د. طلال مجذوب - تـطـوّر المـؤسّـسـات الصـيـداويّـة أواخـر القـرن التـاسـع عـشـر ومـطـلـع القـرن العشـريـن
تـطـوّر المـؤسّـسـات الصـيـداويّـة
أواخـر القـرن التـاسـع عـشـر ومـطـلـع القـرن العشـريـن
إعـداد
الدكتـور طــلال المـجـذوب
الجمعة 30 آذار 1984
الساعة الخامسة مساء
قاعة المركز الثقافي الفرنسي
صـيـدا
تمهيد :
صيدا مدينة عريقة في التاريخ تضرب جذورها فيه بنحو خمسة آلاف سنة ، كوَّنت سجلاً حافلاً بالأحداث حلوها ومرّها ، وفي حالات من الازدهار والانحطاط . ومن هذا التاريخ الطويل اخترت حقبة صغيرة تمتد ما بين أواخر القرن التاسع عشر وحتى نشوب الحرب العالمية الأولى ، أي أواخر العهد العثماني ، ومن بين مواضيع هذه الحقبة اخترت موضوع المؤسّسات .
أما اختياري هذه الحقبة بالذات فيرجع إلى أنها كانت من أهمّ الحقب في تاريخنا الحديث ، لأنّها شهدت تحولات وتغييرات عميقة في معظم جوانب حياتنا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة وغيرها . فهي شهدت حركة الإصلاحات الواسعة التي قامت بها الدولة العثمانيّة في كافة المجالات من عسكرية وإداريّة وماليّة وثقافيّة وزراعيّة وغيرها ، بعد أن ظلت هذه الدولة نائمة أو جامدة خمسمائة سنة تقريباً .
كما أنه في هذه الحقبة بالذات ، ازداد الاتصال بأوروبا ، وتزاحمت الوفود والبعثات الأوروبية التجاريّة والتبشيريّة والعلميّة وغيرها ، كما أن السلع الأوروبيّة التي كانت نادرة في بلادنا في النصف الأول من القرن التاسع عشر ، أصبحت في النصف الثاني منه دفْقاً طاغياً من كافة أنواعها . فَغَزَت حياتنا وغيَّرت الكثير من وسائل عيشنا في المأكل والملبس والأثاث وحتى في أسلوب التفكير وبعض العادات ، مما يدخل في القضايا الاجتماعيّة .
كما يرجع اختياري لهذه الحقبة بالذات إلى أنني أمضيت وقتاً غير يسير في نبْش وثائقها مرتحلاً ما بين بيروت ودمشق واسطنبول ولندن وباريس ومناطق عدة من لبنان .
ولسوف اعتمد الوصف لرسم صورة أقرب ما تكون إلى الماضي ، آملاً أن يكون في هذه الصورة بعض الفائدة لمعرفة حقبة من تاريخ مدينتنا العزيزة صيدا .
وأشير هنا إلى أن المؤسّسات هي كل ما أدّت خدمة عامة للجمهور ، بمقابل أو دون مقابل. وبهذا تبدأ المؤسّسات بإدارات الدولة وتنتهي بالحمامات العامة ( وهي مؤسسات للنظافة العامة ) وبالمقاهي ( وهي مؤسسات للتسلية ). وأبدأ حديثي بالمؤسسات الرسمية .
أنشئت أيالة صيدا سنة 1660 لأول مرة ، واتخذت من صيدا مركزاً لها ، حتى سنة 1777 عندما أصبحت عكا مركز الولاية في عهد أحمد باشا الجزار والي صيدا .
ظل الوضع الإداري كذلك حتى سنة 1831 عندما احتل إبراهيم باشا بلاد الشام ، ففصل عكا عن صيدا وعيّن سليمان باشا الفرنساوي حاكماً على صيدا .
وعند عودة العثمانيين للبلاد سنة 1840 أعادوا تقسيم بلاد الشام إلى ثلاث ولايات : ولاية سوريا وولاية طرابلس وولاية صيدا . وفي سنة 1842 اتخذوا بيروت مركزاً لولاية صيدا . وفي سنة 1847 ألغيت ولاية طرابلس وأصبحت بلاد الشام ولايتين فقط : ولاية دمشق وولاية صيدا .
وفي سنة 1866 ألغيت ولاية صيدا وأصبحت بلاد الشام كلها ولاية واحدة . وفي سنة 1888 أنشئت ولاية بيروت فأصبحت بلاد الشام ثلاث ولايات : دمشق وحلب ومتصرفيتين هما جبل لبنان والقدس .
أصبحت صيدا مركز قضاء يتبع لواء بيروت . وكانت مساحة هذا القضاء 355 كيلومتراً مربعاً وتألف من ثلاث نواحي هي الشقيف وجباع والشومر ، تضم 149 قرية . وفي أحيان كثيرة كانت الحدود الإداريّة لا تنسجم مع التضاريس الجغرافية . فمثلاً قرية عبرا كان ربعها يتبع ولاية بيروت وثلاثة أرباعها يتبع جبل لبنان . كما أن نصف مغدوشة كان يتبع صيدا ونصفها الآخر جبل لبنان . لكن الطرافة كانت في قرية بَرْتي ، إذ كان بيت واحد منها يتبع صيدا والباقي يتبع جبل لبنان . يعني ذلك بمفهوم تلك الأيام أن سكان بَرْتي كانوا لبنانيين وسكان بيت واحد منها عثمانيين .
كان يحكم صيدا وقضائها قائمقام . وحكم صيدا من المدة 1866 إلى 1914 أربعون قائمقاماً كانوا جميعاً من الأتراك، عدا أثنين منهم رضا الصلح ( 1898 ـ 1900 ) وعبد القادر الدنا (1900 ـ 1901). كما تولى إبراهيم آغا الجوهري القائمقامية بالوكالة عدة مرات .
بموجب قانون الولاية الصادر سنة 1864 والمعدل سنة 1913 ، كان على القائمقام إدارة شؤون قضائه في كافة المجالات ، وحلّ جميع مشاكله ، وضبط الأمن فيه ، والقيام بجولة تفتيشية تشمل كافة قرى القضاء مرة واحدة بالسنة على الأقل . وعليه متابعة تنفيذ أوامر الدولة ، والإشراف على جباية الضرائب ، والعمل على تحسين الطرق والمرافق العمرانيّة والزراعة وغيرها .
وبعض القائمقامين ترك أثراً طيّباً في صيدا ، بينما طُرد بعضهم الآخر لسوء ائتمانه مثل ماهر بك أو لتزويره في الانتخابات المحلية مثل جمال بك . ومن الجانب الجيد كان عبد الله الأدلبي الذي أنصف الفلاحين والمظلومين ، ومصطفى حكمت بك الذي أصلح طرقات صيدا ومهّدها ، وإحسان بك الذي بنى فنادق ومدارس في صيدا ، وشاكر بك الذي أنشأ عدة طرق وشوارع جديدة في صيدا وفتح بوابة جديدة في سورها هي المعروفة اليوم بالشاكرية ، كما ساهم رضا الصلح في رصف الطرق وإقامة منشآت عديدة .
