تمهيد مشروع بحث عبد الناصر الأصلية
مسوَّدة مشروع أولي
تمهيد لبحث يلي ذلك بعنوان:
عبدالناصر والتجربة الوحدوية
رؤوس موضوعات
• إنّ ملامح صفات عبدالناصر الشخصية ومقوّماتها الأساسية يمكننا تحديدها كمنطلقات مبدئية في أمور ثلاثة:
1- الاستقلال الوطني
2- الفكر الاستراتيجي
3- التحدّي الكبير
هذه هي جوانب ثلاثة في شخصية عبدالناصر الوطنية والسياسية والفكرية.
• يلخّص عبدالناصر، في الواقع، التاريخَ الوطني الاستقلالي في مصر منذ عهد محمد علي حتى ثورة يوليو 1952.
يظهر الفكر الاستراتيجي لدى عبدالناصر من خلال: كيفية استلام السُّلطة (السرّية التامة) والاستفادة من الصراع الدولي (البريطاني ــــــ الأميركي) ومن ثمّ تثبيت الحُكم، بعد صراعٍ شاق مع الأحزاب وبخاصة حزب الوفد، وجماعة الإخوان المسلمين.
في البداية ثلاثة مراكز قوى كانت تعتمد عليها ثورة يوليو:
1) الجيش
2) الصحافة
3) هيئة التحرير..
وحتى عام 1954، موازين القوى السياسية في الداخل، لم تكن لصالح الضباط الأحرار في السُّلطة ولا لشخص جمال عبدالناصر بالذات.
هنا السؤال يُطرح: كيف استطاع عبدالناصر أن يغيّر موازين القوى السياسية لصالح حركة الضباط الأحرار ولثورة يوليو، ولصالحه الشخصي في الحكم؟
من هنا نرى انتقال عبدالناصر إلى كونه الزعيم الوطني الجماهيري بداية المصري ومن بعدها على الصعيد العربي.
هذا هو التحدّي الكبير الذي واجه عبدالناصر ذلك أنّ هذا الفكر الاستراتيجي كان قد وضع له هدفيْن: من جهة استقلال وطني في العلاقة مع الخارج ومن جهة أخرى تحقيق الحريّة الاجتماعية في الداخل.
هنا أول تحدٍّ يواجه الثورة وبالتالي عبدالناصر، ذلك أنه كيف يمكن تحقيق ثورتيْن في آن:
- الثورة السياسية
- الثورة الاجتماعية
وقد كان يبدو لنا مما تقدَّم أنّ أهمَّ تحدّي وطني، والثورة في بداياتها الأولى، إنما تحدّد في العلاقة بالدول الكبرى: بريطانيا وأميركا. من هنا الاستعانة بالدبلوماسية الأميركية للتحرّر من النفوذ البريطاني في مصر. ولكن وفي الوقت نفسه، رفض إحلال احتلال مكان احتلال آخر. وإنما العمل على تقليص الاحتلال البريطاني بقدر ما هو ممكن من جهة أخرى.
ثم بعد ذلك محاربة الأحلاف العسكرية الغربية بصَيَغها المختلفة في المنطقة العربية، ذلك أن استقلال الدولة، أيّ دولة، إنما هو من استقلال جارتها. في مجرى هذه الأحداث العربية تأتي مفاجأة التحدي الصاعق الأخر: عقد صفقة الأسلحة التشيكية.
وتتالى التحديات الكبرى: صفقة الأسلحة التشيكية، تأميم قناة السويس وما تبعها من اعتداء ثلاثي فرنسي إنكليزي إسرائيلي على مصر، وأخيراً تقوم نتيجة ذلك كلّه وتحصل الوحدة السورية ــــــ المصرية لعام 1958.
