-الدكتور عبدالكريم رافق - مظاهر التنظيم الحِرَفي في بلاد الشام في العهد العثماني
التقديــــم
د. مصطفى دندشلي
في بحث بالغ الأهمية من الناحية التاريخية ـــ الاجتماعية، كتبه الدكتور عبدالكريم رافق، أستاذ مادة التاريخ الاجتماعي في جامعة دمشق تحت عنوان: مظاهر من التنظيم الحِرَفي في بلاد الشام في العهد العثماني، استعرض الدور الهام الذي قامت به الطوائف الحِرَفية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية في تلك المرحلة من حياة بلاد الشام. ذلك أن قسماً كبيراً من سكان المدن الشامية كان منتظماً في هذه الطوائف، سواءٌ على صعيد الإنتاج أم في مستوى الخدمات، أم في مجال التسويق. (1)
وإذا كانت هذه الطوائف الحِرَفية قد بلغت في مراحل طويلة درجة كبيرة ومستوى عالياً من التنظيم، إلا أننا نجد أن دخول البضائع الأجنبية الأوروبية بكثافة إلى البلاد العربية على أثر الثورة الصناعية طوال القرن التاسع عشر، قد أصابت البضائع المحلية والإنتاج الحِرَفي بأضرار كبيرة نتيجة المنافسة الشديدة التي أحدثتها، مما أثّر تأثيراً كبيراً في إضعاف الطوائف الحِرَفية في البلاد. وكثيرة جداً هي أنواع الطوائف الحِرَفية وأصنافها في مدن بلاد الشام وفي مختلف الفترات الزمنية طوال العصر العثماني، التي أصابتها الأضرار الجسام من جرَّاء المنافسة العنيفة، وكادت أن تقضي عليها كلياً. وسوف نتحدث بشيء من التوسُّع في هذا الموضوع...
بعد هذه المقدمة الاستهلالية، نأتي لنشير إلى مقومات التنظيم الحِرَفي في بلاد الشام فنقول: إنه كان يتميَّز من جهة بالتخصُّص ومن جهة أخرى بتوزيع العمل. ذلك أن هناك طوائف عُنِيت بالإنتاج وأخرى بالخدمات أو التسويق. وهنا، في هذا المجال، فإننا نلاحظ غياب أسماء النساء بين أعضاء الطوائف الحِرَفية من ناحية وكذلك غياب طوائف خاصة بالنساء من ناحية أخرى. بيد أنه قد كان من الطبيعي أن النساء، سواءٌ في المدن أو في الأرياف، كنَّ يُقمن بأعمال حِرَفية هامة مثل: قشر القطن وغزله أو حبك حبال القشر لصنع الحصير.
أما من حيث التركيب البنيوي للطوائف الحِرَفية، فيكون على رأسها شخص عُرِف عادة بالشيخ. ويتم اختياره من بين أعضاء الطائفة، وأقرَّه ونصَّبه القاضي الشرعي. ويتم اختيار شيخ الطائفة عادة من كبار الحِرَفيين في الطائفة نفسها. كما أن هناك بعض الدلائل تشير إلى وجود رئيس أعلى للطوائف جميعاً، يدعى "شيخ المشايخ".
وإننا نلاحظ أنه يُطلق في بعض الحالات على شيخ الطائفة الحِرَفية لعب: "باشي". كما، على سبيل المثال، في طائفة القصَّابين التي عُرِف رئيسها بـــ "القصَّاب باشي"، وأحياناً أخرى بالشيخ. كما كان يطلق على رئيس طائفة الدباغة لقب: "بابا".
طبعاً، ومزيداً في الدقة والتنظيم، ثمة شروطٌ ينبغي أن تتوافر في شيخ الطائفة، وهي أن يكون رجل دين، مستقيماً، قادراً على أداء المشيخة، صالحاً لها، وأن يكون الأعضاء راضين عنه. هنا، لابد من الإشارة إلى أنه ليس لدينا من دليل على أن الشيخ تقاضى مرتباً من الطائفة، بل كان يعيش في الغالب من عمله. غير أن هناك بعض الامتيازات المادية التي يتمتع بها.
هذا، وأهمية الطوائف الحِرَفية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، أنها طبَّقت مبدأ توزيع العمل والتخصُّص الدقيق. ويتأتى ذلك من صفات الاقتصاد المنظم. كما أن لكل تخصُّص طائفته وشيخه ويبدو أيضاً في هذا النطاق وجود طوائف خاصة بالمسلمين وطوائف خاصة بالمسيحيين وطوائف مشتركة بينهم جميعاً. ففي جميع هذه الحالات نجد أن الطوائف الحِرَفية، قد تحكَّمت في نوعية الإنتاج ومواصفاته وجودته وأُجْرته وأسعاره.
وفي مجال الخدمات، كما في مجال الإنتاج والتسويق، فقد روعيَ الاختصاص وتقسيم العمل. في هذا النطاق أيضاً، فمن الملاحظ بصورة واضحة حرص أصحاب كل طائفة على منع العناصر الغريبة من تعاطي حِرْفتهم. لقد كان الهدف من وراء ذلك ضمان حسن الإنتاج والاستئثار بالأرباح ومشاركة جميع أعضاء الحِرفة في تحمّل الضرائب الجماعية.