كان يساعد القائمقام " مجلس إدارة القضاء ". وكانت مدته سنتين وتشمل صلاحياته كافة شؤون القضاء . فهو يراقب ميزانية القضاء ويراقب وارداتها ونفقاتها ، ويسهّل تنفيذ المشاريع العمرانية ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة من أمور القضاء . فمثلاً عندما منعت البلدية النحّاسين من طرْق النحاس خلال أوقات الصلاة في الجامع البراني الملاصق لمحلاتهم ، أعلنت أنها ستحصل على موافقة مجلس الإدارة ، وعندما طلب أهالي محلة الشمعون رصف الطريق المؤدية لمحلتهم لمنع المياه المتراكمة عليها ولم تستجب البلدية ، قدموا شكوى لمجلس الإدارة .
وكان المجلس مشكّلاً من ممثلين رسميين ومن ممثلين للأهالي ، وكان أعضاؤه الرسميون يعينون حكماً وهم القاضي الشرعي وكاتب التحريرات ومدير المال والمفتي والرؤساء الروحيين لغير المسلمين . أما الأعضاء المنتخبون فكانوا من كافة الطوائف ، نصفهم من المسلمين ونصفهم من غير المسلمين . مثلاً سنة 1875 كان أعضاؤه من الأهالي : غبراهيم الجوهري ـ محمود آغا المجذوب ـ حنا نمور ـ حنا لطوف ـ والكاتب يوسف أفندي . وسنة 1882 كانوا : الشيخ علي الحر ـ درويش الأمين ـ بشارة قنواتي ـ يعقوب خياط والكاتب محمد نصار .
ومن المؤسسات الإدارية الأخرى : دفترخاقاني ( أي دائرة تسجيل الأراضي ) وأنشئت لأول مرة في صيدا سنة 1861 بموظف واحد هو حنا خطار ، وفي سنة 1875 أصبح موظفوها ثمانية . وأصبحت مسؤولة عن تسجيل الأراضي ، وإعطاء سند " الطابو " بها وبيان ملكيتها ومساحتها . دائرة الضريبة : وكانت الضرائب تحصّل بالأمانة ( أي الجباية المباشرة ) أو بالالتزام ( أي الجباية بواسطة ملتزم )، وكانت الضرائب كثيرة وهذه أهمها :
ـ ضريبة الويركو ، وكانت قسمين : ويركو التمتع وفُرضت منذ سنة 1839 وتعادل ضريبة الدخل الحالية ، وفُرضت على كل ذكر عثماني تجاوز العشرين من عمره ، ويستثنى من دفعها رجال الدين والمرضى والعاطلون عن العمل ومن تجاوز السبعين من عمره . وبدأت بثلاثين بالألف من الدخل وأصبحت 50 بالألف منذ سنة 1885 ، وهذه شريحة من الضريبة والمكلفين بدفعها لسنة 1910 :
حبيب جمال نجار الضريبة السنوية عليه 50 قرشاً
محمد الملاح كندرجي الضريبة السنوية عليه 10 قروش
حسين الظريف فران الضريبة السنوية عليه 20 قرشاً
أحمد وعمر الجبيلي تاجران شريكان الضريبة السنوية عليه 135 قرشاً
إبراهيم خياط ويوسف نكري صرافان شريكان الضريبة السنوية عليه 150 قرشاً
ياسين حبلي لحام الضريبة السنوية عليه 50 قرشاً
والقسم الثاني ويركو الأملاك وكانت نسبتها 4 بالألف على الأراضي الأميرية المزروعة و8 بالألف على الأراضي المغروسة أشجاراً .
ضريبة السقفات :
كانت على الأبنية ، وصدر قانونها سنة 1858 وكانت خمسة بالألف على بيوت السكن التي لا تتجاوز قيمتها عشرين ألف قرش . فإذا زادت عن ذلك أصبحت الضريبة ثمانية بالألف . إما إذا كان البناء معداً للإيجار فتصبح الضريبة عشرة بالألف من قيمة البناء .
ضريبة البدل العسكري :
فرض دفع 50 ليرة ذهباً على المكلف بالخدمة العسكرية (سفر برلك ) ولا يرغب بأدائها . ثم صارت الدولة تقبل تقديم شخص بديل من المكلف بالخدمة العسكرية ولا يرغب بأدائها ، فأخذ الكثيرون يشترون عبيداً ويقدمونهم بدلاً منهم ، كما فعل مثلاً أحد آل حمود ، أو يستأجرون شخصاً يؤدي الخدمة لقاء مبلغ معين ، كما فعل مثلاً رشيد حبلي عندما استأجر علي محمد الصعيدي المصري المقيم بصيدا ليذهب بدلاً منه في الطابور المتجه لليمن لقاء مبلغ 31 ليرة فرنسية ذهباً .
وخلال سنوات الحرب العالمية الأولى أخذت الدولة تقبل تقديم مواد معينة لقاء الإعفاء من الخدمة العسكرية . فهي كانت تقبل في منطقة صيدا دفع 300 قنطار حطباً من خشب الصنوبر أو ألفيْ كيلو حنطة أو 2100 كيلو ذرة صفراء وغيرها لقاء إعفاء الشخص المكلف من الخدمة العسكريّة .
ضريبة بدل الطريق :
فُرض على كل ذكر عثماني سليم الجسم عمره بين 16 ـ 60 سنة أن يعمل أربعة أيام في السنة في شق الطرق مجاناً ، وأجيز لمن لا يرغب بالعمل باستئجار شخص بديل منه أو بتقديم عدد معين من حيوانات النقل مدة محدودة . وفي سنة 1914 أخذت السلطة تقبل دفع مال دعي بدل الطريق وكانت قيمته 16 قرشاً في السنة ، ثم زيد إلى 20 ثم 30 قرشاً حتى نهاية الحرب .
وهناك ضرائب ورسوم عديدة لا يتسع المجال لذكرها . أما طريقة تحصيل الضريبة فكانت تتم دفعة واحدة ، إذا لم تكن تزيد عن 50 قرشاً بالسنة . فإذا زادت على ذلك تدفع على قسطين أو ثلاثة . أما الموظفون فتحسم من رواتبهم في شهر حزيران من كل سنة .
أما الجمارك فدعيت " الرسومات "، ودائرتها " أمانة الرسومات ". وفُرضت الجمارك سنة 1826 على الصادرات بنسبة 1 ٪ وعلى الواردات بنسبة 8 ٪ ، وظلت كذلك 85 سنة دون تعديل ، إذ كلما حاولت الدولة العثمانية زيادة الرسوم على الواردات لزيادة دخلها ولتحسين الإنتاج المحلي ، قامت الدول الأوروبية بالضغط عليها ومنعتها من تحقيق هدفها حتى كانت سنة 1911 إذ استطاعت، وبعد مفاوضات شاقة مع الدول الأوروبية ، زيادة الرسوم على الصادرات إلى 2 ٪ وعلى الواردات إلى 11 ٪ .