* * *
هذه هي الأحداث المتتالية، في الأساس والأعماق، المرتكزات الأولى لمقوِّمات زعامة عبدالناصر الوطنية والقومية، مع العناصر الثلاثة للتحديات الكبرى آنفة الذكر، فكانت الترجمة العملية هي التوجّه إلى الجماهير العربية بالدرجة الأولى وعقد علاقة وثيقة معها وهي جماهير 1955 ـــــ 1956 ـــــ 1957 ـــــ 1958. ولِتمتين هذه العلاقة واستمراريتها أعطى عبدالناصر اهتماماً كبيراً للإعلام، وللرأي العام العربي على حدّ سواء...
في هذه الأحداث المتتابعة وتطوُّرها السريع، فإننا نلاحظ بصورة واضحة أنّ عبدالناصر ونظام ثورة يوليو الجديد، قد واجه دول رأسمالية صناعية متطوّرة ومتقدّمة تكنولوجياً، عسكرياً وسياسياً، بإدارة الأزمات بأدوات سياسية تقليدية. فقد كان في الواقع هذا هو التحدّي الكبير الذي استجاب له عبدالناصر وثورة يوليو بالاعتماد على الجماهير المصرية والعربية في آن معاً. وحقّق في كل ذلك انتصاراً مذهلاً وثبَّت زعامته المطلقة منذ ذلك الحين.. (الفكر الاستراتيجي: أساس الفكر القومي في كتاب: "فلسفة الثورة").
سؤال قديم يراودني وكنت أطرحُه على نفسي بهذه الصيغة: لماذا لم تُدرس شخصية عبدالناصر السياسية ــــــ الوطنية، الاستراتيجية الفكرية في منعطفاتها التاريخية المتتالية والمتصاعدة منذ البدايات الأولى حتى النهاية؟! بمعنى آخر هذه الشخصة القيادية والتاريخية التي كان يتمتع بها جمال عبدالناصر، لماذا لم تُدرس عبْر تجربتها الوطنية القومية في أبعادها الاستراتيجية التاريخية وفي عمقها الاجتماعي والإيديولويجي: مواطن القوة فيها ومواطن الضعف؟!... إنني أعتقد أنّ شخصية عبدالناصر القيادية التاريخية الجماهيرية الرائدة لم توضع بعدُ موضع الدراسة العلميّة من ناحية التفاعل الإيديولوجي، الفكري القومي الوطني، في سياقها المصري ــــــ العربي على السواء.
(ملاحظة: يتمتع عبدالناصر بالاستعداد الفطري للاستيعاب والفهم والهضم!!)..
* * *
قراءة منهجية في فكر عبدالناصر والناصرية
* خواطر عبدالناصر في كتاب فلسفة الثورة: هي محاولة استكشاف أحداث التاريخ وتاريخنا المعاصر والظروف المحيطة بنا، واستكشاف الأهداف وأهدافنا وتحديدها، ليس أكثر؟ وأهمية كتاب "فلسفة الثورة" أنه يُقدِّمُ فكرة عن المنطلقات الفكرية والسياسية: ما بين 1952 و 1954 ما هي مبادئ وأفكار الثورة؟
الصراع السياسي
* استقلال مصر من الاحتلال البريطاني بالدرجة الأولى: فأيُّ مصريّ كان يرى أن مسألة استقلال مصر وتحررها هو الهدف الأول والأساسي. وهذا الاحتلال قد كان الدعامة الأساسية والوحيدة لأسرة محمد علي الحاكمة. فالتخلص من الاحتلال البريطاني وهو الهدف الأول للشعب المصري يؤدّي حتماً للتخلص من الإثنين معاً هذا ما كان يحتل النقطة المركزية من تفكير قائد ثورة يوليو جمال عبدالناصر ونشاطه.
* هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فليس كتاب "فلسفة الثورة" برنامجاً سياسياً أو بياناً أيديولوجياً، وليس كذلك خطة عمل اقتصادية أو اجتماعية تعمل الثورة على تطبيقها وتنفيذها. لذلك وُجِّهت الانتقادات الكثيرة إلى عبدالناصر من خلال هذا الكتيّب، واُعتبر من الناحية الفكرية والسياسية أنه يضم آراءً بسيطة وليست برنامجاً لثورة سياسية اجتماعية.
