حزب البعث العربي الاشتراكي - جورج صدقني
المصدر:الموسوعة العربية
حزب البعث العربي الاشتراكي
جورج صدقني
حزب سياسي قومي عربي واشتراكي. شعاره «أمة عربية واحدة - ذات رسالة خالدة»، وأهدافه الكبرى هي الوحدة والحرية والاشتراكية. ظلّ يعرف حتى أواسط عام 1952 باسم حزب «البعث العربي». وهو يشغل مساحة كبرى من تاريخ العرب المعاصر وتاريخ حركة التحرر القومية العربية الحديث.
أولاً- بدايات البعث
كانت دمشق في مطلع الأربعينات من القرن العشرين تزخر بتيارات فكرية سياسية كثيرة وأحزاب تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومع ذلك لم يكن في برنامج أي من هذه الأحزاب دعوة واضحة للعروبة أو للوحدة العربية، إن لم نقل إن بعض هذه الأحزاب كان يجاهر بعدائه للقومية العربية. فكان لابدّ من قيام حزب جديد يملأ هذا الفراغ ويسدُّ هذا النقص. وقد اغتنم ستة أشخاص أو سبعة فرصة الذكرى الثانية لسلخ لواء اسكندرونة، يوم الجمعة في 29 تشرين الثاني 1940، وعقدوا اجتماعاً في دمشق أسسوا فيه حزب البعث العربي غير أن هذا الحزب لم يعمِّر طويلاً فقد وجهت إليه السلطة الفرنسية التابعة لحكومة فيشي ضربة قاصمة في أيار 1941، إبان ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، فانقطع نشاطه السياسي، حتى قام بعض أعضائه باستئناف نشاطه في اللاذقية عام 1944 وكانت قد نشأت في دمشق، في أيار 1940، على خطٍ موازٍ لحزب البعث العربي، حركة اسمها حركة «الإحياء العربي»، وكان يغلب عليها الطابع الثقافي والأدبي، ثم بدلت اسمها بعد ما يقرب من سنة مع قيام ثورة رشيد عالي الكيلاني فصار حركة(نصرة العراق)، ثم ما لبثت أن بدلت اسمها مرة ثانية، فأصبح حركة البعث العربي. وقد نفت الحركة ببيان أصدرته في 13/6/1943 كونها حزباً نفياً قاطعاً، لكنها ما لبثت أن أعلنت في وقت لاحق من العام نفسه أنها غدت حزب البعث العربي، ونشرت وثيقة تتضمن أهداف الحزب وغاياته، بعد مضي أكثر من سنتين على انكفاء حزب البعث الأول سنة 1941.
وفي 10 تموز 1945 قدم الحزب طلباً خطياً إلى وزارة الداخلية للترخيص له بممارسة النشاط السياسي، فلم يحظ بالموافقة. غير أن الحزب مضى قدماً في طريقه، وتمكن من الحصول على ترخيص بإصدار جريدة تحمل اسمه، فصدر العدد الأول من جريدة (البعث) يوم الأربعاء في 3تموز 1946.
وفي صباح يوم الجمعة 4/4/1947 انعقد مؤتمر البعث العربي الأول في مقهى الرشيد الصيفي (اللونابارك سابقاً) ـ حيث يقوم بناء المركز الثقافي الروسي حالياً - بدمشق. وتوالت جلساته صباحاً ومساء حتى مساء الأحد في 6/4/1947. وفي صباح اليوم التالي لاختتام المؤتمر (الإثنين 7/4/1947) صدر بيان عن أعمال المؤتمر أعلن فيه عن تأسيس البعث فصار السابع من نيسان عيداً يحتفل به البعثيون في كل عام.
كان لهذا المؤتمر أهمية خاصة في تاريخ الحزب، لأنه:
1- جمع البعثيين على اختلاف فئاتهم البعثية السابقة تحت سقف واحد، فضمهم تنظيم واحد، وصار ولاؤهم لمبادئ واحدة ومكتوبة، فكان هذا المؤتمر بداية جديدة للبعث، ولذلك عرف فيما بعد باسم (المؤتمر التأسيسي).
