كلمة عصمت القواص
بتاريخ:9/6/1999
كلمة عصمت القواص
قبل الشروع في تناول موضوع الندوة، من الضروري لفت النظر إلى بضعة أمور:
1)- إن التحدّث خلال دقائق معدودة عن اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان سنة 1982، وعن المقاومة التي نهضت في مواجهة الاحتلال، هو أمر بالغ الصعوبة، نظراً لكثافة الأحداث والوقائع والتحوّلات التي شهدتها المرحلة المشار إليها وأهميتها، ولغناها بالدروس، والعِبر والخلاصات. الأمر الذي يدفع إلى الاكتفاء بتناول الملامح الرئيسية لنقاط الموضوع المفصلية عبر إشارات خاطفة.
2)- إن تجربتي الشخصية في إطار المواجهة الوطنية العامة للغزو والاحتلال لا تعدو كونها نقطة في بحر هذه المواجهة. وهذه التجربة لا يمكن فصلها عن تجارب أكثر اتساعاً وغِنىً. من هذه التجارب، تجربة التنظيم الذي كنت أنتمي إليه آنذاك، أي منظمة العمل الشيوعي، وتجربة اليسار وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وتجربة المقاومة عموماً على تعدّد قواها وأساليب عملها.
من هنا فإن ما سأقوله يشكّل محاولة لربط ما بين التجربة الشخصية والتجربة العامة.
3)- لا يخفى عليكم أن المرحلة موضوع هذه الندوة تتعرّض، أكثر من غيرها من المراحل، لمحاولات تستهدف تزوير وقائعها، وتحريف خلاصاتها، وقراءتها قراءة تخدم توازنات الحاضر.
وأني، انطلاقاً من موقع اليسار والتيار الوطني الديمقراطي عموماً، سأحاول قدر طاقتي مقاربة المرحلة مقاربة موضوعية، واستخلاص ما يمكن من دروسها وعِبَرِها. وليست غايتي الأولى من وراء ذلك إلقاء الضوء على دور اليساروالتيار الوطني الديمقراطي في مواجهة الغزو والاحتلال، بل فهم الماضي فهماً صحيحاً، حيث أنه من دون هذا الفهم لا يمكن التعامل بشكل سليم مع الحاضر، أو استشراف آفاق المستقبل.
وأنا لا أدّعي امتلاك الأجوبة الوافية عن الأسئلة التي تثيرها المرحلة موضوع الندوة، ولا التمكّن من صوغ خلاصات تجاربها كافّةً. ولعلني على الأقلّ أنجح في إثارة عدد من التساؤلات، وطرح بعض الفرضيّات.
في مثل هذه الأيام قبل سبعة عشر عاماً كانت جحافل الجيش الإسرائيلي تجتاح لبنان من البر والجو والبحر. اكتسح هذا الجيش الجنوب بكامله والجبل والبقاع الغربي، ووصل إلى بيروت التي ضرب حولها حصاراً شديداً، وألقى عليها كمّاً هائلاً من القذائف، لم تشهد الحروب مثيلاً له إلا في حالات قليلة. غير أن الجيش الإسرائيلي فشل في اقتحام بيروت، ولم يتمكّن من الدخول إليها إلاّ بعد اضطرار القسم الأكبر من المدافعين عنها إلى مغادرتها بناءً على الاتفاق الذي تمّ آنذاك برعاية الموفد الأميركي فيليب حبيب.
لقد أدّى الاجتياح الإسرائيلي إلى سقوط آلاف القتلى والجرحى، وها هي ساحة الشهداء في صيدا تحتضن رٌفاة المئات من الشهداء والضحايا. كما نتج عن هذا الاجتياح دمارٌ رهيب، ونجحت إسرائيل، إلى حين، في إيقاع لبنان في أسرها.
لا أُضيف جديداً إذا قلت إنّ مواقف اللبنانيين من الاجتياح الإسرائيلي كانت متنافرة إلى درجة التصادم.
