كتاب-قراءات في الفكر القومي والإيديولوجيا والماركسية - د. مصطفى دندشلي
مصطفى دندشلي
قراءات
في الفكر القومي والإيديولوجيا والماركسية
(أوراق من مسيرة حياة ثقافية مديدة)
الإهــــداء
إلى الجيل الذي كان يؤمن ومازال:
أن بين العمل الاجتماعي والإنساني،
وبين النضال الوطني والوَحدوي والتحرُّر الديمقراطي،
ثمة علاقــــــــةً عضويـــــــــــةً،
بــــــل وتفاعـــــــــــلاً جدلــــــــــــــــــيّاً،
من أجل تحرير الإنسانِ،
الإنســـــــــانِ العربـــــــــــــــــــي
وكلِّ إنســـــــــانٍ
من الاستغــــــــــلال والاضطهاد
بأشكالـــــــــــه القديمــــــــــــــة
وأشكالـــــــــــه الحديثــــــــــــة
ميم. دال.
توْطِئة
هذه أوراق من مسيرة حياة ثقافية وفكرية وسياسية مديدة، كُتبتْ منذ زمن بعيد يمتدُّ إلى أكثرَ من ثلاثين أو أحياناً أربعين سنة مضت، وفي أماكن متباعدة، هذا إذا استثنينا البحث الأول، وهو يتعلّق بنشوء حركة البعث العربي وتكوينها وتأسيسها، الذي أُلقيَ حديثاً في الأشهر القليلة الماضية في دمشق. وما عدا ذلك، فهذه الأوراق إنما هي عبارة عن مجموعة من المحاضرات والمقالات والدراسات وبعض الترجمات من اللغة الفرنسية، كانت تُلقى أجزاءً متفرقة وفصولاً على الطلاب أثناء تدريس مادة علم الاجتماع السياسي الأنتروبولوجيا في الجامعة اللبنانية. ومن هذه الأوراق أيضاً بعض الرسائل الصفحية التي كانت تُرسل من باريس أثناء الدراسة.
وإذا كان بعض المقالات أو الدراسات قد نُشر في حينه، إلاّ أنّ البعض الآخر لم يُنشر، وهو يُنشر الآن لأول مرة. وإذا كان لي أن أوضِّح ما يجمع هذه المقالات والبحوث والدراسات بعضها للبعض الآخر، فإني أبادر إلى القول بأن خيطاً رفيعاً أو بالأحرى فكرة واحدة تجمعها وهي اعتماد "منهجية الفهم"، فهم فكر الآخر كما هو، هذا إذا لم أقل، وبكثير من التواضع، السعي إلى: "البحث عن الحقيقة"، حقيقة ما يجري حولنا من تيارات فكرية، وسياسية، وإيديولوجية. ذلك أن في مجتمعنا المحلّي والعربي، وطوال تلك الحِقبة الزمنية التي عشتها، ثمة تيارات فكرية وقومية وسياسية وحزبية عديدة ومتنوعة، بل ومتناقضة، كنتُ دائماً قبل نقدها سلباً أو إيجاباً، أحاول أن أدرسها وأن أفهمها من الداخل، وبموضوعية متناهية، كما هي تعبِّر عن نفسها وكما هي ترى ذاتها، دون تزوير أو تحريف أو خلفيات ومواقف مُسْبقة. ثمّ بعد ذلك، وبعد ذلك فقط، يمكن أن يأتيَ النقد سلباً أو إيجاباً. والقارئ الحصين، وهو أحد المشاركين الأساسيين فيه، يستطيع أن يتّخذ الموقف الذي يرتئيه.
هذا ما أودُّ، بل وأرجو أن يُنظر إلى هذه البحوث والمحاضرات والمقالات لكاتب " قلقٍ" فكرياً وسياسياً في أجواء كان يشوبها كثير من الالتباسِ والسجالاتِ والغموض. وكان يطرح على نفسه دائماً هذا السؤال الملحاح: أين الصّح؟!.. وأين الخطأ؟!.. وهو سؤال إشكاليّ ما زال مطروحاً حتى وقتنا الحاضر، وسيبقى معلّقاً ومطروحاً دون جواب شافٍ أو نهائي... وهنا أعود وأطرحه مرة أخرى ومرات على قارئ هذه الأوراق...
* * *
وفي كل الأحوال فإنني قد ارتأيت أن أُقسِّم هذه الفصول أو هذه البحوث المتضمنة هذا الكتاب إلى قسمَيْن كبيرَيْن أو إلى محوَريْن: المحور الأول يتعلق بالفكر القومي العربي. وهو بدوره ينقسم إلى شقَّين: من جهة أولى يبحث في موضوع نشوء حزب البعث العربي وتكوينه وتأسيسه، ومن جهة ثانية يتطرّق إلى إلقاء بعض الأضواء على الفكر الناصري والتجربة الوحدوية الناصرية لعام 1958.
لقد تناولتُ في الحديث عن الفكر القومي العربي، بادئ ذي بَدء، مرحلة نشأة حركة البعث العربي وتكوينها وتأسيسها في بداياتها الأولى (1940 ــــ 1947). وهي في الحقيقة مرحلة بالغة الأهمية وغاية في الغموض في الوقت نفسه. والسبب في ذلك يعود إلى أنها ما زالت حتى وقتنا الحاضر يشوبها كثيرٌ من عدم الوضوح والغموض والالتباس، بل أكثر من ذلك، كثيرٌ من التناقض والخلافات في وجهات النظر والتقييمات والسجالات التي يتداخل فيها الصراع الداخلي والشخصي في كثيرٍ من الأحيان. ذلك أنه لم يُكتب عنها من قِبَل مؤسِّسيها الأوائل، ومَن كتب لاحقاً، فإنما كتب من الذاكرة أو من خلال تجربته الشخصية وتاريخ انتسابه إلى الحزب، بالإضافة إلى المواقف السياسية المتحيِّزة والميول الذاتية والأهواء الشخصية. من هنا أهمية بحث هذا الموضوع الإشكالي بكل موضوعية وجِدّية، ومن هنا أيضاً صعوبة معالجته التاريخية والإيديولوجية والسياسية في أنٍ معاً.
هذا وفي سياق حديثنا عن الفكر القومي العربي ــــــ ونحن في العام 1940 ـــــ لابدَّ لي من الإشارة إشارة سريعة لأبديَ ملاحظة، مفادها أن مَن يتصفَّح ما كان قد كُتب حتى حينه في هذا الفكر العربي، لم يكن ليصل إلى مستوى الفكر الفلسفي القومي الإبداعي، إلى مستوى الخلق الجديد المميَّز في مفاهيم أو في مفهوم القومية العربية وفي معانيها التراثية العميقة. بل بقيت الكتابات حتى ذلك التاريخ تُستوحى في الأغلب الأعم، في مضامينها ومفاهيمها ومعانيها وتعاريفها وتُستلهم ــــــ أو حتى تُنقل ـــــ من تاريخ نشوء القوميات في أوروبا وتطوُّرها.
