المحرر - التقارب الصيني ـ الأميركيّ بين الواقع والتوقيع ... ( 1) - د. مصطفى دندشلي .
التقارب الصيني ـ الأميركيّ بين الواقع والتوقيع ... ( )
بقلم : د. مصطفى دندشلي .
من المقرر أن يسافر الرئيس نيكسون إلى بكين في الربيع المقبل . وهذه الزيارة إن تمّت ، ولم يقع أحداث سياسيّة خطيرة ما يدفع الطرفين أو أحدهما إلى إلغائها ، فإنّها ستكون الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين التي يذهب فيها رئيس الولايات المتحدة الأميركيّة إلى الصين . وهذا حدث بحدّ ذاته وفي الظروف الحاليّة للسياسة الدوليّة ، من المحتمل ، فيما لو تحقّق ، أن تكون له نتائج في غاية الأهميّة .
ومن الواضح في الأونة الأخيرة ، أنّ الدبلوماسيّة الأميركيّة تسعى لتحسين علاقاتها مع جمهوريّة الصين الشعبيّة ، مستخدمة من أجل ذلك شتّى الأساليب وعلى مختلف المستويات . فبعد أن بقيت واشنطن مدّة طويلة تمارس شتّى الضغوط ، المباشرة وغير المباشرة ، لتحول مثلاً دون انضمام بكين إلى هيئة الأمم ، عادت الآن وأظهرت تراجعاً ملموساً ، أو بتعبير أدقّ ، أجبرت على التراجع في هذا الصدد .
كيف يمكن تفسير ذلك ؟… وما هي الأسباب العميقة التي دعت الولايات المتحدة إلى تعديل سياستها الصينيّة ؟… وإلى أيّ مدى يمكن أن تصل سياسة الانفتاح التي نلمسها سواء في السياسة الأميركيّة أو في سياسة جمهوريّة الصين الشعبيّة ؟…
قبل أن نحاول الإجابة على هذه الأسئلة ، يجدر بنا أولاًأن نشير إلى أنّ الاتصالات الأميركيّة الصينيّة ، ليست حديثة العهد . بل هي تمتدّ إلى أكثر من عشر سنين مضت ، حيث تمّت سلسلة من المحادثات الدوريّة بين البلدين في فرصوفيا ، عاصمة بولونيا ، على مستوى سفرائهما هناك .
وإذا كانت الاعتداءات العسكريّة الأميركيّة على جمهوريّة فيتنام الشماليّة قد أوقفتها لفترة من الوقت ، إلاّ أنّها لم تلبث أن عادت ، وإن كانت الصفة الغالبة عليها هي ما يمكن تسميته " بحوار الطرشان ".
ومن الضروريّ أيضاً أن نتوقف قليلاً لنلقي بعض الضوء على الظروف السابقة أو القضايا التي يمكن أن يكون قد تمّ الاتفاق عليها بين الطرفين !… الأميركيّ والصينيّ ، والتي هي بدورها هيأت وأسرعت بإعلان زيارة نيكسون إلى بكين .
والترتيبات التي تمّت في هذا الخصوص ، منها ما أخذ طابعاً فلكلورياً في بعض الصحف الأميركيّة . فالزيارة التي قام بها فريق البنغ بنغ الأميركيّ ، في الربيع الماضي ، إلى جمهوريّة الصين الشعبيّة أثارت من التعليقات والتكهنات والصور الكاريكاتوريّة التي ساعدت في النتيجة ، ومع تناقضاتها ، بتهيئة الجوّ الأميركيّ لإجراء مباحثات أكثر جدّية وأبعد مدى !… هي مباحثات كيسنغر السريّة مع المسؤولين الصينيين في شهر تموز الماضي .