وكان التجار الأوروبيون العاملون على أراضي الدولة العثمانية يمتنعون عن دفع ضريبة الدخل ، محتمين بقناصل دولهم ، كما كانوا يتمتعون بامتيازات عديدة منها خفض قيمة الرسوم على البضائع التي يستوردونها ، بالإضافة إلى أن كافة المؤسسات الأجنبية من قنصلية ودينية وعلمية كانت معفاة من أية رسوم على البضائع التي تستوردها لاستعمالها الخاص . وكثيراً ما كان يلجأ التجار المحليون إلى الدخول تحت حماية أي قنصل أجنبي ليتهربوا من دفع الرسوم على بضائعهم .
المؤسسة المالية :
كان مسؤولاً عن حسابات القضاء وإنفاق ميزانيته وكان الموظف المسؤول يدعى "مدير المال " ويعتبر من أركان السلطة في القضاء .
أما الدورة المالية التجاريّة فكان يقوم بها الصيارفة ، واشتهر منهم بصيدا آنذاك اسكندر كتافاكو ووديع عوده وأخوانه واليهوديان إبراهيم خياط ويوسف شكري . أما أول البنوك التي افتتحت في صيدا ، فكان فرع البنك الزراعي سنة 1894 لإمداد المزارعين بالقروض وكان مديره محمود كالو . ثم أنشيء فرع البنك العثماني في صيدا سنة 1911 وكان مديره ميشال كويدان الفرنسي ، وكان يعمل قبل الظهر وبعد الظهر .
والعملة الرائجة في أسواق بلادنا كانت عثمانية وأجنبية . أما الأجنبية فكان أهمها الليرتان الذهبيتان الإنجليزية والفرنسية ، ثم بدرجة أقل الليرة الروسية والألمانية .
أما العملة العثمانية فكانت الليرة الذهب وتعادل 100 قرش وأشهرها المجيدية التي ضُربت بعهد السلطان عبد المجيد سنة 1848 والرشادية التي سُكّت قبيل الحرب العالمية الأولى في عهد محمد رشاد الخامس ، وهي لا تزال متداولة في سوق الذهب حتى اليوم ويتراوح سعرها بين 435 ـ 460 ليرة لبنانية .
والفضة كانت الريال المجيدي ويساوي 20 قرشاً والألتيلك ويساوي 6 قروش والزهراوي بـ 5 قروش والبشلك بـ 5 قروش كذلك ، والبرغوت الكبير قرشين والبرغوت الصغير قرشاً واحداً .
والمعدن كان معظمه من النحاس أو النيكل مثل المتليك = 2/1 قرش ونصف المتليك ويساوي 4/1 قرش ، والبارة = 40/1 من قرش ، وهي كانت أصغر أجزاء العملة العثمانية كما عرفت بالنحاسة . والقرش الذي كان رائجاً في أواخر العهد العثماني عرف بالقرش الأسدي نسبة لصورة الأسد على أحد وجهيه ، وكان يساوي 40 بارة .
أما النقد الورقي فلم يعرف بشكل واسع إلاّ منذ سنة 1915 ، عندما اضطرت الدولة العثمانية لطرحه في الأسواق لتمويل جيوشها خلال الحرب ، ولم يقبل السكان التعامل به إلاّ بالإجبار وتحت طائلة السجن .
كانت المشكلة المالية الرئيسية في الدولة العثمانية هي وجود تفاوت كبير بين قيمة العملة الرسمية وقيمتها الفعلية في السوق . فالقرش بسعره الرسمي كان يدعى " القرش الصاغ " وبسعره الفعلي كان يعرف " بالقرش الشُّرَك ". كما أن سعر العملة كان يختلف من مدينة لأخرى ، فالليرة الذهب كانت تساوي في صيدا سنة 1912 مبلغ 137 قرشاً وفي بيروت 135 قرشاً وفي طرابلس 145 قرشاً وفي دمشق 143 قرشاً . لذلك جرت العادة أن يُذكر في معاملات البيع والشراء مكان السوق الذي جرت الصفقة فيه ، فيقال مثلاً " مبلغ كذا عملة رائج بندر صيدا ".
مؤسسة البرق والبريد :
لم تنظم الدولة العثمانية بريدها إلاّ سنة 1859 عندما صدر قانون البريد . ثم بعد عشر سنوات أصدرت قانون الدمغة أي الطوابع . ومنذ سنة 1877 اصبح بإمكان المواطن العثماني أن يرسل بريده إلى أي مكان بالعالم بحراً بواسطة سفن فرنسية ونمساوية تعاقدت معها الدولة بهذا الشأن.
كان البريد بين صيدا وبيروت مثلاً ينقل كل جمعة من صيدا إلى بيروت ومن بيروت إلى صيدا يومي الأربعاء والخميس . وفي مطلع القرن العشرين ، أصبح البريد بين المدينتين أربعة بالأسبوع ، ومنذ سنة 1910 أصبح يومياً .
كان البريد ينقل على الخيل حتى سنة 1909 عندما صار ينقل بالسيارات . وفي مطلع القرن العشرين أصبح في صيدا شعبة للبرق . أما الهاتف فلم تعرفه صيدا إلاّ خلال الحرب العالمية الأولى للدوائر الرسمية والعسكرية ، ولم يُسمح به للسكان إلاّ بعد نهاية الحرب .
القضاء :
حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر كان القضاء العثماني شرعياً فقط ، ثم بعد ذلك أنشيء القضاء النظامي في إطار خطة الإصلاح العثمانية . فصدر نظام مناصب القضاة سنة 1855 وقانون العقوبات سنة 1858 ونظام مجلس الأحكام العدلية سنة 1861 وقانون المحاكم النظامية سنة 1872 ونظام تعيين قضاة الشرع سنة 1873 وقانو أصول المحاكمات الجنائية سنة 1889 .
وأبرز الجهود القانونية ما قامت به لجنة من كبار الفقهاء العثمانيين برئاسة جودت باشا ، إذ صرفت سبع سنوات تجمع الأحكام الشرعيّة وتبوّبها ، ثم اصدرتها سنة 1876 باسم " مجلة الأحكام العدليّة ". ثم اشتهرت باسم " المجلة " وتضمنت 1851 مادة فقهية على المذهب الحنفي ، وظل معمولاً بأحكامها في لبنان حتى سنة 1943 .
بموجب الإصلاحات كان هناك قضاء نظامي إلى جانب القضاء الشرعي .
القضاء الشرعي كان قاضيه يدعى " النائب " وكان عادة على المذهب الحنفي ، مذهب الدولة العثمانية الرسمي ، وشملت صلاحياته كافة قضايا الأحوال الشخصيَّة من زواج وطلاق وعدة ونفقة وإرث ووصية وهبة ووقف ، بالإضافة إلى أنه نظر في قضايا البيع والشراء والمعاملات التجارية وغيرها .