ذلك أن خطط الثورة في بداياتها الأولى لم تتحدَّد بعدُ ومشاريعها السياسية واختياراتها الأيديولوجية لم تزل في المرحلة الجنينية، وكل الاحتمالات واردة. بكلمة واحدة كانت "حركة يوليو" عام 1952 لا تزال في مجال البحث عن الهُوية السياسية والفكرية والأيديولوجية، ولم يكن واضحاً لديها إلا شيئٌ واحدٌ: "تحقيق الاستقلال الوطني" والجلاء البريطاني عن مصر، واستلام السلطة، وتثبيت الحكم. أما عدا ذلك لم يتبلور بعدُ. من هنا تساوي "الضباط الأحرار" بعضهم مع بعض من حيث القيادة الجماعية الفعلية. وعبد الناصر هو الأول بين متساوين في النظرة إلى الحاضر والمستقبل (أحمد حمروش)…
* * *
* إنّ القراءة الدقيقة، قراءة متأنية لهذا الكتاب، يمكننا أن نستخلص منها بعض المنطلقات الأساسية والمبدئية لثورة يوليو والتي ستعمل فيما بعد على بلورتها وتطويرها وتفصيلها:
1ـــــ أول شيء: تحقيق ثورتَيْن في آن: ثورة سياسية وثورة اجتماعية.
وهو أول مأزِق، كما يقول عبدالناصر، تقع فيه الثورة: الثورة السياسية تتطلب جمع الشمل ورصّ الصفوف لمواجهة العدو المشترك وهو الاستعمار، في حين أن الثورة الاجتماعية بتطبيقها تؤدي إلى الصراع الاجتماعي بين الطبقات!... هذه هي الصعوبة الأولى التي واجهتها الثورة المصرية.
غير أن الظروف العامة هي التي حتَّمت على الثورة أن تسير في هذَين الطريقَين.
القيـادة الجماعيـة حتى 1955-1956
2- ثم شيء آخر، كان مفروضاً على الثورة وعلى عبدالناصر ورفاقه بالذات في بداية الحركة أن يحددوا الهدف ومن ثَمَّ كيفية الوصول إلى تحقيق هذا الهدف، وما هي الوسائل؟!... هنا تكمن الصعوبة الثانية التي واجهت الثورة. هنا أيضاً نرى بأن الغموض، التَّلمُّس، التَّردُّد، التعثر، كان يكتنف عمل أو تحركات الثورة في الداخل والخارج، مما أدَّى، بطبيعة الحال، إلى اعتماد سياسة: التجربة والخطأ.
وهذا الغموض وعدم الوضوح في العمل السياسي الواعي المدرك الصحيح، كان يفتقده عبدالناصر بالذات، كما يقول هو نفسه في كتاب فلسفة الثورة.
فهو يبحث عن الهدف وكيفية الوصول إليه، الذي لم يكن واضحاً تماماً في ذهنه قبل وصوله الى السلطة وبعد تحقيق الثورة. جمال عبدالناصر كوطني وكأيّ مصري، كان يرى أن مسألة استقلال مصر وتحررها هو الهدف الأساسي. ولكن المشكلة هي: كيف يمكن تحقيق استقلال مصر وتحررها، عن أيِّ طريق يمكن أن يتحقق؟!... في الصفحات الأولى من "فلسفة الثورة"، يبدو أن هناك فكراً يتلمَّس طريقه دون أن يهتديَ إليه، وإنسان يبحث عن تحقيق الآمال دون أن يعيَ الطرق المؤدية لتنفيذ هذه الآمال. لذلك حدَّدت ثورة يوليو أهدافها منذ البداية في هذه المبادئ السياسية العامة: الاتحاد ـــ النظام ــــ العمل فكان هذا هو شعار "حركة يوليو" الذي رفعته منذ الساعات الأولى لقيامها واستلامها السلطة...