لذلك، فقد حافظت الطوائف في المجال الاجتماعي على بعض المميِّزات الخاصة بها، السائدة في المجتمع. كما أنها من حيث تنظيماتها وأخلاقيتها المهنية، كانت قد ساعدت على تطوير مستوى الأخلاق عامة والمحافظة على أخلاقية الحِرْفة بوجه خاص. لذلك فإنه لَمِن الملاحظ وبكل وضوح أن الحِرْفة قد طَبَعت حياة الحِرَفي بطابعها ولصق اسمها به حتى غدا كنية له، ولحق اسم الحِرفة بالأُسرة ككل مثل: الخشّاب، الحداد، النجار، الصبَّاغ، إلخ...
ويبدو في هذا المجال أن العلماء بين الحِرَفيين، عوملوا معاملة خاصة. كما أن الطوائف الحِرَفية كان قد عُرف عنها أنها تتمتع بدرجة عالية من الأخلاقية المهنية، وتظهر عادة على مختلف المستويات. فقد اُشترط في شيخ الطائفة، إلى جانب معرفته بأمور الحِرفة وقدرته على أداء واجبات المشيخة، أن يكون متحلياً بالعِفَّة والاستقامة والتديُّن. ويدل هذا التأكيدُ على الالتزام بالأخلاق المهنية، على اهتمام الحِرفيين وبالتالي الشعب بمجمله، بالممارسة الأخلاقية. وينعكس ذلك بالمقابل على توطيد فكرة الأخلاق بين الناس.
إلى هنا، تجدر الإشارة في هذا السياق إلى العلاقة بين الطوائف الحِرَفية والطرق الصوفية، ومقدار ما أسهمت به التنظيمات الحِرَفية في نشر الطُّرق الصوفية واستمراريتها. وكذلك مقدار ما مارسته الطرق الصوفية من تأثيرات على الحِرَفيين في مجال تقديم الطاعة لشيوخ الطوائف وموظفيها (2).
على الصعيد الإداري، لعبت الطائفة دوراً هاماً من حيث تنظيم العلاقة بينها وبين السلطة الحاكمة. فالسلطة تبلِّغ أوامرها إلى الحِرَفيين عن طريق شيخ الطائفة. في حين أن الحِرَفيين يرفعون مطالبهم إلى السلطة عن طريق الشيخ. وتظهر هذه العلاقة بين الطائفة والسلطة في مجال الضرائب، وهي ضرائب ثابتة وضرائب عارضة. وقد روعيت أوضاع الطوائف المادية عند فرض الضرائب عليها. وبالإضافة إلى دورها الإداري، قامت الطوائف الحِرَفية تقوم بدور سياسي وعسكري وبخاصة في القرن الثامن عشر، حين ضعفت سلطة الدولة، مما أدى إلى بروز المنظمات الشعبية في مراكز المدن.
إلى هنا، يصل الباحث إلى الوقوف ملياً أمام أثر الاقتصاد الأوروبي على الطوائف الحِرَفية في القرن التاسع عشر فيقول: لقد أدت الثورة الصناعية في أوروبا، وبخاصة في مجال صناعة النسيج إلى إغراق أسواق العالَم في القرن التاسع عشر، بالبضائع التي تميَّزت بالجودة والرُّخص. وكان ذلك ضربة شديدة وقاسية للصناعات الحِرَفية المحلية التي لم تقْوَ على الوقوف في وجهها.
لذلك فإننا نلاحظ أن الصناعة الحِرَفية في بلاد الشام كانت قد قاست من منافسة البضائع الأوروبية، فضعفت كثيراً وافتقر أصحابها، وتضرَّر الاقتصاد المحلي بصورة عامة. وأدَّى تدفق البضائع إلى بلاد الشام ورواجها فيها إلى قيام دكاكين متخصَّصة ببيعها. وإننا نرى أن البضائع الإفرنجية كانت قد أصبحت وتدريجاً تحتل أماكن بارزة في الأسواق الرئيسة في المدن الشامية الكبرى.
ولم تقتصر الصادرات الأوروبية على الأقمشة بل تعدتها إلى المواد الأولية. فكان من نتيجة ذلك أن تعرّض عددٌ متزايد من العاملين في النسيج إلى الإفلاس بسبب مزاحمة البضائع الأوروبية. ووقعت الأزمات الاقتصادية التي تعرَّض لها الحِرفيون بسبب منافسة البضائع الأجنبية للبضائع المحلية، فكثر الفقر والإفلاس في صفوفهم.
ولكنه، من جهة أخرى، إذا كانت البضائع الأجنبية قد أوجدت أزمة متفاقمة بالنسبة لصناعة النسيج المحلية، إلا أن التجار المحليين سرعان ما تأقلموا مع الوضع الجديد، وجنَوْا ثروات كبيرة نتيجة تعاطيهم المتاجرة بالبضائع الأجنبية. مما أدَّى ذلك كله إلى تداخل مضطرد بين الاقتصاد الأوروبي والاقتصاد المحلّي وسيطرته على التجارة المحلية.
