الدولة وتطوّر النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي في لبنان ماضياً ومستقبلاً
الجمعة ، 19 أيار 1995
|
الافتتاح والتقديم : الساعة الثالثة بعد الظهر
|
المحور الأول
الساعة الرابعة بعد الظهر
|
الدولة وتطوّر النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي في لبنان
ماضياً ومستقبلاً
|
رئاسة الجلسة
|
د. هشام بساط المدير الإقليمي للبنك العربي / بيروت
|
المحاضرون
|
الأستاذ مروان اسكندر الأستاذ كمال حمدان د. إيلي عسّاف
مستشار اقتصادي مؤسسة الدراسات الاقتصاديّة عميد كلية الإعلام / الجامعة اللبنانية
|
المعقّبون
|
د. نجيب عيسى عميد كلية العلوم الاقتصاديّة وإدارة الأعمال سابقاً / الجامعة اللبنانية
|
حوار ومناقشة عامة
|
|
د. جوزف خزاقة
حضرات الآباء الأجلاء، ممثلي الهيئات الثقافيّة، ممثلي الهيئات النقابيّة، ممثلي الإعلام، أيها الأصدقاء الكرام.
يسرّنا أن نرحّب بكم جميعاً، في هذا المؤتمر الوطني العام، الذي تعقده حركة الحوار الديمقراطي في لبنان، بالتعاون مع نخبة من خيرة أهل الاختصاص والفكر والخبرة، من محاضرين ومشاركين ومستمعين. فأهلاً وسهلاً.
ونفخر أيضاً أن يلتئم مؤتمرُنا هذا، في دير سيّدة الجبل، الذي أصبح رمزاً كبيراً، وموئلاً للمفكرين والعلماء والاقتصاديين والسياسيين، يقصُدونه من كل أطراف الوطن، ويتزاحمون لحجز حيِّزٍ زمنيٍ فيه. فشكراً سلفاً لهذا الصرح على استضافته لنا، وشكراً للقيّمين عليه.
أيّها المؤتمرون،
بعد أن مرّ علينا، في لبنان، شتاءٌ طويلٌ ومُضنٍ، كالحٌ وعاصفٌ ومزلزل، دام بضعةَ عشر عاماً، ورغم كابوس الضائقة المعيشيّة الساحقة المستحكمة برقاب عامة الناس، في الآونة الأخيرة، تشهد بلادنا، مع ذلك، بداية ربيع فكري وثقافي، طالما اشتاقَ إليه اللبنانيون. فالجمعيات والنوادي والحركات، من ثقافيّة وفنيّة واجتماعيّة ورياضيّة، تنبعثُ متلاحقةً، مطلةً برؤوسها في مختلف الربوع اللبنانيّة، مفتشةً عن مطرحٍ ملائم تنمو فيه، وعن دورٍ تقوم به، مقاومةً أنقاضَ الماضي المتراكمة الثقيلة، ومتحدّيةً ظروفَ الحاضر القاسية الخانقة.
إنه اليوم استيقاظٌ رائع، يتمثل بالنشاطات التي تقوم بها هذه الهيئات، الناشئةُ حديثاً بمعظمها، فتملأُ مواضيعُها صفحاتِ الجرائد والمجلات، وتتمثلُ المساحاتِ الواسعة من برامج الإذاعات والتلفزيونات المحليّةِ والوطنيّة.
بالأمس القريب، استحوذتِ البربريةُ والهمجيّة والغرائزيّة على عقولنا، وتصرفاتنا، وأساليب تعاملنا، مع بعضنا البعض، بشكل مريع، واتسمتْ حياتُنا اليوميّة بطابعٍ يَندى له الجبين، وتسوَدُّ منه الحضارةُ والأصالةُ والتاريخ.
وها نحن اليوم، بعد أن عاد إلينا رشدُنا، ووعينا، وعقلنا، وضميرنا، وعادت إلينا إنسانيتُنا، بدأنا ننتهجُ نمطاً جديداً في التعاطي وفي التخاطب، كنّا قد عرفناه وخبرناه في مراحلَ سابقة، من تاريخنا السعيد والزاهر. إنه النهجُ الجدير بالإنسان الإنسان. إنه النهج اللائق والمتحضر والراقي. إنه نهجُ الحوار والانفتاح، المبني على الوعي للحياة ولقيمتها، وعلى الاحترام المتبادل مع الآخرين، وعلى روح المسؤولية والالتزام عند الأفراد والجماعات.