* * *
* هنا، لابد من التركيز على مكوِّنات ومقوِّمات شخصية عبدالناصر: وهي في الأساس شخصية عسكرية. دَرَس في الكلية الحربية ودَرّس فيها مادة الاستراتيجية العسكرية. وهذا الجانب مهم جداً، بنظري، في شخصية عبدالناصر، مما طبع فكر عبدالناصر بجانبَيْن:
ــــ الجانب التاريخي (إعطاء أهمية للتاريخ): دور مصر في الزمان، أي في التاريخ: تحقيق الاستقلال والحرية.
ــــ الجانب الاستراتيجي : الفكر الاستراتيجي إنما هو أساس الفكر القومي في كتاب "فلسفة الثورة"، بمعنى تحديد الهدف، الهدف البعيد والهدف المرحلي، تحديداً دقيقاً واعياً وواقعياً. استعراض المكان، أي المجال الجغرافي ودور مصر فيه. لا تستطيع مصر أن تعيش في عُزلة عن الآخرين، عن محيطها فيما هو، (أي المحيط أو المجال الجغرافي)، إنما مجالُ عملها في المنطقة. (أنظر مفهوم عبدالناصر للدوائر الثلاث في الكتاب.. ص7)
ـــــ الجانب التكتيكي: ثم تعيين الطريق والسُّبُل والوسائل للوصول إلى الهدف بحسب الظروف والأوضاع والقوى من داخلية وخارجية.
هنا نلاحظ الفكر التجريبي (البراغماتيكي)، والاعتماد على قاعدة التجربة والخطأ في فكر عبدالناصر. وهذا ما كان واضحاً من خلال كتاب "فلسفة الثورة"، وخاصة فيما بعد من خلال المواقف السياسية الداخلية أو الخارجية.
ـــــــ أهمية هذا الجانب التكتيكي في تفكير عبدالناصر السياسي قبل الثورة وبعد الثورة: بمعنى، كيف يمكن تحقيق الثورة ونجاحها؟ وما مدى أهمية التنظيم الدقيق والسِّرية؟ وكيف يمكن الوصول إلى السلطة ومن ثم كيف يمكن المحافظةُ عليها والاستمرار فيها؟
إنّ هذا الجانـب التكتيكـي يمكن الإشارة إليه في تحركات عبدالناصر ورفاقه في
بدايات الثورة من نواحي عديدة أهمها:
1- الضباط الأحرار: اتجاهات أو انتماءات أو ميول سياسية وأيديولوجية متنوعة وأحياناً مختلفة، استطاع عبدالناصر أن يدمجها في تيارٍ واحد محدَّد الهدف.
2- التحالفات الداخلية مع:
1ــــــ حزب الوفد وجماعة الإخوان المسلمين.
2ــــــ ومن ثمَّ أو في الوقت نفسه السيطرة على الجيش.
3ــــــ وبعدها التخلص من حلفاء الأمس: الأحزاب والقوى السياسية، من يمين ويسار، واحداً بعد الآخر.
3- التحالفات الخارجية:
1ـــــــ للتخلص من العائلة المالكة ينبغي في البداية مهادنة الاحتلال البريطاني وتحييده عن طريق استخدام الورقة الأميركية كورقة ضاغطة.
2ـــــــ الاعتماد على الضغط الأميركي للحصول على تنازلات من جانب الاحتلال البريطاني.
ثم التخلص من قوة الاحتلال البريطاني الجاثم على صدر مصر منذ عام 1882، فينبغي على مجلس قيادة الثورة في هذه الحالة أن يعتمد على قوة خارجية دولية أخرى (الولايات المتحدة الأميركية) من أجل التخلص من قوة الاحتلال الداخلية.
3ـــــــ ثم وبعد تثبيت الحكم والسلطة، تأتي، للمحافظة على الاستقلال الوطني، مواجهة الأحلاف العسكرية الغربية والأميركية في مصر والمنطقة.