كما أدت كثرة البضائع المتدفقة من أوروبا إلى بلاد الشام في القرن التاسع عشر إلى الحاجة إلى ميناء جديد، يتَّسع لاستقبال السفن الكبيرة التي أخذت تسير بقوة البخار. وكانت الموانئ التقليدية قبل ذلك الاسكندرية، طرابلس، صيدا صالحة لاستقبال السُّفن الشراعية التي تحمل كميات محدودة من البضائع. ولهذا أنشئ ميناء بيروت لاستقبال البضائع الأوروبية بكميات كبيرة. واقتضى ذلك في الوقت نفسه إنشاء طريق بيروت ـــ دمشق لتصريف البضائع في الداخل.
ورُغم التأثيرات المدمِّرة للاقتصاد الأوروبي المتصنِّع، على الصناعة المحلية وبالتالي على الطوائف الحِرفية، إلا أنه لم تُعدم الصناعة المحلية وسائل التأقلم والردّ على هذا التحدي. فظهرت صناعات محلية تجمع ما بين المحلي و المستورد، وتعمد إلى تقليد البضائع الأوروبية. ورُغم النجاح في هذه النواحي، فلم يلق تقليد القماش الإفرنجي رواجاً محلياً. وهكذا أصبح الاقتصاد المحلي يدور حكماً في فلك الاقتصاد الأوروبي. وترتَّب على ذلك حدوث تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية عميقة في بلاد الشام.
* * *
بعد هذه المقدمة التي استعرضنا فيها بصورة مكثفة الأفكار الأساسية لدراسة الدكتور رافق الهامة، المشار إليها أعلاه، نأتي الآن إلى تلخيص الأفكار الواردة في دراسة د. سلمان وعنوانها: الحِرف والصناعات الشعبية في مدينة صيدا، منذ الفتح العثماني إلى الحملة المصرية على بلاد الشام ( 1516-1832). وهي دراسة في الأصل قُدِّمت ضمن أعمال المؤتمر الذي نظمه المركز الثقافي للبحوث والتوثيق من 6 نيسان إلى 12 حزيران 1988، تحت عنوان: تطور صيدا الاقتصادي في محيطها الريفي. وكنا قد طلبنا منه حينذاك توسيع هذا البحث القيِّم وإتمامه حتى يصبح دراسة تاريخية اجتماعية كاملة حول الطوائف الحِرَفية والصناعات الشعبية في صيدا، فجاءت هذه الدراسة التي نقوم الآن بتقديم تلخيص مكثَّف لمضمون محتوياتها كي تكون بمثابة مقدمة أيضاً لها وللبحوث التي سوف تليها. وسوف تتبعها دراستان له، يأتي الحديث عنهما لاحقاً.
* * *
بعد أن يُلقي الدكتور سلمان في بحثه الهام سالف الذكر، نظرةً تاريخيةً ـــ اجتماعيةً حول تطور مدينة صيدا من العهد الصَّليبي إلى العهد المملوكي، إلى الفتح العثماني، وإلى اتخاذ الأمير فخرالدين المعنى الكبير مدينة صيدا في العام 1594 قاعدة لإمارته ومقراً له، يصل إلى أن يتحدث عن موقع المدينة الذي لعب دوراً بارزاً في ازدهارها خلال هذه الفترة الزمنية وعن أسوارها وعن التركيبة السكانية في مختلف العهود، وعن المذاهب والطوائف الدينية فيها وأصولها والأماكن التي أتت منها. بعد ذلك يأتي إلى الحديث عن الأحياء (حارة، محلة)، وأن كلَّ حيٍّ قد كان مكتفٍ بنفسه وله مبانيه العامة والخاصة (المسجد، الحمَّام، السوق) وبوابته الخاصة به، ما يؤكد ذلك الكيان المستقل للحيِّ..
كما شكل كل حيٍّ وَحدة إدارية يرأسها شيخ الحارة. وتسكنه أُسَر كانت توجد فيما بينها بعض الروابط الطبيعية: كالأصل أو المهنة أو الدين. من هنا كانت تلك الأُسر تُكوِّن مجموعة متجانسة. ويبدو أن نظام الحارات، كان يستند إلى نظام طوائف الحِرَف. لذلك فإننا نجد انحصار طوائف الحِرَف الصناعية والتجارية في داخل المدينة وفي باطنها حيث انتشرت الأسواق الرئيسية في المنطقة الواقعة حول خان الإفرنج.
طوائــف الحِــرَف
وفي الحديث عن طوائف الحِرَف، فإن لكل طائفة حِرَفية شيخها، ويرأس كل الطوائف الحرفية رئيسٌ أكبر يُدعى شيخ المشايخ، ويليه مشايخ الحِرَف والمعلمون والمبتدئون.. ومنصب شيخ المشايخ، تنفرد به أُسْرة عريقة تكون عادة من الأشراف. ويكون هذا المنصب من حقِّ أكبر أفرادها، شرط أن تتوافر فيه صفات: الوقارة والتَّفقُّه في أمور الدين، وعلى جانب عظيم من التقوى، وهو منصب مدى الحياة. ويلي شيخ المشايخ في المرتبة: النقياء، ويعيَّنون من قبله....
