ثورة الثامن من آذار
ثورة الثامن من آذار
وهي انقلاب عسكري جرى في سوريا بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في 8 آذار / مارس 1963 للإطاحة بما يطلق عليه حكومة الانفصال التي وصلت إلى السلطة بعد الانتخابات التي تلت الانفصال عن مصر. وقد أصبح من ذلك الوقت يوماً تجرى فيه الاحتفالات الرسمية في سورية باعتباره "ثورة العامل والفلاح".
أجريت الانتخابات وقام البعثيون بتشكيل مجلس لقيادة الثورة اشتمل على مجموعة من الأعضاء العسكريين والمدنيين
خلفية
كان النصف الأول من عام 1963 حافلا بالأحداث التي طبعت ببصماتها حقبة الستينات من القرن الماضي، واستمر تأثيرها بدرجات متفاوتة عبر العقود الثلاثة التالية من ذات القرن . كانت البداية في الانقلاب الدموي صبيحة الثامن من شباط/ 14 رمضان في بغداد , والذي دبره و قاده حزب البعث , و اشترك فيها , دون سابق تجهيز, الضباط القوميون - الناصريون . اتخذت القيادة القومية لحزب البعث قرارها بالانقلاب في النصف الثاني من عام 1962 , وكان السباق لاهثا بين تحضيراتها و بين تلك التي كانت تعدها حركة القوميين العرب تحت قيادة نايف حواتمة المسؤول حينها عن الساحة العراقية . كان الاصطفاف القومي عموما ضد نظام عبد الكريم قاسم قاطعا ونهائيا ، وما عادت الا مسألة مسالة وقت قبل أن يقع الصدام النهائي بكل احتمالاته المفتوحة .
والطريف في الأمر أنه لما انبلج فجر 8 شباط كان قائدي المحاولتين البعثية و الناصرية في السجن ( حواتمة، وعلي صالح السعدي ) ، لكن طاقم البعث القيادي خارج السجن , وعلى رأسه حازم جواد ، سارع بالتحرك قبل انقضاض نظام قاسم على بقاياه في الخارج وفعل ، في حين أن توقيت حواتمة لانقلابه كان بعد أسبوعين أو ما يقارب . وبالرغم من ذلك، سارع الضبط القوميون , حال إحساسهم بما لاح , بإلقاء ثقلهم خلف كوادر البعث العسكرية و المدنية التي تحركت إلى وزارة الدفاع ـ قلعة قاسم .
الحديث عن ترتيبات البعث له مكان آخر، خصوصا في ضوء ما تكشّف من وثائق أمريكية حديثة حول عزم وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) إسقاط نظام قاسم ، وفي ضوء مرجع حنا بطاطو و حيثياته ، وما نقل عن علي السعدي بـ"إننا أتينا إلى السلطة بقرار أمريكي" المهم هنا هو أن البعث بجناحيه المعتدل و المتطرف (حازم جواد، علي السعدي ) وصل إلى السلطة مع شركائه الصغار من فصائل قومية و معهم رئيس الجمهورية المعين عبد السلام عارف .
كان لهذا الوصول فعل السحر في إنهاض حزب البعث , أو ما تبقى منه بزعامة ميشيل عفلق ، من ركوده و سباته الطويل منذ خروجه من حكم الوحدة , وعبر فترة الانفصال و ما أدت إليه من انفجار الحزب إلى شظايا أربع : القيادة القومية ( عفلق و البيطار ) والاشتراكيون العرب (أكرم الحوراني) والقطريون (عيد عشاوي ورهطه) و الوحدويون الاشتراكيون (سامي صوفان). علاقة البعث العفلقي بعبد الناصر حينها كانت في الدرك الأسفل , ولو أن درجة و حجم سوئها لم يخرج للعلني، بل اقتصر على المجالس والمنشورات والاجتماعات . مبعث ذلك من وجهة نظر عبد الناصر أن البعث خرج من الوحدة , و ليس من الحكم , حين استقال رجالاته من الوزارة في ديسمبر 1959 .