في الواقع، كان تاريخنا، على مرّ الزمن، مترجرجاً ومتقلباً بين شكلين من الحياة، شكل التحابب والتصافي والعيش الكريم والتضامن، وشكل التخاصم والتنازع والبغض والتنافر. وكنّا ننتقلُ أو نتنقَّلُ بين هذا الموقع وذاك، بل من أقصى المواقع حتى الأقصى الآخر. وكأننا إذا ما اخترنا أو سلكنا أحدَ النمطين، التزمنا به، وبرعنا فيه إلى أبعد الحدود. وكنّا نأبى إلاّ أن نكون متطرفين متحمسين وسبّاقين على الآخرين. إزاء هذا الماضي المتقلب، وإزاء نتائجه المتعاكسة والمتناقضة، بين ازدهار وانحطاط، بين عمران وخراب، بين تقدم وتخلف، بين زهو وخبو...
أوَليس الأَولى بنا، ونقولها بصوت عالٍ، وبكل بساطة وصراحة، أن نتجنب ما يُعرف بالخضّات والأزمات والمحن، التي تطالُنا جميعاً وبدون استثناء، وتوفرُ علينا وعلى أجيالنا الآتية، المآسي والدمارَ والخراب؟... أوَليس انتهاجُ هذا الخط، واللجوءُ إليه، هما حماقة ما بعدها حماقة؟!... أوَليس الأَولى بنا أن نعتمد على كل الأسباب والوسائل التي توصلنا إلى الازدهار والبحبوحة والرفاهية والتقدم، ويكون خيارُنا محكوماً بالوعي والخبرة والعِبرة من التجارب المجرّبة، القديمة والحديثة، ماذا ينقصنا حتى نحسُمَ أمرَنا ونختارَ الأفضلَ ونختارَ مصلحتَنا. اللهمَّ هل نعرف نحن أين هي مصلحتنا؟... وهل نفتشُ عن تأمينها لأنفسنا؟...
لماذا لا نتحصَّنُ بأسباب المِنعةِ في وجه أيّ فتنةٍ محتملة، داخليّة أو خارجيّة، أو أيّ انحرافٍ أو فساد، قد نتعرض له، ليودي بنا في الأخير، إلى ما هو محتوم، إلى الهاوية. لماذا لا نبني الدعائمَ، التي تجنبنا الاهتزازَ، والانجرارَ إلى الانهيار، والتي تساعدنا على الاستقرار والتطوّر والتقدّم. ونسألُ أنفسنا، هل نعرفُ حقيقةً ما هي هذه الدعائم؟... وكيف يجب تركيزُها لنبني عليها صرحَ المستقبل المنيع والزاهر؟...
ومَن أَولى، في حمل لواء المهمةِ الضخمة في هذا المضمار، وفي رفع مشعل الهداية للأفراد والجماعات، من المثقفين ومن الحركات الثقافيّة والفكريّة؟... إن أصحاب الدور معروفون، لمن يعرف، ولمن يريد أن يعرف، والدورُ هو ملازمٌ لهؤلاء، والدور يتحددُ، بكل تأكيد، في التفاعل مع الناس، وفي مخاطبتهم، والتعبيرِ عنهم، وتوعيتهم، وإرشادِهم، وحملِ همومهم، والتحسسِ بقضاياهم، والنضالِ من أجل إيجاد الحلول والعلاجات الضرورية والملائمة لها. وهنا أيضاً، يبقى السؤالُ مطروحاً، من أين لهم هذه المسؤوليّة؟... وكيف يُعطونها؟...
إن الدولة في الأساس، هي المسؤولةُ الأولى والأخيرة عن شعبها وعن مواطنيها. هي صاحبة السلطة والنفوذ والقرار في الوطن. ولا يستطيع أحد أو أيّ جهة أن يحلَّ محلها أو أن ينتزعَ منها دورَها. وأيضاً، الدولة الواعية والقادرة والراقية، لا يمكنها أن تأخذ القرارات والتدابير في شأن رعاية أبنائها وتأمين مصالحهم وغاياتهم وحاجاتهم، دون الاطلاع على حقيقة الأوضاع، وتفهّم سير الأمور في المجتمع. فالمسألة ليست مسألة أخذ قرارات وتدابير وحسب. إذ أن الذين يصوّرون الواقع، ويصوغون الأفكار، ويبلورون القضايا، هم وحدهم المثقفون والهيئات الثقافيّة في المجتمع.
من هنا ضرورة وحتمية استعانةِ الدولة، بأهل الفكر والخبرة والاختصاص. لأن هؤلاء، هم الجهة الصالحة، التي يمكنها أن تعطي الصورة الحقيقيّة والدقيقة عن الواقع، وباستطاعتها أن تفهمه بعمق وشموليّة ووضوح، وتعبّر عنه بشكل لا تُجارى فيه من قِبل أحد.