* هذا جانب تكتيكي مهمٌّ جداً ينبغي التوقُّف عنده طويلاً، وسيستمر اعتماد هذا الأسلوب التكتيكي في السياسة الخارجية والداخلية في المقبل من الأيام ...
* * *
* ثورة يوليو ليست ثورة شعبية، إذ إن الشعب المصري لم يقم بهذه الحركة عام 1952، إذ إنه لم يكن باستطاعته أن يقوم بها، ولكنه لا شك في أنه وجميع القوى السياسية والحزبية، دعمتها وأحاطتها بالتأييد والمساندة. غير أنها لم تكن بمقدورها جميعاً أن تقوم بها، وذلك من جهة لكثرة التناقضات الداخلية والخلافات بين القوى السياسية والحزبية وعدم وجود التنظيم المؤهّل لذلك... ومن جهة أخرى، لم يكن في تفكير "الضباط الأحرار" عند قيامهم بثورة يوليو، أن تقتصر حركتهم على تمرّد عسكري فقط....
الجيـش: إذن، بطبيعة الحال هو القوة المادية والتنظيمية في تلك الظروف المهيأة للقيام بالحركة، فهو من جهة يتمتع بتنظيم قوي بسبب تكوينه وانضباطه، بالنسبة إلى القوى الأخرى، ومن جهة أخرى فهو على التصاق بمشاعر الناس وأحاسيسهم الوطنية والاجتماعية. فهو إذاً القوة المهيأة للقيام بالحركة وتعبيراً عن أمل وطموحات الشعب المصري، وهذه الطموحات بعيدة الجذور في التاريخ المصري الحديث.. وهي أبعد من الحوادث الآنية، فهي كما يقول عبدالناصر: " تكمن في ضمير الشعب المصري الطامح إلى حكم نفسه بنفسه وتحقيق استقلاله وحريته.
* * *
ملامح عبدالناصر الفكريّة وصفاته الشخصيّة
أولاً وقبل كل شيء هناك إجماع على أن عبدالناصر هو مؤسس وقائد وعقل "حركة الضباط الأحرار" في مصر. وكما يقول السادات: هو "قائدها من الألف إلى الياء". فقيادة أو زعامة بهذا الشأن يجب أن يتوافر في صاحبها صفات أساسية أهمها: أن عبدالناصر كان بسيطاً في حياته الخاصة والعامة. هادئ الطباع، لا تظهر على وجهه علامات الانفعال أو الغضب (بسرعة)، خفيض الصوت، خجولاً، كتوماً، من الصعب جداً أن يدرك المحيطون به ماذا يفكّر وما هو حقيقة ما يضمره في داخله. بعيد كل البعد عن مظاهر الترف والجاه والعظمة، ولا يحتل المال أو الثراء في حياته وتفكيره أيِّ اهتمام أو ميل. خلوق إلى أبعد حدود الأخلاق، لم تستطع كل محاولات الإغراء من كلّ نوع، أن تلوِّثه. وهذه صفة من الصفات الضرورية وشرط أساسي من شروط الزعامة الجماهيرية التاريخية الخلاّقة في مجتمعاتنا العربية ـ الإسلامية. لقد كان عبدالناصر منَظِّماً ومنظَّماً ومنضبطاً في أوقاته وفي سلوكه وتفكيره، باذلاً جهده لتوظيف ذلك لزيادة الكفاءة وإنتاجية العمل. بالإضافة إلى ذلك إنه قارئ جيِّد ومواظب دون كلل أو تعب. وهو يعمل يومياً، فيما يبدو، نحو 18 ساعة، ومتوِّجاً ذلك كله بذاكرة قوية، ذاكرة "فوتوغرافية"، كما يقول طبيبه الخاص.
* * *
* عبـدالناصر يتابع الأشياء في تفصيلاتها والأمور في جزئياتها وأبسطها
ـــــــ يقرأ كثيراً، ويتمتّع بالاستيعاب الفطري والفهم والهضم...
