لبنان والقضية الفلسطينية
المركز الثقافي
للبحوث والتوثيق
صـيــدا
يقـــدم
الندوة الثانية
لبنان والقضية الفلسطينية
المحاضران: الأستاذ جورج ناصيف و الأستاذ محمود سويد
كاتب وصحافي مدير مؤسسة الدراسات الفلسطينية
التقديم وإدارة
الجلســة: المحامي مصطفى صالح (اللجنة الثقافية في المركز)
التعقيب: القاضي جوزيف اليازجي المدعي العام السابق في الجنوب
الزمان: الساعة السادسة من بعد ظهر يوم السبت الواقع فيه 10 نيسان 1993.
المكان: الندوات تعقد في قاعة محاضرات المركز، بناية مركز الجنوب التجاري
مقابل مصرف لبنان ـ ط3
إعداد وتحرير
د. مصطفى دندشلي
منشورات المركز الثقافي للبحوث والتوثيق ـ صيدا
لبنان والقضية الفلسطينية
المحامي مصطفى صالح
عضو اللجنة الثقافية في المركز
ماذا يوحي لنا هذا العنوان: لبنان والقضية الفلسطينية؟! أول ما يتبادر إلى الذهن هو الرابط العضوي بين لبنان والقضية الفلسطينية. بحيث أصبح لبنان، وجنوبه على الأخص جزءاً من التراب الفلسطيني، يعاني ما تعانيه الأراضي المحتلة من العسف والجَور الإسرائيليين، وما يستتبع هذا الوضع من تدمير وتشريد للسكان وعبث في الأرض والحجر والبشر والمصير اللبناني، وصل إلى حد اقتطاع جزء من الجنوب وإلحاقه بإسرائيل إدارياً وعسكرياً، وتآمر بعض رموز الخيانة والنفوس الضعيفة عليه. إن قدر لبنان هو قدر القضية الفلسطينية في رحلة الآلام الطويلة ورحلة العذاب والمصير.
لقد بدأت هذه الرحلة منذ سنة 1948 يوم بدأت طوابير النازحين الفلسطينيين تتدفّق على جنوب لبنان هرباً من جحيم المعارك والتنكيل الإسرائيلي بالمواطنين العرب العزّل لحملهم على الهرب وأخذ أرضهم وبيوتهم وتركها سائبة للاستيطان اليهودي.
لقد كان الوجود الكثيف للنازحين الفلسطينيين في لبنان بشكل عام وفي الجنوب بشكل خاص، عاملاً جديداً وهاماً في تغيير واهتزاز الحياة اللبنانية من الوضعية الاجتماعية والسياسية والنضالية، وعلى الأخص في ساحة الجنوب اللبناني.
وإن استمرار الوجود الفلسطيني على الأرض اللبنانية ما يقارب الخمسين سنة، خلق وضعاً جديداً وأفرز ظواهر جديدة في الحياة اللبنانية والجنوبية بشكل خاص وأهم هذه المظاهر:
أولاً: اندماج وانصهار الحياة اللبنانية والفلسطينية في كثير من المناطق، ولا سيما في المناطق التي توجد فيها كثافة فلسطينية بصيدا وصور وطرابلس وغيرها. واندماج الأجيال الفلسطينية الجديدة في الحياة اليومية اللبنانية عن طريق التزاوج والسكن في المدن وامتلاك العقارات ولو بأسماء مستعارة والانغماس في النشاطات التجارية والزراعية والاجتماعية بشكل عام.
ثانياً: اختلاط الدم اللبناني والفلسطيني على الساحة اللبنانية.
فإسرائيل تلاحق وتضرب أي تحرّك فلسطيني في لبنان وتحاول تدميره في مهده. وهذا الوضع المستمر منذ أكثر من ثلاثين سنة قد جعل من الساحة اللبنانية ميداناً لصراع مرير أفرز وضعاً خطيراً كان من نتائجه استمرار إسرائيل في ضرب الأراضي اللبنانية.. لاستئصال كل نشاط فلسطيني أو لبناني معاد لها. وهذا الوضع خلّف حالة من النزوح السكاني للجنوبيين باتجاه الشمال ودماراً شاملاً لقراهم ومناطقهم.
كما أفرز هذا الوضع نشوء المنظمات الفلسطينية المسلّحة والكفاح المسلّح على الأرض اللبنانية وما استتبع ذلك من اشتداد وحدّة الصراع المسلّح على الأرض اللبنانية سواء لجهة استمرار الشراسة الإسرائيلية في ضرب الأهداف المقاومة ضمن الأرض اللبنانية براً وبحراً وجواً، أم لجهة استعار الصراع بين الفصائل الفلسطينية المسلّحة نفسها على الأرض اللبنانية واتخاذ الساحة اللبنانية ميداناً للنقاش والنزاع والتصفيات الجسدية.
ولابد من تسجيل انعكاس هذه المسألة على الساحة اللبنانية بما تحتويه من تركيب اجتماعي هش قابل للانفجار عند اشتعال أي فتيل. ولابد من الاعتراف بأن الوجود الفلسطيني في لبنان قد ساهم إلى حد كبير في مسلسل الأحداث اللبنانية بدءاً بأحداث سنة 1958 وانتهاءً بالحرب اللبنانية الأخيرة وما أفرزه هذا التدخل من انقسامات مناطقية ومن حروب داخلية وفتن طائفية ومذهبية..
