني من هذه الدراسة ـ متأثرين إلى درجة كبيرة بهذه النظريات، فيتماهى عندهم صفة العربي وصفة اعتناق الديانة الإسلامية.
غير أنَّ المشاهدة التاريخية الدقيقة تفيد بأنَّ ليس من شعب إلا ونجده يتغيَّر عبر الأزمنة بفعل الظروف والأحداث والفتوحات والغزوات والحروب والتغيير في العادات الاجتماعية وفي المستوى العلمي والتكنولوجي. لذلك لا بدَّ من تجنُّب الوقوع في القول باستحالة تغيير الشعوب وحضارتها وعلومها عبر المراحل الزمنية الطويلة. ومما لا شك فيه أنَّ العرب اليوم هم غير العرب أيام ما يُسَمَّى بالجاهلية، وهم غير العرب في ظل هيْمنة العنصر العجمي والتركي على مقدّراتهم، وكذلك هم ليسوا تماماً كما العرب الذين قبعوا تحت الهيْمنة الاستعمارية البريطانية أو الفرنسية.
ب ـ من هم العرب؟ وما هو دور النظام القبلي والبطريركي في مجتمعاتهم
وعندما نتحدَّث عن العرب، فنحن في الحقيقة نشمل الشعوب العديدة المستعرَبة على أثر الفتوحات العربية، خاصةً في بلاد ما بين النهريْن ومصر وشرق المتوسط وغربه؛ كما نشمل في كلمة العرب الشعوب الأخرى التي حافظت على كيانها اللغوي الخاص مثل العنصر الأمازيغي في غرب المتوسط والعنصر الكردي والآشوري والسرياني في شرقه. ولا شك في أنَّ مثل هذا التعريف قد يثير حساسية كبيرة لدى أبناء المجتمعات التي لم تُستعرَب، وإنْ اعتمدت الإسلام ديناً لها، لكنني أتحدّث هنا عن مجتمعات مركّبة حيث تعايش وتداخل كل من العرب والمستعرَبين والمجموعات الإثنية التي لم تتعرّب بحالة أمان وسلام خلال قرون طويلة. وأنا أعني هنا أيضاً بكلمة «العرب» من تعرَّب من الطوائف المسيحية الشرقية، لكنَّها بقيَت على الديانة المسيحية تحت نظام قرآني المصدر، الخاص بأهل الكتاب الذين يصبحون بذمة الحكّام المسلمين، كما أعني الطوائف اليهودية التي كانت في المغرب العربي في كثير من الأحيان أمازيغية الأصل. أما في المشرق، فقد كانت متجذّرة منذ آلاف السنين، وبشكل خاص في الأرياف اليمنية وفي المدن العراقية، وهي أيضاً استفادت من مزايا نظام الملل، بالإضافة إلى العديد من اليهود من الأصل الأوروبي، وبشكل خاص الإسباني، الذين هربوا من أوروبا ليعيشوا باطمئنان وسلام في ديار المسلمين.
وهذه الدقائق في استعمال كلمة «عرب» هي مهمة للغاية لأنَّ المعنى الضيِّق للكلمة يشير في الأساس إلى مجموعة القبائل من البدو الرُّحَّل التي كانت تقطن شبه الجزيرة العربية، وبشكل خاص في شمالها، بينما في جنوبها كانت المجتمعات أكثر تنوّعاً نظراً لوجود بيئة زراعية ومدينية هامة. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو ما إذا كان العنصر القبلي في الحياة العربية هو الذي ما يزال يسيطر على الطبائع والعقليات في الزمن المعاصر وهو الذي يفسِّر المشاحنات والتفرقة والتنافس الفوضوي في ما بين العرب الذين بقوا قبائل غير منضبطة في إطار الدولة الحديثة؟ وهذا ما طرحه المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي عندما فسَّر التخلُّف العربي عن ركب الحضارة الحديثة بالبنية العائلية البطريركية الطابع، وهذا ما يعتقده العديد من المثقفين العرب المتأثرين بالأدب الأنتروبولوجي والإثني الأميركي الذي يركّز في ما يختص بالعرب على البنية القبائلية للمجتمعات، وكذلك على سلطة الرجل ضمن العائلة كسلطة مطلقة على جميع أفراد عائلتها.