المثقفون هم المستنيرون والمنيرون، هم الذين يملُكون الوعي، وبإمكانهم تعميمُهُ. ونحن نتحدث، اللهمَّ عن المثقفين الحقيقيين، الأصيلين المبدعين، الذين لا يبيعون فكرَهم، ولا يتاجرون به، أو يستمرّونه لأهواء أهل الحكم وأمزجتهم وميولهم ومصالحهم.
إذا كنّا قد رسمنا الإطار التاريخيّ، والظروفَ العامة للواقع اللبنانيّ، وأوضحنا بعض الحقائق والسمات، التي تتعلق به، وإذا كنّا أكدنا بعض قناعاتنا وفَهْمِنا للمثقف، ولدوره التنويري والنهضوي والنضالي المميّز، فاسمحوا لنا، أيّها السيدات والسادة، أن نقدّم لكم حركتَنا، حركةَ الحوار الديمقراطي في لبنان، بشكل مقتضب من حيث المنطلقات والأهداف ومناهج العمل. وهذه الحركة كانت قد نشأت على أثر ظروف قاسية مرت على لبنان وعلى مجتمعه، وآثارُها السلبية ومفاعيلُها السيّئة، لا تزال قائمةً في يومنا الحاضر. فجاءت الحركة كردةِ فعلٍ عليها، عندما سنحتِ الفرصة. لذلك، هي تمثّلُ نوعاً من انتقاضةٍ سلمية على الواقع الرديء، تهدفُ من خلالها، إلى تحسين هذا الوضع والنهوض به والمساهمةِ في تغييره وتطويره وإعلاء شأنه.
يهم الحركةَ، بالدرجة الأولى، الوطنُ لبنان، واللبنانيون أجمعين، بقطع النظر، عن انتماء هؤلاء، إلى أيّ دين، أو طائفة، أو مذهب، أو منطقة.
سيادة الوطن واستقلالُه وحريتُه، وكذلك حقوقُ المواطن وكرامتُه وحريتُه، هي من المسلمات.
الحركة تفتش عن الانصهار الوطني، وعن المواطنية الصالحة، وعن العيش الكريم، في ظل القانون. وهي تسعى إلى تأمين العدالة والمساواة والديمقراطية.
الحركة تجدُ نفسَها في موقعِ المنفتح على كل الهيئات والتيارات، الثقافيّة والفكريّة الفاعلة على الأرض اللبنانية. وهي تحترمُها جميعَها، وتتوخّى التعاونَ والتنسيق معها، عندما يكون ذلك متاحاً وملائماً وضرورياً.
والحركةُ التي ما زالتْ طريةَ العود في نشأتها، تقومُ بنشاطات مكثفة ومتنوعة في مختلف المناطق اللبنانية. وهي تتصفُ بديناميّة خاصة ولافتة، وتسعى لكي تكون مميّزةً في تواصل أعمالها وفي شموليّة الأعمال للمناطق اللبنانيّة.
الحركة تنتهجُ عقد اللقاءات الضيّقة في المدن والقرى، من أجل شرحِ ونقاش أهدافِها وخططِها وتوجهاتِها، وبالتالي كسبِ الأنصار والمؤيدين. وهي كذلك تعقُدُ اللقاءاتِ والمؤتمراتِ العلميّة والثقافيّة من أجل تطوير الأفكار والمفاهيم والنظريات، ومن أجل التلاقي مع أهل الاختصاص والفكر والمعرفة، ومن أجل تقريب وجهات النظر وتوحيدِها إذا أمكن، على قاعدة العلم والديمقراطيّة.
إن حركة الحوار الديمقراطي جاءت لتملأَ فراغاً ولتقومَ بدورٍ انتدبت نفسَها له. وهي تسعى بتواضع للمساهمة في إيجاد الحلول والعلاجات في المسائل الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والتربويّة في المجتمع.
إن المثقف في مفهومِ حركتنا، يجب أن يكون منتجاً وفاعلاً ومؤثراً وملتزماً. وعليه أن ينفتح على المثقفين الآخرين، أن يقترب منهم، أن يتعاون وأن ينسق معهم، فتتشكلُ قوةٌ جماعيةٌ تفوق بكثير طاقةَ الأفراد، مهما علا شأنهم وارتفعت أهليتهم.
من هنا تبدو، بإلحاح، ضرورة دعم الحركات والهيئات الثقافيّة، والعمل على تشجيعها معنوياً ومادياً، والانخراط في صفوفها، والنضال من داخلها، لأن هذا هو الأجدى والأفضل.