الأميركيون يكتشفون الصين الشعبيّة
من إحدى النتائج ، وليست أقلها ، للمباريات التي أجراها الفريق الرياضيّ لكرة الطاولة ، هي أنّها أظهرت للعالم مدى " الدهشة الشاذجة " للمواطنين الأميركيين أمّا اكتشافهم " اكتشافهم " لجمهوريّة الصين الشعبيّة . لقد أظهرت أيضاً مقدار انغلاق الأميركيين على أنفسهم . وتصوراتهم لما يجري في خارج بلادهم إنّما هو أقرب إلى التخيلات والقصص البوليسيّة منه إلى الواقع .
لقد كانوا يتصورون أنّ الصينيين يعيشون في فقر مدقم وعام ، وأنّ المجتمع الصينيّ تتحكم فيه علاقات العنف والتعسف . وبمعنى آخر ، كانوا يعتقدون أنّ الصينيين هم أناس غير عاديين وغير طبيعيين .
وهذا ما يظهر بجلاء باطلاع على بعض الصحف الأميركيّة التي ظهرت في تلك الفترة . فقد كتبت واشنطن بوست على أثر هذه الزيارة قائلة : " كثيرون من الأميركيين دهشوا عندما وجدوا أنّ المواطنين الصينيين هم أناس كسائر البشر يتنزهون في الشوارع ، ويتحركون ، ويتحدثون ، وليسوا دمى محقونة بعداء مرضيّ ضدّ الأميركيين . فإذا كان الأمر كذلك ، فإنّ هذا يمكن أن يعرفنا على أنفسنا نحن أكثر ممّا قد يعرفنا على الصينيين ".
ومن الطبيعيّ فإنّ بكين لم تكن تريد من وراء هذه الزيارة الرياضيّة أن تثير هذه الدهشة الساذجة ، أو هذا الاستهجان . وإنّما أرادت من غير شكّ أن تحرّك في نفوس الأميركيين عموماً حداً أدنى من الإدراك والوعي لما يجري في العالم الخارجيّ ، وعلى الأخصّ لما يجري في الصين الشعبيّة .
وهذا ما كتبته مجلة " تايم " الأميركيّة قائلة في هذا الصدد : " وأهمّ شيء عاد به الأميركيون بعد زيارتهم هو أن المضيفين الصينيين أرادوا أن ينقلوا إليهم أن الصين اليوم هي مجمع منظّم متحد ، وعقلانيّ …".
وعلى كلّ حال فمن الملاحظ أنّ بكين قد اتبعت في أثناء هذه الظاهرة الرياضيّة تكتيكاً ظاهره الليونة وباطنه التصلب . ففي الوقت الذي كانت فيه تنتقد وتهاجم " صانع الحروب نيكسون " كانت تظهر عن نيّتها لتهدين السور من الكراهيّة بين الشعبين بدعوتهما لإجراء الحوار بينهما .
تصريح شوان لاي يسير في هذا الاتجاه عندما قال بأنّ كلّ نقاش غير عنيف هو مفيد للجميع . إذا فالليونة ، أو الاعتدال التكتيكيّ للدبلوماسيّة الصينيّة يجب أن يفسر على أنّه تحوّل في الخط العام للسياسة الخارجيّة للصين الشعبيّة ، وهذا ما أكدت عليه " تربون دي جنيف " حين كتبت : "أنّ بكين مصمّمة على دعم الحركة الثوريّة للشعوب في كلّ مكان وبكلّ وسائل ، كما فعلت وتفعل ذلك في الهند ـ الصينيّة . من أجل هذا الغرض يهمها أن تفصل الشعب الأميركيّ عن حكومته وعن السياسة التي تنتهجها . والصداقة نحو الشعب الأميركيّ لا تفترض ، من جانب بكين أي تنازل سياسي لحكومة واشنطن ، بل العكس من ذلك هو الصحيح ".