ج ـ الأسباب الوضعية للانحطاط العربي
وباختصار، فأنا لا أؤمن بمثل هذه المقاربة التفسيرية لمصدر التخلّف ودينامية الانحطاط العربي المعاصر، إذْ أرى أسباباً أخرى موضوعية وتاريخية يجب أن تُؤخَذ بالحسبان عند تحليل وضع العرب في ركب الحضارة العالمية الحديثة، وسأكتفي بذكر أهمها:
1. خروج العرب من القيادة السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط منذ القرن العاشر
إنَّ ظاهرة خروج العرب من التاريخ خلال العصر العباسي عند بلوغ الحضارة العربية الإسلامية أرقى المستويات لهيَ ظاهرة لافتة للنظر، لكنّها قلَّما تمّ درسها بشيء من الإمعان. كيف نرى فجأة العنصر العربي يبتعد عن إدارة دولة الخلافة التي أسسها بإنجازات عسكرية وحضارية عظيمة وترك الأمر للوزراء والقيادات العسكرية غير العربية؟ وهذا الخروج من الحكم سمح للممالك التركية والعجمية بممارسة الحكم الفعلي إلى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، عندما تفكَّكت السلطنة العثمانية وانحصرت قوة وسطوة الدولة الفارسية. وقد كانت الدولتان في حالة حروب متواصلة في ما بينها منذ بدايات القرن السادس عشر، مما أضعف الدولتيْن معاً وفتح الباب أمام الهيْمنة الأوروبية المتعاظمة على الشرق الأوسط. وهذه ظاهرة قلَّما تحظى بانتباه المؤرخين الذين أصبحوا أسرى منهج تأريخ الدول الإسلامية وليس منهج تأريخ العرب، وبالتالي فإنَّ الهوية اللغوية والثقافية للحكام لم يكن لها وزن في مقاربة تاريخ يركّز على الشعوب الإسلامية، وليس على الشعوب العربية طالما أنَّ الحاكم يدين بالإسلام.
ويبقى السؤال المطروح حول ما حصل في الأندلس من حروب ملوك الطوائف المدمِّرة والتي سهَّلت إعادة سيطرة المجموعات الإيبيرية المختلفة على شبه الجزيرة وطرد كلٍّ من اليهود والمسلمين العرب منها، أو إجبارهم على التنصرُن.
2. ظروف نيْل الاستقلال أعادت العرب وشركاءهم من الإثنيات الأخرى إلى الحكم دون سابق تجربة
لا أودّ هنا أن أحمِّل فقط العوامل الخارجية مسؤولية ما حصل من تقسيم المجتمعات العربية إلى دول متفرِّقة تعاني من مشاكل كبيرة في ترسيم الحدود في ما بينها. وقد تمَّ تثبيت الانفصال الجغرافي بين المشرق والمغرب العربي عبر إنشاء الكيان الصهيوني، ومن ثم كثافة التدخلات الخارجية في أمور الدول العربية الناشئة، خاصةً في المنافسة الدولية بين الدول الكبرى لوضع اليد على مصالح اقتصادية استراتيجية، وخاصةً النفطية منها؛ ولكن هذه العوامل الخارجية لا يمكن إنكارها، فمنطقة الشرق الأوسط هي منطقة عالمية استراتيجية على مفترق طرقات التجارة الرئيسية وتتمتع بثروات ضخمة. هذا بالإضافة إلى زعزعة الروابط التاريخية بين المسلمين واليهود من العرب بفعل إنشاء الكيان الصهيوني والضغط على العرب اليهود في المغرب العربي كما في المشرق لترك البلاد التي ينتمون إليها منذ أقدم الأزمنة وهم فيها شركاء المسلمين للهجرة إلى الكيان الصهيوني أو إلى الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة.
وفي هذا المضمار بالذات لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ العالم العربي قد يكون المنطقة الوحيدة في العالم، حيث تمَّ زرع وإنشاء كيان اصطناعي سياسي وعسكري، وهو الكيان الصهيوني ما يزال حتى الآن يتمتع بدعمٍ مطلق وأعمى بالسلاح والعتاد والمواقف السياسية المؤيِّدة لكل أعمال العنف الذي يقوم به تجاه الفلسطينيين واللبنانيين.