وأخيراً لا يسعنا إلاّ أن نعود إلى الدولة، وهي التي لا غنى عنها، والدولةُ لكي تكون دولةً بمعناها الحقيقي، صاحبةَ المواقف المشرفة والواعية، والغاياتِ والأهداف، السامية والعادلة، الملتزمة بقضايا الشعب وحاجات المواطنين، عليها أن ترعى هؤلاء، وتوجِّهَهُمْ وترشِدَهم وتؤمنَ الخدماتِ الضروريّةَ والأمانَ والسلامَ والبحبوحةَ والازدهارَ لهم.
هذه الدولة، كيف تُبنى؟... مَن يُقوّم سلوكَها وتصرفاتِها؟... من يطوّرُها ويرقيها لكي تكون على المستوى المطلوب، مستوى المسؤوليّة والجدارة والفاعليّة؟...
إننا نترك عنايةَ الاهتمام بالإجابة عن هذه الأسئلة، بل الهواجس عند اللبنانيين، لمؤتمركم الكريم، لآرائكم الصائبة، وخبرتكم الأصيلة، ومعرفتكم العميقة.
وفقنا الله إلى ما هو خير ومصلحة وطننا ومجتمعنا. وشكراً.
* * *
كلمة ندوة العمل الوطني
يلقيها د. عصام نعمان ، نائب رئيس الندوة
سيداتي سادتي، أيّها الحفل الكريم.
انعقاد هذا المؤتمر تحت عنوانِ لبنان وإشكاليّة بناء الدولة الحديثة والمعاصرة: من أين نبدأ عملياً؟... وكيف؟... لهو دليلٌ قاطعٌ على أنّ القيّمين على المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا، وأعضاء حركة الحوار الديمقراطي في لبنان، يدركون بعمقٍ أهميّةَ الدولةِ في بناء الوطن، وتحصين المجتمع، ويحملونَ همومَ الشعبِ اللبناني الطامح إلى دولة قادرة على تلبية متطلبات عيشه، والحفاظِ على كرامته، ومواكبةِ العصر المتقدم بخطىً جبارة.
إن المشكلة الأساسيّة في لبنان تكمن، حتى الآن، من بناء الدولة على أسس حديثة راسخة تجنبها الانهيار في مواجهة الأزمات، والعقبات التي تعترض اللبنانيين، في هذا المجال كبيرة، فدولتُهم دولةٌ حديثةُ العهد، تقوم على بنية مجتمعيّة تسود فيها أنماط العلاقات التقليديّة، وعلى توازنات دقيقة معرضةٌ للخلل تحت تأثير عوامل داخلية وخارجية متداخلة. دولة تتقدم فيها الانتماءات الضيّقة على الانتماء الوطني، ولا يشارك شعبها مشاركةً فاعلة في حياتها السياسيّة، على الرغم من أنه يتكلم كثيراً في السياسة. والسياسةُ نفسُها فقدت فيها معناها الحقيقي، وتحولت عن تدبيرِ شؤونِ المجتمعِ، بما يضمنُ حقوقَ وحرياتِ المواطنين، إلى وسيلة للكسب المادي والمعنوي. والظروفُ الإقليميّة المحيطة بها، وفقدان مناعتها الداخلية نتيجة الحرب، جعلتها مكشوفةً على الخارج وشديدة التأثر به.
لهذه الأسباب تكتسب عمليةُ بناءِ الدولةِ في لبنان على أسس صحيحة، أهميّةً خاصة، وتتطلب إدراكاً عميقاً للواقع اللبناني بكلّ تشعباته وتعقيداته، ومعرفةً دقيقة بمكامن الداء فيه، ورؤيةً سياسيّةً شاملة، قادرةٍ على رسم المسار الذي يقود إلى الأهداف المرجوة. والسبيل الوحيد إلى ذلك حوار ديمقراطي هادئ، وعمل سياسي جاد.
إنّ ندوةَ العملِ الوطني، إذ تشارك في هذا المؤتمر، عبر عددٍ من أعضائها، تأمل في أن يسهمَ إسهاماً كبيراً في معالجة إشكاليّة بناء الدولة الحديثة في لبنان، وتقدرُ الجهودَ التي يبذلها القيّمون على المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا، وأعضاء حركة الحوار الديمقراطي في لبنان، في سبيل القضايا الوطنيّة الكبرى، ونشر الوعي السياسي، والنهج الديمقراطي، فالحريّةُ جوهرُ وجودِ لبنان، ولا حريّة بدون ديمقراطيّة، ولا ديمقراطيّة في غياب النهج الديمقراطي.
