حي الميدان في دمشق - وصفي يوسف عفلق
حي الميدان في دمشق
وصفي يوسف عفلق
هو حيّ الثورة والجهاد ضد أيّ أجنبي مُحتل. وهو من أكبر الأحياء في دمشق. كنّا نسكن في (حارة) أو (زقاق) يُسمّى زقاق الموصلي وهو يقع في منتصف حي الميدان تقريباً، يتصدّر مدخله جامع الموصلي، وأغلبية سكانه من المسلمين. أما بيتنا فيقع في مدخل الحارة تقريباً، ويبعد قليلاً عن بيوت المسيحيين الذين كانوا يقطنون في الحارة حيت توجد كنيسة أورثوذكسية وأخرى كاثوليكية في زقاق القرشي.
أما منطقة باب المصلّي فيوجد فيها كثير من المسيحيين من الطائفتَين الأرثوذكسية والكاثوليكية، حيث توجد كنيسة (مار جرجس) للكاثوليك. وفي القسم الداخلي من باب المصلّي يقطن بعض الدّروز. ويطيب لي أن أذكر أهل الحارة بالخير والشهامة، وما أن يُفتح باب بيتنا وتطُلّ منه المرحومة والدتي، حتى يتبارى كلّ مارٍ في تلك اللَّحظة لتقديم الخدمات للوالدة قائلين: ( أأمري خالتي أم ميشيل).
أما شباب العائلات المعروفة في حيِّ الميدان، فقد التفّوا حول (الأستاذ) بالإضافة إلى آبائهم الذين أحبّوا وأيّدوا ميشيل (عفلق) إكراماً له ولوالده الذي كان صديقاً صدوقاً لِكبار أهل الحيّ الذين كانوا يزورونه في بيته ويطلبون منه (الكبّة) التي كانوا يقولون عنها: (إنها لا تُسْلِم!)
وقد ظهرت محبّتهم جميعاً لميشيل (عفلق) عندما رشّح نفسه في انتخابات عام 1943 (حيث كان الانتخاب يجري على درجتيْن)، إذ نزل كبار القوم بالمئات لينتخِبوا ميشيل عفلق، ولكن الحزب الوطني (الكتلة الوطنية) آنذاك فعل ما فعل لكي لا يُسمح لميشيل أن ينجح في الانتخابات...
وفي انتخابات عام 1947 كان التزوير واضحاً جداً إذ كان أحمد الشرباتي وزيراً للدفاع، فألبس أفراد الجيش لِباساً مدنياً وجعلهم يُصوّتون! وكان قائد الدّرك (عبدالغني العضماتي) يذهب إلى مراكز الانتخاب ليوصي اللجان بأن يلغوا اسم ميشيل ويسجّلوا اسماً آخر بدلاً عنه.. وهذا كنت رأيته وسمعته بنفسي، إذ كنت مندوباً عن أخي في أحد المراكز.
دَرَس ميشيل في صغره في مدرسة (الآسيّة) الأرثوذكسية وسمعت من الوالدة أنّ أخي ميشيل كان في الثانية عشرة من عمره، عندما ألّف قصيدة وألقاها في حفل مدرسي، وهي مُكوّنة من ستين بيتاً. وقد كان البطريرك حاضراً فالتفت إلى والدتي قائلاً: " ابنك هذا سيكون له شأن كبير، عندما يصبح شاباً".
وكان يكتب زاوية يومية في صحيفة (ألف باء)، وذلك أثناء دراسته في مكتب عنبر، وعندما نجح في امتحان البعثة الدراسية إلى فرنسا، قال له صاحب الصحيفة المرحوم يوسف العيسى:" أترك البعثة وابقَ هنا لتستمر بكتابة زاويتك وسأدفع ضعف ما كنت أدفعه، (وكان المبلغ يومياً 5 ليرات ذهبية). فرفض ميشيل مفضّلاً التعمق في الدراسة. وكان قبل أن يذهب إلى باريس يدرس الحقوق، وكذلك تركها ليدرس التاريخ في فرنسا.
وفي فرنسا تعرّف على بعض الشباب من أقطار عربية مختلفة، وكان معه في الدراسة المرحوم الأستاذ صلاح البيطار يدرس الفيزياء. وفي أحد الأيام زارنا المجاهد الدمشقي المعروف فخري البارودي وقال لوالدي:" أكتب لابنك ميشيل كي يكفّ عن النشاط العربي والسياسي، لأن الفرنسيين قد يؤذونه". ولكن كل ذلك لم يمنعه من الاستمرار في نشاطه.
عاد ميشيل إلى دمشق بدعوة من والدتي لأنها أرادته أن يُعاين والده، قبل أن تداهمه المِنية. وقد توفي والدي في تشرين الثاني 1933. وكان أخي ميشيل قد استلم عمله كمدرّس للتاريخ في مدرسة التجهيز الأولى. وكان يُبشِّر بالفكر القومي أثناء التدريس ويُحرِّض الطلاب ضد الانتداب الفرنسي، إلى أن طفح الكيل لدى المستعمر فاعتقل ميشيل. وعلى الأثر قامت الإضرابات والمظاهرات الطلابية مطالبة بالإفراج عنه. وقد تمّ ذلك بعد ثلاثة أسابيع. هذه الحوادث جرت خلال الحرب العالمية الثانية وأنا أذكرها تماماً.
وبعد عشر سنوات من عمله التدريسي فُصل من الوظيفة هو والمرحوم صلاح البيطار لأنهما رفضا الرضوخ للمستشار الفرنسي. عندها، اضطر إلى التدريس في معاهد خاصة ـــــــ لأنّه كان مسؤولاً عن عائلة كاملة مؤلّفة من 6 أفراد! وقد كان مُعارضاً للحكم الوطني الذي يحتكر كل شيء.
بدأ العمل الحزبي القومي منذ عام 1938 إذ أنشأ حركة أسماها (حركة الإحياء العربي). وكنّا نقوم بطبع النشرات في بيتنا في حارة الموصلي، وكنا لا ننام قبل أن ننهي عملنا، ثمّ نتوزّع في الأحياء لِلَصق النشرات ودسّها داخل البيوت.