ففي حين واجهت الحركة الوطنية إلى جانب المقاومة الفلسطينية والجيش السوري القوات الإسرائيلية الغازية، فإن القوات اللبنانية تعاونت مع الجيش الإسرائيلي، واستندت إليه لإيصال قائدها بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية، والانتشار في مقاطعة الجبل وسواها من المناطق اللبنانية التي وقعت في قبضة المحتل. أمّا القوى الطائفية الأخرى فقد نأت بنفسها عن الصراع الدائر، وهو ما لجأت إليه أيضاً السلطة اللبنانية التي اعتبرت أن ما يجري لا يتعدى كونه حرباً للآخرين تدور على أرض لبنان.
كان لاجتياح سنة 1982 مفاعيل ونتائج كبيرة الأهمية على الوضعيْن اللبناني والفلسطيني، وعلى علاقات لبنان الإقليمية. كما أثار الاجتياح جملة من الأسئلة وعواصف من النقاش تعدّت لبنان إلى العالم العربي وإلى إسرائيل نفسها.
من بين القضايا التي أشرت إليها ما يلي:
1)- كشفت كتب صادرة في إسرائيل بعد سنة 1982 عن عمود التعاون بين إسرائيل والجبهة اللبنانية قبيل وأثناء الاجتياح، وعن أن هذا التعاون يعود إلى ما قبل ذلك التاريخ بعدة سنوات، أي إلى بدايات الحرب الأهلية. لقد حاولت الجبهة اللبنانية الاستقواء بإسرائيل من أجل الانتصار على خصومها الداخلييّن والسيطرة على السلطة، وحققت نجاحاً جزئياً مؤقتاً في هذا المجال. غير أن النتائج اللاحقة لهذا الاستقواء كانت وبالاً على من كانت الجبهة تدّعي النطق باسمهم، وعلى لبنان عموماً.
ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يحاول فيها طرف لبناني أن يستقوي بالخارج من أجل التغلب على خصومه الداخليين، ولم تكن النتائج في المرات السابقة بأفضل مما حصل بعد سنة 1982، بخاصة خلال حرب الجبل وما تلاها.
فهل توصّلت الفئات اللبنانية حالياً إلى الاقتناع بلا جدوى الاستقواء بالخارج، أم أنها لا تزال تتبنى مقولة إدوار حنين: " لبنان عندما يستقلّ يهتزّ وعندما يرتبط يعتزّ"؟
2)- كَشَفَ اجتياح سنة 1982، وما تلاه من أحداث، لا سيّما اتفاق 17 أيار عن استعداد نظام الطائفية السياسية للتفريط بالسيادة الوطنية، بل بمقوّمات الوطن عموماً. فالاتفاق المذكور حظي آنذاك بموافقة الحكومة ومجلس النواب باستثناء نائبيْن اثنين فقط، كما لاقى تأييد زعماء الطوائف. ولم يسقط ذلك الاتفاق لاحقاً إلا بفضل ضربات المقاومة الوطنية والتطورات التي تسارعت فيما بعد.
فألا يشكل التفريط الوطني نقيصة إضافية تضاف إلى نقائص نظام الطائفية السياسية؟
3)- دخلت إسرائيل إلى قلب المعادلة اللبنانية من خلال الجراح النازفة للحرب الأهلية، واستطاعت منذ السنوات الأولى لهذه الحرب أن تقيم صلات مع بعض أطرافها.
لقد تسببت الحرب الأهلية بمضاعفة انكشاف الوضع اللبناني للخارج، فضلاً عن كونها قد ساهمت في تعميق الانقسام الأهلي، وأدت إلى انتكاس مسار التوحيد الذي برز في مطلع السبعينات، بخاصة على الصعيدين العمالي والطلابي.
أن فتح ملف الحرب الأهلية: أسبابها، ومسؤوليات الأطراف المختلفة عنها لا يستهدف إحياء ماضٍ يرغب اللبنانيون في نسيانه، بل تحصين المستقبل من خلال استيعاب دروس الماضي وعِبَره، وهو ما لا يتعارض مع العفو والتسامح، بل يعني إقفالاً حقيقياً وليس شكلياً لهذا الملف.