وعلى هذا فإن القضاء الشرعي كان لكافة الرعايا العثمانيين ، مسلمين وغير مسلمين ، في كافة قضايا الأحوال الشخصية ، عدا الزواج والطلاق التي كانت تبت بها المجالس الروحية للطوائف غير الإسلامية . ومع ذلك فقد كان على كل عثماني يرغب في الزواج أو في الطلاق ، أن يبلغ قاضي الشرع بذلك وأن يجري الأمر بحضوره ، مهما كانت طائفته ، طبقاً لقانون " مناكحات ومفارقات " أي الزواج والطلاق الصادر سنة 1892 .
ومن نماذج القضايا المختلفة التي نظرها القضاء الشرعي : شكوى عباس البساط من صيدا ضد حنا يونس من البرامية بسبب شرائه حماراً منه بمبلغ 415 قرشاً وذلك سنة 1869 ، وبعد أن حمَّله طحيناً تبين أنه مريض ، ورفض حنا إعادته ، وقد حكم القاضي الشرعي بصحة البيع لأن استخدام المبيع أو ركوبه واستبقاءه دليل الرضا به .
كذلك شكوى عبد الغني الزين على اسكندر نمور لأنه لم يدفع له مبلغ 600 قرش ثمن حنطة اشتراها منه سنة 1902 ، واعترف نمور بالمبلغ وطلب اقساطاً فرضي القاضي بذلك .
كذلك شكوى لصبي اليتيم منويل برباره على معلمه الحلاق حنا منياس لأنه لم يعطه أجرته مدة أربعة أشهر ويحتفظ ببعض أغراضه لديه ، فاعترف حنا أن الصبي يعمل لديه في محله للحلاقة في صيدا بأجر اسبوعي قدره بشليكان ، وأن للصبي فراشاً ولحافاً ووسادة في المحل لأنه ينام فيه ليلاً لعدم وجود أهل له ، لكنه أنكر أن له بذمته شيئاً ، فطلب منه القاضي أن يحلف اليمين .
أما القضاء النظامي فبموجب قانون سنة 1864 أنشيء في مركز كل ولاية محكمة باسم "ديوان تمييز " وفي مركز اللواء باسم " مجلس تمييز حقوقي " وفي مركز القضاء باسم " مجلس دعاوي القضاء " الذي عرف فيما بعد محكمة بداية القضاء .
كانت محكمة البداية برئاسة قاضي الشرع وعضوية ستة أعضاء على الأكثر وأحياناً أربعة. وكانت محكمة بداية صيدا من عضو سني وآخر شيعي ومن عضو مسيحي ماروني وآخر روم كاثوليك ، فهي تألفت سنة 1875 مثلاً من : عثمان الزين وعلي الحر والياس زكا ومخول أفندي والكاتب يوسف رفعت . وسنة 1912 من الحاج سعيد البزري ومارون الوزير ومن كامل كزبر (باشكاتباً ) ونجيب الأسطة (مستنطقاً) وصبحي الددا ( كاتباً ) وداود الزهار (وكيلاً للدعاوي).
وأنشئت محكمة تجارية في صيدا سنة 1882 واختصت بحل القضايا التجارية ، وتألفت في تلك السنة من يوسف المجذوب وإسماعيل النقيب وميخائيل بسترس وعبد الله النقاش .
مؤسسة الأوقاف :
لعبت هذه المؤسسة دوراً هاماً في الحياة الاجتماعيّة والاقتصادية في صيدا ، وأصدرت الدولة سلسلة قوانين لإصلاحها ، منها قانون إدارة الأوقاف سنة 1863 وقانون توجيه الأوقاف سنة 1870 . وخضعت الأوقاف للرقابة الإدارية والمالية ، وكانت الأوقاف تسجل بالمحكمة الشرعية التي تصدر بها " حجة شرعية " مهما كانت طائفة الواقف أو الجهة الموقوف عليها .
وفي سنة 1880 مثلاً كانت الأحكار الموقوفة في صيدا :
16 بستاناً وحاكورة حمام واحد
مقهيان
50 داراً ساباط ( قنطرة ) واحد
31 دكاناً فرن واحد
9 آخورات ( اسطبلات ) كوخ واحد
ومن الأوقاف المشهورة بصيدا : وقف عبدي باشا الشهير بدالي بلطه ووقف أحمد كوجك باشا ، ووقف طنطش وغيرها . والجهات الموقوف عليها كانت جميع مساجد صيدا والحرمين الشريفين وفقراء المسلمين وفقراء الطائفة المارونية والكاثوليكية والنواحي العلمية .
وهذه نماذج مختصرة لبعض أنواع الوقف : محمد صالح الشريف وجرجس حنا هندية وقفا ، سنة 1887 ، نصف ماسورة ماء منحدرة من بركة عين أبي اللطف على مسجد شمعون .
وسنة 1900 وقفت متيل يوسف كونتي نصف بستان كينا تملكه على عائلة مطر . فإن انقرضت فعلى فقراء الطائفة المارونية وعلى مقام مار الياس .
وسنة 1910 وقفت الحاجة أمينة أبو جيده المغربية دارها في حارة الفواخرة بصيدا على زاوية الشيخ محمد أبي نخلة .
الأمن :
صدر قانون مأموري التفتيش سنة 1867 ونظام إدارة الضابطة سنة 1869 ووظائف الضابطة سنة 1870 وأصبحت أجهزة الأمن ثلاثة : الدرك ـ الشرطة ـ البوليس .
أما الدرك ( جاندرمه ) فكانت مهمته حفظ الأمن على الطرق لمنع السلب والتهريب ، ومعظم رجاله خيَّالة وبعضهم مشاة .
والشرطة ( الضابطة ) مهمتهم حفظ الأمن داخل المدن ، ويحق لكل مواطن الدخول بسلك الشرطة على أن يتراوح عمره بين 20 ـ 50 سنة ، ومدة الخدمة سنتين وكان معظمهم مشاة وبعضهم خيَّالة .
البوليس ( مفتش ) وأنشيء على غرار أجهزة البوليس الأوروبية ، ومهمته مراقبة الأجانب والتدقيق بهويات القادمين والمغادرين ، والقبض على المطلوبين ومراقبة الأسعار والأوزان والمحافظة على النظافة والصحة العامة .
ظل عدد أفراد البوليس ضئيلاً ، فمثلاً سنة 1909 كان عددهم في صيدا خمسة : عبد الحليم حسني ـ مصظفى الترجمان ـ علي الجوهري ـ أحمد الددا ـ سليم أباظة . أما سنة 1912 فكانوا ثلاثة فقط .
كان الأمن مستتباً داخل صيدا ، حيث تغلق بوابات سورها عند الغروب وتفتح صباح اليوم التالي ، كما أن بعض الأحياء كانت لها بواباتها الخاصة يغلقها السكان ليلاً ليزدادوا اطمئناناً .