وكان هناك إجراءات تتَّخذ بحقِّ كل من يسيئ أو يغشُّ في عمله حفظاً للرابطة التي تجمع ما بين الحِرَف وصوناً لأموال الناس.
ثم يجري بعد ذلك استعراض أهم الحِرَف والصناعات الشعبية التي وُجدت في مدينة صيدا في العهد العثماني، وأهميتها في المجتمع الإنساني عامة. وهي تدل على طبيعته واتجاهاته وتكشف عن حاله من حيث درجة غناه أو رفاهة أبنائه. وبقدر ما تتعدَّد الحِرَف والصناعات الشعبية وتتنوّع في المجتمع، فهي تشير إلى مدى التطور والرُّقي الذي وصل إليه هذا المجتمع.
ومع استتباب الأمن والاستقرار في مدينة صيدا خلال العهد العثماني، فقد تجلَّى الرواج الاقتصادي والازدهار الاجتماعي في الأسواق التي عرفت جميع أنواع البضائع الأساسية والكمالية، كما كشفت هذه الأسواق عن مدى تنوُّع الحِرَف والصناعات المتعلقة بالحياة اليومية في المجتمع الصيداوي. فظهرت أنواع الحِرَف والصناعات التي ازدهرت كثيراً وأدَّت إلى خدمة المجتمع الصيداوي في حياته اليومية.
إلى جانب ذلك، فقد ازدهرت أيضاً حِرَف وصناعات في خدمة الأغراض الاستهلاكية اليومية وأخرى ارتبطت بالحِرَف التي لها علاقة باقتناء التُّحف ومظاهر الرفاهية، فضلاً عن الاهتمام بزينة الملابس والأسلحة والخيول ومظاهر الأبهة والعظمة...
حِــــرَف الغــــذاء
لقد ازدهرت مدينة صيدا بحِرَف الغذاء، ذلك أن هذه الحِرَف تُعدُّ من أكثر الحِرَف ارتباطاً بالمجتمع في حياته اليومية وأكثرها تعبيراً عن اتجاهات هذا المجتمع ومدى ثرائه أو فقره. كما أن بعض أنواع هذه الحِرَف تشير إلى عادات الصيداويين الاجتماعية في مجال الغذاء، لذلك كانت الحِرَف التي لها علاقة بالغذاء تتوزَّع ما بين الفرَّانين واللحّامين وصنَّاع الحلوى والمعاصر والمطاحن وصيد الأسماك، إلخ...
حـــِرَف المصنوعـــات الجلديــة
هناك أنشطة اقتصادية متعلقة بالمصنوعات الجلدية وحِرَف كثيرة مرتبطة بها. فقد كان يستحضر الصيداويون جلود الخام كلها أو بعضها من الخارج لغرض دبغها وتصنيعها. فكان أكثر ما يُدبغ جلود الغنم والماعز والبقر. لهذا فإننا نجد أن حِرَف دباغة الجلد، قد ازدهرت في مدينة صيدا وكثر عدد العاملين فيها، تجار وصناعة. وقد وُجدت دباغة في الطرف الشمالي الغربي لباطن المدينة ونسب الحي أو الحارة الواقعة فيها إليها. كما وُجدت دباغة أخرى خارج المدينة تقع على الضفة الجنوبية لنهر القملة.
حــِرَف صناعـة الأقمشـة والملابس
وفي تلك العهود، كذلك كانت قد ازدهرت حِرَفة صناعة الأقمشة والمنسوجات والحِرَف المرتبطة بالملابس، ازدهاراً كبيراً، يتضح ذلك من خلال تنوُّع الحِرَف المتصلة بالملابس. وكنا نجد أن عمليات تصنيع القماش في مراحله المختلفة تتمُّ في سوق الحياكين. وكان النسيج يتمُّ بواسطة أنوال يدوية. ويتصل بحِرَف صناعة الملابس حِرَفة التطريز وحِرَف الغزل الذي كان من عمل النساء في المنازل.
ويتصل بصناعة الأقمشة والملابس أيضاً حِرَفة الصباغة. ووُجدت في مدينة صيدا أماكن لصباغة الأقمشة على ألوان متعدِّدة. كما يتصل بها بطبيعة الحال حِرفة العقَّادين وحِرفة الخياط وحِرَفة بائع الأقمشة والمنسوجات. وهناك حِرَف صناعة النجارة، ووُجد في حينه سوق خاصة بالنجَّارين. وارتبط بهذه الحِرْفة حِرفة الخرّاط، وهو من يقوم بخرط العود أو الخشب، وحِرفة صناعة السفن الشراعية. وقامت في سوق الحدادين حِرَف صناعة التعدين، وهي من الصناعات القديمة في صيدا. ويتصل بها حِرفة "النَّقاش"، وهو مَن ينقش الأواني النحاسية، وحِرفة صياغة الذهب والفضة.
والوثائق التاريخية التي بين يدينا تشير إلى وجود حِرَف وصناعات شعبية كثيرة التنوع، منها على سبيل المثال حِرَفة صناعة الفخار التي ورثها الصيداويون عن أجدادهم وحافظوا على حسن صنعها.... وهي حِرفة شعبية ملتصقة بحياة الناس اليومية كالجِرار والأباريق وخوابي الفخار لحفظ المواد الغذائية كالزيتون والزيت..