هذا يعني بكلام آخر، أن الفكر القومي العربي المعبِّر عن حاصل الشخصية العربية وتراثها، الحضاري والثقافي واللغوي، والدال على الانتماء الوجداني والتاريخي والاجتماعي الخاص والمميَّز، هذا الفكر مازال حتى ذلك الحين، يَعْتملُ في ثنايا أحاسيس كل عربيّ ووجدانه وشعوره، ويكمن في طيَّات تراثنا المديد، ينتظر مَن يفهم كنهه ويحدِّد هُويته في خصوصيتها الذاتية وشموليتها الكلية، ويعرف كيف يستخرج معناه الحقيقي، كما مضمونه الذي يصدر من طبيعته الذاتية ومن كينونته الخاصة.
إن الإبداع في مفهوم القومية العربية لا يقوم إطلاقاً في صياغة تعريف لها ـــــ وإن كان التعريف، فيما بعدُ له أهمية في هذا الشأن ـــــ فالتعاريف موجودة منذ القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في أوروبا، وهي عديدة، ويمكن، كما أمكن تطبيقها، كما حصل عندنا، على نشوء القومية العربية وتعريفها، بهذه الصياغة أو تلك، وإلى هذا الحد أو ذاك.
إن الإبداع في النظرة إلى مفهوم القومية العربية، إنما هو قائم ــــــ على العكس من ذلك ـــــ على الولوج إلى معناها الحقيقي، إلى طبيعتها الذاتية، إلى تاريخها التراثي الخاص. والمبدع في الفكر القومي العربي عموماً وفي القومية العربية خاصة، إنما هو الذي يتّخذ طريقاً أو أسلوباً بعيداً عن الشكلانية أو التقليدية، وينحو منحىً يعبِّر فيه عن طبيعتها الذاتية ونظرتها للأشياء في كنهها وجوهرها. هنا، في الحقيقة، يكمن الفرق الجوهري والأساسي بين كتابات مؤسس حزب البعث العربي ميشال عفلق وفي السياق نفسه كتابات الحزب ذاته وبين كتابات مَن حاء قبلهما من ذوي الاتجاهات القومية العربية المختلفة. وهذا ما سوف نرى جانباً منه في الصفحات التالية، وهو مطروح في كل الأحوال للحوار والنقاش.
* * *
وأودُّ هنا أن أُشير أيضاً إلى أنّ هذه المحاولة إنما الغرض منها هو تقديم فرضية جديدة لمرحلة تأسيس البعث العربي في بداياته الأولى بعيداً عن الأحكام المُسبقة أو الأحكام الشخصية أو الاجتهادات الذاتية. بل يمكنني القول بأنّ ما كنتُ قد توصّلتُ إليه من تدقيقٍ لبعض التواريخ مستقى من الروّاد البعثيين الأوائل أنفسهم ومن كتاباتهم ومن وثائق الحزب المتوافرة لدينا وكذلك من مقابلات عديدة كُنت. قد أجريتها مع كثير من رواد البعث الأوائل.
ثُمّ ألحقتُ ذلك بمحاولةٍ لفهم فكر مؤسس البعث الأستاذ ميشال عفلق معتمداً فيها على مقدماتٍ منهجية تحليلية واقعية لدراسة هذا الفكر واستيعابه وفهمه من الداخل، وكما هو يريد أن يُعبِّر عن نفسه، لا كما نحن نُفسُّره ونحكُم عليه.
وفي هذا السياق، ثمة فكرة تخطر دائماً في ذهني وتُلِّحُ عليَّ وأطرحها على نفسي بصيغة تساؤل: ما هي الأسباب الحقيقية لِقلّة الدراسات والبحوث الجِدِّية العلمية المتنوعة أو حتى عدم وجودها، حول القيادات أو الزعامات السياسية والقومية التي كانت قد لعبت دوراً فاعلاً ومؤثِّراً في التاريخ العربي الحديث؟!...
هذا من جهة ومن جهة أخرى، أودُّ أن أُشير، في هذا النطاق أيضاً، إلى أنني من المهتمين منذ زمنٍ بعيد ولأسباب عديدة، فكرية وقومية وسياسية وشخصية، بالتاريخ السياسي والقومي الحديث للقُطر العربي السوري، وذلك بما أني من المتابعين عن قُرب لنشوء حزب البعث وتطوُّره السياسي والإيديولوجي والقومي، ودراسة مختلف المراحل التي مرَّ بها وتحديداً حتى عام 1970. كما كان ينصبُّ اهتمامي بوجه خاص على دراسة الشخصيات السياسية وشخصيات الحزب القيادية من مدنية وعسكرية التي لعبت دوراً كبيراً أو مؤثِّراً في مرحلة من مراحله التاريخية المتتالية، ويأتي في عدادِ تلك القيادات القومية العربية الرئيس حافظ الأسد. فحاولت بقدر ما توافر لديَّ من معلومات دقيقة وموثوقة، أن أُقدِّم صورة وصفية سريعة لشخصيته وأسلوبه وفكره وطريقته في العمل السياسي وحواره مع الآخرين.
بعدها مقالة بعنوان " على هامش رسالة جلال السيد". وهو من القياديين القوميين الأوائل لحزب البعث، كان قد نشر في العام 1971 ثلاث رسائل مُوجّهة إلى الرؤساء والملوك العرب، يؤكد لهم فيها، انطلاقاً من موقفه القوميّ العربي الخاص، أن القبيلة العربية هي مصدر المقدّسات القومية الصافية وهي التي تحتفظ حتى وقتنا الحاضر بنقاوة عُروبتها وصفائها. فكتبتُ هذه الرسالة ردّاً على ما جاء في رسائله.
وفي ختام هذا الجانب من الفكر القومي العربي، تحدّثتُ عن نشوء حزب البعث العربي وتكوينه في مدينة صيدا، وذلك من خلال التجربة الشخصية، ومن ثمَّ تكوين صورة أولية عن كيفية انتشاره في لبنان فيما بعد. وهذا الحديث يُقدِّم لنا نموذجاً حيّاً تجريبياً صادقاً للصيغة أو الطريقة العفوية التي انتشر بها حزب البعث العربي الاشتراكي في تلك الحِقبة الزمنية من مطلع الخمسينات من القرن الماضي، وكيف أنّ البيئة الاجتماعية والثقافية كانت قد استقبلت الأفكار القومية والوَحدوية ومفاهيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية حينذاك، ليس فقط في مُدن وقُرى وساحل لبنان على وجه الخصوص وإنما أيضاً في شتّى أنحاء الأقطار العربية بصورة عامة.
