د. دندشلي- التثقّف من الخارج (المثاقفة) Acculturation
التثقّف من الخارج (المثاقفة) Acculturation
د. مصطفى دندشلي
كل مجتمع في حالةٍ صراعية، والصراع هو ظاهرة اجتماعية ملازمة بالضرورية لوجود المجتمع. لا وجود لمجتمع دون صراع، وهذا الصراع الاجتماعي قد يكون بطيئاً وقد يكون سريعاً، قد يكون هادئاً وقد يكون عنيفاً، وقد يحصل هذا الصراع دون رؤيته بالعين المجردة أو إدراكه بصورةٍ حسية، خاصة في المجتمعات التقليدية، المجتمعات الريفية، حيث العادات والتقاليد هي الطاغية والمسيطرة. حتى في هذه المجتمعات التقليدية الصراع موجود، وإن كان من الصعوبة تلمسه بالمشاهدة وبالحسيّة.
هذا الصراع الاجتماعي لابد إلاّ وأن يؤدي إلى نتيجةٍ وهي توضيح أو تحديد أو إبراز القُوى الاجتماعية المتصارعة، مَن هي؟... وتحديد هذه القُوى له أهمية.
الصراع موجودٌ في العائلة وبين أفرادها، الصراع موجودٌ بين القُوى الاجتماعية المختلفة والاقتصادية والثقافية والسياسية المنظمة، إلخ... فبَين هذه التجمعات أو القُوى الاجتماعية المتنوعة في المجتمع هي دائماً في حالةٍ صراعيةٍ، وهذه الحالة الصراعية هي التي تؤدي إلى التغيّر الاجتماعي، والتغيّر الاجتماعي هو ذاته قد يكون سريعاً فجائياً عنيفاً، وقد لا يكون كذلك، بل بطيئاً، ليّناً، هادئاً أو قد يكون بين بين.
وقد يتم هذا التغيّر الاجتماعي بطريقة قسرية، أو بالعكس قد يتم بصورة طوعية. والتغيّر الذي هو، نتيجة صراع اجتماعي كما رأينا يشمل مختلف جوانب المجتمع بنسبٍ متفاوتةٍ بطبيعة الحال، قد يكون هذا التغيّر قد حصل في جانب أكثر من جانب آخر. أو ظهر في ناحية دون الأخرى. إلاّ أنه يعود ويؤثر في عناصر المجتمع وتفاعلها وتأثيراتها المتبادلة فيما بينها. إذاً بين القوى الاجتماعية العديدة في المجتمع، فإن أي تغيّر اجتماعي، اقتصادي، سياسي، ثقافي... لابد والحالة هذه من أن يؤدّي إلى تأثيرٍ وتفاعلٍ مع سائر الجوانب الاجتماعية الأخرى. وهكذا فإن هذه التفاعلات الاجتماعية المتبادلة هي التي تؤدي بدورها إلى التغيّر الاجتماعي، كما رأينا، وإلى تغيّر المجتمع.
لقد أشرنا سريعاً أعلاه وركّزنا فقط على عوامل التغير الاجتماعي الداخلية ضمن إطار المجتمع، ولكن، وهذه نقطة أساسية وخاصة في العصر الذي نعيش فيه، إن المجتمعات الإنسانية ليست منعزلة بعضها عن بعض، فهي ليست (جزراً) اجتماعية أو مناطق لا تواصل واتصال البتَّة فيما بينها وبِنسبٍ مختلفةٍ، قد تكثر أو تقل.
في العصر الذي نعيش فيه، أقول، وخاصة في القرن العشرين وفي نهاياته، فإن هذه الاتصالات أو الصراعات، تتمُّ وتحدث على مرآى من الجميع وبطرق متنوعة، هائلة التنوع فيما بينها، وإن هذا ما نعرفه ويعرفه الإنسان العادي في الوقت الراهن.
إن هذه الاتصالات بين المجتمعات المتنوعة وبين الثقافات والحضارات المختلفة إنما تتمُ الآن بسرعةٍ فائقةٍ وعلى وتيرةٍ متلاحقةٍ وتحت ظروفٍ أو ضغوطٍ مرئيةٍ أحياناً ولا شعورية أحياناً أخرى.
إن هذا التبادل أو التفاعل الثقافي الواسع بالمعنى الانتروبولوجي لكلمة ثقافة، وهذا التأثير والتأثر لا يتمُّ كما نعلم بين قُوى اجتماعية متساوية أو متكافئة أو بين قُوى اجتماعية ذات طاقاتٍ وإمكاناتٍ اقتصادية سياسية تكنولوجية متعادلة في الأهمية، بل إن الفوارق في هذه النواحي فيما بين هذه القُوى الاجتماعية على صعيد العالم، بارزة ومرئية ويمكن إدراكها بسهولة.
من هنا ما نريد أن نقوله في هذا المجال هو أن التأثيرات الخارجية مِن قِبل مجتمعاتٍ متطورةٍ أو أكثر تطوراً على الصعيد الاقتصادي والعلمي والتقني والعسكري والثقافي، هو الفاعل المؤثر في مجتمعاتٍ أقل تطوراً وتقدماً من غيرها. فهنا تقع علاقات السيطرة والتبعية بين هذه المجتمعات، وتأثير المجتمعات المتقدمة والنافذة على المجتمعات الضعيفة وسيطرة الثقافة (بالمعنى الانتروبولوجي للكلمة وبمعنى الاصطلاح السائد أي انتشار الأفكار والعلوم والفنون والآداب...) على الثقافات الأخرى. وهذا ما نسمّيه بعملية (acculturation) والذي جرى ترجمتها إلى اللغة العربية بكلمة التثقّف من الخارج أو المثاقفة على وزن مُفاعلة أي (مصارعة).
ملاحظة: هل نستطيع في ظرفنا الراهن أن نمنع ونقف حداً فاصلاً منيعاً دون تسرّب هذه التأثيرات الخارجية إلينا وفي صميم ثقافتنا؟!... فلا يمكن ذلك، فهذه الثقافة العالمية المسيطرة غدت تكوُّن الآن تكون جزءاً من حياتنا وتسكن بيننا، وبات الآخر هو جزءٌ فينا، شئنا أم أبينا.