2- كان هذا المؤتمر قومياً حضره، فضلاً عن السوريين، بعض الطلاب البعثيين في الجامعة السورية من سائر الأقطار العربية، فعرف هذا المؤتمر فيما بعد باسم (المؤتمر القومي الأول) أيضاً.
ثانياً- مبادئ البعث
ويأتي في طليعة إنجازات المؤتمر التأسيسي أنه أرسى عقيدة البعث على مبادئ واضحة أقرب ما تكون إلى البديهيات، وكانت ثمرة مناقشات ديمقراطية مستفيضة وأُقرَّت بالتصويت العلني. وقد تكثفت هذه المبادئ وتركزت في ثلاثة: الأول هو أن «العرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة..» والثاني هو أن شخصية الأمة العربية «تتسم بخصب الحيوية والإبداع، وقابلية التجدد والانبعاث». أما الثالث فهو أن «الأمة العربية ذات رسالة خالدة... ترمي إلى تجديد القيم الإنسانية، وحفز التقدم البشري، وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم». ومن مبادئ الحزب أيضاً أنه «قومي يؤمن بأن القومية حقيقة حية خالدة ... والفكرة القومية التي يدعو إليها الحزب هي إرادة الشعب العربي أن يتحرر ويتوحد..» ومن مبادئه أيضاً أنه اشتراكي يؤمن بأن «الاشتراكية هي النظام الأمثل الذي يسمح للشعب العربي بتحقيق إمكانياته.. على أكمل وجه».
ثالثاً- حزب البعث والقضية الفلسطينية
لم تكد تمضي شهور قليلة على تأسيس حزب البعث العربي في 7 نيسان 1947 حتى صدر قرار تقسيم فلسطين في 29/11/1947، فجند الحزب طاقاته كلها للنضال إلى جانب من التحق بالجهاد لإنقاذ فلسطين، والتحق معظم قادته والقادرين من أعضائه على حمل السلاح بأرض المعركة، وتركزت بياناته ومنشوراته على فضح تخاذل الحكومات العربية وتقاعسها عن تحمل مسؤولياتها في الدفاع عن فلسطين، أما مواقف الحزب الأخرى في تلك المرحلة، مثل الحملات على فساد الفئة الحاكمة، والمعارضة العنيفة لتعديل الدستور السوري عام 1948 فلم تكن في الحقيقة إلا جزءاً من نضاله من أجل فلسطين، وبهذا كله استحق الحزب بجدارة منذ ذلك الحين لقب «حزب القضية الفلسطينية».
رابعاً- اسم جديد وعزيمة متجددة
كانت نكبة فلسطين زلزالاً ضرب النظام العربي، وظهرت عواقبه في سورية سنة 1949 في سلسلة من الانقلابات العسكرية،كان ثالثها الانقلاب الذي قاده العقيد أديب الشيشكلي في أواسط كانون الأول 1949، وفي الأيام الأولى من عام 1950 منحت السلطة ترخيصاً لحزب جديد هو «الحزب العربي الاشتراكي» كانت مبادئه مشابهة لمبادئ «البعث العربي» فاستقبلته جريدة «البعث» في 4 كانون الثاني 1950 بنقد شديد، وشاع في صفوف البعث رأي يدعو إلى توحيد الحزبين لأنه لا ينبغي أن يكون هناك حزبان لقضية واحدة، لكن «العربي الاشتراكي» لم يستجب لهذه الرغبة، وفي شهري كانون الأول 1951 وكانون الثاني 1952 زادت لهجة المعارضة في افتتاحيات جريدة «البعث» فمنعها الشيشكلي من الصدور بدءاً من 26 كانون الثاني 1952، ثم قلب ظهر المجن للحزب العربي الاشتراكي وأغلق جريدته (الاشتراكية) في أواخر آذار 1952، وفي 6 نيسان1952 أصدر الشيشكلي قراراً بحل جميع الأحزاب السياسية في سورية، فكان هذا القرار إيذاناً بمفاوضات حثيثة لدمج الحزب العربي الاشتراكي بحزب البعث العربي وأسفرت المفاوضات في أوائل حزيران 1952، عن الاتفاق على دمج الحزبين سراً في حزب واحد يكون اسمه «حزب البعث العربي الاشتراكي» ويكون دستوره ونظامه الداخلي هما دستور حزب «البعث العربي» ونظامه.. وظل الأمر سراً حتى 13 تشرين الثاني 1952، وظهر هذا الاسم الجديد علناً لأول مرة في منشور وزعه الحزب ضد الشيشكلي في أوائل شهر كانون الأول 1952. وكان «البعث العربي الاشتراكي» بداية مرحلة جديدة من النضال العنيف الدؤوب الذي تكلل في نهاية المطاف بسقوط الدكتاتور الشيشكلي وانهيار نظامه في 25 شباط 1954.