ثالثاً: نشوء المقاومة اللبنانية المسلحة.
إن شراسة الهجمة الإسرائيلية على الأرض اللبنانية، لاسيما بعد اجتياح سنة 1982 وخلق ما يسمى بالشريط الحدودي وإيجاد طابور لبناني خامس ونيط بإسرائيل عسكرياً وسياسياً. إن هذا الوضع الناشئ عن الاحتلال أوجد المقاومة اللبنانية الوطنية والإسلامية على الأرض اللبنانية التي أصبحت تعمل جنباً إلى جنب وبالتنسيق أحياناً مع فصائل المقاومة الفلسطينية ضمن الأراضي اللبنانية وخارجها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، كل ذلك بالتزامن مع مسار الانتفاضة الفلسطينية المباركة ضمن الأراضي الفلسطينية المحتلة وما أخذته هذه الانتفاضة الميمونة من نقلة نوعية في مسار النضال الفلسطيني داخل الأرض المحتلة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وبعد ما هي النتائج المترتبة على محمل هذا الوضع؟
ماذا عن القرار 425 والمفاوضات الإسرائيلية العربية؟
ماذا عن مصير الفلسطينيين داخل الأراضي اللبنانية وموضوع التوطين؟
ماذا عن أطماع إسرائيل في الأراضي اللبنانية والمياه اللبنانية؟
هل أن يستقيل لبنان وينتهي عصر المفاوضات العربية الإسرائيلية؟
ما هو مصير التسوية الإسرائيلية الأميركية المنوي فرضها على العرب تحقيقاً للسلام الإسرائيلي الأميركي في المنطقة؟!...
ما هو مصير المقاومة اللبنانية بعد فرض التسوية، هل ستنتهي أم ستستمر بأساليب جديدة؟
ما هي انعكاسات هذه التطورات على الوضع اللبناني الداخلي؟
هل إن هذه التطورات ستزيد من تفتت البيئة الاجتماعية اللبنانية وتزيد من تأجيج الصراعات الداخلية والطائفية.
أم أن هذه الأوضاع ستكسب الوضع اللبناني مناعة وتماسكاً وقوة في وجه الهزات والمؤامرات الإسرائيلية؟
هذه الأسئلة وغيرها هي ما يمكن أن تُطرح على بساط البحث والمناقشة في معرض البحث عن ارتباط لبنان بالقضية الفلسطينية. ومعنا في هذه الأمسية الأساتذة:
محمود سويد، وهو مدير مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
والأستاذ جوزيف اليازجي وهو قاضٍ كبير استقال أثناء الأحداث اللبنانية وعاش في فرنسا وتفرّغ للفكر والكتابة، وأهم ما أنتجه كتاب الحرب اللبنانية، هل هي من مظاهر النزاع العربي الإسرائيلي والصادر في باريس عام 1991 في اللغة الفرنسية والذي تُرجم للغة العربية. وهذا الكتاب الهام نال جائزة الكُتّاب الفرنسيين لتلك السنة.
وقد قام جاك شيراك في 22 نيسان 1991 حفلة تكريمية له في بلدته باريس على شرف المؤلف والكتاب، دُعيَ إليها السلك الدبلوماسي والصحافة والتلفزيون والأوساط الفكرية والسياسية وكانت وسام شرف للمُؤلّف ولبنان.
وقبل أن أعطي الكلام للمحاضرين، اسمحوا لي أن أعلن أمامكم برنامج اللجنة الثقافية خلال نيسان أو أيار 1992:
1- ندوة: أين أصبحت مفاوضات السلام وإلى أين. الخميس في 15/4
2- ندوات أخرى يحدد زمانها في حينه حول جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في صيدا والواقع والمستقبل، وسلسلة من الندوات حول موضع عام: إشكالية التنمية والسياسة الضريبية والمالية في لبنان. وهي من سلسلة محاضرات سوف نعلن عنها في حينه.
* * *
مداخلـة الأستاذ محمود سويد
مدير مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـ بيروت
I ـ لبنان والقضية الفلسطينية في الماضي.
إن أهم ما يميز علاقة لبنان بالقضية الفلسطينية في الماضي هو أنها أحد أبرز عناوين الانقسام الداخلي الذي حال ولا يزال يحول دون وحدة الأرض والشعب، بما يعني ذلك من بناء وطن وتطلّع إلى المستقبل.
ليست القضية الفلسطينية هي سبب الانقسام بل هي دليل عليه أو مظهر من مظاهره. فاللبنانيون منقسمون على مواضيع أخرى عديدة، داخلية (مَن وكيف يحكم لبنان؟!) وخارجية (مسألة العروبة!!)، وهو انقسام زامن القضية الفلسطينية وتأثر بها سلباً وإيجاباً. وأورثنا، بعد حرب ضارية، ثلاثة عناصر أساسية: احتلال جزء من لبنان، المقاومة، التوطين. ولكل من هذه العناصر تأثيرات مستمرة في أوضاع لبنان. وحتى عندما نشأت القضية الفلسطينية وهاجر قسم من الفلسطينيين إلى لبنان، حكم الانقسام النظرة إلى الحدث فتعامل معه بعض اللبنانيين على أنه قضية قومية كبرى، وتعامل معه البعض الآخر على أنه صفقة مربحة: رؤوس أموال، وخبرات ويد عاملة رخيصة.