فاقم ذلك توقيع صلاح البيطار ومنصور الأطرش على وثيقة الانفصال في أكتوبر 1961، ثم بيانات القيادة القومية التي تلت الانفصال و حملت الكثير من النقد المرير لحكم الوحدة . من جهة أخرى كان قادة البعث يحسون بالمهانة من تهميشهم خلال فترة الوحدة ومن سياسات الإقصاء التي اتبعت نحوهم - أو هكذا اعتقدوا - , سيّما و أن ميشيل عفلق كان يتطلع لأن يكون مفكر النظام إلى جانب قائده عبد الناصر، وإلى أن يتصدر البعث سلطة الوحدة في إقليمها السوري لكونه الجهة الأجدر بذلك من سواه . المهم أنه عندما وصل تلامذة عفلق للسلطة في بغداد لم تكن الأحوال على ما يرام بينه وبين القاهرة , ورغم ذلك سارع عبد الناصر إلى تأييد انقلاب البعث بكل قوته و استضاف نجومه بعد أسبوعين في احتفال عيد الوحدة بتعبير "الحمد لله" . كان تقدير عبد الناصر أن البعث على كل "عيوبه" أفضل ألف مرة من عبد الكريم قاسم ، وأن الكثير من القادة العراقيين لا ذنب لهم في " مساوئ " عفلق ومجموعته السورية ، وأن الزمن كفيل بحلحلة العلاقة مع البعث في مجمله صوب آفاق أفضل ، خصوصا وأن الاصطفاف القومي سيملي اعتباراته على أي عوامل للفرقة ، وفي ضوء أن الوضع العربي والإقليمي المحيط يسهّل لم الشمل (السعودية، الأردن، إيران وتركيا ناهيك عن الغرب) .
كان في ذهن عبد الناصر كضمان محلي لعلاقة معقولة، وجود عناصر قومية غير بعثية في النظام الجديد على رأسها عبد السلام عارف , وأن تفاعلات الوضع الرجراج في دمشق ستفضي إلى نظام أقرب إليه من البعث، وبالتالي فالتوازن باد في الأفق . أدرك عبد الناصر في ذلك التاريخ أن سقوط الانفصال في دمشق مسألة وقت وأن انقلاب بغداد هو المفاعل الأخير. شهر واحد فصل ما بين حدثي بغداد و دمشق وأتى بجنين عجائبي مشوّه حمل معالم تحالف بعثي ـ ناصري ـ مستقل لا يجمع بين أطرافه شيء سوى حافزالانقلاب على الانفصال , وكل لمبتغاه . تشكّل مجلس قيادة الثورة من 11 ضابطا , منهم 4 ناصريين و 3 بعثيين و 4 مستقلين . ضمّ عن البعث : محمد عمران و صلاح جديد وموسى الزعبي , وعن الناصريين : راشد قطيني و فواز محارب و كمال هلال ودرويش الزوني , وعن المستقلين : لؤي الأتاسي و زياد الحريري و غسان حداد و فهد الشاعر. تشكلت مع المجلس، وزارة برئاسة القطب البعثي صلاح البيطار, تناصف مقاعدها البعث و الفئات الوحدوية (9 بعثيين و 9 وحدويين) .
نظرة عبد الناصر للوضع بعد 8 آذار
لم تكن صيغة نظام كهذا مريحة لعبد الناصر, لولا أنها على علاتها أفضل من نظام الانفصال بكل المقاييس . لكن هاجسا جديدا ارتفع الآن في الأفق أمامه... كان هاجسا صغيرا مع انقلاب شباط في بغداد وأصبح باسقا مع انقلاب آذار في دمشق ... هذا الهاجس هو حكم غلّاب للبعث في الهلال الخصيب يشكل قطبا منافسا ومحورا مزاحما لقيادته ، ويقع بين طرفيه كما لو بين المطرقة و السندان . عادلت هذا الشعور بالقلق حقيقة أن الشارع السوري كان ناصريا في جلّه ، وأن كوادر الجيش السوري كانت تعج بالناصريين , ومن ثم صعوبة تمكن البعث من حسم الموقف لصالحه هناك ....أو هكذا ظن . كان نداء الوحدة في الشارع السوري صاخبا ومهيمنا , مما دعا سلطتي بغداد ودمشق الجديتين على كل تناقضاتهما الداخلية لأن تسعى لعبد الناصر طلبا لوحدة ثلاثية . عفلق , من جهته , كان يخطط لمسعى وحدوي يضع فيه عبد الناصر داخل قفص المشاركة النديّة من واقع تأثير البعث الأساسي في القطرين . فيما كان عبد الناصر غير قادر على الرفض لتعارض ذلك مع أساسيات قناعاته في طلب الوحدة. المتغيّر الغائب عن ذهن كليهما , في حينه , كان مخطط اللجنة العسكرية للبعث السوري في التمهيد للتخلص من قيادة عفلق البعثية ، وفي التملص من العودة لعباءة عبد الناصر. ساهم في تفعيل هذا المخطط النفور الشديد و المستحكم في العلاقة الناصرية ـ العفلقية مما يسّر لعسكر البعث أن يمضوا قدما في نهجهم . تجلى ذلك المخطط في " بعثنة " بعض المستقلين من أعضاء مجلس الثورة (غسان حداد و فهد الشاعر) , و في إقصاء أهمّهم (زياد الحريري) ، والأهم في تسريح الضباط الناصريين بالتدريج. ساير عفلق هذا المخطط في حينه ، ظنّا من أنه بذلك يوطد سلطة البعث في سوريا , وبما يجعل من صيغة المشاركة في الدولة الاتحادية المقبلة يقينا مؤكدا وليس احتمالا مقلقلا.