* * *
أما من الجانب الآخر المتعلق بالفكر القومي العربي، فيجري الحديث في عدد من المحاضرات والدراسات التي تسعى إلى إلقاء بعض الأضواء على الفكر الناصري ومقوّماته السياسية والقومية وملامح عبدالناصر الشخصية وثورة يوليو وإنجازاتها الوطنية والاجتماعية ومصر الناصرية وما تبقى، في نهاية المطاف، من هذه التجربة الناصرية، وتحديداً مصر الناصرية والتجربة الوَحدوية لعام 1958.
هنا، في هذا المجال، تُطرح مجموعةٌ من التساؤلات، الإجابة عنها كانت ومازالت تثير كثيراً من الخلافات في الرأي والموقف ووجهات النظر:
1) ما هو موقف الرئيس عبدالناصر، حقيقة، من الوَحدة العربية ومن الوَحدة السورية ــــــ المصرية حينذاك؟
2) هل صحيح ما كان قد قيل وشاع بصورة شبه إجماعية، أن عبدالناصر رَفض في البداية أو بالأحرى تردَّد في قبول هذه الوَحدة؟
3) هل صحيح أيضاً، كما أُشيع واعتمدت هذه الإشاعة، أن سوريا اتَّحدتْ مع مصر عبدالناصر، تخوُّفاً أو تلافياً لخطر داهم عليها من الخارج ومن الداخل على حدٍّ سواء؟!...
4) كيف كانت طبيعة النظام السياسي وأسسه في سوريا والتيار الشعبي الجماهيري وقياداته الحزبية الوَحدوية في تلك الفترة؟.. وهل صحيح بالتالي أن البرجوازية السورية بمختلف فصائلها، كما يُقال، هي التي صنعتْ الوَحدة السورية المصرية؟.. وإذا كان الأمر كذلك، ما هو إذن الدور الحقيقي للقوى السياسية الوَحدوية وبخاصة الحزبية؟!
5) ثمّ ما هي الظروف السياسية، الداخلية والخارجية التي تمَّت فيها الوحدة بين مصر وسوريا وما هي العوامل المباشرة والبعيدة التي أدَّت إليها؟
إننا حاولنا، أثناء هذه الصفحات القديمة، وإعادة نشرها من جديد، الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها كثير أيضاً، ونعود هنا ونطرح مرة أخرى: قضية وحدة مصر وسوريا لعام 1958، وهي فرضية قديمة ـــــ جديدة تعتمد على وثائق ومعلومات واقعية ومتابعة دقيقة، نظرية وميدانية، وهي على أيِّ حال مطروحة للبحث والنقاش والحوار...
* * *
أما المحور الثاني فهو يعالج الفكر الماركسيّ بتيّاراته المختلفة ومُقدِّماته التاريخية ونصوصه الأساسية والملاحظات النقدية التي وُجِّهت إليه أو الإضافات الفكرية والسياسية والمنهجية الـتي أُدخلت عليه، سواءٌ من مؤيِّديه أو مُعارضيه، وما نتج من ذلك في حينه من تياراتٍ اشتراكية إنسانية متنوعة نابعة جميعها من رَحِمِه، وإن كانت متعارضة أو متناقضة معه.
ولكن السؤال الملحاح الذي يُطرح في هذا السياق والذي كان يُطرح باستمرار: هل إنّ انهيار الأنظمة الاشتراكية وفي مقدِّمها الاتحاد السوفياتي، يعني زوال الفكر الشيوعي والاشتراكي من الوجود في العالم، وبالتالي انهيار الفكر الماركسي بتنوّعاته بالجملة؟ فإذا كان هذا قد حصل في وقتٍ ما، منذ عقدَيْن من الزمن أو يزيد، إلاّ أن الإيديولوجيا الماركسية، والإيديولوجيا هنا بالمعنى الذي قدَّمناه في هذه الصفحات، وبالعودة مباشَرةً إلى كتابات ماركس وإنجلز ونصوصهما وكتابات شُرّاحهما الجُدد والحديثين، وذلك بعد أن زال الصراع الثنائي والحرب الباردة بين الرأسمالية والشيوعية، لا يمكن لهذه الإيديولوجيا كفلسفة ومنهج اقتصادي واجتماع وسياسي أن تموت. ومِن الهراء القــول بأن الأفكار الخلاّقة والمُبدعة ـــــ مهما كان موقفنا منها ـــــ هي عُرضة للموت أو للزوال.
لا شكَّ في أنّ تأثيرَ الماركسية قد ضَعُف ووهجها خَفَتَ في فترةٍ زمنية معيّنة، إلاّ أنها ما لبثت أن عادت إلى الوجود، بصورةٍ أو بأخرى، والتيارات الماركسية، الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والأحزاب الشيوعية، ما زالت قائمة وموجودة تقريباً في كلّ مكان من العالم وبخاصة العالم الرأسمالي وحتى في روسيا الاتحادية، كما أن التجارب الماركسية والشيوعية المتنوعة مستمرة في الصين وكوريا الشمالية وفيتنام، هذا إذا اقتصرنا على هذه البلدان على سبيل المثال.
فضلاً عن كل ذلك، فإننا ما زلنا نلاحظ أن الدراسات والبحوث والكتب ما زالت تُنشر من حينٍ لآخر، هنا وهناك، حول الفكر الماركسي بتنوّعاته وتيّاراته من الناحية النظرية، الفلسفية، والاقتصادية، والاجتماعية، والمنهجية، إلخ.... وما زالت الماركسية كَفِكر تاريخي تُدرَّس وتُشرح وتُفسَّر وتُنتقد في شتّى الجامعات في العالم.
بكلمة واحدة إنّ الفكر الخلاّق والمُبدع في التاريخ، مادياً كان أو روحيّاً، واقعياً كان أو صوفيّاً، لا يمكن أن يزول الاهتمام به أو ينقطع البحث العلمي فيه، بل ربما يكون حافزاً لخصومه أن يكتبوا عنه أو أن ينتقدوا، ومن ثَمَّ أن يُبدعوا، هم، بدورهم في مجال عملهم. إن تاريخ الماركسية فلسفياً، اجتماعياً، اقتصادياً، لن ينتهي إذن بانهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، كذلك لن تزول الأفكار الاشتراكية الإنسانية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية مع فشل أو عدم نجاح كثيرٍ من التجارب الاشتراكية في العالم الثالث، بما أنّ تاريخ الفكر المُبدع الخلاّق ليس له نهاية، اللّهم إلاّ إذا أتى على الوجود الإنساني حينٌ من الدَّهر كان نسياً منسياً. بهذا المعنى الإيجابي النقدي المبدع، ينبغي أن تُقرأ النصوص التي اخترناها ونشرناها في هذا الكتاب.