II ـ لبنان والقضية الفلسطينية في الحاضر.
1- ساعد قيام الانتفاضة في الأراضي الفلسطينية المحتلة انحسار زخم القضية الفلسطينية عن لبنان، الأمر الذي سهّل ـ بين أمور أخرى ـ عقد اتفاق الطائف بين الفرقاء اللبنانيين، لإنهاء الحرب الأهلية، وإيجاد قاعدة انطلاق لتوحيد الأرض والشعب والمؤسسات، وبناء ما دمّرته الحرب المتمادية. لكن الأخطاء التي ارتُكبت في تنفيذ اتفاق الطائف عمّقت الانقسام بدلاً من إزالته، وأنشأت وضعاً يشبه النار تحت الرماد.
2- ودخل لبنان مفاوضات السلام على أمل التوصل إلى حل ينهي الاحتلال والمقاومة معاً وينقذ البلد من أخطار التوطين. فتكتمل صورة التسوية اللبنانية داخلياً وخارجياً ويتوطد السلام الأهلي وتنطلق ورشة أعمار لبنان الغد، لبنان القرن الواحد والعشرين.
3- لكن لبنان يخوض معركة السم والبناء وسط ظروف عربية قاتمة: انقسامات وحروب أهلية وخلافات حادة واحتلال مباشر في الخليج والقرن الأفريقي وانعدام الثقة بين الأنظمة وشعوبها، والإفلاس السياسي والمالي، وانفجار الطوائف والإثنيات ، وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في كثير من البلاد العربية إلى درجة متدينة جداً.
4- يسود العالم نظام الدولة العظمى المنفردة، العاقدة مع إسرائيل تحالفاً استراتيجياً. في ظل هذا الوضع انهار التوازن المنشود في القوى بين العرب وإسرائيل لأسباب كثيرة منها: حظر التسلّح والإنهاك الداخلي، وغياب الحد الأدنى من التضامن العربي الفعال، ومحاصرة الدول العربية واحدة واحدة، وتفكيكها إلى طوائف متقاتلة أو إثنيات وقوميات تخوض حروبها الانفصالية.
وفي ظل هذا الوضع قضى على شعارات عاشت عليها المنطقة سنوات طويلة: العروبة، الوحدة، تحرير فلسطين. وحلَّ محلها لفترة قصيرة: العلاقات العربية الاتحادية، الدولة الفلسطينية المستقلة، الأمن العربي.. ثمّ ما لبث أن حل محلها اليوم: النظام الشرق أوسطي، الأمن الإقليمي، تقسيم الموارد بين دول المنطقة إلخ.
أيُّ لبنان سيقوم وسط هذا الركام العربي ووسط ما يرسم للمنطقة بمعزل عن إرادتها ورغبات أهلها، وهل يمكن أن يتأسس على هذا الوضع سلم عادل؟ وما هي علاقة لبنان بالقضية الفلسطينية حاضراً ومستقبلاً؟
لنلاحظ أولاً أن طبيعة العلاقة هذه قد تغيرت بتغيُّر الظروف: من دور لبناني شعبي منخرط في مشروع تحريري (حِقبة المقاومة الفلسطينية والوطنية اللبنانية) إلى مرحلة مفاوضات سياسية رسمية تهدف إلى إنهاء الاحتلال للأراضي اللبنانية، أما ما تبقى من مقاومة على الأرض، فهي على أهميتها، تكاد تقتصر على الاتجاه الإسلامي وتكاد تكون محصورة بالجنوبيين دون سواهم من اللبنانيين، وهي لا تعبر عن إرادة شعبية لبنانية جامعة بقدر ما تعبر عن حالة محلية معزولة وعن إفراز أيديولوجي مستمدة ـ أساساً ـ من، ومستند ـ أساساً ـ إلى عوامل خارجية.
ولنلاحظ ثانياً هذا الانفصام الكامل بين المقاومة على الأرض وبين جمهرة المثقفين. المقاومة تقاتل إسرائيل والمثقفون يصوغون النظريات غير المتفاعلة على الإطلاق مع واقع المقاومة، ويهدرون الكثير من الكلام الذي لا يرقى غالباً إلى مستوى النظريات، ولا يعيش ويستمر إلا لكثرته حتى صار شعارات وطقوساً تتكرر بذاتها ولذاتها: دعم المقاومة، دعم صمود الأهالي في قراهم، بناء الملاجئ، إلخ... هذا المخزون المتراكم منذ أوائل السبعينات في خطاب الحركة الوطنية اللبنانية ولقد اكتشفت الدولة اللعبة واستساغتها، فانخرطت في مهرجان الكلام غير المسؤول وصارت تطالب مثل غيرها بدعم المقاومة وحق المقاومة وصمود الأهالي، كما لو أنها تتحدث عن شعب آخر في بلد آخر، إذ وجدت ولو متأخرة، أن بإمكانك أن تردد كل يوم الحديث عن دعم المقاومة دون أن تفعل شيئاً من أجلها، ومع ذلك تصنّف وطنياً مناضلاً من أجل تحرير الأرض والناس.