خامساً- من معركة الأحلاف إلى الوحدة بين سورية ومصر
أ - المؤتمر القومي الثاني: عقد اجتماع حزبي سري في حمص في تشرين الأول 1953، أي في ظل الدكتاتورية العسكرية، حضره مندوبون عن كل فرع من فروع سورية، وحضره أيضاً بعض المندوبين من لبنان والأردن والعراق، وتقرر في هذا الاجتماع أن الحاجة تدعو إلى عقد مؤتمر قومي.
ولم ينفذ هذا القرار إلا بعد سقوط الشيشكلي، حين انعقد المؤتمر القومي الثاني في دمشق، في حزيران 1954، وحضره ممثلون عن أربعة أقطار هي سورية والأردن والعراق ولبنان، ومن أهم أعمال هذا المؤتمر انتخاب قيادة قومية سباعية تمثلت فيها الأقطار الأربعة، وإقرار النظام الداخلي الذي اقترحه القطر السوري، وهو نظام يقوم لأول مرة على تقسيم تنظيمات الحزب إلى أقطار، لكل قطر قيادته القطرية، وتكون كلها تابعة لقيادة مركزية تدعى (لأول مرة أيضاً) القيادة القومية.
ب - كان للبعث دور أساسي في سقوط الدكتاتورية العسكرية، وقد زاده هذا الانتصار ثقة بالنفس وعزيمة على مواجهة التحديات، فخاض الانتخابات النيابية في أيلول 1954 على نطاق أوسع من ذي قبل، وفاز بسبعة عشر مقعداً في مجلس النواب، وكان هذا النصر باهراً جعل الحزب قائداً حقيقياً للجماهير، وبات يحسب له، على الصعيد السياسي، ألف حساب. وقد خاض الحزب في هذه المرحلة معارك كثيرة، أهمها:
1- معركة الأحلاف: وأهمها حلف بغداد، الذي ضم في عضويته العراق وإيران وتركيا إلى جانب بريطانيا العظمى، وكان يسعى إلى ضم دول عربية أخرى على رأسها سورية إلى صفوفه.. ثم مبدأ ايزنهاور، الذي كان يرى أن «الفراغ» في الشرق الأوسط يزيد خطر انتشار الشيوعية في هذه المنطقة إن لم تبادر الولايات المتحدة إلى ملء هذا الفراغ!.
تصدى «البعث» لقيادة معركة مقاومة هذه الأحلاف، لكنه كان يدرك أن القوى الخارجية قد تكون قادرة على تعبئة القوى والأحزاب الرجعية في الداخل، ولذلك رأى أن قيام جبهة قومية تضمه مع جميع القوى والأحزاب الرافضة للأحلاف هو السبيل الأمثل للقضاء على المؤامرات التي تحوكها الدول الاستعمارية التي تسعى إلى سيطرة الأحلاف على سورية وسائر الدول العربية، فتقدم الحزب بمشروع ميثاق قومي كان أساساً لقيام حكومة جبهة قومية تضم إلى جانب «البعث» جميع القوى المناهضة للأحلاف داخل سورية وقد كانت المعركة ضد الأحلاف فرصة مناسبة لبذل مساعٍ لإقامة تحالف عربي ضد هذه الأحلاف تكون بدايته مع حكومة ثورة 23 تموز في مصر.
2- التقارب مع مصر: بدأ «البعث» يشعر بضرورة التقارب مع مصر منذ صدور الدستور المصري عام 1956، وهو الدستور الذي نص لأول مرة على أن مصر دولة عربية وشعبها جزء من الأمة العربية وتعاظم هذا الشعور بتأثير الحملة القوية التي شنتها مصر على حلف بغداد، وكان من تداعيات، وهذا الموقف سحب البنك الدولي عرضه لتمويل بناء السد العالي، وتأميم قناة السويس في 26/7/1956 تبعاً لذلك، ثم العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وشريكتهما إسرائيل على مصر في 29/10/1956.