ساعد هذا المخطط أن توفّر له ضابط من خارج اللجنة العسكرية ... بعثي قديم ذو طابع بدوي , يحمل في طياته احتراما كبيرا لعدو عبد الناصر الأشد أكرم الحوراني , و بقايا ولاء لعفلق , و كراهية شديدة لعبد الناصر ورهطه المحلي ... هو أمين الحافظ , الذي ألقى بمجدافه في سفينة اللجنة العسكرية متصديا لأصعب المهمات ، سواء على صعيد منصبه كوزير للداخلية ونائب للحاكم العرفي , أم على صعيد صلاته بالضباط البعثيين غير المؤطرين في اللجنة العسكرية . بدأت جولات المفاوضات بين عبد الناصر وبين القيادتين السورية والعراقية بعد أيام من انقلاب آذار السوري وحفلت بتسجيل المواقف بين البعث وعبد الناصر ونبش الماضي وتحميل المسؤوليات حول القريب منه والبعيد . وكمحاولة من عفلق للوصول إلى صيغة تفاهم ، ذهب ومعه البيطار إلى القاهرة فيما بدا استمرارا - لا أكثر - للجولة الأولى . عند ذاك المفصل كانت خيارات عبد الناصر قد ضاقت ما بين إيقاف التفاوض و الاكتفاء بصيغة مطاطة للتعامل المعقول , بما تحمله تلك الصيغة من إحباط كبير للشارع الوحدوي في سوريا والعراق , و بين المضي قدما في الوصول لصيغة وحدوية بضمانات مقبولة أهمها توازن الوضع السوري ما بين قطبيه البعثي والناصري كصمام أمان لعدم وقوعه بين المطرقة والسندان . بيت القصيد هنا أن وضعا كهذا استحال أمام إصرار اللجنة العسكرية على مخططها و بتغطية حزبية. لاح لعفلق اثرها أن دولة للبعث في القطرين بديل ممكن وفي المتناول أمام إصرار عبد الناصر على تغليب شكوكه ، وانعدام ثقته في قيادة البعث في إطار وحدة ثلاثية .
الوضع الدولي والإقليمي
نأتي الان إلى تكييف الوضعين الإقليمي والدولي المحيط بتلك الفترة..... ليس مثارا للاستغراب أن الولايات المتحدة , والمعسكر الغربي من خلفها , لم تكن سعيدة باحتمال قيام دولة عربية كبرى من الفرات إلى النيل , ويشاطرها ذلك الخوف، إسرائيل، إيران، تركيا , وأنظمة التبعية العربية . خفف من قلق الولايات المتحدة , مضفيا بعض طمأنينة , أن عوامل التنافر داخل مثلث مصرـ سوريا ـ العراق، يرجح لها أن تقي من تجسد ذلك الخطر.
كان هناك قلق لدى الاتحاد السوفيتي من احتمال الوحدة لشعوره أنها - وخصوصا بعد الضربة المدمرة للحزب الشيوعي العراقي في شباط - ستسحب البساط مرة و إلى الأبد من تحت أقدام الأحزاب الشيوعية العربية , و ستبني محورا أكبر من المطلوب جنب حدودها الجنوبية ليس له فيه النفوذ الكافي . في المقابل كان للولايات المتحدة كثير من الأمل مع سقوط نظام قاسم على يد البعث ، على أن يبقي ذلك العراق خارج إطار النفوذ الناصري لعلمها بما يفرّق الطرفين من عوامل , بل وأن يصبح قطبا منافسا مع مرور الوقت .