III ـ لبنان والقضية الفلسطينية في المستقبل.
إن جذر المسألة يرتبط بالتسوية اللبنانية الداخلية: هل تريد الطوائف اللبنانية أن ترتقي بعلاقاتها إلى مستوى الوطن؟ أيُّ نظام سياسي يريد اللبنانيون؟ وأية نظم تعليمية وتربوية؟ أيُّ ثقافة؟ وفي ضوء ما يختار اللبنانيون أو لا يختارون، كما فعلوا في الماضي، تتحدّد علاقتهم بالمحيط.
الذين اجتمعوا في الطائف حسموا أمرهم وحدّدوا هوية لبنان بأنها عربية. لكن ما هي العروبة اليوم، وبماذا تتجسّد؟ ثمة ما يبرّر الخشية من أن تكون عروبة لبنان التي سمح بتكريسها في الطائف هي عروبة الأنظمة التي نعرفها جيداً والتي تقوم على تزييف النظام الديمقراطي والحريّات النقابية والعامة. فلبنان ما بعد الحرب، العاجز عن تسيير أموره، يقاد إلى الانخراط في النمط العروبي السائد في المنطقة، في أشد ظروف المنطقة انحطاطاً وبؤساً. اكتسب لبنان الجنسية العربية عندما صارت العروبة مشروعاً لصلح استسلامي مع إسرائيل اسمه: النظام الإقليمي أو الشرق أوسطي.
وما لم يفهم اللبنانيون الطائف على أنه تسوية مهمة باعتبار أنها تُنهي الحرب، لكنها لا تعفيهم من الإمساك بمصيرهم وتحديد مستقبلهم وإدارة أوسع حوار صريح وجاد ومسؤول فيما بينهم انطلاقاً من إرادة حقيقية بالعيش المشترك وتنظيم البيت لمواجهة الخلافات الأساسية التي أوصلتهم إلى الحرب. وما لم يفعلوا ذلك، فإن الحرب الأهلية تظل دائماً هي الاحتمال الآخر.
الطائفية، الديمقراطية والحريات، العلاقات العربية ومنها القضية الفلسطينية، هي المحاور الرئيسية التي يحتاج اللبنانيون إلى التحاور بشأنها.
1ـ رسخ النظام الطائفي نمطاً سلطوياً يصعب الفكاك منه. فلقد منح هذا النظام الطائفة الحاكمة امتيازات سياسية وإدارية واقتصادية وتعليمية وثقافية، لا تزال تثير شهية الطوائف الأخرى، فإذا ما طرح أمر تنظيم أحد هذه المجالات وإعادة بنائه، تتداعى الطائفة إلى رص الصفوف وحشد السلاح واتخاذ وضعية الاستعداد للهجوم لانتزاع أكبر حصة ممكنة من الغنائم. وهكذا وحتى عندما يطرح إلغاء الطائفية السياسية، تتحول الدعوة إلى طائفية أشد عصبية، فكأنها دعوة إلى مزيد من الطائفية والانتماء الطائفي.
لم يقم في لبنان منذ إنشائه، قبل نصف قرن، حكم أو مجتمع مدني جعل من إلغاء النظام الطائفي حزباً لبنانياً جامعاً أو طائفة لبنانية فوق الطوائف وأعطى هذا الشعار مضموناً عملياً منهجياً مستقبلياً حضارياً وثقافياً وذلك بتحويل التعددية في لبنان من وسيلة تفرقة وإفقار ثقافي وحروب إلى تجربة حضارية غنية مبدعة.
ليس إلغاء النظام الطائفي قراراً يتّخذه مجلس نواب أو مرسوماً تصدره حكومة، بل هو عملية اجتماعية تراكمية تنفّذ على مراحل وفق منهجية تحظى برعاية كل المجتمع واقتناعه وقبوله.
2ـ من هنا العلاقة العضوية بين إلغاء النظام الطائفي، وتطوير التجربة الديمقراطية والحريّات العامة، يسيران معاً خطوات متدرّجة، ولكنها واضحة وصلبة وواثقة، فلا يتحولان إلى غطاء خارجي يخفي وراءه عصبية طائفية أشد، وفلتاناً وفوضى وارتهاناً بأشكال مختلفة.
فالديمقراطية نظام مجتمعي ينطلق من المساواة، وحقوق المواطن وحريته المصانة، وسلطة الحكومة، وحق المعارضة، وسلطان القانون.
والممارسة الديمقراطية الصحيحة، أرقى ما بلغته حضارة عصرنا، وعصارة حضارات العصور الماضية، لا تتحقّق في مجتمع متخلّف يتّسم بالأمية والجهل والفقر وعدم المساواة.
3ـ قد يبدو الكلام على إلغاء النظام الطائفي وتطوير التجربة الديمقراطية وصون الحريات العامة، خارجاً عن موضوع بحثنا، لكنه في الحقيقة في صميمه. فلبنان كتجربة حضارية تعدّدية هو أحد أبرز التحدّيات التي تواجهها إسرائيل، وفشله في مواجهة هذا التحدّي يساوي إلغاء مبرّر وجوده.
