كلمة الكاتب السوري انطون مقدسي - تعليقاً على الحوار الذي أجراه "الملحق" مع رياض الترك
حـول دعـوة ريـاض الـتـرك الـى الـديـمـوقـراطـيـة
واحـتـرام سـيـادة لـبـنـان فـي مـوقـف كـاتـب سـوري
مـن لــه أذنـــان ســــامـعــــتـان فـــلـيــســـــمـع
أنـطـون مـقـدسـي
تعليقاً على الحوار الذي أجراه "الملحق" مع رياض الترك (عدد 22 كانون الأول 2002)، ننشر كلمة الكاتب السوري انطون مقدسي
تحية الى رياض الترك
عندما قرأت في الحوار الذي أجراه السيد محمد علي الأتاسي مع رياض الترك ما يأتي:
- بعد خروجك المتجدد من السجن قدمت اعداد غفيرة من الناس من مختلف المحافظات والمشارب لتهنئك بالحرية. - لم أتوقع هذا الاحتضان والمحبة. وفي رأيي هناك عطش للحرية...
لا ادري لماذا مرت في خاطري تلقائياً اسطورة المفتش الاكبر في رواية "الأخوة كارامازوف" لدوستويفسكي.
تقول الاسطورة (ألخص من الذاكرة فعذراً اذا لم أكن دقيقاً بما فيه الكفاية): كان الراهب رئيس مجالس التفتيش في قصره في مدريد يستمتع بسيطرته على البلاد الاسبانية. وها هو يشعر فجأة بأن ثمة صمتاً كاملاً يلف المدينة الصاخبة. عندها لبس على عجل بذته الرسمية ونزل الى الشارع الرئيسي فرأى يسوع المسيح قادماً من بعيد يبارك الجموع التي احتشدت على جانبي الشارع تصلي خاشعة، لا يجرؤ اي من افرادها على أن يقطع الصمت الإلهي بكلمة. فلم يتردد بل مشى بخطى وئيدة ثابتة الى ان صار وجهاً لوجه امام المسيح فقال له بلهجة الواثق من نفسه: هذه الجموع تريد خبزاً لا محبة.
اشارة واحدة مني كافية لأن تنهض فتصلبك مرة ثانية. فما كان من يسوع المسيح الا ان تقدّم نحو الراهب وقبّله من شفتيه واختفى. وتقول الاسطورة ان شفتي الراهب لا تزالان ملتهبتين ناراً الى اليوم.
ماذا قال الحاكم الراهب ليسوع المسيح بالضبط؟ قال: البركة لا تترجم بأرغفة. المحبة لا يمكن إبدالها في السوق بدنانير.
المفترض في الاسطورة أنها من القرن السادس عشر، يوم كانت تهمة مارق في الدين تستدعي فوراً حرق الشخص حياً في الساحة العامة.
الرواية من اواخر القرن التاسع عشر، يوم كانت النظريات الاشتراكية قد عمّت اوروبا الغربية وانصارها يتزايدون في روسيا القيصرية التي ستتحول بعد ثلاثين او اربعين عاماً الى اتحاد سوفياتي.
الخبز رمز القاعدة المادية للوجود الانساني.
ودوستويفسكي المؤمن مع كثيرين بأن روسيا الارثوذكسية هي التي ستخلّص العالم، لا بد له من محاربة النظريات الماركسية على طريقته وبأسلوبه.
"الخبز ام المحبة"، ثنائية احراجية اليوم وغداً كما في الامس القريب والبعيد. أخذت وتأخذ صوراً كثيرة وتبقى هي هي.
ويمر في خاطري، دوماً من طريق التداعي، زكي الأرسوزي، مع علمي الاكيد أنه لا يوجد اي عنصر مشترك بينه وبين رياض الترك، لا بل قد يكون كل منهما نقيض الآخر. ربما خطر في بالي زكي الأرسوزي وأنا أفكر في رياض الترك لأني قلت يوماً وأقول: طالما يوجد في هذا الوطن أناس من امثال زكي الأرسوزي وجورج حبش ونصر حامد أبو زيد ورياض الترك، فلا بد ان نتفاءل. ثمة حد أدنى من التفاؤل ضروري للمثقف كي يقرأ ويكتب.