السؤال الحيوي هنا : هل كان الفراق الناصري ـ البعثي قدرا محتما ربيع ذلك العام الحاسم 1963 ؟ الواضح أن مجموعة مهمة من قيادة البعث (عبد الكريم زهور، جمال الأتاسي وسامي الدروبي) سعت بشكل حثيث نحو إيجاد علاقة جديدة و صحية بين البعث و عبد الناصر عبر إصرارهم على الانفتاح المخلص على باقي الفئات الوحدوية سواء في القطاع المدني أم العسكري , وعبر اقتناعهم رويدا رويدا أن مستقبل البعث كقوة وحدوية يقع ضمن الإطار الشامل لقيادة عبد الناصر القومية الجامعة , خصوصا وأن الأخير أبدى تطورا ملحوظا نحو صيغة أكثر ديمقراطية للحكم تشمل إقراره بوجود الأحزاب في إطار الدولة الجديدة ، ولو ضمن جبهة قومية في كل من القطرين , و تشمل نقده الذاتي لحل الأحزاب القومية في دولة الوحدة المصرية ـ السورية .
ميثاق الوحدة في 17 نيسان 1963
ما الذي أوصل ميثاق 17 نيسان الذي وصلت إليه الأطراف الثلاثة المتفاوضة في ذلك التاريخ إلى الانهيار؟ لقد تم الاتفاق بعد الجولة الثالثة والموسعة، والتي بدأت في 5 نيسان واستمرت قرابة الأسبوعين . كانت افتتاحيتها عتابا مريرا بين عبد الناصر وقطب البعث البيطار غطّى خلافات الفترة السابقة، والتي تركزت حول الصراع البعثي ـ الناصري في سوريا . ثم ما لبثت المحادثات أن تطورت إلى اتفاق على شكل للوحدة فيه من الائتلاف أكثر من التوحد , ولكنه يرضي كل الأطراف في الحد الأدنى .
إعلان عبد الناصر سقوط ميثاق الوحدة في 23 يوليو 1963
إذن ما الذي جرى بين 17 نيسان و 23 تموز حين أعلن عبد الناصر سقوط الميثاق ؟ هناك عاملان :
الأول : مضيّ اللجنة العسكرية للبعث السوري قدما في حملة تسريحات الضباط الناصريين , وبضمنهم قادتهم الكبار (القطيني وصحبه) , والاعتقالات الكثيفة للعناصر الناصرية في العراق , وكلاهما وقع في شهر أيار وتواصل في شهر حزيران . خلال تلك الفترة استقال الوزراء الناصريون من وزارة البيطار وجرت مظاهرات كبيرة في عديد من المدن السورية قمعها أمين الحافظ بعنف ملحوظ . كان ذلك فوق طاقة احتمال عبد الناصر, إذ شعر أن ما خشيه من أول الدرب واصل إلى التحقق و تحت غطاء الميثاق ، ومن هنا جاء قراره .
هل كان توجسه من غضبة القطبين الأعظم حافزا له على التملص من تبعات الوحدة خصوصا و أنه ليس بمسيطر ان مضت الأمور في سوريا و العراق إلى نهايتهما البعثية ؟ يصعب الجزم بأهمية هذا العامل في غياب وثائق الدولة المصرية تلك الفترة عن أعين المؤرخين .
هل كان سقوط ميثاق الوحدة حتميا ؟
واضح أن قيادة البعث , وإن سرّت في قراراتها من تصرفات اللجنة العسكرية ظنا منها بأن ذلك يقوي أوراقها إلا أنها كانت أيضا تخشى بأس عبد الناصر، وموالاة الشارع السوري له. من هنا محاولاتها بعد سقوط وزارة البيطار، أن تأتي بوزارة يرأسها وجه بعثي مقبول لعبد الناصر مثل سامي الدروبي أو سامي الجندي، ومن باب المناورة وشراء الوقت . لقد كان ميشيل عفلق قوميا عربيا بلا جدال و ذو نزوع وحدوي لا شبهة حوله , لكن رؤاه لهذا النزوع و تجسده شابتها ذاتية حزبية نرجسية مرضية قادته إلى صدام مقادير مع عبد الناصر لم يراعي فيه ضرورات الأمن القومي العربي، وأول أبجدياته سلامة الجيش السوري و منع إفراغه من كوادر كبيرة من شتى المراتب . كان نفس عبد الناصر ـ بالمقابل ـ قصيرا في استيعابه لهواجس البعث و في فصده العوامل المركبة لهذه الخيمة الكبيرة ـ البعث ـ من بعض لا يرضى بغير دوام الانفصال ـ تحت قناع الوحدوية ـ بديلا ... عن سواها من عناصر وحدوية الميول و الغايات على تفاوت شرائحها .