ولأن لبنان حالة خاصة في المنظومة العربية، فإن دوره لا يكون في تلقّي عروبة مصنّعة له ولسواه، بل في الإسهام الفعّال في تكوين وترسيخ الهُوية العربية الحضارية التي تستمد من التراث دون عُقَد وتنتمي إلى العصر دون انمحاء في آن معاً.
إن التحديات التي يطرحها "النظام العالمي الجديد" على الرابطة العربية تضع هذه الرابطة أمام امتحان عملي في زمن التكتلات العالمية السياسية والاقتصادية والثقافية الحضارية، بل إن طرح النظام الإقليمي بديلاً للنظام العربي، على أساس أنه يشمل إسرائيل وتركيا وإيران، هو بحدّ ذاته إلغاء للمفهوم القومي العربي وتفكيك للعلاقات العربية حتى في مستوياتها الدنيا، وهو ما يحدث لجامعة الدول العربية التي تذوي، بتخطيط أميركي مدروس وطاعة عربية ملموسة، بالتناغم مع تقدم بناء مشروع النظام الإقليمي.
فقد كانت حرب الخليج نقطة انطلاق مهمة لتحضير المنطقة لمرحلة الصلح مع إسرائيل، فتقاد إلى المفاوضات بلداناً متنافرة مفلسة ومستسلمة.
إن مفاوضات التسوية الدائرة لا يمكن، من حيث المبدأ، أن تُفضي إلى حل متوازن وعادل للصراع العربي الإسرائيلي. ذلك أنها لا تنطلق من وضعية التكافؤ بين طرفيها العربي الإسرائيلي. إنها تسوية أميركية إسرائيلية مفروضة. وسيكون لبنان جزءاً من هذه الصفقة الشاملة. بل لعلها أول مرة يتحمّس الغرب لانخراط لبنان إلى جانب شقيقاته العربيات في المصير الواحد، فيدعى إلى مفاوضات ثنائية لا تخصّه من حيث موضوعها، ويشد شداً إلى المفاوضات المتعدّدة الأطراف، حيث يجري صوغ النظام الإقليمي الجديد.
والتماسك الداخلي على أسس واضحة وجامعة هو طريق الخلاص. بناء النظام اللاطائفي الديمقراطي الذي يصون الحريات وحقوق المواطن والجماعات بالعدل والمساواة وسلطة القانون، والذي يرعى مؤسسات المجتمع المدني النقابية والثقافية والحزبية ويحترم حقوقها في العمل والتنوع والمراقبة والمعارضة.
هذا هو لبنان الذي يسهم في التأسيس لعروبة قادرة على العيش في القرن المقبل، وفي تجديد الفكر القومي، والتصدّي الحضاري لنموذج الدولة اليهودية العنصرية القائمة على الدين والجنس الواحد. وهذا يعني أيضاً أننا نحن المسؤولون عن صورة مستقبلنا وألوانها.
* * *
مداخلة القاضي جوزيف اليازجي
إخواني ،
لأسباب قاهرة أخطر الأستاذ جورج ناصيف للتخلّف عن إلقاء محاضرته هذا المساء. وقد رغب إليَّ صديقنا الدكتور مصطفى الدندشلي أن ألقيَ عليكم كلمة في الموضوع وذلك في آخر لحظة. لهذا أرجو المعذرة عن تقصيري إذ لم يتسنَّ لي الوقت الكافي للاستعداد حتى يكون كلامي بمستوى يليق بالمستمعين هذا المساء، إلا أنني سأحاول راجياً ألا يكون حكمكم عليّ قاسياً.
إخواني،
كثيراً ما سمعنا كلمة "لبنان والقضية الفلسطينية". إننا نسمع هذا التعبير وأمثاله منذ حوالي نصف قرن. وإننا نتساءل ما هو الواقع الذي يختفي وراء هذه الكلمات. ليس ثمّة قضية فلسطينية، ولا قضية لبنانية ولا قضية مصرية أو أردنية أو خليجية، هناك قضية شرق أوسطية، عربية بمعظمها. قلت بمعظمها، لأنها تتناول إيران أيضاً وهذه القضية كناية عن حقوق وطنية تتنازع مع أطماع اقتصادية دولية وكل القضايا التي ذكرنا ليست إلاّ أوجُهاً لها. أوجُه مختلفة لحقيقة واحدة.
فبلدان شبه الجزيرة العربية والعراق وإيران هي إحدى المناطق الأكثر غنى في العالم. وقبل تدفّق البترول واستثماره على نطاق واسع لم تكن هذه البلدان بمعظمها إلاّ مساحات صحراوية شاسعة لا قيمة لها تذكر اللهم إلا ما كانت عليه كمركز جغرافي يصل بين أوروبا والشرق البعيد، والهند بنوع خاص. من هنا نشأ التزاحم للسيطرة عليها بين القوّتين العظميين في تلك الحقبة أي فرنسا وانكلترا. ولم تكن بعد الولايات المتحدة قد خرجت من قوقعتها الأميركية وأظهرت على الملأ ادعاءاتها الدولية.