ــــــــ يعمل أكثر من 14 ساعة يومياً ( قراءة الجرائد قبل النوم)
ــــــــ سماع الراديو: حافظ مواعيد النشرات الاخبارية جميعها.
*عبدالناصر كان في الحقيقة دائماً هادئاً لا تسمع له صوتاً مرتفعاً... يضبط نفسه سواء مع المحيطين به أو من يلتقي بهم. كان هادئ الطباع جداً، لم يكن مثلاً كثير الانفعال أو الغضب إلاّ إذا شعر أنّ إهانة وُجِّهت إليه في حقِّ وطنه وأمته وزعامته الشخصية.
* كذلك كان منظَّماً جداً وشديد الانضباط، ويوظّف تنظيمه وانضباطه لزيادة الكفاءة والإنتاج... لماذا التنظيم؟ التنظيم بهدف توظيف وادِّخار تفكيرك لما هو مهم، وحتى تبقى بعدها هذه الأشياء الصغيرة العادية لا تشغلك عمّا هو أساس.
* لقد نفذ تعليمات الأطباء إلاّ أشياء، وما لم يستطع تنفيذه، هو الحركة والجهد البدني والمقابلات وكذلك التوتر النفسي. لقد كان عبدالناصر، كما يقال:" كالوتر المشدود". كان متوتِّراً دائماً ويثير هذا التوتُّر كل مَن هو حوله. فلابد إذن من أن ينكسر هذا الرجل: لأنه لا ينثني أمام الحوادث، فلابد من أن ينكسر...
* ذاكرته كانت غريبة الشأن... ذاكرة فوتوغرافية... كان بسيطاً في حياته.. بعيداً عن أيِّ ترف .. لم يكن يحب أن يُتعب أحداً.
* في البداية، عبدالناصر لم يكن يتمتّع بشعبية جماهيرية، ولا يتمتع فيما يبدو بالثقة بالنفس، عكس مثلاً اللواء محمد نجيب، بالإضافة إلى ذلك أنه لم يكن خطيباً.
* كان عبدالناصر يشعر بالإشمئزاز من القتل. والعنف سواءٌ في صورة اغتيال أو بطريقة شرعية، لا يولّد إلا مزيداً من العنف...
* * *
بعـض الملامـح الشخصيـة:
الصفات الشخصية الأساسية لأيِّ زعيم لها انعكاسات بالغة التأثير في مواقف الدولة واتجاهاتها السياسية، الداخلية والخارجية. فلكل قائد ثورة أو رجل دولة أسلوب في التفكير وطريقة في العمل يطبعان بصورة شبه كاملة تحركاته في المجال السياسي. من هنا أهمية إلقاء بعض الأضواء على شخصية عبدالناصر ومقوماتها الأساسية:
1- الصفة العسكرية.
2- عدم الميل في الغالب إلى النقاش الفكري والتحليلات النظرية المجرّدة، وإنما إعطاء الأهمية إلى الجوانب العملية وإلى شيء من تقديس الحزم والقوة.
3- طموح أو دور عبدالناصر وموهبته الشخصية تؤهله لأن يلعب دوراً مركزياً في التاريخ العربي يتجاوز حدود بلده مصر، .. فعبدالناصر لأسباب قومية واستراتيجية، لم يكن ليريد أو يكتفي بأن يحصر اهتمامه ضمن الحدود المصرية والمصلحة المصرية الضيقة. ( وإنما لعبِ دورٍ رائدٍ ومحوري ـ كما في السابق ـ في التاريخ العربي الحديث).
4- صفة في غاية الأهمية تحدد تفكير عبدالناصر وشخصيته وهي الجانب الاستراتيجي، وقد طبق هذه الاستراتيجية على الصعيد السياسي، بمعنى عدم خوض المعارك على جبهات متعددة وتحديد الأولويات واختيارها والانطلاق من أن ما يقرر علاقات الدول فيما بينها هو القوة والمصلحة.. وهذه الدول لا يمكن أن تعيش منعزلة بعضها عن بعض، فهي في تفاعل مستمر وتأثير وتأثر وعلى مختلف الصُّعد.. استقلال كل دولة يتأثر باستقلال الدول المجاورة والعكس أيضاً صحيح، إلخ.....