* * *
وما بين هذين المحورَيْن الأساسيّين الكبيرَيْن، هناك بحثٌ مترجمٌ من اللغة الفرنسية ويُنشر لأول مرة، يتناول مفاهيم الإيديولوجيا وإشكالياتها، حيث الغموض وتضارب الآراء والمواقف إزائها وحول مضمونها ومفاهيمها، ما زال سائداً ومنتشراً بصورةٍ عامة لدى كثيرٌ من الكُتّاب والباحثين السياسيّين وغيرهم. والاستعمالات الخاطئة والمُلتبسة تُزيدها غموضاً وأحكاماً في أغلب الأحيان غير صحيحة أو حتى جائرة. من هنا القول بأن "الإيديولوجيات قد ماتت"، والمقصود هنا بالإيديولوجيات والموت: الماركسية والاشتراكية والتيارات القومية، في حين أنّ الإيديولوجيا كَعلمٍ للأفكار، هذا معناها الأساسي، كما سوف نرى، لا يمكن أن تموت، بما أنّ الفكر هو أيضاً لا يمكن أن يموت إلاّ عند فناء الإنسان. بهذه المعاني جميعها، يجب أن يُنظر إلى هذه الدراسات والمقالات والمحاضرات كمحاولة جِدّية على مدى مرحلةٍ طويلة من الزمن لفهم الآخر كما يريد هو أن يُظهر نفسه، ولفهم الذات من خلاله في الوقت نفسه.
ثمّ نتناول في هذا السياق مقتطفات واسعة من مجمل أعمال باكونين الغزيرة وترجمةَ شخصيته الثورية، وقد أعطينا عنواناً: "الإنسان والحرية". وهنا ينبغي أن نشير إلى أنّ ماركس وباكونين قد كانا حقيقة، وبغض النظر عن تناقضهما بالغ الحِدَّة، من ألمع وأذكى وأكثر إنتاجاً، الواحد والآخر من بين المنظرين القياديين للحركة العمالية والاشتراكية في زمانهما.
بعد ذلك تأتي دراسة بالغة الأهمية حول السيسيولوجيا التاريخية والتغيُّر الاجتماعي، يتبعها نظرة سريعة على مقدمات ثورة أوكتوبر الاشتراكية وتأثيرها في حركة التحرّر العربي ونختم بلمحة عبر تاريخ الحزب الشيوعي اللبناني وتطوّره وأخيراً ظروف نشوء اليسار الفرنسي الجديد: اليسار البروليتاري.
* * *
فإذا كان هناك بعض الأفكار في "هذه الأوراق" أو بعض المواقف، كنتُ قد تجاوزتها في المرحلة الراهنة، إلاّ أنني لا يمكنني ولا يجوز لي أن أتنكّر لها أو أن ألغيها من حياتي الفكرية. فهي على مرّ الزمن وبتراكمها، قد كوّنت وعيي الآن وشخصيتي، وما أنا عليه بكُل ما فيها من هِناتٍ أو حسنات. فالإنسان ابن البيئة الفكرية والثقافية والسياسية التي عاشها والتي هي قد صنعته وخلقت وَعْيه بوجوده في المجتمع الذي يعيش فيه. فلا يحقُّ له أن يتنكَّر لها أو أن يشطبها من حياته.
وكلّ ما أرجوه في نهاية المطاف أن تكون هذه الأوراق القديمة التي أنشُرها الآن كمجموعة لأول مرة، أن تكون ذات فائدة ولو زهيدة، وتكون حافزاً للنقاش والحوار والنقد، لأن ذلك غنىً لنا جميعاً في كل ما نكتب وننشُر: وهذا هو مقصدنا من كل ذلك.
* حزب البعث: النشأة، التكوين، التأسيس
* ميشيل عفلق والفكر العربي الوَحدوي
* بعض ملامح شخصية الرئيس حافظ الأسد
* على هامش رسالة جلال السيد
* تجربتي في حزب البعث، صيدا ــــ لبنان
* الحزب السوري القومي الاجتماعي: من الماضي إلى الحاضر
حزب البعث
النشأة والتكوين والتأسيس
مداخلـة
الدكتور مصطفى دندشلي
بدايةً لا يسعني في هذه المناسبة إلاّ أن أتوجّه بالشكر والتقدير إلى مُنظّمي هذا المؤتمر وأخُصُّ بالذكر القيادة القومية بشخص أمينها العام المساعد صاحب الرعاية الرفيق عبدالله الأحمر وهيئة الأبحاث القومية بشخص مديرها العام الدكتور عبدالمجيد الرفاعي ونائب المدير العام الدكتور بشّار عباس الذين فسحوا لي المجال كي ألتقي بهذه النُّخبة الكريمة وأن أتحدث في موضوع يهمّني أنا شخصياً منذ زمن بعيد، كما يهمّ أيّ مواطن عربي، أعني به حزب البعث العربي الاشتراكي.
وإذا كنت قد اخترتُ الحديث عن مرحلةٍ بالغة الأهمية والخطورة في الوقت نفسه، وهي مرحلة التأسيس، فلأنها مرحلة ما زالت تشوبها كثيرٌ من الغموض والالتباس، هذا إذا لم أقُل كثيرٌ من الخلافات والتقييمات والسّجالات في وجهات النظر. من هنا الأهمية والصعوبة في آن، في بحثِ هذا الموضوع الإشكاليّ بكلّ جِدّية وموضوعية.
إنني سأحاول في هذه المداخلة أن أقدم فكرة مختصرة إنما شاملة، عن مرحلة التأسيس، تأسيس حركة البعث العربي، وعن البدايات الأولى، وهي المرحلة الأكثر خلافاً في الرأي، وبالتالي الأكثر مشقة، وصعوبة، ككل بحث تاريخي سياسي أيديولوجي جِدّي. وإنني آثرت في هذا النطاق الابتعاد عن الدخول في الخلافات الكثيرة في وجهات النظر، وإنما التركيز على الجوامع المشتركة والقناعة الشخصية، إلى جانب التركيز بقدر ما هو ممكن على النواحي الفكرية الجامعة الشمولية من حياة الحزب في مرحلة التأسيس، مع عدم التوقف طويلاً أمام دور الأشخاص وذكر الأسماء إلا عندما تقتضي ضرورة البحث والتوضيح.