لم يكن سقوط الميثاق حتمية تاريخية..... كان يمكن لشخص أساسي في القيادة المصرية حينها ـ كمال رفعت ـ أن يلعب من دمشق، دورا إيجابيا في لم الشمل و الوصول إلى قواسم مشتركة تساعد مجموعة زهور من داخل البعث في تجسيد الوحدة . كان يمكن لعبد السلام عارف و رهطه في العراق أن يلعب ذات الدور في إيجاد توازن - و لو مختل - مع عصبة البعث هناك . وكان يمكن لوسطاء الخير مثل المهدي بن بركة و عبد الرحمن اليوسفي أن يشكلوا جسر تفاهم يرعى للبعث مكانة مرموقة في إطار النظام الجديد , و يحفظ لعبدالناصر قيادته التاريخية في آن
كم أخطئوا جميعا في الولوغ عميقا في سرداب يفضي إلى الخيبة . لقد كان لمجرد قيام دولة الوحدة الثلاثية أن يخلق في حد ذاته تيارا كهربيا يصد عنها الكثير من غوائل الزمان , وفق قدر معقول من التفهم المتبادل , وبواقع أن عبد الناصر هو القائد و أن البعث فصيل أساسي جدا في بنيان القيادة . كان أول الخاسرين من سقوط الميثاق ـ بعد الأمة العربية جمعاء - هو ميشيل عفلق.... إذ لم تمض سوى شهور ثلاث على اختطاف الحزب في سوريا منه بقيادة مجموعة ماركسية التفّت حول المنظّر ياسين الحافظ قامت , وبرعاية من اللجنة العسكرية , باسقاط صلاح البيطار في انتخابات القيادة القطرية ، و فرضت مناهجها الماركسية على المؤتمر القومي السادس في اكتوبر 1963 . ثم استمر مسلسل التراجع في سوريا رغم محاولات عفلق المضنية مطالع 1964 إعادة إحكام قبضته على الحزب , إذ ما لبث "القطريون" أن دخلوا الحزب من أوسع أبوابه ـ و برعاية اللجنة العسكرية ـ وصولا إلى صدامهم الدامي مع القيادة القومية في شباط 1966 .
بالمقابل ما الذي ربحه عبد الناصر من ترك سوريا للبعث في تموز 1963 ؟ لا شيء إطلاقا..... إذ خرجت الحوادث هناك من تحت سيطرته لتشهد تفسخ البعث إلى شظايا بعد أن ضرب الناصريون ضربة ماحقة بعد انقلابهم الفاشل في 18 تموز.
هل كان عبد الناصر على علم مسبق بهذا الانقلاب المأساة ؟ لا دليل مع أو ضد بغياب الوثائق التاريخية , لكن انقلابا غير مضمون النتائج ما كان له إلا أن ينقلب على معدّيه . لو كان يريد انقلابا عسكريا على البعث لأشار بذلك في الربيع عندما كانت قوة الناصريين في الجيش في أوجها , وقدرتهم على ترتيب تغيير جذري راجحة . ثم أيعقل أن يومئ للانقلابيين بالتحرك في ذات اليوم الذي كان يستقبل فيه في الإسكندرية لؤي الأتاسي و محمد عمران فيما وصف حينها بالمحاولة الأخيرة للإنقاذ ؟ لا بد وأنه فوجئ ، لكنه ما ان رأى ما حدث وفداحة رد الفعل البعثي حتى ترك لارتكاسه العنان , اذ وقعت الواقعة و جرى سيل الدم جارفا فيما المشانق تعلق لأنصاره ومؤيديه . كان جاسم علوان ورهطه في الموقع الخطأ عندما فتحوا نيرانهم على البعث خصوصا وأن حجم الاختراق داخل صفوفهم كان مهولا (محمد نبهان) . والثابت أنه بمقدار ما كانت سيطرة عبد الناصر على حركة أنصاره في دمشق باهتة ، كان عفلق يرى حزبه و هو يتسلل من بين يديه رويدا رويدا، ابتداء بالانتصار الماركسي في دمشق وبغداد على يدي حمود الشوفي و علي السعدي ثم مرورا بانقلاب عارف في بغداد، ثم بنزوع اللجنة العسكرية إلى السيطرة على الحزب في دمشق و نجاحها الملحوظ في ذلك .