وقد أدت هذه التطورات العميقة كلها إلى الوقوف في خندق واحد إلى جانب مصر في معركة المصير. وقد بدأ التقارب بخطوة رمزية حين أرسل البعث في 29/6/1956 برقية إلى الرئيس جمال عبد الناصر[ر] يهنئه فيها بانتخابه رئيساً للجمهورية، ثم زج البعث طاقاته كلها بتأييد قرار التأميم واستنفار جميع القوى الشعبية والعسكرية للاشتراك في صد العدوان الثلاثي على مصر.
3- وحدة سورية ومصر: كان حزب البعث أول من طرح هذه الفكرة في مهرجان أقامه في 17 نيسان 1956 إحياءً للذكرى العاشرة لجلاء الجيوش الأجنبية عن سورية. فقد كان الشعار الأول لهذا اليوم «وحدة سورية ومصر نواة الوحدة العربية وطريقها، الشعب مصمم على تحقيق هذه الوحدة، أنه يريدها وحدة كاملة عاجلة». وفي 4/5/1956 نشرت جريدة البعث مقالاً جاء فيه: «إن بداية الطريق نحو الوحدة العربية اليوم هي أولاً في اتحاد سورية ومصر».
ثم تعاظمت الحملة من أجل قيام الوحدة، و«البعث» في طليعة قيادتها حتى جرى استفتاء الشعب في سورية ومصر على قيام الجمهورية العربية المتحدة برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر،فكان التأييد الشعبي لقيام الوحدة تأييداً كاسحاً. وكان قد جرى التوافق، في المفاوضات السابقة على قيام الوحدة، على حل الأحزاب في سورية بحجة أن تكون الأوضاع الحزبية متماثلة في سورية ومصر. وقد أعلن الأمين العام للحزب حين ذاك حل حزب البعث العربي الاشتراكي في إقليمي الجمهورية العربية المتحدة، وقال: إن الحزب يضحي بنفسه على مذبح الوحدة وهي أول أهداف الحزب. لكن حل الحزب كان قراراً له ما بعده.
سادساً- من الوحدة إلى الانفصال
انعقد المؤتمر القومي الثالث لحزب البعث في بيروت بين 27 آب وأول أيلول 1959، وهو أول مؤتمر قومي يعقده الحزب بعد إعلان حله في إقليمي الجمهورية العربية المتحدة، وقد حضره ممثلون عن منظمات الحزب في العراق ولبنان والأردن والجزيرة العربية والخليج والجنوب العربي والمغرب العربي وفلسطين ومنظمات الطلبة البعثيين. وقد انتخب المؤتمر قيادة قومية جديدة، ووافق على قرار القيادة القومية السابقة بحل الحزب في الجمهورية العربية المتحدة. وقرر المؤتمر عقد مؤتمر قومي جديد بعد سنة.
وقد انعقد بناء على هذا القرار المؤتمر القومي الرابع، في أواخر آب 1960، في بيروت. فقرر هذا المؤتمر أن قرار حل الحزب كان قبولاً بالأمر الواقع، ودعا إلى إعادة تنظيم الحزب في سورية.
وفي 28 أيلول 1961، أذاعت إذاعة دمشق بيانات عسكرية متتالية أعلنت انفصال سورية عن مصر، وبذلك اتخذت الأحداث كلها وجهة جديدة.
سابعاً- من الانفصال إلى ثورة 8 آذار 1963
وقفت جماهير الشعب في سورية ضد الانفصال منذ اللحظة الأولى، وكذلك كان موقف البعث إلى جانب الجماهير ضد الانفصال، الذي يتناقض مع أول مبادئ الحزب. وبدأ السعي على الفور، وعلى المستويين المدني والعسكري للقضاء على الانفصال.
