زكي الأرسوزي - (1900-1968)
الموسوعة العربية
المجلد الأول >> الحضارة العربية>> التاريخ >> الأرسوزي (زكي-)
زكي الأرسوزي (-)
الأرسوزي (زكي -)
(1900-1968)
زكي الأرسوزي بن نجيب بن إِبراهيم مناضل ومفكر عربي سوري, ولد في اللاذقية لأب محام نشط في صفوف الحركة العربية, وأم من قرية أرسوز الواقعة على خليج اسكندرون شمال غرب أنطاكية.
وقد انتقلت الأسرة من اللاذقية إِلى أنطاكية وأقامت فيها زمناً. وفي سنة 1914 نفت السلطات العثمانية الأب وأفراد أسرته إِلى قونية (تركية), وهنا واصل زكي الأرسوزي الدراسة في مدرسة قونية وأتقن اللغة التركية. وفي سنة 1919 سافر إِلى بيروت, ودرس الفرنسية في معهد اللاييك, ثم عاد إِلى أنطاكية مدرساً للرياضيات في المدرسة الثانوية. وفي سنة 1924 عُيّن مديراً لناحية أرسوز, وبعد نحو سنة نقل وعين أمين سر دائرة المعارف في أنطاكية, وفي سنة 1927 سافر إِلى فرنسة موفداً لدراسة الفلسفة في السوربون في باريس, وفي سنة 1930 عاد إِلى أنطاكية مدرساً للفلسفة والتاريخ في المدرسة الثانوية. وبعد ثلاث سنوات نقل إِلى حلب بسبب من نشاطه القومي, ثم نقل إِلى دير الزور وسرّح من الوظيفة في سنة 1934.
شارك الأرسوزي في المعركة التي احتدمت للمحافظة على عروبة «لواء الاسكندرونة» [ر] فأسهم في قيادة المظاهرات وأسس جريدة العروبة. وعندما استلب الأتراك اللواء في سنة 1938 بناء على الاتفاق غير الشرعي بينهم وبين فرنسة, التي كانت الدولة المنتدبة على سورية آنئذ, غادر الأرسوزي اللواء إِلى دمشق مع من غادره من سكانه العرب وفيهم الكثير من أصدقائه وتلاميذه. وفي سنة 1940 انتقل للعمل مدرساً في بغداد ولكنه سرعان ما سُرِّح من الوظيفة لانتقاده المتكرر للحكم هناك, وعاد إِلى دمشق.
وأمضى في دمشق ما بين عامي 1941و1945 سنوات صعبة عانى فيها شظف العيش وقسوته, ولكن هذه السنوات وفرت له فرصة التفرغ لدراسة العربية, وكانت هذه الدراسة منطلقاً في تفكيره الفلسفي والقومي, واهتمامه باللغة العربية وعبقريتها.
وابتداء من سنة 1946 عين زكي الأرسوزي مدرساً للفلسفة والتاريخ في ثانويات حماه ثم حلب ثم في دار المعلمين بدمشق, واستمر في هذا العمل الأخير حتى إِحالته على المعاش سنة 1959. وقد منحه المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في الجمهورية العربية السورية جائزته التقديرية سنة 1967, أي قبل سنة من وفاته.
نذر زكي الأرسوزي حياته لقضية العروبة والدفاع عنها, وكان المعيار الذي يعتمده في الحكم على سلوك كل إِنسان عربي درجة الأمانة للعروبة, وكان في ذلك صريحاً ونقاداً, وكان إِلى جانب ذلك حريصاً باستمرار على أن تتحقق العدالة وعلى إِلغاء التمييز بين الناس من أي نوع كان. أما تدريسه فكان يغلب فيه أن يتمحور حول حق العربي في الحرية والاستقلال والثقافة والتعليم.
وقد اتجه تفكير الأرسوزي منذ سنة 1940 إِلى تأليف حزب عربي قومي شعاره بعث الأمة العربية ورسالتها إِلى العالم. وقد انضم إِليه عدد كبير من الطلاب الذين آمنوا بما كان يؤمن به. وفي سنة 1947 عقد المؤتمر التأسيسي الأول لحزب البعث, ولكن زكي الأرسوزي كان بعيداً عن المؤتمر, وآثر الانصراف إِلى التفكير الفلسفي القومي العربي الذي هو في القاعدة من بناء البعث, وكان كتابه الأول «العبقرية العربية في لسانها» المعبّر عن المنطلق الذي أخذ به.
كان الأرسوزي محباً للناس, وقد عرف عنه جلوسه طويلاً في مقهى مفضل لديه (واحد في حلب وآخر في دمشق) يحدث الأصدقاء والتلاميذ حديثاً يتصف بعذوبته وجاذبيته, أما الموضوعات المفضّلة لديه فكانت موضوعات اللغة العربية والقومية العربية والوحدة العربية والنظر النقدي إِلى الواقع العربي والنضال العربي.
