إدريس الواغيش-خرافة موت اللغة العربية- الجزء الثاني
خرافة موت اللغة العربية : الوجه الخفي في صراع العرب مع الغرب – الجزء الثاني -
إدريس الواغيش
05 أكتوبر 2009
يشير الأكاديمي المغربي عبد الهادي بوطالب في كاتبه ( الحقوق اللغوية)، إلى أن نصف اللغات الموجودة راهنا ، والتي يقدر عددها ب6700 لغة ، نصفها يتكلم به أقل من 10000 شخص فقط. وذكر الباحث نفسه أن موت اللغات في إفريقيا، أقل منه في أمريكا ، حيث يتسع حجم انقراض اللغات المحلية.
إلا أنه يجب التفريق بين (موت) اللغة العربية ، و( قتل) ها. فالقتل كما تقول ابتهال قدور من سوريا : ” هو فعل اعتداء نقوم به نحن ، وقد يأتي هذا القتل على عدة أوجه وصور. كأن يكون نتيجة إهمال متعمد ، أو تجاهل لأبرز مقومات الحفاظ على حياة اللغة واستمراريتها. أما الموت ، فهذا يعني أن اللغة العربية ، فيها من بذور المرض والضعف ، ما هو كفيل بإيصالها إلى مرحلة الموت…”.
ومن المؤسف أن نسمع ، ونقرأ في كثير من المنابر عبارة ” موت اللغة العربية “. بكل ما تحمله هذه العبارة من تحامل قد يكون مقصودا، و قد يكون لأغراض دنيئة أحيانا، وضيقة أحيانا أخرى. أما كلمة (انتحار) فهي الأخرى دالة معنويا، لأنها تحمل المسؤولية للشعوب الناطقة بها (مثقفون ، صحفيون ، فنانون ، سياسيون….). البعض الآخر يذهب إلى أبعد من ذلك ، ويحذر من انقراض اللغة العربية ، وإخراجها من الأمم المتحدة ، وظهور العديد من اللهجات بدلها. أما اللغويون العرب ، فيعيشون مأساة مزدوجة. ولا يتوانى البعض في العمل ليل نهار للقضاء على العربية الفصحى ، واستبدالها بعاميات الخليج والشام ومصر والمغرب العربي. لذا قد لا نفاجأ غدا بظهور جرائد ومجلات جهوية ، وبلهجات جهوية في الجنوب والشرق ( للمغرب الأقصى) مثلا ، أ و مناطق (دكالة) و( جبالة)، وتنقسم الريفية في جبال( الريف المغربية) ، أيضا إلى ريفية في الناظور ، وأخرى بلكنة مغايرة في جهة الحسيمة!!.
الدكتور محمد داوود ، أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية ، وعضو مجمع اللغة العربية ، وأحد أبرز المهتمين باللغة العربية ، يؤكد في حوار له مع خالد السيد بجريدة الراية القطرية أن : ” علماء الصوتيات ، أكدوا بأنه يوجد الآن مابين 5000 إلى 6000 لغة ، طبقا لنوعية التصنيف واحتساب اللهجات ، وأن مابين 250 إلى 300 لغة تنقرض سنويا ، بفعل سرعة التواصل واستعمال اللغات الأجنبية العالمية ، وهذا ما يسمى بالغزو الثقافي”. مما يؤكد أن ” القرن الحالي سيشهد اندثار حوالي 3000 لغة ، أي نصف لغات العالم!”. ويضيف محمد داوود أن اللغة العربية لم تعد لغة عالمية مثل الروسية والصينية والاسبانية والانجليزية والفرنسية ، إضافة إلى عوامل أخرى من بينها عدم استعمال ممثلي الدول العربية اللغة العربية في الأمم المتحدة ، وتفضيل لغات أخرى.
وقد أكدت تقارير لمنظمة اليونسكو أن عددا من اللغات في طريقها للانقراض ، من بينها العربية “. فيما ذهب اللساني البريطاني (ديفيد كريستال) في أشهر كتاب له بعنوان : (موت اللغة) أن جميع الشروط متوفرة في اللغة العربية التي يهددها الانقراض ، كغيرها من اللغات في وضعها الحالي. وفي مقدمتها انتشار لغة الغالب في بلاد المغلوب ، وحلولها محل لغته الأصلية التي هي من مقومات الأمة ، كما يوضح ابن خلدون في مقدمته.