كان الحرس البلدي يتولى الحراسة ليلاً ، وكان كل حارس يحمل عصا كبيرة وصافرة . فإذا أحسَّ بمرور مشبوه يصفر لرفاقه صفرة واحدة للفت نظرهم وإعلامهم ، وثلاثاً إذا حصلت مشاجرة وأربعاً إذا استخدمت أسلحة في الشجار وخمساً إذا حدثت إصابات وستاً إذا اندلع حريق .
وكان ممنوعاً التجول في طرقات صيدا بعد الساعة السابعة والنصف ليلاً دون حمل فانوس مضاء . أما الأولاد فكانوا ممنوعين من التجوال ليلاً دون صحبة أحد الراشدين من ذويهم .
ومن يقبض عليه متجولاً دون فانوس مضاء يُحبس حتى يؤدي غرامة مالية محددة . وإذا تاه أحد الأشخاص عن وجهته يرسل ضابط المخفر شرطياً ( قره قول ) يرشده إلى مقصده ، وإذا كان الوقت ليلاً يبقيه في المخفر إلى صباح اليوم التالي .
أما إذا كانت التائهة إمرأة ، فإنها تستضيف في بيت إمام المحلة أو مختارها إلى صباح اليوم التالي حيث ترسل إلى وجهتها .
وكان ممنوعاً حمل الأسلحة النارية والجارحة ، ومن يطلق النار لأي سبب كان يعاقب بالضرب مئة عصا عن كل طلقة .
نتيجة للأمن المستتب في صيدا فإن جرائم السرقات كانت قليلة وجرائم القتل نادرة ، بحيث كانت تمضي بضع سنوات أحياناً دون أن تقع جريمة قتل واحدة . ولعل أحد عوامل استتباب الأمن تجانس السكان ومعرفة بعضهم بعضاً ، وكفاءة رجال الأمن في القبض على الفاعلين في معظم أن لم يكن كل الجرائم .
فمثلاً في سنة 1878 تغيب كاتب نفوس صيدا محي الدين وصفي عن منزله في زيارة للغازية لليلة واحدة ، ولما عاد في اليوم التالي وجد باب منزله مفتوحاً وصناديق أغراضه مخلّعة وسرقة 80 ليرة فرنسية و7 ليرات عثمانية . وخلال بضعة أيام قبضت الشرطة على الفاعلين .
وسنة 1902 قُتل عبد السلام أبو ظهر أثناء خروجه من بستان عمه ليلاً ، وفي اليوم التالي كان القاتل علي البدوي الديماسي في أيدي الشرطة ، ودلّهم على مكان إخفاء الجثة في مقبرة اليهود ، واستعيدت ساعة القتيل و20 ليرة عثملنية كانت بحوزته ، وحكم على القاتل بالإعدام وعلى شريكه بإخفاء الجثة محمد الحايك بالسجن خمس سنوات .
وسنة 1909 اغتال محمود بشير مفتي صيدا فقبض عليه ثم أعدم في ساحة الاتحاد (البرج) في بيروت .
التجارة :
نظمت الدولة التجارة فمنعت من تقل سنه عن 21 سنة من تعاطيها . ورخصة فتح محل تجاري كانت تدعى " كادك "، ويُفترض في التاجر استخدام دفاتر حسابات منظمة ، وأن يكنس أمام محله يومياً ويمسح واجهته الزجاجية ولا يضع بضاعته على الرصيف أمام المحل .
كان الإعلان عن وصول بضاعة جديدة يتم بواسطة الدلاّل الذي يطوف الأحياء ومعه جرس يعلن ، بصوته القوي ، عن نوع البضاعة ومزاياها . وكانت البضائع تخزن في الخانات . وكان يقام سوق أسبوعي في صيدا كل يوم أحد في ساحة التدريب العسكري . كما كان معرض لشرانق الحرير في حزيران من كل سنة .
الأوزان كانت الأوقية والآقة والرطل والقنطار . والمقاييس كانت الذراع المعماري والشامي أو التجاري ، وهي لم تكن موحدة وتختلف من مدينة لأخرى ، إذ كان الرطل مثلاً شامياً وحلبياً واسطنبولياً ، وبينما كان الشامي يساوي 12 أوقية ، كان رطل صيدا يساوي 15 ورطل جزين 2/1 18 ورطل الشويفات 2/1 13 أوقية . والذراع الشامي أو التجاري كان 2/1 67 سم ولكن لأقمشة الحرير كان 4/3 68 سم وللأقمشة القطنية 65 سم وغيرها .
الصناعة والحِرَف :
كانت الصناعات والحِرَف الصيداويّة يدويّة أو بآلات بسيطة . كما الإنتاج قليلاً . وكان يحدُّ من ازدهارها إقبال المستهلكين على المصنوعات الأوروبيّة الرخيصة السعر نسبياً والمتقنة الصَّنْعَة ، ولم تبدأ الصناعة المحليّة بالتحسن إلاّ مطلع القرن العشرين عندما ازدادت كثيراً أجور الشحن البحري من أوروبا فارتفعت أسعار السلع الأوروبيّة .
أبرز الصناعات الصيداويّة آنذاك : السفن والصناعات الخشبية من صناديق وأثاث ـ الزجاج والفخار ـ الآلاجه ( المنسوجات الحريرية والقطنية ) ـ صناعة السجاد ـ صناعة القرميد ـ الحلى والمجوهرات ـ الحلويات العربية وماء الزهر ـ الحلاوة الطحينية ـ دباغة الجلود ـ صناعة الصابون .
كانت الحِرفة تتوارثها الأسرة الواحدة ، فينقل الولد " سرَّ الصنعة " عن أبيه ليعلمه لإبنه من بعده . ومن هنا حملت كثير من الأسر الصيداوية اسم المهنة التي تعاطاها أفرادها مثل : البنّي ـ البيطار ـ الترياقي ـ الحكواتي ـ خروبي ـ خياط ـ حلاق ـ حريري ـ فران ـ قهوجي ـ زعتري ـ سوسي ـ سكاكيني ـ سروجي ـ سكافي ـ روّاس ـ حلاّل ـ بتكجي (نحّال) ـ وغيرها .
وكان لكل صنعة شيخها ( رئيسها ) ويشبه في عمله عمل النقيب اليوم ، وكانت مراتب العمل المهني تتدرج كما يلي :
الأوسطه ( أي المعلم أو صاحب العمل ).
الصانع ( أي الأجير وكانت له ثلاثة مراتب أولى وثانية وثالثة ).
الصبي ( أي الشغّيل أو المبتدئ ).