3. أسباب التقوقع والانغلاق الهويتي
إنَّ التقوقع الذي حصل على الهوية الدينية في نصف القرن الأخير على حساب الهوية الثقافية والحضارية العربية المنفتحة بطبيعة الحال على ثقافات الاثنيات الأخرى التي تعايشت بسلام على مدى القرون مع العنصر العربي والمستعرَب، قد ترافق أيضاً مع التقوقع على الهويات الإثنية والقبائلية والمناطقية والدينية والمذهبية على حساب كل عناصر الهوية الجامعة للمجتمعات العربية داخل كل قطر عربي أو في ما بينها. وهذه الظاهرة المعقدة لهيَ تعبّر عن فشليْن:
÷ العجز في تنمية حضارة عربية ـ أمازيغية في المغرب العربي وتنمية ثقافية عربية ـ سريانية في المشرق العربي وثقافة عربية ـ فرعونية في مصر، وعدم الانفتاح على اللغة الكردية واللغة الأمازيغية وتراثهما والاهتمام بهما.
÷ عجز الدول الناشئة عن بناء مجتمع يسود فيه العدل والمساواة، وتزايد الفوارق بين فئات اجتماعية مختلفة بشكل عملاق في العقود الأخيرة، وذلك عبر إثراء بعض أفراد المجتمعات بشكل فجائي ودون مساهمة في الإنتاج والإبداع الاقتصادي أو التكنولوجي والعلمي.
ومما لا شك فيه أنَّ في ظل مثل هذه الظروف القاسية، يمكن أن نفهم تقوقع أبناء المجتمعات العربية حول زعامات تقليدية، دينية أو مذهبية، وبروز النزعات الانفصالية لدى الفئات غير العربية لغوياً، ومن جانب التطرّف ظهور حركات عبثية مسلَّحة تمارس الإرهاب في مجتمعاتها وترفع اتهامات التكفير يميناً وشمالاً وتطالب بمزيد من التقوقع على هوية دينية متخيَّلة تنفي كل التطور التاريخي الذي حصل في العالم وفي المنطقة منذ قرون.
وهذا هو الوضع الذي يجب أن نأخذه في الحسبان عندما نحلل الانحطاط الذي يصيبنا ونزعات الفتنة والتفرقة التي لا تنتهي. ومن أجل معالجة هذا الوضع لا بدَّ من النظر بإمعان ودقة في القضايا الفكرية الكبرى التي اختلفت النخب العربية عليها، أشد الاختلاف في بعض المواقع، مما حال دون بناء نظام معرفي وإدراكي عربي موحَّد يسمح بإدارة تعددية الأهواء واستيعاب ما تأتي به الحداثة من أفكار وتوجهات وطموحات مختلفة، وهذا ما سنستعرضه في الجزءالتالي من دراستنا.
ثانياً: الخلافات الفلسفية ـ السياسية المثيرة للفتن في ما بين العرب
هناك العديد من المواضيع الخلافية الحادة بين العرب أدَّت إلى فتن وقلاقل متواصلة منذ مرحلة تفكك السلطنة العثمانية، وحريٌّ بنا أن نستعرض هذه المواضيع ونتفحّص مصدرها ونحدد الآليات المغذِّية للخلافات عبر هذا الاستعراض. وسنرى في ما يلي التشابك المفسِد بين إشكاليات تاريخية داخلية في الوجود العربي وبين إشكاليات مستورَدة من التصورات الفلسفية الكبرى الأوروبية، إذْ أنَّ هذا التشابك أدَّى إلى ظهور حركات راديكالية بتلاوين مختلفة.
1) الإشكاليات الداخلية التاريخية الطابع
سبق أن ذكرنا في الجزء الأوَّل من هذه الدراسة خروج العرب من التاريخ السياسي والعسكري للمنطقة ابتداء من القرن العاشر، وبشكل خاص في المشرق العربي، بينما ظل المغرب العربي نشيطاً رغم ما أصاب قوة العرب والامازيغيين المتحالفين من تراجع أدى إلى انهيار الوجود العربي الأمازيغي في الأندلس.
وقد أصبح العرب يعيشون مطمئنين في كنف السلطنة العثمانية ابتداءً من بداية القرن السادس عشر بعد أن كانوا قد تعوَّدوا على العيش في كيانات تديرها قيادات تركية الأصل في معظم أنحاء المشرق العربي (وكذلك عجمية الطابع في أجزاء واسعة من بلاد ما بين النهريْن).