إن ما أسعى إليه في هذه المحاولة إنما هو تقديم فرضية جديدة للبدايات الأولى ولمرحلة التأسيس بعيداً عن الأحكام المسبقة، أو الأحكام الشخصية أو الاجتهادات الذاتية، بل إنني أستطيع أن أقول إن ما توصلت إليه من تدقيق لبعض التواريخ إنما هو مستقى من البعثيين أنفسهم ومن كتاباتهم المتفرقة...
وإنني ارتأيت أن أبدأ مداخلتي بعرض بعض المقدمات التمهيدية (وهي أيضاً فرضيات أو تساؤلات ملحَّة) كمدخل للبحث وتوضيح له:
مقدمات تمهيدية
1)-أيّ حركة عند ولادتها تستمد قوتها واندفاعها من البيئة الاجتماعية والظروف السياسية التي نشأت فيها والتعبير العميق عن قضايا شعبها الأساسية والاستجابة لتطلعاته المستقبلية. بيد أن السمة الرئيسية الأولى لكل حركة من هذا القبيل إنما تتمثل قبل كل شيء في مقدرتها على التفاعل مع الظرف التاريخي والواقع السياسي والاستجابة له واكتشاف الشروط الموضوعية التي تتحكم به من أجل تغييره.
2)- النهضة العربية الجديدة، المنطلقات الأولى: لقد حدثت مبادرات عديدة جادة من أجل الإصلاح القومي والاجتماعي والديني تحمَّلته نخبة من القيادات والمثقفين والمفكرين القوميين... كما كانت هناك حركات شعبية وطنية استقلالية، سياسية ومسلحة، ضد الاحتلال الأجنبي وقد كانت تحمل طابع الثورة في تعبيراتها وشعاراتها في رفض الاستعمار بأشكاله المختلفة. لقد أدّى ذلك كله إلى خلق وجدان قومي عربي ينمو ويتطور من خلال النضال من أجل التعبير عن ضرورة التغيير في بنية المجتمع العربي. في تلك الظروف بدأ التنبه القومي العربي والتحرر من السيطرة الاستعمارية....
3)- وبشيء من التبسيط فقد انطلقت الفكرة العربية في إرهاصاتها الأولى منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين(1). وبعد الحرب العالمية الأولى وعلى أثر انهيار الإمبراطورية العثمانية، تأجّج الشعور القومي العربي في عهد الحكم الفيصلي القصير والبيان الصادر عنه في 8 آذار 1920 وقيام الدولة العربية الموحدة. أما مرحلة ما بين الحربيْن العالميتيْن، فقد كانت حافلة بالانتفاضات الشعبية السياسية والثورات في البلاد العربية، ضد الاستعمار الغربي. ومع أن هذه الثورات كانت ثورات قطرية: في فلسطين، في مصر، في لبنان، في العراق، إلخ، إلا أن المشاعر القومية العربية الشعبية في كل قطر عربي، كانت تقف منها موقف التأييد والتظاهر الداعم...
4)- لقد أدّى هذا التاريخ الطويل من النضال الوطني والقومي المستمر ضد السيطرة الاستعمارية وفي سبيل قيام دولة عربية موحَّدة تتمتع بالاستقلال التام، إلى التأكيد على النقاط التالية:
1- إن البلاد العربية في المشرق العربي التي انفصلت عن الدولة العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى والتي جزّأها الاستعمار الغربي ووزعها على الدولتين ــ بريطانيا وفرنسا ــ تطبيقاً لاتفاقية سايكس ــ بيكو 1916، وإعلان وعد بلفور الشهير عام 1917 بإعطاء اليهود وطن قومي في فلسطين، هذه البلاد إنما هي شعب واحد، هي أمة واحدة ولها لغة واحدة، وتاريخ واحد، وثقافة واحدة، ومصلحة مشتركة وآمال واحدة ومصير واحد وبالتالي لها الحق في أن تقيم وحدتها في دولة عربية واحدة.
2- إن العقبة الأساسية أمام قيام الوحدة العربية والدولة العربية الواحدة تتمثل إذن في وجود الاحتلال الأجنبي للوطن العربي، هذا الاحتلال الأجنبي هو الذي فرض التجزئة على الأمة العربية لكي تسهل على الاستعمار الغربي السيطرة ونهب خيراتها وثرواتها. من هنا، فإنّ نزوع الأمة العربية وطموحها إلى إقامة دولة واحدة، لا يمكن أن يتحقق إلا بالقضاء على الاستعمار وتحقيق الاستقلال.
3- استمرار اندلاع الثورات الشعبية والجماهيرية هنا وهناك في مختلف البلاد العربية، خصوصاً بعد تواطؤ الحكومات العربية وتعاونها مع القوى الاستعمارية الجديدة ـــ المحتلة تحت غطاء الانتداب أو الوصاية... دفع الجماهير العربية إلى أن تمد هذه الانتفاضات الجماهيرية والثورات الشعبية بالدعم والتأييد والمشاركة الكلية. من هنا أخذ الشعور الوطني الاستقلالي والوجدان القومي العربي ينمو ويتعاظم وبدأ التمييز يتوضّح بين الفئة التي تقود العمل السياسي وتتعاون مع الاستعمار، وبين جماهير الشعب وطليعة المثقفين أصحاب المصلحة الحقيقيين في وصول الانتفاضات والثورات إلى نهايتها الاستقلالية الوحدوية.
4- كانت البدايات الأولى لولادة حركة البعث العربي في الأجواء العابقة برياح التغيير والحرية والتحرر والوحدة والانتفاضات الجماهيرية والثورات الشعبية. لقد كانت نشأة الفكرة كجنين وإرهاصات بعث الأمة العربية من رقادها، في الوقت الذي كان فيه الوطن العربي بأسره يرزح تحت نير الاستعمار الغربي، وسورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين والعراق تحت النفوذ الإنكليزي، وكان المشرق العربي ــ وسورية تحديداً ــ مسرحاً للمعارك الحربية الطاحنة. في هذه الأجواء، أَطلقت حركة البعث فكرتها القومية الوحدوية:
5)- لقد كانت حركة البعث في تلك اللَّحظة تقوم، من غير أن تدري، بدورها التاريخي كاستمرار لحركة القومية العربية في نضالها التحرّري والوحدوي ضد الاستعمار الغربي، وكانت تستجيب لطموحات الأمة العربية وحاجاتها في تلك المرحلة التاريخية، في تكوين طليعة تحمل على عاتقها تحقيق أهداف العرب في الوحدة العربية والحرية والتحرّر والاشتراكية.