* * *
كلمة الأب د. أنطوان ضو
رئيس الحركة الثقافية ـ أنطلياس
الدولة الحديثة والمعاصرة هي حلم اللبنانيين ورجاؤهم. وكنّا نترقّب فترة ما بعد الحرب مرحلة جديدة وفرصة تاريخيّة للتجدّد والإصلاح وبناء الدولة الحديثة. وإذا بالاهتراء السياسي والاجتماعي والفكري والأخلاقي يعقّد الأمور ويحول دون تقدم الدولة لا بل يقضي على قِيَم إنسانيّة وروحيّة وحضاريّة كانت راسخة لدى بعض النخب وعند الشعب.
فما هي الأسباب التي أدّت بنا إلى هذه الحال؟... الأجوبة عديدة نذكر بعضها فقط للاختصار:
أولاً : إنّ قيام دولة إسرائيل سنة 1948، وتحالفها مع الاستعمار الفرنسي والشرقي، ودعمه لها على حساب العرب، ولّد مشاكل كبيرة لم يكن لبنان يعرفها لا في فترة الانتداب ولا أثناء الحكم العثماني. والذي حلّ بلبنان من جراء قيام إسرائيل حلّ بالعرب أيضاً.
ثانياً : إنّ الأنظمة العربية والإقليميّة والدوليّة عملت كثيراً على إدخال لبنان في محاورها فأثرت على وضعه الداخلي، ومن الشارع إلى بعضها. ونتج عن ذلك التجاذب بين اللبنانيين الضياع الذي حال دون قيام وحدتهم الوطنيّة الحقيقيّة. كما أنّ أنظمة الاستبداد التي حكمت المنطقة، أفسدت بعض اللبنانيين، وعطّلت نموّ الحياة الديمقراطيّة، ورأت في النظام اللبناني الديمقراطي تحدّياً لها.
ثالثاً : إنّ اتفاق الطائف الذي هو اتفاق أميركي إسرائيلي عربي لبناني بصيغة مميّزة، وبالتالي فهو فصل من فصول السلام العربي الإسرائيلي، لم يتمكن من إرساء أسس الدولة الحديثة، إنما شلّ الدولة، وعطّلها. فأجّل الانسحاب الإسرائيلي، وعطّل السيادة، وأوقف الديمقراطيّة. وأنهك القوى والفاعليات اللبنانية، وهو يعدّها بطريقته الخاصة إلى توقيع السلام والدخول في الشرق الأوسط الجديد بديلاً عن العالم العربي، بالقوّة والترهيب والإخفاق.
إلى هذه الأسباب الخارجيّة التي تحول دون قيام الدولة اللبنانية الحديثة والمعاصرة لا بدّ من الاعتراف بتقصيرنا الداخلي الذي ساهم في تردّي أوضاعنا على كلّ الصعد.
إنّ إزالة أسباب الحرب ـ حرب الآخرين على أرضنا، وحرب اللبنانيين على أرضهم ـ ليس بالأمر السهل. فالأسباب الخارجية ما زالت تمنع الحلّ الداخلي. والداخل مهما كان قوياً لا يستطيع مواجهة هذا المشروع الآتي إلينا من أعظم قوة مع حليفاتها في المنطقة وغير المنطقة.
الهيمنة الخارجية على لبنان. ارتباطه بالمنطقة. تردّي الأوضاع الاقتصاديّة الاجتماعيّة فيه. أثار الحرب. وعدم السماح بقيام نظام ديمقراطي في الوقت الراهن: الانتخابات النيابية. انتخاب رئيس الجمهورية. الانتخابات البلدية، إلى أوضاع المؤسسات السياسية والدينية والنقابية بوجه عام وخاص. كلها عوامل تجعل الإصلاح صعباً، وهي بالتالي تزيد الفساد والتخلّف والإقطاعية والاستبداد والظلم والفقر.
إنّ الحريّة والصراحة، والأبحاث والدراسات والنقد العلمي، والتأمل والصدق، وعدم الارتهان والاستغلال، وقول الحقيقة في مؤتمرات كهذا المؤتمر الكريم الذي دعانا إليه المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا وحركة الحوار الديمقراطي في لبنان، هو الطريق إلى تلمّس الحلول وإيجاد البدائل.
إنّ الحركة الثقافيّة ـ أنطلياس، والعديد من النخب والشعب كله، واعية لدقة المرحلة وصعوبة المواجهات. وتعرف إنّ ولادة مشروع الشرق الأوسط سيسبب أوجاعاً وآلاماً وصعوبات وتحدّيات. إلاّ أن المترهّبين للتغيير بالثقافة ولثقافة التغيير على مدى الوطن، عليهم متابعة حركيتهم بإيمان ووعي وحريّة وعلم وكاريسما وانفتاح وحكمة واحترام الآخر، والتسلّح بالقِيَم الإنسانيّة والروحيّة والعلميّة في بناء دولة المستقبل والحداثة.