فعلى الصعيد المدني: أصبحت جريدة البعث، التي عادت إلى الصدور، منبراً للهجوم على الانفصال والانفصاليين، والدفاع عن الوحدة. وجاءت في الاتجاه نفسه مقررات المؤتمر القومي الخامس، الذي انعقد في أواسط أيار 1962 في مدينة حمص، وقرر أن الانفصال كان مؤامرة رجعية إقليمية مدعومة من قبل الاستعمار وقرر أيضاً أن «يتبنى قضية الوحدة بين مصر وسورية»، وفصل من صفوفه بعض الأعضاء الذين كانوا يدعون جهاراً إلى ترسيخ الانفصال وتثبيت دعائمه.
وعلى الصعيد العسكري: نقل عدد من الضباط البعثيين، في ظل نظام الوحدة، من سورية إلى مصر، وكان هؤلاء جميعاً غير راضين عن حل الحزب، فأقاموا لأنفسهم تنظيماً بعثياً سرياً يضمهم في كتلة واحدة، وتقوده لجنة حزبية عسكرية قيادية أخذت على عاتقها الاتصال بسائر البعثيين وربطهم بالتنظيم، فلما وقع الانفصال أعيد الضباط البعثيون، مع سائر الضباط السوريين، إلى سورية. وقد فوجئ الضباط البعثيون بأن سلطة الانفصال سرحت معظمهم من الجيش، ونقلت بعضهم إلى وظائف مدنية، وتنظيم هؤلاء الضباط هو الذي تألفت منه النواة الصلبة التي تعاهد أفرادها وعقدوا العزم على الثورة على الانفصال والقضاء عليه نظاماً وعقيدةً وعلى إعادة سورية إلى صدارة العمل القومي في سبيل الوحدة العربية، فاتصلوا بقيادة الحزب، وعقدوا تحالفات مع العسكريين المناهضين لحكم الانفصال، وقد فازوا بتحقيق أهدافهم صبيحة يوم الجمعة في 8 آذار 1963 حين أعلنوا الثورة على الانفصال وكانت جماهير البعث في مقدمة الركب الزاحف لدفن هذا الحكم البغيض.
ثامناً- من 8 آذار 1963 إلى 16 تشرين الثاني 1970
حين قامت ثورة الثامن من آذار 1963، كانت قد قامت قبلها بشهر واحد (8 شباط 1963) ثورة بعثية أخرى في العراق، هي ثورة العاشر من رمضان. وكان قيام هاتين الثورتين بقيادة البعث بشيراً بتحقيق انتصارات على طريق بلوغ أهدافه القومية الكبرى، ودفع نشاطه دفعة قوية إلى الأمام، وكان انعقاد المؤتمر القومي السادس في المدة من 5 إلى 18 تشرين الأول 1963 أبرز عنوانات انطلاقة البعث الجديدة، وكان أبرز ما أنجزه المؤتمر هو إغناء أهداف الحزب القومية وتوضيحها في «بعض المنطلقات النظرية» التي ناقشها المؤتمر وأقرها، وألقى أضواء جديدة على الوحدة العربية من حيث وعي الدروس المستفادة من التجربة، ومن حيث المضمون والخطوات المرحلية المؤدية إليها، ودعا إلى جعل الحرية ذات مضمون اجتماعي ملموس، وأوضح «ملامح الطريق العربي» إلى الاشتراكية.
وعلى الصعيد السياسي عرفت هذه المرحلة صعوداً وهبوطاً غير مرة، مثال ذلك عقد اتفاق الوحدة الثلاثية بين سورية ومصر والعراق في 17 نيسان 1963، ثم الإخفاق في تطبيق هذا الاتفاق، ثم جاء إعلان قرار المؤتمر القومي السادس في 18/10/1963 بإقامة الوحدة بين سورية والعراق، غير أن هذا القرار لم يتحقق على أرض الواقع بسبب الانقلاب على حكم البعث في العراق (في 18/11/1963)، ثم كان عدوان 5حزيران 1967، واحتلال سيناء والجولان والقدس وسائر الأراضي الفلسطينية نكسة كبرى للعمل القومي، كان لها أثر عميق في حياة البعث الداخلية، ولاسيما أنه عانى، منذ 1963، بروز ظاهرة غير صحيحة تمثلت في تكتلات شخصية ذاتية وصراعات داخلية، انتهت بتصدي الفريق حافظ الأسد[ر] وزير الدفاع عضو القيادة القومية للمسؤولية، ودعوته - مؤيداً بكوادر الحزب القيادية المخلصة التي انبثقت منها القيادة القطرية المؤقتة، وبقواعده العريضة الواسعة - إلى تغيير أساليب القيادة في العمل الحزبي والسياسي والانفتاح على الدول العربية وتعبئة كل القوى لإزالة آثار العدوان، وقد غدا هذا التغيير أكثر إلحاحاً بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28 أيلول 1970 ضمن برنامج محدد، ولم يطل انتظار هذا التغيير أكثر من شهر ونصف، فقد أعلن عن قيام الحركة التصحيحية صبيحة 16/11/1970.