6)- ثمة ملاحظة سريعة لابد من إبدائها وهي أن بداية تأسيس حركة البعث لم تكن كسائر بدايات تأسيس الحركات والأحزاب السياسية الأخرى، بمعنى أن يجتمع فيما بينهم عددٌ من المثقفين، عددٌ كبير أو صغير، محدود، ويبحثوا فكرة تأسيس حزب أو حركة سياسية، ومن ثم على أثر هذا الاجتماع يصدر عن المجتمعين ما كان يسمّى "بيان التأسيس"(1) .
إن ذلك لم يحصل بالنسبة إلى مؤسِّسي حركة البعث العربي. من هنا يأتي الغموض في تاريخ تأسيس الحركة بالدقَّة والتحديد المطلوبَيْن، وبقي الأمر على أن كلَّ واحد كان ينظر إلى انطلاقة الحركة والتأريخ من زاويته الخاصة ومن خلال تجربته الخاصة، وبالنسبة إلى تاريخ معرفته بهذه الحركة الناشئة أو الانتماء إليها.
7)- في الحقيقية، لم تأتِ حركة البعث في فكرها ومبادئها القومية، بأشياء جديدة كل الجِدَّة، والأهداف التي أعلنتها منذ البدايات الأولى في الوحدة والحرية والاشتراكية، إنما هي موجودة ولو متفرقة أو إرهاصات منذ أواخر القرن التاسع عشر ورَفعت شعاراتها حركات وأحزاب سابقة: شعارات الوحدة العربية، والحرية والتحرّر من الاستعمار والاشتراكية والعدالة الاجتماعية، هذه مفاهيم مطروحة منذ زمن بعيد وفي شتى الأقطار العربية، ولا سيما في بلاد المشرق العربي.
إذن، إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فما هو الشيء الجديد الذي أتى به حزب البعث في هذا المجال؟! إنه أولاً جمع هذه المفاهيم الثلاثة المتفرقة في بوتقة فكرية وأيديولوجية ومنهجية واحدة. وثانياً ربط هذه الأهداف في علاقات جدلية متفاعلة بعضها بالبعض الآخر، وجعل كل نضال من أجل أحد هذه الأهداف لابد أن يؤدّيَ إلى الأهداف الأخرى ويصبّ فيها. ثم ثالثاً، أعطى حزب البعث لهذه الأهداف القومية والاشتراكية مجتمعة ولكل واحد منها، مضموناً خاصاً، "نكهة" خاصة، أسلوباً خاصاً، لغة بلاغية ـ شاعرية خاصة، رومانسية وجدانية جديدة. كتابات حزب البعث في القومية العربية والحرية والاشتراكية، تختلف كل الاختلاف، عن المفاهيم والكتابات القومية السابقة عليها في الأسلوب وفي المضمون، وفي النظرة إلى التاريخ العربي والحضارة العربية وعلاقة العروبة بالإسلام(2).
8)- والواقع أنه، عندما نطلق فكرة، تغدو هذه الفكرة فكرة عامة، لم تعد مِلكنا لوحدنا، بل تصبح مِلكاً عاماً للجميع، والجميع يمكنه أن يتناولها بالنقد أو التأييد، بالرفض أو التبنِّي. وهكذا حزب البعث العربي الاشتراكي، كحركة قومية عربية شاملة، منذ أن انطلق وانتشر، لم يعد مِلكية خاصة، لفريق دون آخر، لا تاريخه ولا أفكاره ولا مبادئه ولا تجاربه الماضية ولا الحاضرة، خرجت جميعها من كونها شأناً خاصاً، وتحوَّلت لتصبح مِلكاً عاماً لكل مواطن عربي في أيِّ مكان كان. وبما أنها حركة قومية لها تجارب سياسية طويلة وإنجازات كبيرة وإخفاقات عديدة، فهي كحركة بعث عربي، لا يضيرها في شيء أن يُشار وبوضوح تام إلى انتكاساتها وأخطائها في هذه المرحلة أو تلك، إلى نضالاتها وإنجازاتها، أين مهدت الطريق لمسيرة الثورة العربية اللاحقة، وأين أخفقت...
فذلك من طبيعة العمل السياسي في الظروف الصعبة التي مرّت بها والتحديات الكبيرة التي واجهتها... كل ذلك، لا يقلّل من تاريخية أفكار حزب البعث وأهميتها الكبرى ودورها الرائد في مسيرة الحركة القومية الشاملة...
ونحن، لا يمكننا، حقيقة، أن نفهم الحركات القومية اللاحقة وأن نضعها في سياقها التاريخي الخاص، دون أن نبدأ باستيعاب الفكر القومي العربي وتجربة حزب البعث على وجه الخصوص. وهذا ما يتطلب منا قدراً كبيراً من الموضوعية العلمية والبحث عن الحقيقة التاريخية ووضع وقائع الماضي في سياقها وظروفها السياسية الآنية، وعدم الحكم عليها من منظار بعدها الزمني عنَّا، أو الحكم على ماضيها القومي من منظار الواقع الراهن...
9)- إذن، مما تقدم، نصل إلى نتيجة وهي أن حركة البعث قد كانت أول حركة عربية بعد الحرب العالمية الثانية تمثّلت تجارب الحركات القومية العربية ـ فكراً وممارسة، وعبَّرت عنها بكثافة بالغة في مبادئ شاملة واضحة ومحدّدة وفي صيغة وجدانية انفعالية جاذبة خصوصاً في أجواء الحرب العالمية الثانية وفي سورية وفي دمشق بالذات.. مثلاً شعار: "أمة عربية واحدة /ذات رسالة خالدة". وحدة حرية اشتراكية.
10)- سؤال قد يُطرح وهو يُطرح هنا: نشأ حزب البعث في سورية، لماذا سورية؟.. وفي دمشق، لماذا دمشق؟!. وهل كان بالإمكان أن ينشأ في قطر عربي آخر، غير سورية؟.. وهل هناك من فرضية أخرى، يمكن أن ترد في الذهن، وأن تكون مدينة عربية أخرى غير دمشق؟! ولماذا هذا التعبير أو الشعار الذي يجري على كل شفة وعلى لسان كل عربي: سورية قلب العروبة النابض؟!...
في الحقيقة، لو نظرنا إلى سائر الأقطار العربية من مشرقها إلى مغربها وبحثنا أوضاع كل قطر على حدة، الأوضاع السياسية والنضالية والثقافية والاجتماعية والأنظمة الحاكمة والهيمنة الأجنبية فيها، لَما وجدنا سوى سورية هي القطر العربي الوحيد في تلك الظروف، المهيّأ بالقوة لولادة حركة عربية قومية وحدوية كحركة البعث العربي، ولَما وجدنا عاصمة عربية غير دمشق، عاصمة العروبة ماضياً وحاضراً، لترفع شعار أمة عربية واحدة/ ذات رسالة خالدة، وتكثيف مبادئ شاملة لثورة عربية مستقبلية، لثورة عربية في صيغة هي في غاية الوضوح والبساطة: الوحدة والحرية والاشتراكية(1).