إنّ التحوّلات التاريخيّة هي سمة الحضارة الإنسانيّة. فكما واجه آباؤنا وأجدادنا مرحلة الاستقلال والانتداب والعثمانيّة وغيرها، علينا نحن أن نواجه المرحلة التاريخيّة المقبلة بحكمة ووعي وواقعيّة.
نحن وإن كنّا أبناء التاريخ، والتاريخ العظيم، نودّ بإرادة قويّة وعزيمة لا تهدأ أن نشارك في صنع التاريخ والمستقبل، ونؤدي واجبنا اللبناني والعربي والإنساني بأمانة.
تطرحون علينا السؤال من أين نبدأ عملياً في بناء الدولة اللبنانية الحديثة المعاصرة؟... ونحن نجيب: نبدأ بما يلي:
1ـ نؤمن بلبنان الواحد أرضاً وشعباً، وبكامل ترابه وشعبه، الحرّ السيّد والمستقل.
2ـ نؤمن بكرامة الإنسان وحقوقه وبالقِيَم الروحيّة والعلميّة.
3ـ نؤمن بالنظام الديمقراطي، وبالعيش المشترك، وبالعدالة والتضامن والمساواة. ونحافظ على الطبيعة، ونطالب بالتنمية الشاملة من أجل العيش بكرامة.
4ـ نؤمن بالثقافة أداة للتغيير وبثقافة التغيير أداة للبناء. وبالإبداع في كل مجالات الحياة ومواكبة التقدم والحداثة.
5ـ نؤمن بالعروبة الحضاريّة، ونحبّ العالم العربي لأننا منه وله، ونلتزم بترقّيه وتقدّمه وسلامه ووحدته. كما نؤمن بالانفتاح وبدورنا الحضاري العالمي.
هكذا نبدأ. أما كيف؟... فالجواب سيعطيه هذا المؤتمر الكريم.
أشكر اللجنة المنظّمة للمؤتمر على دعوتها الكريمة. وأدعو لكم بالتوفيق. وأحيّي الدكتور مصطفى دندشلي رجل الحوار والمحبّة والمناضل بعزم في سبيل بناء الدولة اللبنانية الحديثة. أحيي المشاركين والحضور والإعلاميين...
وفقنا الله لما فيه خدمة لبنان المستقل وشعبه الحرّ المعافى. والسلام عليكم. وشكراً.
* * *
الأستاذ مروان اسكندر
القطاع العام ـ حجمه كان على مستوى 14 ـ 15 % من الدخل القومي حتى أواسط الستينات. من ثم ارتفع حجم الدولة مع تطبيق الضمان الاجتماعي وإنشاء المشروع الأخضر، والمصرف المركزي، إلخ...
مفاصل رئيسية:
1ـ انهيار بنك إنترا وقد أدّى الانهيار إلى تسييس إدارة المؤسسة التي كانت تملك حافظة لو حفظت لتجاوزت قيمتها اليوم احتياطي مصرف لبنان.
وأدّى الانهيار إلى إيلاج بنك التسليف ـ الذي كان البنك صاحب الدور الاجتماعي ـ دور تجاري لإدارة البنوك الموضوع عليها اليد.
2ـ تأميم مصفاة طرابلس أول السبعينات.
3ـ تسليم مصفاة الزهراني إلى الدولة.
4ـ تقزم دور القطاع الخاص وتوسع دور القطاع العام حتى أصبحنا اليوم نواجه ميزانية وميزانيات ملحقة وميزانية للضمان الاجتماعي توازي 42% على الأقل من الدخل القومي.
الأستاذ كمال حمدان
الدولة وتطوّر النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي
تتناول المداخلة الموضوعات الأساسيّة التالية: إنّ الفترة التي انقضت منذ انتهاء الحرب اللبنانية، لم تقدم إجابات مقنعة على إمكانية التوفيق بين النظام الطائفي وبين مقتضيات إعادة بناء الدولة العصرية. ويبرز التناقض المأزقي على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية:
1ـ على الصعيد السياسي، تتجسّد الاختلالات المعبّرة عن هذا المأزق في حيثيات قانون الانتخاب وطرق تطبيقه، وفي عدم إجراء الانتخابات البلدية، وفي تسعير حدّة التطييف والتمذهب المنهجيين على مستويات الإدارة العامة كافة، إضافة إلى العجز عن تحقيق الإصلاح الإداري، وإلى الشكل والمضمون اللذين ارتدتهما التعيينات الإدارية الأخيرة. كما تتجسّد في الصعوبات الهائلة التي تعترض قيام تشكيلات سياسيّة فاعلة خارج إطار البنى الطائفية، الأمر الذي يكرّس موت السياسة حتى إشعار آخر.