ومن ناحية ثانية ، هناك بعض المعلقين الأميركيين يعتقدون أنّ وراء دعوة الفريق الرياضيّ الأميركيّ إلى الصين الشعبيّة هو خوف هذه الأخيرة من هجوم عليها من حدودها الشماليّة . وتؤكد أيضاً أنّ هناك فئة في الحكومة السوفياتيّة تحبذ فكرة الهجوم على الصين قبل أن يفوت الأوان ومهما كلفت ذلك من تضحيات ، لهذا فإنّ الصين برأي هؤلاء المعلقين الأميركيين ، تحاول أن تتجنب ذلك بأن تخرج من العزلة التي تحيط بها ، وتنضم إلى العائلة الدوليّة لتجد لها فيها سنداً وقوة.
كما أنّ المعسكر الاشتراكيّ يرى من جهته ، في بوادر التقارب الأميركيّ ـ الصينيّ عداء موجهاً إلى الاتحاد السوفياتيّ .
فقد كتبت جريدة النقابات البولونيّة " غلو باسي " : " يجب ألاّ ننسى أنّ الولايات المتحدة تراهن على تكريس انقسام المعسكر الاشتراكيّ . وكلّ محاولات واشنطن الإغرائيّة نحو بكين ، إنّما تتصف بالعداء ضدّ السوفيات ".
الضحكة الكبيرة والاستعداد للمعركة
في هذا الجوّ من التعليقات المتضاربة والنشاط الديبلوماسيّ بين البلدين ، جرت زيارة كيسنغر ، المستشار الخاص للرئيس نيكسون ، إلى بكين في شهر تموز الماضي . والإعلان عن هذه الزيارة ، بعد أن تمّت في كتمان شديد ، يدل على أن الطرفين ، إذا لم يتوصلا إلى إيجاد حلول نهائيّة للمشاكل المعلقة بين البلدين ، فقد توصلا على الأقلّ إلى تحديد مواقفهما المتبادلة ، وعرف كلّ منهما وجهة نظر الآخر بشكل مباشر .
بل أكثر من ذلك ، فإنّنا نرى ، منذ ذلك الحين ، أنّ العلاقات بين واشنطن وبكين لم تحرز أيّ تقدّم ملموس ، على الأقلّ ظاهرياً . والمشاكل الأساسيّة بينهما بقت كما كانت عليه في السابق . وعندما قام الطيران الأميركيّ أخيراً بغاراته المعهودة على بعض المناطق في فيتنام الشماليّة ، قابل ذلك الجانب الصينيّ باحتجاج عنيف وذهب نائب رئيس الوزراء " لي هسيان تيان " إلى هانوي خصيصاً ليؤكد الدعم غير المشروط من جانب الصين الشعبيّة .
هذا ما يدل على أنّ الحديث عن تطوّر العلاقات الأميركيّة ـ الصينيّة إلى شكل طبيعيّ ما زال سابقاً لأوانه ، إذ أنّ كلّ فريق لا يزال يحتفظ بمواقفه ، ولا يتخيّل الحصول السهل على تنازلات من الجانب الآخر .
فالسؤال إذن يطرح في هذا المجال لمعرفة الأسس والدوافع التي تحدّد سياسة كلّ من الولايات المتحدة الأميركيّة والصين .
فالأولى من غير شكّ تنظر إلى جنوب شرقي آسيا كمنطقة استراتيجيّة لها أهميّة كبرى لنفوذها ولتوسعها في الشرق الأقصى ولما تحويه من معادن ومواد أوليّة ضروريّة للصناعة الأميركيّة .
من أجل ذلك فالسيطرة الأميركيّة مباشرة أو غير مباشرة على معظم الدول في هذه المنطقة تكاد تكون شبه كاملة . ومن غير المعقول أبداً أن تتخلى واشنطن عن مركزها هناك ، إلاّ إذا تخلت عن طبيعة نظامها الاقتصاديّ الرأسماليّ التوسعيّ . هذا بالإضافة إلى الهوس المرضي الذي يتحكم في سياستها في علاقاتها مع الدول الاشتراكيّة .