ويرى خبراء و تربويون عرب ، أن العولمة واللغة الانجليزية ، تعتبران أكثر خطورة على اللغة العربية من الاستعمار. حتى أن رئيس الجمعية الدولية للطب النفسي (أحمد عكاشة) حذر من موت اللغة العربية بعد نصف قرن!. في حين يأمل عبد السلام المسدي أن تكون اللغة العربية من بين اللغات العالمية التي سيكتب لها البقاء. وربما قد تشكل مستقبلا أخطارا حقيقية على دعاة العولمة الثقافية وسياساتهم لعدة أسباب :
- احتمال تزايد الوزن الحضاري للغة العربية في المستقبل المنظور، فاللسان العربي هو اللغة القومية لحوالي 270 مليون ، أو يزيد.
- اللغة العربية مرجعية اعتبارية لما يفوق المليار مسلم غير عربي ، يتوقون إلى اكتساب اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم.
ويضيف عبد السلام المسدي أنه : ” لأول مرة في تاريخ البشرية ، يكتب للسان طبيعي أن يعمر حوالي تسعة عشر قرنا ، محتفظا بمنظومته الصوتية والصرفية والنحوية “.
فإذا كانت العولمة تسعى إلى ( أمركة) كل شيء ، و(هنتنغتون) يشير ضمنيا إلى تعاظم خطر العربية ، فإنه كان طبيعيا أن يتواطأ الخطاب الثقافي و السياسي الأمريكي ، مع أداته الإعلامية ليخلف صورة مفتعلة من الصراع بين الحضارة الغربية والإسلام ” يقول المسدي.
” الحديث عن العربية يتجاذب بين تيارين أحدهما متشائم والآخر متفائل. أما التشاؤمي فينطلق من تهديد الإنجليزية على نحو خاص. أما التفاؤلي فينطلق من وقائع لسانية موثقة ، كالإقبال على تعلم اللغة العربية ، والأدب العربي ، وارتباط العربية بالقرآن الكريم .” يقول الدكتور وليد العناني. فالعربية ليست مرتبطة بالعرب وحدهم ، ولكن بالمسلمين جميعا في جميع أنحاء المعمور، وهذا واق لها من الانقراض ، كما يدعي البعض ويروج له مدجنو العاميات عبر خريطة العالم العربي ،لأغراض أصبح يعلمها الجميع. ولذلك تضاف العامية إلى باقي الأخطار المهددة للغة العربية الفصحى ، والتي بدأ يكتب بها من هب ودب بدعم من جهات نافذة ، أحيانا سياسيا واقتصاديا ، أو من جهات غير معروفة ، قد تكون داخلية أو خارجية ، لكنها تطبق نفس الأجندة ، وتنتظر هي الأخرى (موت) اللغة العربية الفصحى ، لتحل محلها العامية بحجة واهية وهي قربها من الأذن العربية ، وسهولة التواصل بها. سوف لن يكفوا عن زرع السموم بين حقولنا ، والبحث عن أجراء لرعاية مزروعاتهم. فمن حرب الحضارات إلى حرب الأديان ، إلى التلويح بموت اللغات ، والعربية تحديدا ، بصفتها لغة حية وعالمية ، معتمدة في أكثر من محفل دولي وعالمي ، وينتظرها مستقبل ، بل تهدد هذه اللغات على المدى المتوسط والبعيد، حسب الكثير من الباحثين والمتتبعين.
أين يكمن الخلل إذن؟. هل في اللغة؟ أم في أصحاب هذه اللغة ؟ ، والمقصود هنا العربية بالذات. لماذا كانت أيام النهضة لغة للعلوم والحضارة ؟ والآن أصبحت مهددة بالموت؟.
بالنظر لكرونولوجيا الأحداث ، سنعرف لماذا أصبحت (ديدي) أغنية عالمية ، وكيف رحل ملحن( راحلة) ، أشهر وأجمل أغنية مغربية ، مجهولا ، لا يعرفه حتى أهل بلده ؟!. كيف كنا نجتمع قديما على ( رباعيات الخيام ) ، وكيف أصبحنا متفرقين على ( شخبط …شخابيط ) ؟.