5- أهمية الاستقلال الوطني.
6- الجانب العملي التجريبي وعدم إعطاء أهمية كبرى للمنطلقات الأيديولوجية، طالما أنه يمكن الالتقاء والتعامل والاتفاق المرحلي على بعض الأهداف المحددة التي تلتقي عليها بشكل أو بآخر مصالح الأطراف المختلفة. ( وجود عدة اتجاهات سياسية وأيديولوجية بين حركة الضباط الأحرار، ولم يكن ذلك عائقاً يصعب التغلب عليه ، ما دامت الأهداف المرحلية القريبة هي واحدة: إسقاط الملَكية واستلام السلطة ).
7- صلة الزعيم بالجماهير، الصلة أو الصفة الشعبية ينبغي أن تكون صلة مباشرة. هنا يأتي دور الإذاعة والتلفزيون والإعلام بصورة عامة لمخاطبة الجماهير.
حركـة الضبـاط:
* مصر أول دولة مدونة في تاريخ البشرية، بزغ فجرها نحو 3000 سنة قبل الميلاد (وقبل أن تُبنى الأهرام بـــ 500 سنة) استعادت شخصيتها الأصيلة وحلّت محل أسرة محمد علي الألبانية ــــ التركية التي حكمت مصر 150 سنة، تحت الوصاية التركية والحماية والتبعية البريطانية.
* أضعف طول عصور التبعية إرادة المقاومة وأضحى الفلاح المصري والمواطن العادي نتيجة للخضوع السياسي والاجتماعي وللاستغلال الاقتصادي قروناً طويلة، يشعر بأن بلده ليست له: الأجنبي احتل العرش وامتلك الأرض.
* التأثيرات التركية بقيت قوية: الطبقة الحاكمة والطبقة الأرستقراطية المالكة للأرض والتي جاء منها كبار المسؤولين في الجيش والجهاز المدني إنما هي في الأصل من طبقة تركية. لذلك فقد كان من السائد أن الأرستقراطية التركية: كانت تتقن الفرنسية وتحتقر اللغة العربية.
* إذن في تموز (يوليو) 1952 ، انهارت أقدم مملكة في العالم. وكان عبد الناصر أول مصري أصيل يحكم مصر... لقد تمّت الثورة المصرية، حركة يوليو 1952، بهدوء يدعو إلى الدهشة، ولم يشهد التاريخ في الواقع سوى نماذج قليلة من الثورات الهامة التي تمّت بمثل هذه السرعة وبهذا القدر الذي لا يُذْكر من الاضطرابات أو إراقة الدماء (قتيلان وإصابة 8 بجراح). ومن ناحية أخرى فقد كان الجيش البريطاني قابعاً في قواعده العسكرية بمنطقة القناة، ولم يتدخل.. كما أنه لم يحدث أيُّ تحرش بأيِّ أجنبي مع كثرة الأجانب وهيمنتهم ولم تقع مظاهرات معادية للبريطانيين.
* إتجاهات سياسية متنوِّعة، بل وفي بعض الجوانب متناقضة (اتجاهات ماركسية، إخوان مسلمين، وطنيين مستقلّين، إلخ...) وجوّ مجلس قيادة الثورة، بعد استتباب الأمـن له، كان اتخاذ القرارات بأغلبية الأصوات والقيادة كانت قيادة جماعية. والموقف موحَّد في قضية اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية.
لقد كان أصغر قرار لابد أن يناقش في المجلس وكل جلسة تستمر من الغروب حتى الصباح. ويعترف السادات أن قائد هذه الثورة هو عبدالناصر: هو قائد هذه الثورة من الألف إلى الياء.