ظل الأرسوزي موضع عناية بالغة من أصدقائه وتلاميذه في السنوات الأخيرة من حياته. وقد تألفت في دمشق بعد وفاته لجنة لتخليد ذكراه أقامت حفلاً تأبينياً, وعملت من أجل إِقامة تمثال له نصب فيما بعد في حديقة في حي المزرعة في دمشق سميت باسمه, كما عملت من أجل جمع آثاره ونشرها. وقد نشرت هذه الآثار ما بين 1972-1976 في ستة مجلدات, وفي مقدمة هذه المؤلفات :«العبقرية العربية في لسانها», و«رسالة الفلسفة والأخلاق», و«رسالة الفن» و«رسائل المدنية والثقافة» و«الأمة العربية: ماهيتها - رسالتها- مشاكلها», و«صوت العروبة في لواء الاسكندرونة» و«متى يكون الحكم ديمقراطياً», و«الجمهورية المثلى», و«التربية السياسية المثلى».
وفي استطاعة المدقق في مؤلفات الأرسوزي ورسائله وأحاديثه المعروفة في المناسبات القومية أن ينتهي إِلى أن للأرسوزي منحاه الخاص في رؤيته الفلسفية للكون والمعرفة والمجتمع والأخلاق والفن واللغة.
يذكر الأرسوزي في الحديث عن فلسفته العربية: أن مدخلها رحماني, وأن نهجها فني, وأن غايتها الذات, وأنها مستوحاة من الحياة. إِنها فلسفة عربية لأن أصولها قائمة في اللسان العربي, وجلّ عمل الأرسوزي كشف مكنونات هذا اللسان. وهي رحمانية المدخل لأنها قائمة على التجربة الإِنسانية التي تبدأ لدى الإِنسان مع الرحم, وموقع الإِنسان من الوجود هو موقع الجنين من رحم أمه حين يصير «المعنى صورة» وتحقق الحياة ذاتها بإِبداع العالم الطبيعي. وهو يرى أن هذه الفلسفة ليست قولاً نظرياً مجرداً, بل هي إِضافة إِلى ذلك, وقبل ذلك, عملٌ أي إِنها إِسهام الإِنسان في فعل إِنشاء الكون. ثم إِن منهج الفلسفة العربية فني: ذلك أن الفن تجربة رحمانية تقع أصولها في الحياة, وغرضها تأليف صورة شعرية قابلة للنمو, وفيها يُمثّل المستقبل بأسطورة, وتتفاوت دقة هذه الصورة ومداها بتفاوت مواهب الفنانين. وشأن الفن في ذلك شأن الفلسفة والأخلاق والحب, وشأن الفنان شأن البطل وشأن من يتخطى حدود الواقع وحوادثه ليصل إِلى الأعلى.
وفي هذه الفلسفة, في رأيه, تكون الذات أعلى مراتب الوجود الإِنساني, وتتحقق عندما يحوّل الإِنسان الحقيقة الكامنة أو المضمرة فيه إِلى واقع: أي «عندما تتجسد الحقيقة في البطل ويصير ذاتاً».
وهو يرى أن في الحياة اتجاهين: السطح والعمق. يبدو السطح في الكائنات الحية المنتشرة في الزمان والمكان. أما العمق فيتصل بالمعنى الذي هو مصدر كل حياة وكل فعل.
ويقول الأرسوزي إِن للسان العربي فرادته من حيث ما هو وما يعبر عنه. إِنه بدائي بمعنى أنه ليس مشتقاً من شيء آخر سوى الطبيعة.ثم إِنه بدئي لأن الابتداء يكون بإِطلاق المعنى, ذلك أنه اشتقاقي البنيان, وترجع كلماته أصلاً إِلى صور صوتية ومرئية مقتبسة مباشرة من الطبيعة تقليداً لاحتوائها ومن الطبيعة الإِنسانية بياناً لمشاعرها.
والأمم, كما يراها الأرسوزي, تتفاوت بتفاوت تكوينها. ولكل أمة من مستوى معين رسالة تفصح عن حقيقتها وتمكنها من أن تشترك مع بقية الأمم في إِيجاد عالم إِنساني يتقدم باستمرار على طريق تحقيق إِنسانية الإِنسان, وتتجلى هذه الإِنسانية, أكثر ما تتجلى, في الحرية والمساواة والمعرفة.
والإِصلاح الاجتماعي هو القمة في العمل الاجتماعي السياسي, ويجب أن يكون كل شعب سيد مصيره, والديمقراطية هي من مكونات الطبع الإِنساني, وممارستها حق لكل إِنسان وواجب عليه, ولا يمكن أن تتحقق الديمقراطية إِلا في مجتمع يحترم الرأي الآخر, ويفترض ذلك دستورية الحريات العامة ووضع المواطن في ظروف تمكنه من ممارسة حرية كاملة. إِن الدولة هي شخصية المجتمع الواعية وهي نزعة الحق إِلى إِحقاق ذاته عند الناس, وأولى مهماتها حماية حقيقة الأمة, وأولى مهمات الدولة العربية المحافظة على اللغة العربية التي تتجلى فيها عبقرية الأمة, ومن مهماتها كذلك تنظيم الثروة العامة. ومع تطور الحياة غدا إِشراك جميع الناس في الحكم وتحديد المصير العام ضرورة ملحة. وإِذا كانت الحرية هي أُمنية الحياة, وكانت الوحدة العربية المثل الأعلى الذي تصبو إِليه نفوس العرب قاطبة, فإِن الاشتراكية هي الطريق الأمثل لإِعداد المواطن العربي لهذا المصير ولأن يكون من بناة الدولة وواضعي قوانينها.
أنطون المقدسي