عرفت زكي الأرسوزي طوال ثلاثين عاماً (1938-1968). عشنا منها ثلاثة في منزل واحد، غرفتي بجانب غرفته. ويوم توفي، حمله على الاكتاف أكابر القوم ومشى في مأتمه اركان الدولة كلهم، وسط حشد هائل من البشر. كم كنت أود لو تمكنت يومها من أن ألقي عليه نظرة وداعية فلم أتمكن، لا بل أُجبرت أنا وغيري على البقاء بعيداً جداً من المكان حيث واروه. لكني لاحظت انهم عادوا مطمئنين الى بيوتهم. فالرجل الذي كان "ضميرهم الشقي"، يحاسبهم على كل بادرة لا ترضيه، قد ذهب ولن يعود ابداً.
كان زكي الأرسوزي كسقراط وكحكماء الاغريق الآخرين، يتكلم مثلهم في الساحات العامة التي هي اليوم المقاهي. ساحته في حمص مقهى الروضة، وفي حماة مقهى أبي الفداء، وفي حلب مقهى بالانجيان، وفي دمشق مقهى الهافانا الذي أمّه طوال خمسة عشر عاماً، يومياً قبل الظهر واحياناً بعد الظهر. وأصغى الى أحاديثه مئات وربما ألوف البشر. ولكنهم لم يتجمعوا حوله ليودّعوه كإنسان متميز الا يوم وفاته.
بعدها كلفت قيادة حزب البعث لجنة نشرت مؤلفاته الكاملة التي شملت حتى المقالات التي اعتذرت الجرائد في حينه عن عدم نشرها.
قلت: ما عدد الذين قرأوا هذه المؤلفات؟ وما الاثر الذي تركته في نفوسهم؟ كنت أود لو أنهم قرأوا "متى يكون الحكم ديموقراطياً؟". فالرجل استعاد في هذا الكرّاس عن قصد او عن غير قصد، لا ادري، ثنائية "المحبة والخبز" في ثنائية "الحرية والمال".
كان الأرسوزي انساناً نبيلاً حراً، صادقاً مع ذاته ومع البشر وفي امكانه ان يقول مع يسوع المسيح "من منكم يبكّتني بخطيئة؟". أهمل، اضطهد، جاع. ويوم انتبهوا اليه كان قد بلغ من العمر عتيّا. اعتنوا به، نعم، ولكن وضعوه جانباً. رأيته للمرة الاخيرة في مشفى المواساة قبل وفاته بأقل من عشرين ساعة، في إغفاءة مستمرة تحاصره فلا يستيقظ الا لدقائق. وقفت بجانب سريره، ناديته، ولما سمع صوتي بدا كأنه يستيقظ من سُبات عميق. يومها أدهشتني براءة الطفولة التي لا تزال تشع من عينيه كما كان يوم عرفته لثلاثين عاماً خلت في مقهى جنينة العائلات الصيفي. في الساعات الاخيرة من حياته كان يوم ترك انطاكية وعاد الى دمشق. لم يستسلم ولن، الا للذي خلقه.
هكذا هو رياض الترك، ما ان خرج من السجن حتى رسم لنا "مسار الديموقراطية". بين "متى يكون الحكم ديموقراطياً؟" و"مسار الديموقراطية" نحو نصف قرن. تبدّل العالم خلالها بما يعادل قرنين واكثر. تتعاقب القرون وتبقى الحقيقة الانسانية هي هي. تتبدل الازمنة ولا تتبدل: اذا كنت حراً، فلا يمكنك ان تضعني تحت الوصاية. العبد يرى الناس عبيداً، والحرّ يرى الناس احراراً.