والتطور السريع الذي عرفته الصناعة خلال القرن العشرين خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، والحاجة المُلِحّة إلى الطاقة، المتعاظمة يوماً بعد يوم، لفتت الأنظار إلى موارد المنطقة البترولية، وفهمت جميع القيادات العالمية أن من يسيطر على المنطقة يؤمّن لنفسه القوة الاقتصادية والتفوّق العسكري. ولتسهيل هذه السيطرة بأفضل الشروط كان من الواجب الإبقاء على التخلّف السائد في الشرق الأوسط منذ بضعة قرون والحؤول دون وصول شعوبه على وسائل التطوّر والرُقي.
وكيف ذلك والبترول، وإن دفع فيه ثمن بخس، فإنه سيترك لكثرة ما قد يُباع من أموالاً طائلة للبلدان المنتجة، وهذه الأموال سوف يتحوّل حكماً قسم منها ولو ضئيل إلى أُسس بنيوية؟ فرأى من بيدهم الأمر إن الضرورة تقضي بمنع ذلك وهدر الأموال في استثمارات غير مجدية، ولذلك يقتضي خلق توتر خطير في المنطقة يدفع بأنظمتها المهلهلة التي تساندها وتدعمها القوى المالية العالمية إلى الإكثار من شراء الأسلحة لحماية نفسها. ولم يكن آنذاك التهويل بالاجتياح الشيوعي كافياً بحدّ ذاته، ومن اللازم خلق حالة محدقة أكثر شراً تهدد بالخطر حياة الشعوب العربية والشرق أوسطية الآمنة وتراثهم الحضاري والديني وتوازنهم وعلى الأخص سلامة أراضيهم.
وكانت الفرصة الذهبية سانحة لمخططي السياسة الدولية ووراءهم قوى الضغط المالية العالمية والأميركية بنوع خاص فزرعوا دولة إسرائيل في قلب الوطن العربي لبلاغ غايتهم المنشودة.
ورب معترض يقول، لم تسليط الأضواء دوماً على الدور الأميركي وتناسي دورَ دولة عظمى في ذلك الزمان وقد ساهمت رغم كونها دولة اشتراكية لا رأسمالية، على قدم المساواة في خلق دولة إسرائيل، وقد عنيت بهذه الدولة الكبرى الاتحاد السوفياتي.
وثمة اعتقاد سائد يجيب على هذا الاعتراض وهو أن المساهمة السوفياتية والأميركية لم تكن صادرة عن الأسباب ذاتها. فقد كانت رغبة الاتحاد السوفياتي سنة 1948، أي سنة ولادة إسرائيل، محاولة خلق أنظمة سياسية في العالم على غرار النظام السوفياتي أو المساهمة في إقامة ما يشابهه. وكان أوائل المهاجرين اليهود في فلسطين، وكثيرٌ منهم جاء من الدول الشرقية، يعيشون في نظام اقتصادي شبيه بنظام الكولخوزات السوفياتية إلى حدّ بعيد. وفي ذلك الوقت كانت غالبية الشعوب العربية تعيش في حالة تخلّف اقتصادية وثقافية كبيرة يسودها عاطفة دينية بدائية موروثة منذ القدم، كثيراً ما تخلط بين أساس المعتقد والخرافات التي يُلصقها به الجهل. وكان من الطبيعي أن يقع اختيار ستالين السيد المطلق للاتحاد السوفياتي على اليهود القادمين من أوروبا وهم على قدر من العلم يمثلون بنظره أساس دولة اشتراكية مقبلة في الشرق الأوسط. وبعد غياب ستالين واستيعاب خلفائه للحقيقة الصهيونية رجع هؤلاء عن الخطأ وساندوا القضية العربية.
أما المساهمة الأميركية فقد كانت صادرة عن رغبة هذه الدولة في إيجاد حليف أمين لها تكون هي سبب بقائه واستمراره وعلَّة وجوده وينفّذ لها بالمقابل كل رغباتها في المنطقة وفي أي مكان من العالم. والتورّط الإسرائيلي منذ بضعة سنوات في إيران ونيكاراغوا وباقي دول أميركا اللاتينية إثبات لصحة هذا الرأي ومكافأة لإسرائيل تقوم أميركا بمساندتها بلا قيد أو شرط، وفي قضية المعتقلين حالياً دليل صارخ على ذلك، إذ بعد أن صوتت أميركا في مجلس الأمن على القرار 799 الذي يقضي بإلزام إسرائيل بإعادة المعتقلين إلى ديارهم، عادت وانضمت إلى وجهة النظر الإسرائيلية الرافضة تنفيذ القرار المذكور، والأمر كذلك بالنسبة إلى القرار 425 المتعلق بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية.
قلنا إن أميركا، مكافأة لإسرائيل على خدماتها، تقوم بمساندتها بلا قيد أو شرط. وبتعبير آخر تكون إسرائيل شبه قاعدة أميركية متقدمة تنفذ أميركا بواسطتها جميع مآربها التي لا تتمكن لسبب أو لآخر، من أن تقوم به مباشرة. ومن المصالح الأميركية المطلوب من إسرائيل المحافظة عليها، إبقاء الشعوب المحيطة بها في حالة تخلّف مستمر، والمحافظة على الأقليات الرجعية الحاكمة ومنع التيارات التقدمية من الوصول إلى السلطة وعدم السماح بتوظيف الأموال الناجمة عن البترول في قطاعات بنيوية أساسية. فَتُهدَر الأموال بإنفاقات تبذيرية أو بشراء أسلحة عديمة النفع.