من هنا أهمية الصفة القيادية الجامعة أو الموحِّدة والموهبة التكتيكية التي تتمتع بها شخصية عبدالناصر. " لم يكن هناك من وحدة فكرية ووعي ثقافي مشترك لهؤلاء الضباط القادمين من مدارس فكرية مختلفة وتنظيمات سياسية متباينة، وقد كانت الأفكار الوطنية العامة والنقمة على الاستعمار هي الدافع الرئيسي لتحريك الضباط... ولكن تفاصيل الأمور كانت متباينة في عقولهم وصورة المستقبل غير واضحة أمامهم". ويضيف حمروش واصفاً شخصية عبدالناصر بأنه كان " أرصن زملائه شخصية وأقلهم كلاماً وأحسنهم استماعاً وأقدرهم على حل المشاكل بمهارة تكتيكية ملحوظة" (حمروش).
بمعنى آخر إن قائد الثورة المصرية كان يعرف تماماً متى يجب أن يتقدم ومتى يجب، على العكس من ذلك، أن يخطو "خطوتين إلى الوراء".
* * *
التجربة الناصرية
* يصادف الآن (1987) مرور 17 سنة على وفاة عبدالناصر (1970) ومرور 35 عاماً على ثورة يوليو (1952ــــــ 1987)، ومع ذلك فإن التجربة الناصرية لم تُدرس بعد الدراسة الصحيحة.
* علاقات الأنظمة والقوى السياسية العربية بمصر الناصرية، إنما هي علاقات لا يمكن إغفالها، حتى أنه يصعب فهم حقيقة التحركات السياسية والدبلوماسية لهذه الأنظمة وحقيقة المواقف السياسية لهذه القوى وردود فعلها ومشكلاتها الداخلية والعربية، بين 1952ـــــــ1970، دون أن ندخل في الاعتبار الموقف من النظام الناصري.
* مع كل الأهمية لهذه التجربة الناصرية، فإننا نجد أن الكتابة عن شخصية قائد هذه الثورة، عبدالناصرــــــ الكتابة العلمية الهادفة، إلى البحث عن الحقيقة التاريخية ــــــ لا تزال قليلة، بل ونادرة. وقد يعود السبب إلى:
1ـــــــ أن ذكرى الرجل ما زالت حيَّة.
2ــــــــ المعركة السياسية والخصومة بين الناصريين وأعدائهم عنيفة وقوية.
3ــــــــ إصابة حركة التحرر العربية بالهزيمة والتراجع والفشل، مما دعا إلى الإحجام عن نقد التجربة الناصرية وتوجيه السهام إليها..
* * *
* التجربة الناصرية، وبغض النظر عن موقفنا الشخصي منها، لا يمكننا إنكار أنها أثَّرت في المجتمع العربي تأثيراً عميقاً، حتى أننا نتحدث عن مجتمع عربي قبل ثورة يوليو، وعن مجتمع عربي بعد هذه الثورة، وعن مجتمع آخر بعد وفاة عبدالناصر.
* في الحقيقة، فإننا نجد أنّ الموقف إزاء كثير من الأحداث والقضايا التاريخية، إنما يكون أحد موقفَين: إما التأييد الانفعالي العاطفي الوجداني وإما الرفض الكلي الشامل. وبين هذين الموقفين فكأننا نعيش في فراغ، بعيدين عن الواقع الحي الملموس بكل تعقيداته وبكل إيجابياته أو سلبياته. من هنا أسباب التخبط السياسي الذي نعيشه والغموض الإيديولوجي والضبابية الفكرية. إننا نشارك بل ونصنع الأحداث التاريخية، ولكننا غالباً لا نستطيع أن نستوعبها أو أن نفهمها في تسلسلها الزمني وأن نرى عواملها وتفاعلاتها بعضها مع بعض الآخر أو موازين القوى السياسية الداخلية والخارجية التي أثّرت فيها.
* * *