بالإضافة إلى ذلك، فقد اشتهر الصيداويون بحِرفة صناعة الصابون. وكان يوجد في مدينة صيدا خمس مصابن، وأطلق على إحدى حاراتها اسم حارة المصبنة، كل ذلك يدل على مدى ما اشتهرت به هذه الصنعة في المدينة. هناك حِرفة الشمع وبيعه في المدينة وحِرفة الحبّال وحِرَف الخانات وكانت مراكز خدمات وتسويق وإنتاج. ويمكننا أن نستدل من وجود هذه الخانات في صيدا على أوجه النشاط الاقتصادي الذي يجري في المدينة. فأشهر هذه الخانات خان الفرنج، وخان الدباغة وكان أصغر خانات صيدا وأكثرها جمالاً وراحة، وهو ملاصق لخان الرز. وتسمية الخانات: حمص، وأرز ودباغة، إنما يدل على تخصُّصها بتجارة هذه السلع وعلى أنها كانت تلقى رواجاً في البلاد. وحِرَف الخدمات المرتبطة بوجود الخان، حِرفة القبَّاني وحرفة العتَّال. وانفرد خان الفرنج بوجود حِرَفيين مثل حِرَف:القواص والترجمان والسماسرة.
هذا وفضلاً عن ذلك، فقد كثرت حِرف المقاهي وانتشرت في داخل مدينة صيدا، وندر أن خلا شارع من وجودها. ويلاحظ أن هذه المقاهي وُجدت بصورة رئيسية في منطقة الأسواق التجارية، حول خان الفرنج والمصلْبِيَّة، وملاصقة تماماً للمساجد. ولدى ذكر المقاهي في مدينة صيدا، يُذكر أيضاً حِرَف الحمامات التي انتشرت في المدينة، وذلك بسبب افتقار منازل معظم الصيداويين لوجود الحمامات، فوجد عدد من الحمامات الشعبية حتى تتيح للأهالي إمكانية الاستحمام، ولو مرة في الأسبوع..
ويلاحظ أن هذه الحمامات كانت قد أقيمت بالقرب من المساجد، كما أنها ارتبطت بالحياة اليومية للناس وبعض العادات الاجتماعية من عدة وجوه. فكانت بمثابة مكان لقاءاتٍ اجتماعية و لتبادل الأخبار والأنباء والآراء. وبالقرب من هذه الحمامات، وُجدت في منطقة الأسواق حِرَف الحلاقين ودكاكينهم..
وهناك إلى جانب هذه الحِرَف، حِرَف أخرى أقل شهرة عرفتها مدينة صيدا آنذاك وهي "باعة الجائلين". فبعض هؤلاء كانوا يفترشون الأرض ببضائعهم، في حين كان الآخرون يتجوَّلون بما يحملونه من بضاعة في الأسواق وأحياء المدينة. فضلاً عن وجود حِرَف النَّقل والانتقال وحِرفة الجمّال، وحِرفة المكاري، وحِرفة السايس، وحِرفة البيطري، إلخ...
كما أن حِرَف البناء والعمارة كانت سائدة بين بعض أبناء مدينة صيدا، فمنهم من كان يجيد بناء المنازل والدور والجدران وهو المعماري. وإذا كان الصيداويون قد اعتمدوا في الشُّرب على مياه نهر الأولي، إلا أن هذه المياه لم تكن تصل إلى كثير من المنازل في المدينة. فوُجدت حِرَف المياه التي كان أفرادها يقومون بتأمين حاجات الأهالي من المياه وبتقديم هذه الخدمة لقاء أجر معلوم، وذلك بنقل جِرار الماء وقِرَبها على أكتافهم أو جرّهم الماء من نهر الأولي أو من السُّبُل المنتشرة في المدينة. وهذا ما تقوم به طائفة السقايين في تأمين وصول المياه إلى المنازل. ومن حِرَف الخدمات التي ارتبطت بالمياه حِرفة القنواتي ومَن كان يُشرف على توزيع المياه في المدينة.
وهناك حِرَف خاصة بالنساء وهي في مجملها حِرَف تتعلق بالزينة والنظافة والتوليد وهي حِرَف كانت تتم ممارستها في البيوت. وقد وُجدت في صيدا نساء لديهن معرفة ومهارة في صناعة التوليد تُعرف باسم "الداية".
ومن الجهة الأخرى، فقد غلبت الحِرَف الزراعية على أهالي الأحياء المحيطة بمدينة صيدا جنوباً وشمالاً. فمنهم مَن كانوا بساتنية لدى بعض أبناء مدينتهم الذين يملكون مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في سهل صيدا. ويتصل بالحِرَف الزراعية حِرفة " الحرّاث"، وحرفة "البستانجي"، إلخ...