وانطلاقاً من هذه الاعتبارات نفهم أسباب النزاعات العربية وجميع القلاقل التي تسود الشرق الأوسط من مصر إلى السودان إلى شبه الجزيرة العربية ودول الخليج وغيرها ونصل إلى ما سمّي بالقضية الفلسطينية وطرد الفلسطينيين من ديارهم وتملُّك أراضيهم وعدم السماح لهم بالعودة والقلاقل التي تثيرها قضية وجود اللاجئين بكثرة في بعض البلدان أهمها الأردن وسوريا ومصر ولبنان، والحرب اللبنانية وقد كان فيها الوجود الفلسطيني الحجّة التي أشعلتها، كما كان النابض لكل الأزمات التي عصفت وما زالت تعصف بالشرق الأوسط.
فعلى أثر تكوين دولة إسرائيل سنة 1948 أخذ الفلسطينيون يتدفّقون هاربين إلى لبنان وكانت أعدادهم تتزايد على إثر كل أزمة عربية إسرائيلية أو عربية فلسطينية، وكان لبنان يجتذبهم، بالأفضلية عن سواه، بمناخ الحرية السائدة فيه والرخاء الاقتصادي الذي كان يؤمن لهم، حتى في المجتمعات، حياة أقل تعاسة مما هي عليه في سائر الأماكن. ورغماً عن أن فئة نشيطة منهم ومتوسطة الأحوال المادية أقامت في المدن، فإن الغالبية تجمّعت في مخيّمات أُقيمت على عجل وأضحت تكديساً من اللاجئين المعدمين تؤمّن المساعدات الدولية أدنى حاجاتهم. وبعد هزيمة الجيوش العربية سنة 1967 فَهِمَ الفلسطينيون إن مستقبلهم قضية تتعلق بهم دون سواهم ومسؤوليتها تقع عليهم قبل غيرهم من العرب، فبدأوا ينتظمون في ميليشيات عسكرية ثمّ توصّلوا إلى إنشاء جيش حقيقي مقاتل غايته استعادة بلادهم وأموالهم المسلوبة. وقد سهّل وجودهم متجمّعين في المخيمات تدريبهم العسكري والتحاقهم بالوحدات المختلفة. وضعف السلطة اللبنانية وتخاذلها أمام أبسط واجباتها شجّع الانفلاش العسكري الفلسطيني.وأخذت إسرائيل تقوم بغارات متوالية شبه يوميّة على المراكز التي يكثر فيها الفلسطينيون مما خلّف في نفوس هؤلاء حقداً دفيناً على السلطة اللبنانية لتقاعسها عن الدفاع عنهم وعمّن بينهم، أو بالقرب منهم من اللبنانيين. واتّسعت الهوّة بين الدولة والمقاومة وإن كان قسم كبير من الشعب يؤيد قضيتها. وقرّر الفلسطينيون أن يأخذوا بيَدهم أمر حماية أنفسهم وأن لا يعتمدوا على السلطة الرسمية. فبدأوا بالمخيّمات وضواحيها وامتدوا بعدَها أحياناً إلى داخل المدن، وتوالت التحرّشات والتحدّيات والتجاوزات غير المقبولة، وكثيراً ما كانت دامية. والدولة التي كان يهيمن عليها تيار المارونية السياسية الموالي للغرب وما تفوح منه من روائح إسرائيلية بدا موقفها مثيراً للتساؤل. وقد اتّهمها البعض بالتواطؤ ولم يكن هذا الاتهام مجانياً بالنسبة إلى كثير من دوائرها ومسؤوليها.
وكما قلنا كان الشعب اللبناني يؤيّد الفلسطينيين ويعطف عليهم ويتألم من المأساة الظالمة التي ألمّت بهم. وقد خفّ هذا الشعور مع الزمن وأضحى التعايش اللبناني الفلسطيني يزيد عبئاً يوماً بعد يوم بسبب المشاكل المتزايدة كالمزاحمة على موارد الرزق والانتهاكات الأمنية الناتجة عن الوجود الفلسطيني المسلّح وضعف السلطة المستمر وقد زاده تدهوراً تصرّف بعض الساسة الذين اشتراهم الأجنبي أو غرّر بهم.
وأضحت الساحة اللبنانية، بعد أن عمّ فيها الفقر. ضعف السلطة، والتكالب المستميت على الربح، وإن كانت موارده حراماً، وقصر النظر عند كثير من المسؤولين، وانعدام الأمن، مستنقعاً تسطع منه رائحة البترول والأموال المشبوهة وانعدام العدالة الاجتماعية، تروح وتجيء فيه التيارات السياسية والغرائز والشّهوات الدنيئة تتشابك فيه مصالح الدول القريبة والبعيدة وكل واحدة وجدت لها أو اشترت لها محلياً من يساندها، فكان من الطبيعي أن لا تجد إسرائيل فرصة أكثر ملاءَمة للبدء بتنفيذ مخطّطها القاتل.
وكانت الحرب اللبنانية وما عرفنا فيها من أهوال خلال سبعة عشر عاماً وما زلنا نُعاني من نتائجها حتى اليوم والسؤال ما العمل؟.