فالتغيير الذي يتحدث عنه البعض ، إنّما هو تغيير في الأسلوب ، أو في التكتيك ، وليس في المضمون أو في الهدف الاستراتيجيّ ، وهذا ما يعبّر عنه بمبدأ نيكسون . ما هو هذا المبدأ ، وما هي الأسس التي يرتكز عليها .
مبدأ نيكسون في الشرق الأقصى
إنّ هذا المبدأ يقوم على قاعدتين أساسيتين ، من جهة خلق قوة عسكريّة كبرى في المنطقة، بفضل المساعدات الحربيّة من الولايات المتحدة ، ومن جهة ثانية ، إعطاء مسؤوليّة أكبر إلى حلفائها في كيفيّة سير المعارك الحربيّة . وعلى هذا الأساس يجب أن يفهم تصريح وزير الحربيّة الأميركيّ ، عندما قال بأنّ اليابان مستعدة لأن تتحمل من مسؤوليتها المتزايدة في الشرق الأقصى ، إذا قررت الولايات المتحدة أن تقلل من وجودها العسكريّ .
كما أنّ الرئيس نيكسون أعلن في شباط سنة 1970 : " أنّنا لا نزال محافظين على التزاماتنا في آسيا ، ونحن قوة كبرى في المحيط الهادئ ، فنحن واليابان نملك مفتاح ، نجاح مبدأ نيكسون في آسيا ".
وفي مقابل ذلك ، فإنّ وجهة نظر الصين هي الأخرى واضحة كلّ الوضوح ، وقطعيّة في هذا الموضوع ، وقد ذكرت بعض الصحف الفرنسيّة ، من مصادر موثوقة ( ورفض البيت الأبيض أن يعلق عليها ) أنّ شوان لاي قد عرض على كيسنغر في تموز الماضي مشروعاً من ثماني نقاط لتحسين العلاقات بين الولايات المتحدة والصين الشعبيّة ، ويعتقد المراقبون أنّ من بين هذه القضايا التي يجب أولاً إيجاد الحلول لها :
ـ انسحاب القوات الأميركيّة من فورموزا فوراً ومن شبه جزيرة الهند ـ الصينيّة .
ـ الاعتراف بحقّ بكين بأن تدخل إلى الأمم المتحدة بكامل حقوقها الشرعيّة ( وهذا الشرط تمّ تنفيذه مؤخراً ) .
ـ ومشكلة ظهور العسكريّة اليابانيّة ثانية .
هذه هي إذن ، من وجهة نظر الصين ، أهمّ القضايا التي يجري النقاش حولها ، والتي يجب إيجاد حلول لها قبل زيارة الرئيس نيكسون لبكين .
وممّا يؤكد صحة هذه المعلومات ، تصريحات رئيس وزراء الصين الشعبيّة شوان لاي ، في 19 تموز الماضي ، أي بعد مدة وجيزة من زيارة كيسنغر إلى بكين ، فقد طلب بإلحاح ـ في محادثات أجراها مع فئة من الشباب الجامعيين الأميركيين ، رحيل الجيوش الأميركيّة من الهند الصينيّة . كما أنّه أكد بأنّ الصين ى تضحي أبداً بحلفائها من أجل بناء علاقات ودّية مع الولايات المتحدة .
فقد قال : " أوّل مطلب للرأي العام ، سواء في الولايات المتحدة أو في أيّ مكان آخر ، هو انسحاب القوات الأميركيّة من كلّ شبه جزيرة الهند ـ الصينيّة . حتى أنّنا نستطيع القول بأنّ هذا الطلب هو أكثر إلحاحاً من عودة العلاقات بين الشعبين الصينيّ والأميركيّ . ولأنّ شعب الولايات المتحدة لا يريد أن يضحي بحياة أبنائه في هذه الحرب القذرة ".
وأضاف رئيس الوزراء الصينيّ : " من أجل ذلك فإنّنا نعتقد بأنّ القضية الأولى التي يجب حلّها هي قضيّة الهند ـ الصينيّة ، فإذا فعلنا ذلك، فإنّنا لا نبني فقط مصلحة شعوب الهند ـ الصينيّة، وإنّما أيضاً مصلحة الشعب الأميركيّ ".