2ـ على الصعيد الاقتصادي، تبرز صعوبة، بل استحالة، الملائمة بين ما يطمح إليه المشروع الاعماري وبين القيود والحدود التي ما برح النظام الطائفي يفرزها، يومياً، في غير مجال. فالعلاقة بين قضايا الاقتصاد وقضايا الاجتماع عموماً، والعلاقة بين وضع الإدارة الحالي والمهمات التي يتطلبها الإعمار، والعلاقة بين حجم الاقتصاد ونموه وبين حجم البنى التحتية وتوزيعها، والعلاقة بين المدن والأرياف، والعلاقة بين وسط العاصمة ومحيطها ثم بينها وبين المجالات المدينية الأخرى، والعلاقة بين الأعباء المفروضة على جيل اليوم وتلك الملقاة على جيل الغد... كل هذه، وغيرها، تشكّل منذ انتهاء الحرب، ساحات تجري فيها، بشكل يومي، المساومات والتجاذبات والمقايضات، غير المرتبطة، بالضرورة، بفكرة بناء الدولة العصرية.
3ـ على الصعيد الاجتماعي، وفي ما تجري هذه المساومات والتجاذبات باسم التوازن الطائفي وتحقيق نظام المشاركة الطائفية والمذهبية، تغرق "جماهير" الطوائف على اختلافها، في المزيد من الفقر والتهميش، وتنهار الطبقة الوسطى التي شكّلت ذات يوم، عبر تحالفها مع البورجوازية الكبرى، أساس استقرار النظام السياسي والطائفي، وهي اليوم، في انهيارها، تهدد هذا الاستقرار في الصميم. فالوضع الاجتماعي اليوم يتأسس على مزيد من التركز في الثروة والدخل والسلطة، مفسحاً المجال أمام احتمال تعزّز نشوء بنية اجتماعيّة مستقطبة ثنائياً على غرار التشكيلات السائدة في بعض بلدان أميركا اللاتينية. والمؤشرات الإحصائية المتاحة حول التحولات الجارية في البنية الاجتماعية أكثر من أن تحصى.
السؤال الكبير المطروح اليوم هو الآتي: أن المشكلة الاجتماعية في لبنان، التي شكّلت سبباً رئيسياً من أسباب تفجر الحرب، هي الآن أشدّ عمقاً وشمولاً بكثير مما كانت عليه عشية هذه الحرب. فهل استخلصت الطبقة السياسية معاني هذا الواقع ودروسه، فيما هي تحاول رسم صورة المستقبل الاقتصادي ـ الاجتماعي للبلد وتعمل على ترجمته إلى حيّز التنفيذ؟...
في محاولة للإجابة على هذا السؤال، ولتسليط الضوء على موقع الدولة ودورها إزاء مشكلات تطوّر النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي في لبنان، من المهم التذكير بالعناصر الأساسية التالية:
أ ـ لم يسبق للبنان، منذ قيامه، أن بنى "دولته الراعية" (Etat – Providence)، على غرار ما قامت به الدول التي سبقتنا على درب التقدم الاقتصادي ـ الاجتماعي. والمحاولة اليتيمة التي قامت في هذا الإطار ـ المحاولة الشهابية ـ سقطت لافتقادها إلى المقومات السياسية وإلى تعاطف البورجوازية والطوائف معها، فضلاً عن قيامها للاستقواء بالأجهزة بدل الاستناد إلى الحركة الشعبية.
ب ـ إنّ تجربة لبنان ما قبل الحرب قد أكدت أن النمو الاقتصادي، وإن تحقق بمعدلات مرتفعة جداً، ليس كافياً وحده، بنتائجه وآثاره التلقائية والعفوية، كل المعضلة الاجتماعية. فمن دون التعامل مع هذه الأخيرة بصفتها مسألة قائمة بذاتها، ليس مؤمّلاً تحقيق تقدم حقيقي على طريق مواجهة المشكلات الاجتماعية. وهذا ما يمكن استخلاصه، على أي حال، من تجارب البلدان الأخرى.
ج ـ إن الاحتكام إلى منطق "السوق الحرّة" هو من دون شك العنصر الأهم في تحقيق التخصيص الأمثل للموارد. بيد أن هذا المنطق ليس قادراً وحده على توفير شروط التطوّر الاقتصادي ـ الاجتماعي المتوازن، التي لطالما حاولت الأدبيات الاقتصادية أن تحددها، كل على طريقتها، بدءًا من الفيزيوقراط والكلاسيكيين ومروراً بالكاينزيين والنقديين والحديّين، وانتهاء بالنيو ـ كلاسيكيين والنيو ـ ليبراليين.