ومنذ بداية القرن التاسع عشر بدا جلياً مدى تعرُّض المجتمعات العربية إلى الهجمات الاستعمارية الفرنسية في المغرب العربي والإنكليزية في المشرق العربي، وكانت السلطنة العثمانية قد دخلت في طور الانحلال بدءاً بمقاطعاتها البلقانية والقوقازية. وإذْ بالعرب يجدون أنفسهم دون حماية لمجتمعاتهم من الغزوات الاستعمارية الأوروبية. فظهرت بالتالي بدايات الانقسام بين من كان يرى من العرب ضرورة تقوية الروابط الدينية بين العرب والقيادات المسلمة من غير العرب لصدّ الهجمات الاستعمارية من جهة، وبين من كان يرى ضرورة إعادة إحياء هوية عربية مستقلة تناضل من أجل كسب استقلال المجتمعات العربية عن أية قوة خارجية، أوروبية كانت أم عثمانية أو عجمية الطابع، من جهة أخرى. وقد وقف في المشرق العربي جزء هام من النخبة في موقف وسطي، أيْ موقف يطالب السلطنة العثمانية بمنح العنصر العربي ومقاطعات السلطنة ذات الأغلبية السكانية العربية اللامركزية والحقوق الثقافية واللغوية.
وخلافاً للرؤية الاستشراقية التي تبنّاها بعض المثقفين العرب، فإنَّ النخبة العربية المشرقية المسيحية لن تنصب العداء المطلق للعنصر العثماني لكونه مسلماً، بلْ انخرطت في تيارات سياسية تؤكّد الولاء للسلطان، إنَّما تطالب بالحقوق العربية في إدارة السلطنة وذلك إلى جانب العديد من الشخصيات العربية المسلمة. غير أنّ الروايات الاستشراقية المتتالية طوَّرت سردية حول النهضة العربية وتطوير الهوية العربية تبرز «دور الأقليات» المسيحية أو الكردية أو اليهودية في العمل من أجل تنامي شعور قومي عربي منفصل عن الرابط الديني مع الشعوب المسلمة الأخرى، وهذا بطبيعة الحال مخالف تماماً للوقائع التاريخية، إذْ ستنخرط جماهير واسعة من كل الطوائف ليس فقط في الأحزاب العروبية الطابع التي ستنمو بعد انهيار السلطنة والقضاء على مؤسسة الخلافة، بلْ أيضاً في الحركات التقدمية الطابع المتأثّرة بالأدبيات الماركسية وبالحداثة الأوروبية وما كانت تحتوي عليه في حينه من قيَم وضعية ودنيوية الطابع.
غير أنَّ التناحر المستتر أو الظاهر قد تنامى منذ بداية تلك المرحلة التاريخية بين أنصار الحفاظ على الرابط الديني كأساس مزدوج للحياة المجتمعية العربية، كما للعلاقات مع المجتمعات والدول الإسلامية الطابع من جهة، وبين المتحمّسين إلى الحداثة الأوروبية ثم الأميركية الأصل من جهة أخرى. وقد رأى أنصار المدرسة الأولى المحافِظة أنَّ التأقلم مع الحداثة هي أداة لتقويض المجتمعات الإسلامية، نظراً لما تحتوي عليه هذه القيَم من قيَم لا تتفق مع القيَم التقليدية الإسلامية.
والجدير بالذكر هنا أنَّ إنشاء المملكة العربية السعودية في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، على أساس اعتماد المذهب الوهابي المتشدّد كعقيدة للدولة الجديدة سيصبح عاملاً أساسياً في تقوية النظرة الإسلاموية الطابع إلى أمور الدنيا بكل أبعادها الحداثوية والاستعمارية. أما الحداثويون العرب فقد رأوا في جمال عبد الناصر بطلهم ومحط آمالهم المستقبلية في تحقيق دولة الوحدة التي ستؤمِّن الحياة الكريمة لكل العرب. وقد تصادمت عند العرب رؤيتان للعالم، رؤية دنيوية وضعية ورؤية دينية ميتافيزيقية ما ورائية غيبية للعالم.