11)- إن مرحلة نشوء حركة البعث العربي ومقدماتها وبداياتها الأولى ونتائجها، لم يكتب عنها بعدُ الكتابة التاريخية العلمية، الموضوعية، الكتابة الدقيقة، الموثقة والمعتمدة، بل ما كُتب عنها إلى الآن وحتى من الذين عاصروها من الأعضاء، قد زادها غموضاً والتباساً وتناقضاً، بل إلغاء للآخر. وقد كانت تلك المرحلة، مرحلة النشوء والتكوين والتأسيس، تثير في نفسي اهتماماً منذ زمن بعيد، لإدراك البدايات الأولى لحركة البعث واكتشاف المحطّات التكوينية الرئيسية أو اللَّحظات الأساسية التي مرّت بها حتى قويَ عودها وتوضّحت معالمها...
ومما يزيد في الأمر تعقيداً وغموضاً أن الذين قاموا بتأسيس الحركة وكانوا هم قادتها الأوائل، لم يكتبوا عنها شيئاً. وليس هناك من وثيقة أو بيان أو تاريخ دقيق ومحدَّد للمراحل الأولى التي مرّت بها وبخاصة عندما طُرحت الفكرة وجرى التداول فيها وإخراجها إلى حيِّز التنفيذ.
لذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى تتبُّع ما كتبه المؤسسون الأوائل من مقالات سابقة وإعلان مواقف والاعتماد على مراجع الحزب المنشورة والمقابلات التي أجريناها مع قيادات الحركة الأوائل، ومن ثمَّ تقاطع تلك الأفكار التي وردت على لسانهم وما بقي عالقاً في ذاكرتهم.
لذلك ما سأطرحه حول حيثيات تاريخ تأسيس حركة البعث وتكوينها يبقى فرضية مطروحة للبحث والنقاش، ولكنها فرضية جِدية وموثَّقة (1)..
12)- ولكن يبقى من وجهة نظرنا أن موضوع تاريخ الحزب في بداياته الأولى ــــ ولربما تاريخ حزب البعث جملة ــــ ينبغي أن تقوم به مجموعة من الباحثين الاختصاصيين ، بعثيين أو غير بعثيين، بالاعتماد على الوثائق الموثوقة وتحرِّي التواريخ الدقيقة بكل موضوعية وعلمية حقيقية، متجاوزين في ذلك الآراء المسبقة أو المواقف السجالية المغرضة، لأن تاريخ حزب البعث الطويل ولما له من الإبداع الجديد والخلق الفريد اللذين أتى بهما في مفهوم الأيديولوجيا القومية العربية، يستحق منا كلَّ هذا الجهد، حتى يمكن الإنجاز بالشكل المطلوب وعلى أفضل ما يكون البحث التاريخي(2) .
13)- هذا من جهة ومن جهة أخرى، كثيرون هم الذين كتبوا عن حزب البعث العربي الاشتراكي وعن تاريخه وأفكاره، عرباً وغير عرب، بعثيون وغير بعثيين، بيد أنه ما كان يثير دهشتي واستغرابي في هذا المجال ويدل على مدى ضعف الفكر العربي وفقره، عندما يأتي أحد الأجانب من بريطانيين أو فرنسيين أو أميركيين ويكتب كتاباً عن تاريخنا السياسي في هذا القطر أو ذاك أو عن تاريخ سوريا السياسي أو عن حزب البعث العربي الاشتراكي أو عن حياتنا السياسية بصورة عامة. وقد يكون هؤلاء الكتّاب الأجانب يعرفون أحياناً شيئاً من اللغة العربية وأحياناً أخرى يجهلونها، ثم نأتي نحن ونترجم عنهم ما كتبوه عنّا وعن شؤوننا السياسية من منظارهم الخاص، ومن ثمّ نعود نحن ونتبناه ونعتمده، فهنا يصل التشويه والتعميه إلى أقصاهما، عندما نأتي نحن وننظر إلى مجتمعنا وواقعنا بعيون الآخرين...
هنا أكتفي بهذا القدرِ من الفرضيات والتساؤلات، وهناك الكثير أيضاً، حتى أدخل في الموضوع مباشرة.
* * *
حركة الإحياء العربي:
النشوء والتكوين
إنّ الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي رافقت نشوء حركة البعث وولادتها، هي ظروف يشوبها كثير من الغموض وعدم الوضوح. من هنا ينبغي تبسيط الأمور في خطوطها العامة العريضة، خصوصاً في ما يتعلق بالمرحلة التي تمتد بين 1939- 1943، إنّ إيراد بعض التواريخ والوقائع والأسماء والأحداث والتجمعات السياسية الصغيرة، فهي من قبيل المؤشرات وتوضيح المنحى العام أكثر من تحديد الوقائع بدقة، فهي أقرب لأن تكون إشارات أو محطّات أكثر منها إلى أيّ شيء آخر. ذلك لأن المعلومات لدينا حول تلك المرحلة، وهي مرحلة النشوء والتكوين، إنما هي في الحقيقة إما متضاربة فيما بينها، وإما مشوّشة غامضة ويتداخل فيها كثير من السجال والآراء الشخصية، وفيها كثير من الالتباس حتى في أذهان الذين كانوا قد شاركوا فيها، أو عاصروها أو تناقلوا الأحاديث عنها. يعود ذلك بلا ريب إلى طبيعة المرحلة ذاتها التي جرت خلالها محاولات التأسيس والتي هي ذاتها تتصف بكثير من عدم الوضوح والتحديد: ففي العام 1938 شهدت تلك المرحلة سلسلة من الفشل: فشل عقد اتفاقية فرنسية سورية، وفشل نظام حكم الكتلة الوطنية، حيث انتهى عهدها بإلحاق لواء الاسكندرون بتركية، نتيجة لمساومات دولة الانتداب الفرنسي، ممّا أدّى في تلك الظروف إلى أقوى مشاعر الغضب والسخط والنقمة لدى الشعب العربي السوري وساد جوٌ من الغليان الوطني خصوصاً في أوساط المثقفين..