د ـ إذا كان الغرب عموماً هو في طور التراجع عن مفهوم "الدولة الراعية" ـ وهو تراجع لم تحسم وجهته بعد ـ فإن ذلك لا يشكل سبباً كافياً لتعميم هذا التراجع على دول العالم كافة، دونما نظر إلى الفوارق الهائلة بين مستوى تطور البنى الاجتماعية في كل من البلدان الصناعية والبلدان النامية. فالتراجع يحصل في الغرب انطلاقاً من مستوى للبنى الاجتماعية، أين منه البنى الاجتماعية السائدة في بلداننا النامية.
هـ ـ في ظروف لبنان بالذات تبرز الحاجة الماسة إلى تعزيز دور الدولة في الحياة الاقتصادية ـ الاجتماعية، لا بسبب خصوصية تركيبة هذا البلد فحسب، بل لضخامة التحولات الاجتماعية التي عصفت بهذا البلد خلال سنوات الحرب. بيد أن المسألة الأهم المطروحة في هذا الإطار، تبقى الآتية: أي دولة؟... دولة المحاصصة الطائفية والمذهبية ـ المحكومة سواء بأحلام الحنين إلى ماضي تغيرت معطياته ومقوماته أم بأحلام استبدال غلبة طائفية مكان أخرى ـ أم الدولة المدنية ودولة القانون؟...
د. إيلي عسّاف
أيّها الحاضرون الكرام،
البحث في تاريخ النظام الاقتصادي في لبنان منذ نشأته حتى يومنا هذا، سيتطرق إليها زملائي . فتاريخ هذا النظام الذي نشأ وترعرع منذ منتصف القرن التاسع عشر والذي ساهم بنشأته وتبدله من نظام إقطاعي إلى ليبرالي إلى رأسمالي حرّ. ظروف سياسية بدءًا من سيطرة العثمانيين مروراً بالانتدابات وما رافقها حتى يومنا هذا حافل وغني، ولكن اسمحوا لي أن أنظر إلى واقع ومستقبل هذا النظام مع الحرص والتأكيد على أن الغوص في ماضيه مسألة جوهرية وأساسية لرسم المستقبل.
أيّها الحاضرون،
السؤال الأول الذي يطرح نفسه هو التالي: ماذا يعني نظام اقتصادي وهل هناك من نظام اقتصادي أمثل أو أفضل إذا جاز التعبير لبلدنا؟... التعريف المبسط لنظام اقتصادي هو الإطار التنظيمي والتشريعي بمجمل النشاطات الاقتصاديّة.
نأتي إلى النظام الاقتصادي الأمثل. بنظرنا النظام الأمثل إذا كان هناك من نظام أمثل يكفي في إيجاد الإطار التنظيمي والتشريعي الذي ينطبق أو يطابق البنى الاقتصاديّة ـ الاجتماعيّة للبلد. من هذا المنطلق سأسعى إلى تحليل نظامنا الحالي الذي ارتضاه اللبنانيون وهو "نظام الاقتصاد الحرّ" والذي يكفله الدستور للولوج من ؟ إلى تصور مستقبلي لهذا النظام.
هل حقاً هذا النظام هو نظام حرّ؟... هناك من شروط لكي نصف بأن النظام هو نظام حرّ وهذه الشروط هي:
1ـ أن يرتكز الاقتصاد على آلية السوق أي على قاعدة أو قانون العرض والطلب في المبادلات... سوق السلع، سوق الخدمات، الأسواق المالية...
2ـ أن تكون هذه القاعدة غير مقيدة أي أن تكون هناك منافسة مشروعة بين العملاء الاقتصاديين... الشاري والبائع... (إزالة الوضعيات الاقتصادية).
3ـ أن تحترم الملكية الفردية ـ الخاصة.
4ـ أن تحترم حرية التعاقد والعمل.
5ـ أن تحترم حرية تنقل الأشخاص والبضائع والرساميل...
6ـ أن تحترم حرية الاستثمار وتأسيس الأعمال وتحويل الأموال.
من الواضح أنّ هذه الشروط بأغلبيتها متوفرة في النظام اللبناني. ولكن هناك بعض الانحرافات والاستثناءات... إذا نظرنا إلى آلية السوق نرى بأنّ القاعدة هي قاعدة العرض والطلب التي تسيّر آلية هذه السوق. ولكن في الشرط الثاني نرى بأنه وفي بعض الأحيان وفي بعض الميادين هناك قيود أو في معوقات تحدّ من عملية المنافسة وبالتالي تنشأ وضعيات احتكاريّة من شأنها أن تؤثّر سلباً عل