هذا النشاط الاقتصادي البارز التي كانت تشهده أسواق مدينة صيدا وأحياؤها كان يتطلب وجود طوائف حِرَفته في مجالي النظافة، والأمن الليلي، والكناسة، وحِرفة الحارس وهو من يقوم بحراسة الحوانيت والخانات والأحياء. وهكذا فقد تضاعف عدد سكان مدينة صيدا في العهد العثماني وانحصروا داخل أسوار المدينة..
* * *
ولايــة صيــدا
إلى هنا نصل إلى الحديث عن ولاية صيدا في العصر العثماني (1614-1804) حيث تمّ تشكيلها في تلك الفترة بمثابة صمَّام أمان بالنسبة إلى السلطان العثماني ومركزها مدينة صيدا. وكانت تمتد من نهر الكلب حتى جبل الكرمل (في فلسطين) وتضم جانباً كبيراً من مدن بلاد الشام البحرية: بيروت وصيدا وصور وعكا وحيفا، إلى جانب المقاطعات الخاضعة لأمير جبل الدروز ومقاطعات جبل عامل وبلاد صفد والجليل وقيصرية في الوسط.
وقد تميَّزت ولاية صيدا عن بقية الولايات العثمانية بأنه لم يكن فيها جندٌ محلي من أهل البلاد. ومن ثم فقد نقلت الولاية إلى عكا، وذلك لأسباب سياسية وأمنية، مما أدى إلى افتقاد صيدا مركزها المزدهر وازدهارها السابق ونشاطها الاقتصادي، وانتقال القنصلية الفرنسية إلى العاصمة الجديدة للولاية عكا.
وبعد لمحة قصيرة عن واقع مدينة صيدا الجغرافي والعمراني والاقتصادي والزراعي، وعن القلعتَين البحرية والبرية، وعن سوقها التجاري، نشير إلى أنها كانت بمثابة مستودع لبضائع الساحل التي يُوتى بها إليها وتُحمل على المراكب لتنقل إلى أوروبا أو تُصدَّر إلى البلاد الداخلية، أو إلى دمشق التي كانت بمثابة السوق الأولى للمبادلات التجارية...
* * *
بيروت ودمشق تحتلان مكانة صيدا وحلب الاقتصادية
وهكذا فقد كان لمدينة صيدا المكانة الأولى بين المدن السورية الممتدة على طول الساحل السوري حتى النصف الأول من القرن الثامن عشر، وكانت بمثابة ميناء لدمشق ومستودعاً لبضائع المدن الداخلية، يُوتى بها إليها لتصدّر ثانية إلى أوروبا. كما أن النشاط التجاري كان يربط صيدا وكسروان من جانب ومصر من جانب آخر. ولكن هذه الميِّزات والمكاسب كانت قد فقدتها صيدا منذ أواخر القرن 18 نتيجة انتقال مقر الولاية الرسمي من صيدا إلى عكا.
وحتى ذلك التاريخ (1746) كانت بيروت مجرد قرية صغيرة. ولكنه لم تمضِ سنوات قلائل حتى بدأت المدينة تحقِّق نشاطاً اقتصادياً بارزاً، ولم تلبث أن أصبحت أكبر مدن الساحل السوري تجارة وسكاناً. وأخذ معظم سكان صيدا يلجأون إلى العمل والسكن في بيروت.
وقد ساعد بيروت على اكتساب هذه الأهمية عوامل عديدة أهمها: موقعها الممتاز وميناؤها المساعد والأمن المستتب فيها وروح التسامح والعدالة السائدة بين المذاهب الإسلامية والنصرانية، وقربها أخيراً من دمشق. وفي مطلع القرن التاسع عشر، مع تدهور مكانة حلب التجارية، واحتلال دمشق لهذه المكانة، انعكس الازدهار الاقتصادي الذي أصاب دمشق على بيروت التي أصبحت سوقاً لدمشق.
وهكذا أخذت مكانة بيروت تبرز من الناحية الاقتصادية والتجارية، وصارت المدينة سوقاً لكل سكان البلاد من أنطاكية إلى غزَّة، ومن ساحل البحر المتوسط إلى الفرات. وفي الوقت نفسه أخذت مدينة حلب تفقد الكثير من مكانتها الاقتصادية، وأصبحت دمشق تحتل المكانة الأولى تجارة واقتصاداً، وتنتزع من حلب سوق سوريا الرئيسي وصارت ثالث مدن الأمبراطورية العثمانية.
وبعد أن يتوقف الباحث ـــ المؤرخ أمام النشاط الاقتصادي والمبادلات التجارية لبلدان الشرق والمغرب العربي، مع بداية الربع الأول من القرن التاسع عشر، يختم دراسته قائلاً إنه، منذ العصور القديمة، كانت قد اشتهرت مدن الساحل السوري بتجارتها المزدهرة نتيجة لموقعها المتوسط بين العالم المعروف آنذاك، واتصالها السَّهل بالقارات الثلاث، ووقوعها على طرق التبادل التجاري الكبرى. كما كانت تتم التجارة الداخلية في الأسواق الرئيسة للمدن الكبرى من منتجات الصناعات المختلفة والزراعات العديدة، وما يُحمل إلى المدن من البلاد الخارجية.