يقول الخبراء والمحللون ، أن من بين العوامل المهددة للعربية (بالانقراض)، عدم وجود مترجمين أكفاء في المحافل الدولية!. هنا لابد من وقفة ، ولو قصيرة للتساؤل : أليس هذا هو الانتحار بحد ذاته؟. هل ينقص العرب المال لتوظيف مترجمين أكفاء؟. هل ينقصنا من يتقن اللغات الحية ، ونحن بشهادة الجميع من أمهر الشعوب في تعلم اللغات؟(أطفال (ساحة جامع الفنا) الساحة السياحية الشهيرة بمدينة مراكش في المغرب يتكلمون أكثر من خمس لغات). وإلا لكان العرب قديما ، وجدوا صعوبة في التعامل التجاري ، بالنظر لموقعهم في ملتقى الحضارات ؟. أو مع الشعوب التي احتكوا معها عن طريق التجارة أو الفتح. وهذا ابن بطوطة العربي أشهر الرحالة على الإطلاق يجوب السند والهند ، ولا يجد أية صعوبة في تعلم لغات أهل الشرق الأقصى والأدنى . ثم لننظر إلى ( قناة الجزيرة) القطرية ، كيف أنها بإمكانات دولة واحدة ، أو لنقل شركة واحدة ، تستطيع توفير جيش من المترجمين الفوريين ، فما بال (23) دولة بغناها وفقرها ؟. وذكر قناة (الجزيرة) هنا للاستشهاد فقط ، وليس للدعاية المجانية ، لأنها في غنى عن ذلك. وهذا يعرفه الجميع.
في ختام أيام دراسية لمكتب شؤون الإعلام لسمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان بعنوان “الظاهرة اللغوية ” خلص المهتمون إلى : ” أن موت اللغة يختلف عن موت الكائنات البيولوجية ، لكونها قابلة للانتشال من هذا الموت ، وقابلة للانبعاث من جديد بالقرار السياسي المعزز بجهود العلماء والخبراء المختصين ، وبالوسائل المادية واللوجيستية الضرورية “. وذهب آخرون أنه في حالة موت اللغة العربية ، التي يتمناه لها الكثيرون ، ويعمل من أجله جيش من المغفلين العرب ، لن تجوز صلاة الجنازة عليها ، لأن الصلاة لا تجوز إلا بالعربية! .
نحن مع الأسف نتعامل مع اللغة العربية كما نتعامل مع شرف بناتنا ودماء أبنائنا. والدليل أن الكثيرين من الإعلاميين يتعاملون مع اللغة ، كما يتعاملون مع (العاهرات) ، وكأن لا قدسية لها. وهو ما يسميه البعض ب( الدعارة اللغوية في الإعلام العربي). فلا عجب إذن أن نسمي ابن رشد ب (موريزكو) وابن سينا ب( أفيسين). في حين لازالت أوربا وإسبانيا تحديدا ، تحفظ عن ظهر قلب أسماء ” غرناطة ” (كرانادا) وجبل طارق بصيغته الأصلية (جيبرال طار). فما ذنب اللغة العربية ، إذا كان العجم يصونونها والعرب يمسخونها ؟. فأصبحت المستعمرات (مستوطنات). ونحمد الله أن فرنسا أخرجت قسرا من المغرب العربي ، وإلا كنا نسمع اليوم ” مستوطنات فرنسا بالمغرب العربي”.
هكذا، وفي ظل هذه الهجمة ، أصبحت المقاومة إرهابا ، والإبادة الجماعية أعمال عنف!!. هي معركة متعددة الأبعاد ، تأخذ أشكالا متعددة الأوجه من ضمنها الحرب اللغوية ، التي يراهن عليها الغرب ، وتلقى دعما وسندا من قوم يبحثون عن حتفهم بأيديهم!.
قد نتساءل : لماذا التركيز على اللغة العربية فقط ، من دون اللغات الأخرى ، كالفرنسية مثلا المهددة أكثر من غيرها ؟. وماذا عن موت الفرنكوفونية الذي تغنى به الكثيرون؟. وتنبأ له أكثر من منظر؟.
موت اللغة العربية ، هو حتما موت للعرب جميعا. فهل ننتظر موت أكثر من 300 مليون عربي دفعة واحدة؟. وإدخال ما يناهز المليار مسلم إلى غرفة الإنعاش؟. أم يكون الالتجاء إلى المسكنات والمضادات الحيوية لتأجيل موت محقق؟.!