تاسعاً- الحركة التصحيحية
يصعب فصل تاريخ الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد عن تاريخ سورية الحديث، فهي المعادل الموضوعي لبناء سورية الحديثة. غير أن هذه الحركة، كانت في الأصل حركة حزبية داخلية ترمي إلى تصحيح مسار العمل في قيادة الحزب وتغيير توجهاتها. أما دواعي التغيير فقد عبر عنها قائد الحركة في الكلمة - البرنامج، التي ألقاها في المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي قبيل قيام الحركة، إذ قال فيها: «المرحلة التي نمر بها..(بعد عدوان حزيران) هي مرحلة تحرر وطني.. المهمة رقم واحد تحرير ما احتل من هذا الوطن. هذه هي المهمة الأولى. والمهمات التالية تنفذ بما يخدم هذه المهمة الأولى».
وطالب، بغية بلوغ هذه الغاية، بإقامة جبهة وطنية تقدمية بقيادة البعث، وتوجيهها باتجاه المعركة، وبتشكيل مجلس للشعب، وإصدار دستور دائم للبلاد، وإعادة النظر في صيغة علاقة الحزب بالسلطة، والسعي إلى تحقيق خطوات وحدوية مع مصر، والانضمام إلى ميثاق طرابلس، وغير ذلك من المطالب التي يمكن أن يكون تحقيقها في صالح معركة التحرير القادمة.
وقد أصدرت القيادة القطرية المؤقتة، في أعقاب نجاح الحركة، بياناً موجهاً إلى الشعب تعهدت فيه بتنفيذ هذه المطالب كلها. وقد حرصت الحركة على إنجاز ما وعدت: ففي 27/11/1970 صدر إعلان بانضمام سورية إلى ميثاق طرابلس، وفي 16/2/1971 صدر مرسوم تشكيل مجلس للشعب، يكون في طليعة مهماته وضع دستور دائم للبلاد، بدلاً من الدستور المؤقت الصادر في 1/5/1969، بعد أن ظلت سورية بلا دستور منذ 23/2/1966، وقد أنجز مجلس الشعب مشروع الدستور الدائم في 31/1/1973، وجرى إقراره في استفتاء شعبي عام في 12/3/1973. وكان قد جرى استفتاء على شخص حافظ الأسد رئيساً للجمهورية في 12/3/1971، ففاز بأكثرية ساحقة وأدى اليمين الدستورية أمام مجلس الشعب في 14/3/1971. ثم جرى الإعلان في بنغازي، في 17/4/1971، عن قيام اتحاد الجمهوريات العربية (المؤلف من سورية ومصر وليبيا)، وأقر مجلس الشعب هذا البيان في 17/5/1971 بالإجماع. وبتاريخ 18/8/1971 عقد رؤساء سورية ومصر وليبيا سلسلة اجتماعات في دمشق لإقرار دستور الاتحاد، وفي 20/8/1971، وقع الرؤساء الثلاثة هذا الدستور، وصادقت عليه القيادة القطرية السورية في 21/8/1971، ووافق عليه أيضاً مجلس الشعب بالإجماع في 29/8/1971، ثم جرى استفتاء شعبي على قيام الاتحاد وعلى دستوره في الأقطار الثلاثة في يوم واحد هو 1/9/1971 وأعلنت الموافقة عليه في اليوم التالي. وقد استكملت المؤسسات الدستورية للاتحاد كلها قبل نهاية عام 1971.