* * *
المؤسسات الصيداوية
إلى هنا، وبعد هذه الجولة الواسعة شملت الطوائف الحِرَفية وأنصافها وأنواعها وأدوارها الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، نصل الآن إلى تقديم ملخَّص عن الأفكار الأساسية لدراسة الدكتور طلال المجذوب، وهو الاختصاصي بتاريخ صيدا الاجتماعي في العهد العثماني، حول تطور المؤسَّسات الصيداوية في أواخر القرن التاسع عشر. فيبتدئ بتعريف المؤسسة حيث يقول: المؤسسة هي كل ما أدَّت خدمة عامة للجمهور بمقابل أو دون مقابل. ونبدأ بمؤسسات الدولة، وننتهي بالحمامات العامة (مؤسسات للنظافة العامة)، وبالمقاهي (وهي مؤسسات للتسلية).
وبعد أن يتحدث عن ضريبة الدَّخل وضريبة السَّقفات وضريبة البدل العسكري وضريبة بدل الطرق، يأتي الحديث عن المؤسسة المالية ومؤسسة البرق والبريد ومؤسسة القضاة ومؤسسة الأوقاف ومؤسسة الأمن، إلى أن يتوقف أمام: التجارة والصناعة والحِرَف (وبشيء من التفصيل مع ذكر الأسماء)، والمياه والإنارة ومؤسسة البلدية وهي السلطة المحلية الرئيسية، وأهم مؤسساتها على الإطلاق. وذلك بعد أن صدر سنة 1877 قانون البلديات، فتشكلت على أساسه بلدية صيدا آنذاك. وهنا يتحدث عن مهام واهتمامات بلدية صيدا من جميع النواحي الاجتماعية من حيث دور مؤسسات الحمامات والخانات والمقاهي والمسرح. وهنا يقدِّم دراسة شاملة هامة لجميع مؤسسات مدينة صيدا في تلك الفترة، ولمختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والإدراية والقضائية بأسلوب مختصر مفيد وواضح ودقيق.
* * *
ثم يأتي للحديث عن الحِرَف في صيدا، بداية من التعريف اللغوي والاصطلاحي، إلى تنظيمات الحِرفة: تقسيمها البنيوي وتقاليدها، مروراً بالقيمة الاجتماعية للحِرفة. فيتوقف بالشرح والتفصيل أمام شيخ الحِرفة، دوره، وظيفته، وأهميته المهنية والاجتماعية والأخلاقية والدينية. ومن ثمَّ أصناف الحِرَف وإحصائياتها ومراتبها: من المعلم أو الأوسطى، إلى الصانع أن الصناعي، إلى الصبيّ أو المبتدئ.
والمهم في هذه الدراسة هو إلقاء الأضواء الكاشفة على بدايات التكوين الحضري لمدينة صيدا القديمة وعن مخطَّطها المُدني بما يتطابق مع مخطَّط المدينة الإسلامية من حيث وجود جامع مركزي في وسط المدينة، يحيط بها أسوار وبوابات، إلخ...، وعن المنشآت الاقتصادية والأسواق التجارية داخل أسوارها، وخصوصاً السوق الأسبوعي الذي كان يُقام في صيدا كباقي المدن المهمة الأخرى.. إلى أن يتوقف ملياً أمام واقع الحِرَف في مدينة صيدا في العهد العثماني والإشارة إلى بعض الحِرَف الأساسية فيها وهي: التجارة، والغزل، والنسيج، والحلويات، إلخ...
* * *
بعد هذه الدراسات حول الحياة الاجتماعية ومظاهر تنظيم الطوائف والحِرَف الشعبية في العهد العثماني، نأتي لتقديم مضمون دراستَين تاريخيتَين مهمّتين في هذا المجال ومكمّلتين للبحث حول مدينة صيدا. الدراسة الأولى تحمل عنوان: صيدا بين الفاطميين والفرنجة (1097- 1291)، مروراً بالعهود التي تقلَّبت فيهما صيدا، حيث الفرنجة كانوا قد تجاذبوا النفوذ والسيطرة على مدينة صيدا فترة غير قصيرة (1110- 1291) مع الفاطميين، ثمّ الأيوبيين فالمماليك. فيهمّنا أن نشير هنا باختصار شديد إلى الحالة الاجتماعية والحالة الاقتصادية والسكانية في تلك المرحلة.
الحالة الاجتماعية
في تلك الفترة من تاريخ صيدا، كان السواء الأعظم من الشعب الصيداوي مؤلفاً من: العرب المشارقة، القبائل العربية والمغربية، وبعض الجماعات الأفريقية، وجماعة من الفرس، وجماعة من النصارى، وجالية صغيرة من اليهود والتركمان والخورازمية. ومن الشاهد في تاريخ المجتمع الصيداوي، وعلى الرُّغم من تعدّد الطوائف والمذاهب والأصول والأجناس، فإنّ الألفة كانت دائماً سائدة في المدينة، وكانت روح المحبة والتعاون والتسامح شاملة بين الناس، وبين الأهالي والأعداء الفرنجة بصورة عامة.