يرى الأديب الإسباني (كاميليو جوزي سيلا) الحائز على جائزة نوبل للآداب ، أن لغات العالم في طريقها للتناقص ، ولن يبقى إلا الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية ، واستثنى الفرنسية. فلماذا سكت الجميع ، ولم يبتهج الكثيرون لموت الفرنكوفونية ، كما تنفسوا الصعداء عندما لمح البعض إلى موت العربية ؟. فبعد (موت الأدب) ل: (ألفين كرنان) هل هي حقيقة أم نبوءة ؟. يتساءل أحمد سماحة من السعودية. ميشيل فوكو في بحثه : (ما هو المؤلف؟)، ورولان بارث في (موت المؤلف) ، يؤكدان معا على أن المؤلف مجرد فكرة تاريخية صاغتها المعتقدات الديموقراطية في المجتمع الرأسمالي. بينما موت اللغة ، أمر مختلف تماما ، ويتطلب توفر عناصر قد تجتمع هنا، ويستعصي جمعها حتى بالقوة هناك.
اللغة العربية يتحدث بها ما يناهز 300 مليون شخص ، وتأتي في المرتبة السادسة عالميا ، بعد اللغة الصينية والإنجليزية والهندية والإسبانية والروسية. ورغم ذلك يؤكد د. علي القاسمي في فتوى جديدة له : ” أن العربية ليست مقدسة ، ولم يضمن الله حفظها!. وسياسات الدول العربية تحقق نجاحا باهرا في القضاء عليها “. بينما يرى عالم الأنتروبولوجيا الدكتور أحمد أبو زيد : ” أن اللغات الضعيفة ، تختفي بمعدل لغة واحدة كل أسبوعين تقريبا ، وأن العولمة لها دور كبير في موت اللغات “. ويؤكد أن هناك إشكالية في التعاطي مع اللغة العربية ، لأنها لغة القرآن الذي يحفظه الله تعالى. لكن ذلك لم يمنع بعض الباحثين من القول أن موت اللغات ، يمكن أن ينسحب على اللغة العربية ، بحصرها في مجال العبادة والتعلم فقط “.
ولا عجب إن بدأنا نلاحظ أن إهانة اللغة العربية أصبح سلوكا عاما و(عاديا) في المجتمعات العربية ، وأصبحت الكتابة بالعامية في المقالات والإعلانات، وفي تقديم البرامج التلفزيونية والإذاعية ، بدعوى إقبال الجمهور على قراءتها!. فلماذا الإقبال المبهر على قناة (الجزيرة) يتساءل الكثيرون ، لو كان الأمر كذلك؟. أليس إذاعيوها ومراسلوها وإعلاميوها من يتفنن في استخدام الفصحى ، وملايين المشاهدين مشدودين إلى شاشتها في كل البيوت والمقاهي عبر العالم؟. أين الخلل إذن؟. هل فينا ، أم في لغتنا؟. أم أن المسألة فيها ما فيها من دسائس ؟ وأن ( العذر أكبر من الزلة ) كما يقال؟. لماذا يفهم هذا الجمهور العربي الكبير والأمي الفصحى هنا، ولا يفهمها هناك؟.
إلياس خوري يقول في جريدة( النهار) اللبنانية أن : ” النظام العربي أخرس ، وأنه لا يمكننا الحديث عن موت اللغة العربية ، ولكن موت الصوت العربي ، الذي تجسده الأنظمة ، وتحوله صمتا قاتلا لا معنى له “. هذا الموت هو الأكثر إيلاما وقسوة. ربما كان لموت الاتحاد السوفييتي أثره البالغ على صمت الصوت العربي ، إن لم نقل موته!. انتشرت ( الميتات اللغوية ) بشكل فظيع ، ويبدو أن العالم يستعد للإعلان عن موتنا السريري ، ونحن ننتظر إعلانا رسميا من اليونسكو أو الأمم المتحدة لنصدق ذلك ، فيصبح الموت أمرا واقعا ، وعضويا هذه المرة!!.
إذا كان القرآن الكريم هو معجزة الرسول (صلعم)، وقد نزل بلسان عربي فصيح ، فهل بهذا المعنى ستموت معجزة الرسول والنبي محمد (ص)؟. أترك الجواب لمن يدعون موت اللسان العربي الفصيح، أو اللغة العربية بصيغة أخرى.