نتضح ممّا سبق ، الشروط التي تضعها الصين لتحسين العلاقات بينها وبين واشنطن . فهي تضع قضية الهند ـ الصينيّة في الوضع الأول ، وهذا ما دعا كثيراً من مستشاري الرئيس نيكسون إلى التخفيف من تفاؤلهم المفرط عندما تصوروا أنّ مشكلة فيتنام يمكن إيجاد حلّ لها في بكين .
كما أنّ الصحافة الصينيّة لا تزال مستمرة ، وبنفس العنف ، في هجومها ضدّ العمليات "الوحشيّة والفاشيّة " التي تقوم بها أميركا في الهند الصينيّة . ومن الجانب الآخر ، فقد أكد البيت الأبيض من جهته أنّ التقارب بين الولايات المتحدة والصين لن يكون على حساب " الأصدقاء القدامى" لواشنطن .
كم كلّ ما تقدّم ، يظهر لنا أنّنا أمام موقفين متناقضين ، على الأقل في الظاهر ، التوفيق بينهما .
هل يمكن أن نفهم ذلك على أنّه أمر طبيعيّ في علاقات الدول السياسيّة ، في فترة الدخول في محادثات ، إذ أنّ كلّ فريق يضع شروطه القصوى ليحصل فيما بعد على حد أدنى منها ؟...
أو بمعنى آخر ، ما هي الأسباب العميقة التي دعت نيكسون إلى تقرير القيام بزيارة إلى بكين في الربيع المقبل ، مع أنّ التاريخ السياسيّ للرئيس الأميركيّ الحالي ، معروف للجميع بعدائه الجديد للشيوعيّة ؟...
أنّ التكهنات التي أثيرت حول هذه المواضيع في الآونة الأخيرة . والتي لا تزال تثار ، كثيرة ومتضاربة ، ولكنها في غالبيتها تميل إلى الاعتقاد أنّ هذه الزيارة تخدم المصالح الأميركيّة أكثر ممّا تخدم المصالح الصينيّة .
وبالنسبة لعدد من المعلقين السياسيين ، فإنّ الولايات المتحدة ، الغارقة منذ مدة طويلة في معضلة لم تستطع الخروج منها ، تتصور أنّ البحث عن حلول مشكلاتها ـ وليس فقط مشكلة حرب فيتنام وإنّما في المنطقة الأسيويّة عموماً ـ يمكن إيجاده في بكين . وأنّ هذه القضايا المعقدة لا يمكن أن تحلها واشنطن ، ولم تستطع في الماضي أن تحلها بغير هذه الطريقة ، ( كما ورد في مقال في "لوموند ديبلوماتيك " أيلول 1971 ).
فهذا بالضبط ما تعرفه الصين حقّ المعرفة . فهي ليست متعجلة ، وبأيّ غنى لأن تساعد الولايات المتحدة لإيجاد حلول لمشكلاتها . بل هي تتصور أنّ الحرب العدوانيّة التي تشنها في الشرق الأقصى ، من المحتمل أن تؤدّي في النهاية إلى انهيار النظام الإمبريالي الأميركيّ كله . وأنّ المقاومة المسلحة أخذت تتسع تدريجياً وتمتد إلى مناطق كثيرة ، وأصبح العداء لأميركا الآن عاماً في جميع أنحاء العالم .
وللصين ، هي الأخرى ، من غير شكّ ، استراتيجيّة محدّدة ومصالح خاصة . ولكن ليس باستطاعتها أن تتخلى عنها ، أو عن قسم منها ، لمجرد الدخول منذ الآن في محادثات مع العملاق الأميركيّ . وأنّ سيطرة هذا العملاق ، من وجهة نظر بكين ، هي سيطرة آنيّة ، ولن تلبث أن تزول وتتلاشى تدريجياً .