في هذه الأثناء توافد سكّان لواء الاسكندرون العرب على مختلف أرجاء سورية ــ دمشق، حلب، حمص، حماه، اللاذقية إلخ... في هذا الجو الوطني والقومي العارم والشعور في الوقت ذاته بالفراغ السياسي القومي العربي المنظم، كانت تجري الاجتماعات تلو الاحتماعات، هنا وهناك، في المقاهي والمنازل وتُعقد المناقشات بين أوساط المثقفين من شتَّى التيارات والاتجاهات الفكرية والثقافية من أجل التوافق فيما بينهم على تكوين حركة أو حلقة سياسية. فكانت المناقشات نعرف متى بدأت ولكننا لم نكن نعرف متى ستنتهي. لقد كانت تُعقد هذه المناقشات بين الأساتذة والمعلمين وأحياناً طلاب الجامعة، وأصحاب المهن الحرّة، ومن مخلفات ما بقي من مثقّفي أعضاء عصبة العمل القومي.
الأحزاب في الثلاثينات
في هذا السياق، وطوال مرحلة الثلاثينات، يمكننا أن نُحدّد من هنا بصورة عامة بداية انطلاقة الأحزاب والحياة السياسية في سوريا. فقد تحوّلت جماعة الكتلة الوطنية في المؤتمر المنعقد في حمص في تشرين الثاني 1932، إلى حزب سياسي، فأصبحت تُسمّى "حزب الكتلة الوطنية".
وفي 16 تشرين الثاني من السنة نفسها، تأسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي من مجموعةٍ من الطلاب بزعامة أنطون سعادة في الجامعة الأميركية في بيروت. وفي العام التالي، في آب 1933، عُقد اجتماعٌ عام في قرنايل (جبل لبنان) ضمَّ مجموعة من المثقفين العرب: من لبنان وسوريا وفلسطين، بهدف تأسيس حزب سياسي قومي عربي تحت اسم :"عُصبة العمل القومي". وصدر على أثر هذا الاجتماع البيان التأسيسي المعروف.
كما أنه في تلك الفترة بالذات كان قد تطوّر الحزب الشيوعي السوري ـــ اللبناني تطوّراً ملحوظاً وازداد انتشاره في سوريا، خصوصاً بعد أن أصبح ارتباطه بالحزب الشيوعي الفرنسي وتولّي قيادته خالد بكداش منذ عام 1930. وهنا نلاحظ أنه أصبح له دورٌ، على الرغم من سرِّيتهِ، في الحياة السياسية السورية، الوطنية والحزبية وبخاصة في عام 1936 أثناء قيام الجبهة الشعبية في فرنسا بمشاركة الحزب الشيوعي فيها، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرةً ،مما أثّر كل ذلك في ازدياد قوته ونشاطه وحجمه وانتشاره.
وفيما بين أعوام 1932-1935 نُشاهد بداية ظهور الجماعات الدينية بتياراتها متنوعة: جمعية الإخوان المسلمين 1935، الشبان المسلمون عام 1937 (شباب مُحمد). وفي هذه الفترة بالذات نشأ تنظيمٌ جديد مُعارضٌ لحزب الكتلة الوطنية تحت اسم "الجبهة الوطنية المتحدة"، قبل أن تتحوّل إلى ما أُطلق عليه: "الهيئة الشعبية".
كما أننا في هذه المرحلة أيضاً نُشاهد ظهور أحزابٍ وتجمعاتٍ حزبية صغيرة، محدودة التأثير وقصيرة الحياة السياسية، أبرزها: حزب الكفاح العربي القومي، حركة اليقظة العربية القومية، عُصبة الشباب العامل، شباب العروبة السوريين، جماعة الشباب المسلم، حزب الحرس العربي، الحزب العربي القومي، الاتحاد العربي، وأخيراً نشوء شباب أو حركة الإحياء العربي في أواخر الثلاثينات(1).
في هذا الجو السياسي الوطني العروبي العام، تكوّنت في النصف الثاني من الثلاثينات في دمشق حلقة فكرية أدبية ثقافية تضمُّ عدداً قليلاً من المثقفين والأدباء من تيارات تقدمية متنوعة. وكانت هذه الحلقة من المثقفين ذات طابع أدبي وثقافي وكان أعضاؤها في السابق ينشرون مقالاتهم الأدبية والثقافية وقصصهم وشعرهم في مجلة "الطليعة" ذات التوجُّه الماركسي التقدمي، التي كانت تصدر في دمشق. وكان من ضمن هؤلاء الأدباء ميشال عفلق وكامل عياد وآخرون. ولما كان أعضاء هذه الحلقة الأدبية ينشرون قصصهم وشعرهم ومقالاتهم في هذه المجلة، وبما أنّ هؤلاء الأدباء من أسرة تحريرها، فقد اصطبغ أعضاء هذه الجماعة بطابع يساري تقدمي، لذلك كان يشاع عنهم أنهم ماركسيون ويساريون...
هنا لابد من الإشارة إلى أنّ كتابات الأستاذ ميشال عفلق في الثلاثينات، كانت كتابات بحت أدبية، توزَّعت على فنون القصة القصيرة والشعر والمسرح والمقالة الاجتماعية. وهي كتابات ذات قيمة أدبية ريادية لا تُنكر، وقول الدكتور شاكر مصطفى عن ميشال عفلق الأديب إنه: "سنفونية لم تتم" يؤكد هذا الجانب من فكره. ولكنه بعد ذلك أخذ ينصرف بالتدريج عن فنون الأدب ويتجه نحو المقالة الاجتماعية، ومن ثمّ نحو الفكر السياسي الملتزم المباشر، ومقاله في هذا الخصوص "ثروة الحياة" التي شرح فيها مفهومه للاشتراكية الإنسانية عام 1936.
وفي أواخر الثلاثينات أخذ الأديب ميشال عفلق يتجه صراحة إلى البحث والعمل السياسي القومي العربي،بعد أن فشلت جميع المحاولات السابقة، ويسعى إلى تكوين نواة حركة أدبية قومية صغيرة تكون منطلقاً لنهضة فكرية ثقافية عربية بالمعنى العام والشامل للكلمة. وكان ميشال عفلق وصلاح البيطار أول من انطلق للعمل السياسي معاً، وهما زميلان في التدريس في التجهيز الأولى في دمشق. وبما أن دمشق في تلك الآونة كانت تشكو من فراغ سياسي، فأخذت تُعقد في مقاهيها أو بيوتها اجتماعاتٌ كثيرة ومتنوعة بين المثقفين من تيارات قومية عروبية متنوعة ومن مختلف الأحزاب والانتماءات السياسية من أجل الوصول إلى تأسيس حزب أو حركة سياسية أو تجمع سياسي يسدُّ هذا الفراغ خصوصاً على الصعيد القومي العربي، يكون رداً في مواجهة القوى السياسية والحزبية الأخرى وفي مواجهة الكتلة الوطنية وزعمائها الذين تحمّلوا قيادة الاستقلال الوطني وفشلوا فشلاً مخزياً. فكانت هذه الاجتماعات تبوء في نهاية المطاف بالفشل ويصل الاختلاف في الرأي