وسنة 1909 كان شيوخ الحِرف في صيدا كما يلي :
بدوي البساط شيخ النجارين خليل السكافي شيخ الصيادين
حسن قنبريس شيخ الحدادين سعيد السن شيخ البحرية
نقولا ضُبر شيخ الخياطين أحمد الناتوت شيخ السرماتية
كامل الصباغ شيخ الصباغين عبدو الداية شيخ الكندرجية
إسماعيل البابا شيخ الدباغين إبراهيم البنّي شيخ الخضرجية
محمد حسنا شيخ البنّائين عبدو النباطي شيخ العتّالة
محي الدين البلولي شيخ الحلاقين عبدو نصار شيخ المكارية
إسماعيل حبلي شيخ اللحامين خليل جرادي شيخ الحمامجية
محي الدين كشتبان شيخ المبيّضين صادق الحاصباني شيخ العربجية
أحمد الشامي شيخ القهوجية
وفي سنة 1888 توزعت النشاطات الاقتصادية في صيدا كما يلي :
60 محل أقمشة 30 محل نجارة 14 محل حلاقة
70 محل عطارة 7 محلات حدادة 13 ملحمة
54 محل صنع أحذية وبيعها 10 محلات خياطة 7 صاغة وجواهرجية
( ما بين إسكافي وكندرجي ) 10 محلات صباغين 4 ساعاتية
المياه والإنارة :
كانت البلدية مسؤولة عن المياه والإنارة في صيدا ، وبالتالي لم تكن هناك شركتا مياه وإنارة . وجُرّت مياه الباروك للشرب سنة 1869 وكان يشرف على توزيع الماء في المدينة خمسة موظفين يدعون قنواتية . وفي سنة 1890 جدّد القائمقام إحسان بك شبكة مياه صيدا . ومطلع القرن العشرين حفر الأميركان بئراً إرتوازية استفاد منها بعض أحياء صيدا الجديدة ، كما أقاموا سبيلاً للماء العذب في حي القملة .
معظم البيوت لم تكن تصله المياه ، لكن معظم أحياء صيدا كان فيها أسبلة وقد بلغ عددها سنة 1888 عشرين سبيلاً ، هذه أسماء بعضها : سبيل الباشا ـ سبيل الخضرية ـ سبيل المصلبية ـ سبيل العتم ـ سبيل اللحامين ـ سبيل الكشك ـ سبيل الأميركان وغيرها .
أما الإنارة فكانت تتم بقناديل الكاز . ولم تعرف صيدا الكهرباء إلاّ في عهد الفرنسيين سنة 1927 .
كانت طرقات صيدا تُنار بـ 165 فانوساً حتى سنة 1908 أصبحت 180 فانوساً . وفي سنة 1909 زيدت إلى 188 فانوساً ، كان 94 منها لإنارة داخل صيدا و94 لإنارة أحياء صيدا الجديدة خارج السور . وكان يلتزم إنارة طرقات صيدا داخل السور سنة 1909 سعد الدين إدريس وإنارة الطرقات خارج سورها يوسف فخري . وكان على الملتزم إنارة الفوانيس كلها قبل غروب الشمس بقليل حتى شروقها في الصباح التالي . وكانت البلدية تشدّد في مراقبة الإنارة ، فمثلاً عندما وجد مفتشوها في ليلة صيف سنة 1909 أن قنديلين غير مضاءين خارج السور غرّمت البلدية يوسف فخري 2/1 37 قرشاً . وفي ليلة من ربيع سنة 1910 وجدت البلدية كذلك أن سعد الدين إدريس أهمل إضاءة قنديلين فغرّمته نصف ريال مجيدي .
البلدية :
شكلت البلدية السلطة المحلية الرئيسية وأهمّ مؤسساتها على الإطلاق . ويرجع ذلك إلى طبيعة النظام الإداري العثماني الذي كان قليل التدخل في شؤون السكان المحلية ، مطلقاً الصلاحية لزعيم محلي أو سلطة محلية إدارة شؤون المنطقة شرط تحقيق أمرين : حفظ الأمن تماماً وإداء الضرائب المقررة .
بهذا المفهوم حلَّت البلدية محل مؤسسات عدة تنهض اليوم بكثير من العبء والمسؤولية التي كانت بعهدة البلدية ، فهي قامت مقام دوائر الصحة والأشغال ومجلس الإنماء والأعمار وشركات الكهرباء والمياه ومؤسسات الصليب الأحمر والدفاع المدني والكثير من المستوصفات والجمعيات الخيرية .
كانت أول بلدية في الدولة العثمانية بلدية اسطنبول التي تأسست سنة 1857 . وكانت بلدية دير القمر التي تأسست سنة 1864 أول بلدية في بلاد الشام كلها ، رغم أن أول قانون لتنظيم البلديات صدر سنة 1867 ، ثم صدر قانون انتخاب المجالس البلدية سنة 1875 ، ثم صدر سنة 1877 قانون البلديات فتشكلت بلدية صيدا آنذاك .
تراوح أعضاؤها بين 3 ـ 12 عضواً ، وتعاقب على رئاستها حتى سنة 1916 :
إبراهيم آغا الجوهري 1877 محمد جميل البزري 1908 ـ 1910
الحاج محمود أفندي 1878 الحاج مصباح البزري 1910 ـ 1914
إبراهيم آغا الجوهري 1879 ـ 1908 محمود كالو 1914 ـ 1916
كان المجلس البلدي يجتمع يومين بالأسبوع : الاثنين والخميس ، وتتخذ قراراته بالأكثرية بحضور ثلثي الأعضاء . وكان راتب رئيس البلدية 800 قرش شهرياً والكاتب 500 قرش والمفتش 225 قرشاً والجاويش 190 قرشاً أما الأعضاء فلا راتب لهم .
واردات البلدية كانت من الرسوم والإعانات والغرامات ، ونفقاتها كانت للرواتب والإيجارات والإنارة والصحة وغيرها من أمور البلد ، وهذه أبرز مهام البلدية :
في الناحية الصحية والنظافة العامة كانت تقيم حجْراً صحياً على جسر الأولي وفي الميناء . ففي سنة 1902 مثلاً انتشر الطاعون في بيروت ، فشددت على مراقبة القادمين إلى صيدا عن طريق الأولي والحجْر عليهم . كما كانت ترش الأقنية والطرقات بمادة الفونيك لمنع تكاثر الحشرات، وينظف عمالها الطرقات مرة باليوم ومرتين بالصيف ، وترش الشوارع بالماء صيفاً لمنع تصاعد الغبار ، وافتتحت أول مستشفى حديث بصيدا سنة 1894 ، ثم بَنَتْ مستشفى جديد سنة 1907 في ساحة الزيتونة .
وكانت تغرّم من يرمي نفايات أو أوساخ أمام منزله بخمسة أرباع المجيدي ، أما من يبيع أطعمة فاسدة أو مغشوشة فتتراوح الغرامة بين عدة مجيديات وعدة ليرات ذهبية مع السجن مدة معينة.
واهتمت بالأسعار ، فكانت تصدر لائحة بأسعار المواد الغذائية وغيرها يومياً وتفرض على الجميع التقيد بها وترسل الدوريات لضبط المخالفين . فعندما باع حسين الظريف خبزاً ناقص الوزن سنة 1909 غرّمته خمسة بشالك ، وعندما باع أنيس الغزاوي سمكاً يقل عن وزنه بنصف أوقية غرّمته 15 ربع مجيدي .