ولكن ، وفي الوقت نفسه ، ليست الصين ، كما يتصور البعض ، من دعاة الحرب بأيّ ثمن، ومهما كانت النتائج ، ولم ترفض في الماضي أو الحاضر سياسة التعايش السلميّ ، وإنّما تعطي لهذه السياسة مفهوماً خاصاً ( وهذا ما ستبحثه في مجال آخر ).
لذلك نجد الصين لا تتخلى عن فكرة الاستعداد للحرب أو عن فكرة دعم حركة التحرر الوطنيّ والثوريّ في العالم ، في الوقت الذي تدخل فيه في مباحثات جانبيّة مع واشنطن . وهذا ما أكد عليه شوان لاي في 5 تشرين أول في بكين عندما قال : " يجب أن نكون مستعدين لدخول الحرب ولإجراء المحادثات في وقت واحد ". وهو يشير بذلك ، بطريقة غير مباشرة ، إلى الزيارة التي قام بها كيسنغر إلى الصين في أواخر تشرين أول الماضي . وأضاف قائلاً : " إذا كنّا نستعد فقط للدخول في المحادثات دون أن نستعد لخوض المعركة المسلحة ، فإنّ ذلك شيء غير حسن ... وفي الحالة التي لا نكون فيها خائفين من الحرب . نستطيع عندئذ أن نقوم بالمحادثات . وإذا أردنا أن نباشر محادثات سلميّة ، فيجب أن نكون على أتمّ الاستعداد لخوض الحرب ".
ما الذي غير واشنطن ؟...
إنّ ما سبق يقودنا إلى طرح سؤال عن عوامل التحولات الظاهرة في أسلوب الدبلوماسيّة الأميركيّة والبحث عن أسباب هذه التحولات ، التي يمكن تلخيصها بمجموعة اعتبارات قديمة وافية أهمّها :
1 ـ القضيّة الفيتناميّة : إنّ الحرب التي تشنها الولايات المتحدة منذ ما يقرب من عشر سنوات قد أظهرت أنّ المقاومة الفيتناميّة يمكن أن نكون كمثل يحتذى للقوى الثوريّة في العالم ، ووضعت في الوقت نفسه النفوذ والسمعة الأميركيّة موضع التساؤل . فهذه الحرب قد برهنت ، من جملة ما برهنت عليه ، على خرافة العملاق الأميركيّ الذي لا يقهر . فواشنطن ، منع تفوقها الهائل في القوة العسكريّة والتكنولوجيا ، ومع كونها أقوى قوة صناعيّة في العالم ، لم تعجز فقط عن قهر المقاومة المسلحة لشعب فيتنام ـ البلد المتخلف ـ بل أنّ بؤرة المقاومة المسلحة ضدّ السيطرة الأميركيّة أخذت تتسع وتمتد في جميع أنحاء الهند ـ الصينيّة .
2 ـ تزايد الضغط الدولي على الولايات المتحدة : أمام التدخلات العسكريّة المتزايدة للولايات المتحدة في فيتنام ، ازدادت ظاهرة الاحتجاج انتقلت من العالم الثالث إلى أوروبا والولايات المتحدة نفسها .
3 ـ الضغط الداخليّ : لقد وصل الهجوم على السياسة الخارجيّة لواشنطن إلى أميركا بالذات ، وذلك فيما يتعلق بتدخلها العسكريّ في فيتنام ، وبموقفها من الصين . وهكذا أخذت المعارضة تزداد وتشتد في أوساط المثقّفين والجامعيين وبعض الصحف ، وحتى بين بعض فئات رجال الأعمال .
أمام ازدياد المعارضة الداخليّة للسياسة الخارجيّة ، واقتراب انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني 1972 ، اضطر البيت الأبيض للإعلان عن انسحاب القوات البريّة الأميركيّة ولتعديل موقفه من قضيّة دخول الصين إلى هيئة الأمم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1) أنظر جريدة " المحرر "، 12 تشرين الثاني 1971 .