هذا يا سيدي عصر "المفتش الاكبر". ذاك المفتش تجاوزت سلطته قليلاً حدود اسبانيا. هذا يدّعي اليوم ان له من القوة العسكرية ما يمكنه من ان يُشعل حربين واكثر ويربحهما. صحيح. ولكن هوية "المفتش الاكبر" هي هي، أكان في قمة الهرم الارضي أم في بقعة من بقاعه. كلاهما وسيلته لمعرفة الناس "البصّاصون". سيّان كان البصاص عميلاً مأجوراً أم طائرة بدون طيّار. المفجع ان كلاً منهما يستخدم الاجهزة السرية والسجن والتعذيب والرعب او الارهاب اذا شئت لتكوين مجتمعه، سمسار بوش جونيور يجب ان يكون كيسنجر. استبدله ربما لاعتقاده ان زمن التسويات قد مضى وانقضى. هذا العصر هو عصر الاساطيل البحرية والجوية والبرية التي تلغي خريطة منطقة من العالم لتضع محلها اخرى (أكثر ضماناً لمصالحنا).
شارون هو سيّاف بوش. قال له: اليوم عليك ان تذبح الفلسطينيين، وعليّ الباقي. والحكام يا سيدي، على دين حاكمهم، كل منهم جورج بوش في إقطاعه.
يقول رياض الترك في حديثه مع محمد علي الأتاسي: "إن خطابنا ومن فترة طويلة يختلف عن خطاب الاحزاب الشيوعية التقليدية وعلينا ان نعمل على تطويره. ومن يقول اليوم بديكتاتورية البروليتاريا في سوريا هو كمن يحارب طواحين الهواء".
أجل في سوريا وغير سوريا.
لقد انتهت الماركسية ليعيش كارل ماركس الفيلسوف والعالم الاجتماعي الذي دخل تاريخ الفلسفة وتاريخ الفكر الاجتماعي من ابوابه العريضة لينضم الى ديكارت ولايبنتز ومفكري عصر الانوار من امثال فولتير وروسو وديدرو وغيرهم.
يأسف بعض المفكرين العرب لأننا لم نتمكن من أن نكوّن لذاتنا عصر انوار. قلت: لم تتمكن البورجوازية السورية التي بدأت تتكون عام 1943 من توطيد اركانها حتى تنشأ مقابلها طبقة عمالية لها دورها في تطوير الحياة الاجتماعية. لا بل ان الحكم الشمولي وأد بورجوازية مترسخة الجذور في مصر، وعزل الاقطار العربية بعضها عن البعض الآخر. فكل قطر ينطوي على ذاته ليدافع عن مصالحه التي هي مصالح الفئة الحاكمة. فثمة تفتيت للطاقات العربية قطرياً وعلى مستوى الوطن العربي. بهذا انتقلنا من الثورة الصناعية الاولى الى الثورة الالكترونية وعصر العولمة والمصارف الدولية الكبرى والشركات العملاقة المتعددة الجنسية التي تتلاعب من النيويورك بخبز الفقراء في افريقيا وآسيا.
أخي الاستاذ رياض،
لم يكن غرضي من هذه التحية ان تكون عرضاً لصراع القوى العالمية، فأنت تقدّر هذا الصراع أحسن مني. ولكني أود ان اذكّر ببعض الحقائق الاساسية التي لا بد ان نتذكرها دوماً:
اولها، أننا أُقحمنا في الثورة الصناعية الالكترونية ولا نزال نعتقد ان التاريخ توقف عندنا في يوم من الايام. فكم وكم من العرب الذين يجتّرون الماضي اليوم ويحلمون بالرجوع اليه وهم يعرفون اننا في حاجة الى التكنولوجيا المتطورة وفي الدرجة الاولى الى تنظيم المجتمع بحيث يتلاءم مع هذه التكنولوجيا.
الحقيقة الثانية اننا اهملنا المشكلة الثقافية التي هي في الصميم من تكوين الانسان. فالانسان العربي يواجه العولمة بحصيلة ثقافية هزيلة الى حدّ يدفع الانسان الى اليأس من كل تطور ممكن في المستقبل. أليس من المفجع أنه منذ القرن الخامس للهجرة ومحنة ابن رشد، لم يظهر في الوطن العربي سوى مفكر واحد من مستوى عالمي هو ابن خلدون في القرن الثامن الهجري.
الحقيقة الثالثة، ان الحرية والديموقراطية والمحبة... هي ككل الامور الثمينة سريعة العطب. وكذلك عقل الانوار وانسانية الانسان. فالذي يدمرها يدمر ذاته. وتبقى هي هي تنادي:
مَن له اذنان سامعتان فليسمع.