كلمة عن المثقفين - الدكتور مصطفى دندشلي
الدكتور مصطفى دندشلي : أولاً كلمة شكر أتوجه بها إلى السادة المحاضرين والمناقشين الذين أغنوا البحث والحوار بآرائهم وتصويباتهم ونقدهم واقتراحاتهم ، وبما أشاروا إليه من قضايا فكريّة وثقافيّة وسياسيّة ، قضايا المجتمع الذي نعيش فيه على صُعُد مختلفة ... هذه هي الغاية في الحقيقة ، من عقد هذه الحلقة الثقافيّة ، والتي سوف سيتبعها حلقات أخرى مع مشاركة مفكّرين آخرين من تيارات سياسيّة متنوّعة .
بداية أودّ أن أشير إلى أنّ مفهوم المثقّف الحديث ، المثقّف النقديّ ، الاحتجاجيّ ، إنما نشأ وانطلق في أثناء قضيّة درايفوس 1898 وصدور لأوّل مرّة هذا المعنى الحديث في البيان تحت عنوان " بيان المثقّفين " Le manifeste des intelletuels ، موقع من " إميل زولا "، مجموعة من المثقّفين الفرنسيين . " جان ـ بول سارتر" في هذه المحاضرات الثلاث التي نُشرت في هذا الكتيّب عام 1972 ، أعطى لهذا المفهوم المثقّف النقديّ معناه الخاص ووجهة نظره الفلسفيّة الوجوديّة . ومحور الفلسفة الوجوديّة هو الإنسان وحريّة الإنسان ومسؤوليّة الإنسان … ولقد أشرت في المقدّمة إلى هذا الجوانب وبوضوح وبشيء من التفصيل .
الناحية الأخرى ، من حيث الترجمة : في الحقيقة ، وكما قلت ذلك في المقدّمة ، فأنا لا أعتبر نفسي "مترجماً محترفاً "، إنما مترجم هاوٍ . وإذا سبق لي أن ترجمت بعض النّصوص من الفرنسيّة إلى العربيّة ، وكتاباً في العلوم الاجتماعيّة صدر سنة 1983 ، تحت عنوان : " مدخل إلى علم الاجتماع العام : الفعل الاجتماعيّ "، فقد وجدت سهولة أكثر بكثير من ترجمة " سارتر " في هذا الكتيّب ، حيث واجهتني صعوبة وصعوبات كثيرة مع أنّ النصّ صغير . وذلك ، أولاً بسبب " كثافة الأفكار الرمزيّة " الكثيرة التي كان يستخدمها "سارتر " على صفحات الكتاب ، وأكاد أقول من أوّله إلى آخره . وثانياً ، لا يمكن أن يترجم هذا النصّ الفلسفيّ ـ الأدبيّ ، مَن ليس على معرفة ـ ولو بالحدّ الأدنى ـ بالتيارات الفكريّة الفرنسيّة ، بالقضايا الفلسفيّة الفرنسيّة ، بالتيارات الأدبيّة الفرنسيّة الجديدة ( أنظر المحاضرة الثالثة ) من هنا تأتي الصعوبة .
لذلك ، ولجميع هذه الاعتبارات ، كان يستعمل " سارتر " تعبيرات جديدة . فهو "ينحت " اصطلاحات حديثة ، خلافيّة ، أحياناً غير موجودة في المعاجم الاختصاصيّة الفرنسيّة حتى الآن ... من هنا ، حتى تكون الترجمة واضحة وصحيحة ومعبّرة عن أفكار الكاتب حقيقة وبالعمق ، من الضرورة معرفة أو الإلمام بالفلسفة الوجوديّة ، وبفلسفة " سارتر " على وجه الخصوص .
هذا وبالإضافة إلى ذلك فإنني أرى أنّ المترجم لا ينبغي أن يسمح لنفسه أن يتصرّف بالنصّ ويُترجم بتصرّف ، أو أن يعمد إلى نوع من الاقتباس ، كما قيل في أثناء المناقشة . لو فعلنا ذلك فإننا سوف نسيء إلى النصّ وبالتالي إلى المعنى . هناك على سبيل المثال لا الحصر ، بعض الجمل لا يمكن إلاّ وأن يقف الواحد أمامها طويلاً : كلمة les amours في اللغة الفرنسيّة مفردها Un amour . فهي مذكر في المفرد ، ومؤنث في الجمع . فكيف إذن يمكن ترجمتها في اللغة العربيّة حتى تؤدّي معناها الفرنسيّ ، ويستطيع القارئ العربيّ أن يستوعب هذا الإبداع من الكاتب الفرنسيّ . هنا ، ينبغي على المترجم أن يقف ملياً أمام النصّ حتى يفهم روحيّته وإيحاءاته ... وهناك أيضاً وأيضاً كلمات واصطلاحات جديدة منحوتة غير موجودة في القواميس الفرنسيّة ، أو إنها اصطلاحات خلافيّة ، إلخ... ( لقد قمت بشرحها في الحواشي )
لذلك ولجميع ما تقدّم ، فقد أمضيت وقتاً طويلاً في ترجمة هذا الكتاب ومن ثمّ في مراجعته في مبناه وفي محتواه . إذ إنني لم أكن مستعجلاً للانتهاء من ترجمته . وأنا لست أيضاً الآن لكي أنشره ، على اعتبار أننا برأيي ننشر الكتاب مرة واحدة ، على أن يكون محقّقاً بدقّة وعناية . فكما احتاج في صياغته إلى صبر وتأنٍ ، فهو يحتاج كذلك إلى تأنٍ في قراءته . فمَن يريد أن يقرأ هذا النصّ بسرعة وبغير تأنٍ ، فالأفضل أن لا يقرأه ... ولأهمية هذا الكتاب من وجهة نظري ، من حيث مضمونه : حول مفهوم المثقّف ودور المثقّف ووظيفة المثقّف ، ومن حيث الموضوعات التي يعالجها بصورة عامة ، فقد وجدت من المفيد أن نقف أيضاً على الآراء الأخرى حول هذه الموضوعات قبل النشر ومن حيث المبنى كذلك : اللغة ، وتركيب الجمل ، ومن حيث الترجمة عموماً ، إلخ ..... فهذه الحلقة الأولى ومن خلال ما دار فيها من مناقشات وطرح أفكار ، قد أدّت الغاية المرجوّة من عقدها ، فأنا ختاماً أكرر لكم جميعاً شكري وتقديري ...