لقد تحطّم لبنان وسقط فيه عشرات الألوف من القتلى وتهدّمت أُسسه البنيوية وأصبح حقل خراب واسع وتهجّر أو هاجر أكثر من ثلث بنيه وأفرغ من قسم كبير من قواه الحيّة، والفلسطينيون وقد سقط منهم العدد الكبير من القتلى والجرحى في الحروب العربية الإسرائيلية والعربية العربية ما زالوا في المحنة تلو المحنة منذ حوالي نصف قرن ولم تَلِح بعد لهم تباشير الفجر. والدول العربية الغنية تحطّمت أو استنفدت أموالها ومداخيلها وأصبح الوجود العسكري الأجنبي في البعض منها عبئاً على حرية قرارها الوطني.
فهل آن لهذا الليل أن ينجلي؟
إذا وعينا حقيقة المشكلة هان علينا إيجاد الدواء، والعلاج وعندما تفهم شعوب المنطقة عربية أو غير عربية أو إسرائيلية إنها ألعوبة بيد القُوى العالمية المادية تسخّرها وتضحّي بها على مذابح مطامعها وشهواتها، عليها أن ترفض الدور الذي يجعلونها تلعبه وتذهب في اتجاه السلام والديمقراطية وتلفظ الحكّام الذين هم ألعوبة في يد هذه القُوى الخارجية.
الشعوب جميعاً تَنشد السلام والطمأنينة، فإسرائيل بشكلها الحاضر، أي دولة عنصرية لدين واحد أو عرق واحد لم تُحلَّ مشكلة اليهود في العالم بل زادتها تعقيداً واليهودي خارج إسرائيل في لندن أو باريس أفضل حالاً من اليهودي في إسرائيل الذي مازال منذ حوالي نصف قرن هو وأولاده وأحفاده ينامون قلقين بعين واحدة ويدهم على زناد البندقية خوفاً من جيرانهم. وفي كل مرة تندلع الحرب بينهم وبين العرب أولادهم هم الذين يموتون في الصحارى لا أولاد من يخدمون من أصحاب الرساميل الضخمة ملوك البترول الذي تؤمّن سياسة إسرائيل الخرقاء مصالحهم. مصلحة الشعب اليهودي في إسرائيل وفلسطين أن يكونوا في سلام مع جيرانهم العرب وأن يرفضوا السياسة التعسّفية التي يتبعها حكامهم. فالشعب إذا أراد العيش بسلام عليه أن يعتمد على صداقة جيرانه ومحبتهم لا على تفوُّق عسكري مزعوم أو موقّت وخاصة مرهون بمساعدة دولة أجنبية كبيرة. إذ ماذا يصبح الوضع لو غيّرت هذه الدولة الكبيرة، أي أميركا، سياستها تجاه إسرائيل. فالتحالفات ليست أبدية ويمكنها أن تتبدّل. فماذا يكون مصير الشعب اليهودي في إسرائيل عند ذاك، ولم تترك إسرائيل للصلح مكان، كما يقولون، إنما تراكم الأحقاد والضغائن أليس من الأفضل أن تنتهج الدولة العبرية سياسة سلمية وحسن جوار مع جيرانها العرب.
العرب إذا وصلتهم حقوقهم كاملة لم تعد لهم مصلحة في النزاع وقبل الصهيونية لم تكن لديهم مشاكل مع اليهود ولا يصعب عليهم التعايش معهم، إنما يشترط لذلك إجراء عملية السلام بصورة عادلة لجميع الفرقاء إلاّ سلاماً يُفرض بالقوة صادراً عن غطرسة المغرور بوضع معيّن آني يحمل في طياته انفجاراً رهيباً عند أول فرصة. والتاريخ يعيد نفسه وعلينا أن لا ننسى إن معاهدة الصلح التي عُقدت في فرساي عقب الحرب العالمية الأولى ولم تأخذ بعين الاعتبار سوى مصالح المنتصرين الآنية هي التي أشعلت الحرب العالمية الثانية التي دمّرت أوروبا وقسماً من العالم.
إخواني،
السياسة التي ينتهجها حكام إسرائيل اليوم سياسة تتناقض مع مصالح الشعب اليهودي ذاته. وكثيرٌ من اليهود في العالم فهموا هذا الأمر. إلاّ إن العدد الأكبر منهم وخاصة في إسرائيل مازال ضحية غسل دماغ رهيب يجعله يتخبّط في جوٍّ مستمرٍ عدائي للعرب، ومحاولات إسرائيل استقدام المهاجرين من الخارج لتكثير عدد مواطنيها لن يجديها نفعاً ولن يعطيها الاستقرار الذي تفتّش عنه، إنها تسير في مجرى مُعاكس لسير التاريخ والتطوّر الطبيعي.
واسمحوا لي أن أقرأ عليكم ختاماً نبذة صغيرة من الخلاصة النهائية لكتاب الحرب اللبنانية الموجّه إهداءً إلى الرأي العام العربي، ننهي بها هذه الكلمة الموجزة لموضوع شائك يتطلّب لشرحه وفهمه مجلّداتٍ عدّة:
ص 276 واليوم يدور البحث في أمر إعطاء....