أن المواقف المتعارضة التي برزت مؤخراً حيال العناصر التي غادرت ميليشيا لحد في جزين، ومطالبة البعض باستيعابهم في الدولة على غرار ما حصل مع الميليشيات الأخرى، تشير، من جملة ما تشير، إلى إستمرار وجود مفاهيم تنتمي إلى مرحلة الحرب الأهلية؟
أعتقد أنه يقع على عاتق اليسار والتيار الوطني الديمقراطي كما على بقية القوى المبادرة إلى إعادة تقييم الحرب الأهلية وأدوارهم فيها، ونقد هذه الأدوار حيث يتطلب الأمر النقد.
4)- خاضت القوات المشتركة معارك بطولية ضد القوات الإسرائيلية في الكثير من المواقع، ودافعت دفاعاً مستميتاً عن بيروت. وقد تحدّثت مجموعة من الكتب الصادرة في إسرائيل بعد سنة 1982 عن صعوبة القتال الذي خاضته القوات الإسرائيلية في صيدا، وعين الحلوة، والرشيدية، والدامور، وخلدة، وأثناء محاولاتها الفاشلة لاقتحام بيروت، كما ذكرت الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها هذه القوات في أطول حرب خاضتها مع العرب منذ قيام إسرائيل.
في المقابل لم يكن المزاج الجماهيري متحمساً لقتال الجيش الإسرائيلي أو داعماً لهذه القتال. وكان المواطنون راغبين بالخلاص، وبأي ثمن من الأوضاع التي سادت قُبيل الاجتياح. فالاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة منذ عام 68 والتي تصاعدت خلال السنوات التي سبقت الاجتياح، ومعارك الحرب الأهلية بتفرّعاتها المتعددة، ومسلسل التجاوزات، وغيرها، ساهمت في إيصال الجماهير إلى الحالة التي وصلت إليها. يُضاف إلى ذلك شعور هذه الجماهير بأن لبنان قد حُمِّل وحده ولسنوات طويلة عبء الصراع العربي الإسرائيلي.
لقد راهن الوطنيون اللبنانيون على تثوير الوضع العربي، وعلى فتح كل الجبهات العربية مع العدو من خلال فتح الجبهة اللبنانية معه، ولم تكن هذه المراهنة في محلها. فماذا كانت جوانب الخطأ وجوانب الصواب في تأييد الوطنيين اللبنانيين لإشعال الجبهة مع العدو منذ تمركز المقاومة الفلسطينية في هذا البلد.
وقع لبنان في قبضة الاحتلال الإسرائيلي في ظل الظروف التي سبقت الإشارة إليها. ويُسجَّل هنا للقوى اليسارية الثلاث: الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي، وحزب العمل الاشتراكي، إدراكها لأبعاد المرحلة الجديدة، ودعوتها جميع القوى إلى الخروج من دهاليز الحروب الأهلية إلى رحاب المقاومة الوطنية، وهو ما تجلّى في إعلان قيام "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، وتنفيذ العمليات العسكرية العشرة الأولى على القوات الإسرائيلية في بيروت، من كورنيش المزرعة إلى محطة أيوب إلى غيرها من العمليات، مما ساهم في حمل هذه القوات على الانسحاب من العاصمة.
في صيدا والجنوب، وبعد فترة من اليأس والضياع، انتقلت الجماهير إلى تأييد المقاومة الوطنية، ثم إلى تبنّيها بالكامل بعد ذلك. وقد كان لعمليات المقاومة الوطنية والإسلامية، وللتعبئة الوطنية ضد الاحتلال دورهما في هذا المجال.
أذكر في هذا العدد نضالات "جبهة المواجهة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي" التي ضمّت، في من ضمّت، الأخ مصطفى سعد، وسماحة السيد محمد حسن الأمين، والمرحوم حسيب عبد الجواد، والدكتور مصطفى دندشلي، وممثلين عن القوى الوطنية، وآخرين.
من جملة النشاطات التعبوية التي ساهمنا بها آنذاك: كتابة شعارات وطنية على جدران المدينة، وتوزيع بيانات وقصاصات تدعو إلى مواجهة الاحتلال، ووضع أكاليل الزهور على المدفن الجماعي للشهداء في الساحة التي تُعرف اليوم بساحة الشهداء، فساعدنا على تكريس الساحة المذكورة ساحةً للشهداء، في مواجهة المحاولات التي قام بها البعض لطمس معالم المدفن الجماعي هناك، سعياً وراء إخفاء معالم الجريمة التي اقترفها العدو بحق أهل المدينة.