وبالسنة 1909 نفسها أنزلت سعر اللحم من سبعين بارة للأوقية إلى 55 بارة للغنم و45 بارة لأوقية لحم الماعز ، فاضرب اللحامون في صيدا احتجاجاً على السعر الجديد. فلم تخضع البلدية، وأرسلت برقية إلى مصباح الدنا أحد كبار تجار الغنم في بيروت ، فأرسل لها 250 رأساً من الغنم سعر الرأس الواحد 86 قرشاً ، وظلت تشتري الغنم ويتعهد إبراهيم القبرصلي ذبحه وبيعه حتى أذعن اللحامون وعادوا عن إضرابهم !
وهذه لائحة بأسعار بعض المواد كما حددتها البلدية لسنة 1910 :
رطل الباذنجان البلدي قرش و35 بارة
رطل البامية الصغيرة 4 قروش و20 بارة
رطل البندورة قرش و10 بارات
رطل الملوخية قرش واحد
الكوسا كل سبعة بمتليك
رطل الخيار الصغير قرش و20 بارة
رطل القثاء ( المقتي ) قرش واحد
رطل البطاطا قرشان
وكان للخبز أهمية كبيرة لأنه قوت الشعب الرئيسي . وكان قد صدر سنة 1870 نظام الخبازين ، ففرض الحصول على رخصة لفتح فرن ، وأن يعنى بتطهير أدوات الفرن ونظافته ، وأن يكون الفران والعاملون معه أصحاء البنية لا يعانون من أي مرض ، خاصة الأمراض الجلدية ، كما أوجب على الفران أن يبيع خبزه في أماكن محددة عيّنتها البلدية ويضع على كل رغيف رقماً معيناً ليعرف مفتشو البلدية أنه من صنعه ، ولا يباع الخبز إلا ملفوفاً بورق نظيف . وكان الخبز في صيدا نوعين : البلدي والسميد ، وكان سعر رطل الخبز السميد 4 قروش و30 بارة ورطل الخبز البلدي 3 قروش و5 بارات .
وأولت البلدية عنايتها للسير على الطرقات ، فمنعت تبسيط الباعة المتجولين " لطبلياتهم " على جانبي الطريق ، وأجبرت المكارية الذين ينقلون مواد ثقيلة أو جارحة كالخشب والفحم والحطب عدم السير بدوابهم في طرقات المدينة بعد الساعة الحادية عشرة صباحاً ، لمنع عرقلة السير وإذاء العابرين واستثنت من ذلك الدواب المحمَّلة قمحاً وطحيناً .
وألزمت المكارية من حمَّارين وبغَّالين وأصحاب كُدُش عدم استخدام حيوانات مريضة أو جريحة في العمل ، وكذلك عدم ضربها بالسياط أو العصي وعدم سوْقها رَكضاً ، رأفة بها وحفاظاً على المارة .
كما ألزمتهم سوْق دوابهم صفاً على شكل " رَتْل " من خمسة حيوانات فإذا زاد العدد عن ذلك يُكوَّن رتل ثانٍ . وفرضت على المكارية عطلة إجبارية هي يوم الجمعة من كل أسبوع .
وفرضت على باعة الفحم والحطب واللبن عدم التجول في طرقات صيدا والتجمع في ساحة باب السرايا لبيع بضاعتهم .
ورغم أنه لم يكن في تلك الأيام أصوات الراديو وكاسيتات الأغاني وأبواق السيارات ، فقد كانت البلدية تسعى لفرض الحد الأقصى من الهدوء في المدينة . فقد كان إطلاق النار ممنوعاً ، وكان ممنوعاً إقامة الحفلات الغنائية التي تزعج الجيران . وهي تدخلت سنة 1907 مثلاً ضد النّحاسين في سوقهم المجاور للجامع البراني ومنعتهم من طرْق النحاس خلال أوقات الصلاة ، لأن المصلين اشتكوا من الإزعاج ، وفي سنة 1905 مثلاً غرّمت اثنين من الصيداويين بخمسة بشالك لكل منهما ، لأنهما تركا دجاجهما يمرح على الطريق العام .
وعلى الصعيد الاجتماعي كان للبلدية جهد مؤثر ، فهي خصصت لكل صيداوي ثبت فقره مبلغاً شهرياً تراوح بين 19 و30 قرشاً ، وبلغ ما دفعته لهذا المجال سنة 1914 : 910 قروش و10 بارات . كما كانت تجهز موتى الصيداويين الفقراء وتكفنهم وتدفنهم وبلغ ما أنفقته في ذلك سنة 1914 813 قرشاً .
كما كانت تساهم بنفقات علاج الفقراء الصيداويين ، وهي دفعت لذلك 144 قرشاً سنة 1914، وفي تلك السنة نفسها دفعت 813 قرشاً نفقات سفر الفقراء الصيداويين والغرباء الذين انقطعت بهم الطريق .
ورغم أن عدد اللقطاء في صيدا كان قليلاً جداً ، إذ لم يتجاوز عددهم بين سنتي 1908 ـ 1910 مثلاً خمسة لقطاء ( أربعة صبيان وبنت واحدة ) فقد كانت البلدية تعهد بهم إلى مرضعات معروفات بحسن السيرة وطيب الخلق وتدفع للواحدة منهن من 25 إلى 38 قرشاً شهرياً ، بدل إرضاع اللقيط وتربيته ، فتصونهم من المرض والموت وتحفظهم من الانحراف وسوء التربية .
وأشرفت البلدية على شق الطرقات وتزيينها وإقامة الأبنية الرسمية ، ففتحت طريق الشاكرية والشمعون وكذلك الدكرمان والبوابة الفوقا الذي كان يعرف بطريق التل مطلع القرن العشرين ومهَّدتها ، وغرست أشجاراً من الزنزلخت على جانبيها . وأقامت بركة ماء وسط ساحة باب السرايا، وأخرى من الرخام أمام السرايا الجديدة التي بنتها من طابق واحد سنة 1896، ثم أضافت إليها طابقاً ثانياً سنة 1910 . وكانت تضمّ مكتباً للقائمقام وآخر لمجلس الإدارة ومكاتب للإدارات المختلفة .
ومن المؤسسات العمرانية والسياحية الحمامات والخانات كما كان المسرح والمقهى من مؤسسات اللهو والتسلية آنذاك .
الحمامات والخانات :
كانت الحمامات العامة من المعالم البارزة في المدن آنذاك . وكانت حمامات صيدا ، بشهادة الرحالة آنذاك ، نظيفة وأنيقة أكثر مما هي حمامات بيروت . وكان الذهاب للحمام مناسبة عائلية مهمة . ويرجع ذلك إلى خلو معظم المنازل من الحمامات ولعدم توفر المياه الكافية فيها ، وكانت تفتح للرجال من الصباح حتى الظهر وللنساء والأولاد الصغار بعد الظهر . وكانت العائلة تستعد للذهاب للحمام استعداداً كبيراً . فتحمل معها الصابون والأمشاط والمطيبات وبقج الملابس وتمضي فيه عدة ساعات .