لقد كانت تصرفات الأطراف عبثية في الغالب ودونما مراعاة لمتطلبات الأمن القومي العربي , عاكسة نفسا بالغ القصر، ومحلّة الثانوي في مقام الرئيسي من خلاف . والحق عندي أن البعث , في مجمله , يتحمل القسط الأوفر من مسؤولية النهاية التي بلغها ربيع 1963 , لكن عبد الناصر بالمقابل لم يستوعب متطلبات تلك المرحلة محاولا اجتراح معادلة معقولة لضبط المواقف و تفاعلاتها , مرجّحا الأهم على المهم . لنا أن نتصور قيام دولة الوحدة الثلاثية خريف ذلك العام ـ كما نص الميثاق ـ و تأثيرات ذلك على حسم حرب اليمن و بناء الجبهة الشرقية و خلخلة نظام آل سعود والسنوسية وحسن المغرب ، عدا عن تحجيم هاشميي عمان وردعهم عن دور الحليف السري لإسرائيل . كان للمنطقة العربية أن تكون ندا رادعا لمركّب الشاه الإيراني و حكام تركيا الأطلسيين و نظام السنتو في الباكستان , ومن خلفهم الولايات المتحدة و حليفتها بريطانيا . كان لدولة الوحدة أن تحسم وبسرعة إجلاء الإنكليز عن جنوب اليمن والخليج العربي و إخلاء القواعد الغربية في السعودية والمغرب وليبيا، وفي إثيوبيا وقبرص ومالطا مع الوقت . وكان لها أن تهيمن على نفط العراق من منبعه إلى مصبه وأن تفرض كلمتها في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) كدولة مقررة لسياسات النفط وتسعيره . ربما عانى عبد الناصر من لسع رجالات البعث حوله ، لكنه - وبعد تجربة وحدة 1958 -أضحى أكثر خبرة في التعامل مع "الخارج" العربي وأكثر واقعية .
هل خشي عبد الناصر من الوحدة الثلاثية وتبعاتها؟
تلك نقطة تقودنا إلى السؤال المحير: هل خشي عبد الناصر من الوحدة الثلاثية وتبعاتها ؟ هل اضطر للتوقيع متماشيا مع التيار الجارف ، ولكن مصمما على الخروج في الوقت المناسب وبعذر مقنع ؟ هل قال الزعيم السوفييتي خروشوف في اجتماعه مع علي صبري بعد توقيع الميثاق مباشرة شيئا أقنع عبد الناصر بعدم صواب الخيارأوتوقيته ؟ هل نصحه الزعيم اليوغسلافي تيتو بالتروي تحت حجة أن عملا ضخما كهذا سابق لأوانه و سيجلب له عداء مريرا من الغرب , مقرونا بخشية من الشرق ؟ أسئلة تحتاج لإيضاح ينتظر فتح ملفات الدولة المصرية .
الثابت الوحيد هو أن فرصة تاريخية نادرة ضاعت على العرب , وبمزيج من الحماقة والجهل
اللجنة العسكرية لحزب البعث
قامت اللجنة العسكرية في 23 شباط (فبراير) 1966 بقيادة صلاح جديد ومشاركة القائد حافظ الأسد بالانقلاب على القيادة القومية لحزب البعث من بينهم مؤسس الحزب ميشيل عفلق ورثيس الجمهورية أمين الحافظ وقد تخلى بعدها صلاح جديد عن رتبته العسكرية ليتفرغ للسيطرة على حزب البعث وحكم سوريا بينما تولى حافظ الأسد وزارة الدفاع.
في عام 1971 قام حافظ الأسد بما يطلق عليه الحركة التصحيحية وقاد انقلاباً داخلياً أزاح من خلاله الرئيس نور الدين الأتاسي وعين مكانه الرئيس أحمد الخطيب لفترة انتقالية، وبعدها بأربعة أشهر تم أجراء الانتخابات الدستورية وتم انتخاب حافظ الأسد بموجبها رئيسآ للجمهورية.