الحالة الاقتصادية
أما في هذا المجال، فقد احتلت الصناعة في صيدا في العهد الفاطمي مركزاً مرموقاً لجهة تعدُّد الصناعات التي تنتجها. وظلت في هذه الفترة تمدّ أسواق العالم بزجاجها الممتاز الذي برعوا به منذ زمن بعيد. وحافظت صيدا إلى حد بعيد على تفوّقها في صناعة النسيج وصناعة الفخار والخزف على اختلاف أنواعها، وصناعة الزيوت وصناعة ماء الزهر وماء الورد، ثمّ صناعة السكر وأيضاً صناعة المصابن والمدابغ والأصبغة والأغذية، والحلويات والأوعية النحاسية.
* * *
أما الدراسة الثانية التي نختم بها، فهي دراسة بالغة الأهمية من الناحية التاريخية، تتعلق بتاريخ صيدا من العصر الفينيقي إلى العصر العثماني. فهي تبتدئ من البداية: من العصر الفينيقي، والعصر الفارسي، والعصر الروماني، والعصر البيزنطي، والعصر الإسلامي، والعصر الصليبي في العهد الأيوبي، والعصر المملوكي، وأخيراً العصر العثماني..
في المقدمة، يجري الحديث عن أهمية العامل التاريخي في النموّ المُدني لصيدا بين الماضي والحاضر، ثمَّ نأتي إلى تقديم لمحة تاريخية عن المدينة وتاريخ تأسيسها والعهود المختلفة التي مرت بها، مروراً بالحضارة الواسعة التي أنشأتها والأنشطة التجارية والصناعية التي اشتهرت بها، واللغة والكتابة التي ابتكرتها ونشرتها، وانتهاءً بمدوِّنات هوميروس والعصر الفارسي وحالة صيدون العمرانية والاقتصادية خلاله، إلى أن نصل إلى العصر الروماني وظهور المسيحية وحضور السيد المسيح وأمه في صيدا، ومن ثمّ العصر الإسلامي والعصر العثماني.
في هذه الدراسة التاريخية الشاملة الهامة والمحدّدة بصورة واضحة ودقيقة، يتم خلالها استعراض، في كل عصر من العصور، الحالات الاقتصادية والاجتماعية والتجارية والفنون والعلوم والديانات والآداب والحركات الفكرية والعلمية، ممَّا يجعلنا نشعر وكأننا نعيش فعلاً نبض هذه الحضارات وحياتها المتعاقبة على مدينة صيدا وما فيها من تنوُّع وغنىً، من إبداع وخلق، كل ذلك كان يتم عَبر تقلبات الأزمنة وتداول الأمم والحضارات.
* * *
في هذه الدراسات التاريخية ـــ الاجتماعية، مجتمعة أو مفردة، حاولنا أن نقدِّم من خلالها صورة شاملة وتفصيلية، تاريخية واجتماعية، حضارية وثقافية، عن مدينة صيدا في العهد العثماني بصورة عامة وطوال القرن التاسع عشر من الحِقبة العثمانية على وجه الخصوص. فهذه الدراسات كانت قابعة في الأدراج في مركزنا الثقافي لفترة زمنية طويلة، إلى أن جاءت بلدية صيدا بشخص رئيسها ونائب رئيسها وأعضاء مجلسها فقدّموا لنا مشكورين المساعدة المالية لتغطية تكلفة طباعة هذه الدراسات كي تخرج أخيراً إلى النور ويستفاد منها. ليس فقط القارئ الصيداوي بل كل قارئ عربي يريد أن يعرف شيئاً عن تاريخ صيدا الاجتماعي...
فهي دراسات كُتبت من مؤرّخين اختصاصيين في القضايا الاجتماعية في مختلف المراحل التي يتحدثون عنها. لذلك، وفي هذا المجال، فهي تقدِّم مادة بالغة الأهمية والفائدة الكبرى لكل مهتم بالشؤون الاجتماعية ــ التاريخية لمدينة صيدا وللقارئ العربي واللبناني والصيداوي، ولمن يريد أن يعرف شيئاً عن الحياة الاجتماعية ـــ التاريخية لمدينة صيدا في تلك الحِقبة التاريخية من الزمن.
وإننا نأمل في النهاية من نشر هذا الكتاب أن يُسهم في سدّ ثغرة ولو صغيرة في مكتبتنا الصيداوية والجنوبية واللبنانية، وأن يقدّم معرفة تاريخية اجتماعية، وفائدة للمثقف والأستاذ الجامعي والطالب والباحث الاجتماعي وأن يكون هذا الملفّ مساعداً له في دراسته لأوضاع مدينة صيدا وحياتها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية في تلك المرحلة التاريخية من الزمن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) – هذا النص هو عبارة عن ملخَّص مكثَّف للدراسة القيمة التي كتبها الدكتور عبدالكريم رافق بعنوان: مظاهر التنظيم الحِرَفي في بلاد الشام في العهد العثماني، ونشرها في مجلة "دراسات تاريخية"، تصدرها لَجنة كتابة تاريخ العرب بجامعة دمشق، العدد الرابع، نيسان (ابريل) 1981، ص 30-63.
(2) – هذه الموضوعات، مع أهميتها من الناحية الاجتماعية، لم تدرس بعد، فهي تحتاج إلى أبحاث خاصة بها (د. عبدالكريم رافق).