ولا بدَّ من الإشارة السريعة إلى ما أصاب النظرة العروبية الدنيوية من انتكاسة كبيرة بعد نكبة حرب 1967 وإفساح المجال أمام نشر المبادئ الوهابية، وكذلك مبادئ سيد قطب في مصر. وجميع هذه التطورات سهَّلت نجاح أطروحة الباحث الأميركي الراحل صامويل هانتينغتون حول صراع الحضارات التي حلَّت محل الصراع بين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الليبرالي تحت قيادة الولايات المتحدة، وذلك بالرغم من وجود العديد من الشخصيات العربية وغير العربية في تبنّي الطرح المضاد في تحالف أو توافق أو تحاور الحضارات. وهو طرح يعزز بشكل غير مباشر طرح الصراع، إذْ يطالب بالحوار بدلاً من الصراع وكأنَّ وجود صراع بين الحضارات هو مسلَّمة ومسبِّب للحروب بدلاً من الأطماع الاستعمارية وحبّ الهيمنة والسيطرة والطموحات المجنونة لبعض القادة.
نتج عن هذه الإشكاليات الداخلية، وهي بدورها نبعت من الظروف الموضوعية التي أتاحت عودة العرب إلى الوجود الكياني في النظام الدولي بعد غيابهم على مدى قرون، خلافات وحساسيات كبيرة بين الكيانات المختلفة التي أخذت تستقل الواحدة تلو الأخرى ابتداءً من الخمسينيات من القرن الماضي. وكان قد سبق موجة الاستقلالات عن المستعمر الأوروبي صراع حادّ في موضوع من يرث من الكيانات العربية الناشئة مؤسسة الخلافة الإسلامية بعد إلغائها من قبَل مصطفى كمال أتاتورك سنة 1923؛ وكانت العائلة الهاشمية والعائلة السعودية وملك مصر في صراع مرير لإعادة مؤسسة الخلافة انطلاقاً من قاعدة سياسية عربية. أما بعد الاستقلال، فقد عصفت خلافات كبيرة بين الدول العربية الهامة للزعامة على كتلة الدول العربية المنضوية في جامعة الدول العربية؛ هذا بالإضافة إلى قضايا ترسيم الحدود بين الكيانات العربية الجديدة التي أنتجت قضية الصحراء الإسبانية سابقاً من بين قضايا أخرى متعدّدة تمَّت تسويتها على مر السنين دون ضجة.
أما أهم عنصر للمناحرة بين الأنظمة العربية، فقد أصبح الانقسام بين أنظمة تقدمية تمارس سياسات اقتصادية معيَّنة لنشر التعليم والصحة في مجتمعاتها وتقوم بالتأميمات وبالحدّ من الحريات الاقتصادية وتأييد حركات التحرر العربية وغير العربية من جهة؛ والأنظمة المحافِظة القريبة من مراكز القرار في الولايات المتحدة والمتحالِفة معها والتي تمارس سياسات اقتصادية تعتمد النظام الرأسمالي والمبادرة الفردية والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية، من جهة أخرى، وتتكل هذه الأخيرة على معونات الدول الغربية، بينما تتكل الأنظمة التقدمية الطابع على معونات المعسكر الاشتراكي. وكما هو معلوم، ودون الإطالة في هذا الموضوع، فإنَّ نتائج الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 بدلاً من أن تُتَرْجَم نصراً مبيناً، أدَّت إلى مزيد من احتلال الأراضي العربية من قبَل إسرائيل والفراق بين مصر وسوريا وانقسام عربي متجدّد بين أنظمة الصمود والتصدي وأنظمة مهادنة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، ممّا أفسح المجال أمام السلام المنفرد بين مصر وإسرائيل، تلاه مباشرةً وصول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت عام 1982 لاقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من الأراضي اللبنانية وإقامة نظام يسيطر عليه حزب الكتائب المتحالف مع المحور الصهيوني ـ الأميركي في حينه.
وكلما ظهرت بشكل مفجع علامات الانقسام الحادة بين الأنظمة العربية، توسّعت دائرة نفوذ رؤية العالم بالمنظار الإسلامي المتشدّد، بلْ والتكفير في بعض صيَغه كبديل للتعاضد العضوي بين المجتمعات العربية. وهذا بدوره خلق قلاقل داخلية في العديد من المجتمعات، حيث أصبحت أجهزة الحكم تقمع وتسجن قيادات تلك الحركات الدينية بعد أن كانت قد شجعتها في بسط نفوذها للقضاء على النفوذ الناصري العروبي الطابع والدنيوي.
)للبحث تتمة)
[ محاضرة ألقيت في الصالون الدولي الخامس عشر للكتاب في الجزائر