وكان في صيدا حتى الحرب العالمية الأولى خمس حمامات : حمام المير وحمام السوق وحمام الشيخ وحمام الورد والحمام الجديد وكان أكبرها وأكثرها عناية برواده . وكلها داخل سور صيدا .
أما الخانات فكانت تستخدم لخزن البضائع ، ولإيواء المسافرين في طابقها العلوي ، وفي سنة 1888 مثلاً كان في صيدا 8 خانات هي :
خان الإفرنج خان الصابون خان الحمص خان أباظة
خان الرز خان الدباغه الخان الصغير خان اليهود
بالإضافة إلى خانين مدخل صيدا الشمالي : خان برتران وخان كتافاكو وخان ثالث عند جسر الأولي باسم خان أبوشاقه.
ثم أخذ استعمال الخان يقتصر على إيواء المسافرين ، ومن هنا أخذ ينتشر اسم لوكندة (تركية الأصل) ثم فيما بعد اسم فندق ( إيطالية الأصل Fondoc ) .
أنشيء أول فندق عصري سنة 1894 بأمر من القائمقام إحسان بك ، وفي سنة 1906 أنشيء الفندق العصري الثاني " الزهور الجديدة " وكان من ثلاث طبقات .
وفي سنة 1912 كان في صيدا ثلاثة فنادق حديثة كلها في شارع الشاكرية هي لوكندة المطران ولوكندة الوطن ولوكندة زنتوت وتراوحت أجرة المبيت فيها بين بشليك وبشليكين لليلة الواحدة .
المقاهي :
كانت أكثر الأماكن العامة جلباً للجمهور ، وبلغ عددها في صيدا سنة 1888 تسعة عشر مقهى. وكانت تغلق أبوابها الساعة 11 ليلاً في الشتاء والعاشرة في الصيف حسب تعليمات الشرطة .
كان المقهى مكاناً للثرثرة ولاحتساء القهوة والشاي دائماً والقينار والسحلب شتاءً ولتدخين الغليون والأركيلة ، والجلسة في المقهى كانت تكلف بحدود عشر بارات .
كان الجلوس على الدكك التي تستوعب الواحدة منها خمسة أشخاص وعلى المقاعد ، وكانت الغلايين التي يدخنونها طويلة مصنوعة من خشب الياسمين أو الورد أو الكرز . أما وعاء التبغ نفسه فكان من الخزف ، وعُرف الغليون كذلك بالشُّبق ( çubuk التركية بمعنى قصب كما أن غليون مرفة عن قليان الفارسية بمعنى القضيب ).
كما دخن البعض الأركيلة ( أصلها نارجيل أي جوزة الهند ، لأن أول استعمالها بدأ بجوزة الهند تُفرغ وتوضع أنبوبة قصب فيها ) كما عرفت بالشيشه ( اي الزجاجة بالفارسية لأن وعاء من زجاج استبدل بجوزة الهند )، وكان يوضع فيها التنباك المطيب وكان أفضله العجمي والاسطنبولي ، وتراوح سعر الكيلو منه بين خمسة إلى عشرين قرشاً . ودخن البعض السجاير التي كانت أقل انتشاراً من الأركيلة ، وكانت أنواعها : اكسترا ونومرو 1 ، نومرو 2 ونومرو 3 ، وكان بالعلبة الواحدة 25 سيجارة .
ومن مقاهي صيدا آنذاك : مقهى باب السراي ـ مقهى المهندز ـ مقهى الحاج بلبل ـ مقهى أبو دحروج ـ مقهى أبو زيت ـ مقهى البوابة الفوقا ـ مقهى رجال الأربعين ـ مقهى عساف ـ المقهى المعلّقه ـ مقهى الزجاج وجميعها داخل صيدا . ومقهى الشاكرية ومقهى الخيرية خارج أسوارها . وكان هذا الأخير أجملها إذ يطل على البحر ومن جهة أخرى على البساتين لتسلية رواده . كان بعض المقاهي يستخدم حكواتياً أو اراكوزاتياً كل ليلة . واشتهر بذلك مقهى القزاز ومقهى الخيرية .
وكان الحكواتي يبدأ عرضه بعد الغروب أو بعد العشاء ، فيقرأ أو يلقي قصة تدور حول عنترة أو الظاهر بيبرس أو سيف بن ذي يزن الهلالي أو غيره وينتهي عند موقف مثير ليكمل الحكاية في الليلة التالية . فيزداد شوق السامعين وحماسهم لمتابعة القصة . وكان يقتسم غلة تلك الليلة مع صاحب المقهى مناصفة .
أما الأرركوزاتي ( أو خيال الظل ) فهو يضع في زاوية في المقهى ستارة من قماش وقنديلاً ويحرك دمى بطريقة تجعل ظلالها ترسم خيالات تكوِّن شخصيات العرض ، ويصاحب الحركات أصوات يصدرها العارض تناسب المقام . وكان عرض الأراكوزاتي يقام عند الغروب ليتمكن الأولاد من مشاهدة بداية العرص قبل ذهابهم للنوم ، حيث يستمر الكبار في متابعة العرض حتى نهاية السهرة خصوصاً في ليالي الشتاء حيث ينعمون بدفء المقهى . وكان الأراكوزاتي يتقاسم الغلّة لتلك الليلة مع صاحب المقهى .
المسرح :
لم يعرف الصيداويون التمثيل المسرحي قبل سنة 1908 ، عندما أعلن الدستور وأُطلقت الحريات العامة ، فألَّف في تلك السنة صبحي أباظة رواية " خذلان الظالم وانتصار المظلوم " رمزاً لانتصار الحرية ، وقد خصص ريع الحفلات للمشاريع الخيرية في صيدا .
وفي ربيع سنة 1909 شكلت مجموعة من الشبان الصيداويين جمعية " إحياء التمثيل العربي " لرفع مستوى التمثيل المسرحي في صيدا ، وألَّف أحد أعضائها ، عمر نحولي ، رواية " المتوكل " من ثلاثة فصول ، وفي خريف السنة نفسها مثّلت الفرقة رواية " السموأل " تأليف أنطون بك الجميّل وإخراج نجيب بكار ، وكما مثّلت الفرقة رواية " صلاح الدين الأيوبي ".
ومثلت جمعية نشر العلم رواية " الصارخ المظلوم " شتاء سنة 1913 ليلة الجمعة لعدة أسابيع على مسرح مقهى الخيرية ، ولاقت رواجاً كبيراً .
وقد لفتت تلك النهضة المسرحية صحف بيروت فنوَّهت بها ، لكن شعلة تلك النهضة الفنية أطفأها نشوب الحرب العالمية الأولى . &l