ولم يكن النشاط المدني المقاوم المشار إليه سهلاً أو زهيد الكلفة، بل إن العدو أعتبره موازياً للعمل العسكري، وقام بمطاردة الذين قاموا به واعتقالهم، أو إبعادهم، أو اختطافهم وإخفائهم كما حصل مع الرفيقيْن ياسر بخاري وإبراهيم الكبش الذين أعتُقلا عام 1984 وما يزالان مفقودْين حتى اليوم، والأرجح أن العدو قد قام بتصفيتهما.
ولا شك أن التصدي الجماهيري اللاحق لقوات الاحتلال قد ساهم هو أيضاً في إجبارها على الانسحاب من صيدا وصور والنبطية والانكفاء إلى جزين وللشريط الحدودي.
أمّا العمليات العسكرية وما أوقعته من خسائر في صفوف العدو، فقد ساعدت على رفع معنويات الشعب من جهة أولى، وعلى إجبار هذا العدو على الانكفاء بغية الحد من خسائر، من جهة ثانية، بخاصة بعد تصاعد العمل العسكري المقاوم.
لقد ساهمت في العمل المقاوم قوى ومجموعات متعددة الانتماء، فقدمت الشهداء، ووقع عدد من المقاومين في الأسر في أنصار وعتليت والخيام وغيرها من المعتقلات. ولعلَّ تذكّر الشهداء الذين سقطوا في هذه المدينة أو في الجنوب عموماً يدلّ على ما أشرت إليه: من فضل سرور ابن عيتا الشعب الذي سقط خلال عملية في مرفأ صيدا إلى سعيد رعد وخالد العزو وهشام العزّي وبلال الحريري، ومن نزيه القبرصلي إلى باسم شمس الدين وسهيل سكني إلى الحبّال وزهرة والشريف، وغيرهم العشرات والمئات من الشهداء الأبطال.
أنّ أقلّ ما نقدّمه إلى الشهداء هو أن نتذكّرهم في مناسبة كهذه. وتحضرني في هذه المناسبة ذكرى المرحوم محمد الحُرّ الذي نفّذ مع رفاق له عملية نوعية بالقرب من المبنى الذي نحن فيه الآن، وأُصيب خلالها بجراح سببَّت له عطلاً لم يُشفى منه حتى وفاته.
بعد سنة 1985، سنة الانسحاب من صيدا وصور والنبطية، عُمل على تطييف المقاومة واستخدامها ورقة في الصراع بين الطوائف على اقتسام السلطة. كما جرى منع القوى اليسارية والوطنية من حقها في الإسهام في العمل المقاوم، مما أعطى المقاومة طابعاً مذهبياً طاغياً. هذا لا ينفي بتاتاً التطور النوعي الذي بلغته عمليات المقاومة الإسلامية. بفضل هذه العمليات وموقف أهالي جزين المطالب بالسلطة الشرعية، أُرغم العدو على إتخاذ قرار الانسحاب من منطقة جزين.
غير أن الهواجس التي ينطق بها أهالي جزين، وما يُثار هنا وهناك حول المقاومة في منطقة جزين، يشير أن إلى المعضلة البنيوية التي تعاني منها المقاومة من جهة أولى، وإلى الانقسام حول خيار المقاومة، وحدود هذا الخيار من جهة ثانية، في ظل الظروف الحالية، إضافةً إلى الغياب المزمن للتوازن بين المقاومة من خارج المنطقة المحتلة والمقاومة من داخلها.
من ناحية أخرى، يكشف هزال إسهام التيار اليساري والديمقراطي في النشاط المقاوم، في هذه المرحلة، عن الأزمة التي يمرّ بها هذا التيار من جهة أولى، وعن المعضلات التي تكشف عمل المقاومة من جهة ثانية. وأن التيار المذكور مدعوٌّ إلى إعادة تقييم دوره وإسهامه في المقاومة، في إطار مراجعة عامة يُفترض به أن يسارع إلى القيام بها، على أن تشمل هذه المراجعة الجوانب الفكرية والنظرية والسياسية والبرنامجية والتنظيمية، إضافةً إلى تقييم عمله السابق في مختلف المجالات.