أما الجبهة الوطنية التقدمية، التي كانت هدفاً أساسياً من أهداف التصحيح، فقد أصدر رئيـس الجمهورية في 22/4/1971 قراراً بتأليف لجنة من 13 عضواً (سـتة من البعث وسـبعة من الأحزاب الأخرى)، مهمتها وضع صيغة لقيام الجبهة «في ضوء بيان القيادة القطرية المؤقتة»، وبما «يجعل البلاد أكثر قدرة على مواجهة الاحتلال الصهيوني». فلما أنجزت اللجنة عملها وقعت الأحزاب المشاركة في اللجنة على «ميثاق» الجبهة في 7/3/1972.
كان الهدف من جميع هذه الأعمال التي أنجزت في ظل الحركة التصحيحية هو إعداد البلاد لخوض معركة التحرير، التي اندلعت يوم السبت في السادس من تشرين الأول 1973. والحق أنه ما كان يمكن لهذه الحرب أن تكون لولا الحركة التصحيحية وما حققته من وحدة وطنية راسخة في الداخل، وتضامن عربي متين في الخارج. وقد كان لحرب تشرين التحريرية نتائج عظيمة، من أهمها:
1- إثبات قدرة الإنسان العربي على استخدام أعقد وسائط الصراع المسلح.
2- سقوط أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
3- بروز أهمية التضامن العربي، الذي حقق المفاجأة التامة بتوجيه ضربتين متزامنتين للعدو في الجولان وسيناء وإرغام العدو على القتال على جبهتين في وقت واحد.
4- استعاد الشعب ثقته بنفسه وتعززت ثقته بقواته المسلحة.
5- تلاحم الجبهة الداخلية، والتفاف الشعب حول قيادته، واستعداده للبذل والتضحية.
6- مشاركة عدد من الأقطار العربية في المعركة بوسائل مختلفة.
وعلى الصعيد الحزبي فقد عرفت حياة الحزب الداخلية استقراراً لم تعرفه من قبل، فطبِّق شعار «قائد المسيرة» الذي أقر في المؤتمر القطري الخامس، وودع الحزب، على غير رجعة، الأزمات الداخلية التي كانت تنجم عن التكتلات المرضية والارتباطات الشخصية. انعقدت في ظل الحركة التصحيحية خمسة مؤتمرات قطرية هي: الخامس (1971)، والخامس الاستثنائي (1974)، والسادس (1975)، والسابع (1980)، والثامن (1985). وانعقدت أيضاً ثلاثة مؤتمرات قومية هي: الحادي عشر (1971)، والثاني عشر (1975)، والثالث عشر (1980).
ولعل أبرز وقائع هذه المؤتمرات، على الصعيد العقائدي، هو الخطاب الذي ألقاه الرفيق الأمين العام للحزب رئيس الجمهورية في المؤتمر القومي الثاني عشر وعرض فيه التفسير الصحيح لنصوص «المنطلقات النظرية».
عاشراً- المؤتمر القطري التاسع في القطر العربي السوري (2000)
بعد أن أنجزت القواعد الحزبية انتخاب مندوبيها إلى المؤتمر القطري، وجهت الدعوة لانعقاد المؤتمر القطري التاسع في 17 حزيران 2000. لكن الرئيس حافظ الأسد الأمين العام للحزب لاقى وجه ربه وانتقل إلى رحاب الله في العاشر من حزيران 2000، أي قبل الموعد المحدد لانعقاد المؤتمر بأسبوع واحد فقط. كان للنبأ الفاجع الذي تناقلته كل وسائل الإعلام في العالم وقع الصاعقة، ومع ذلك فإن المؤسسات الراسخة التي أرساها الرئيس الراحل، مكنَّت المسؤولين من متابعة الاستعدادات لعقد المؤتمر وإنجازها، فانعقد المؤتمر في موعده المحدَّد بالضبط، وسارت أعماله وفق البرنامج المرسوم، وانتخب المؤتمر قيادة قطرية جديدة، وانتخب الرفيق بشار الأسد أميناً قطرياً للحزب. وعلى صعيد انتقال السلطة سارعت الأمور عبر المؤسسات الدستورية بيسر وسهولة أيضاً، فجرى ترشيح الدكتور بشار الأسد لرئاسة الجمهورية، ثم فاز بهذا المنصب بأكثرية ساحقة في الاستفتاء الشعبي الذي جرى لهذه الغاية.
وعلى هذا النحو، بدأ عهد جديد في حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية في ظل قيادة الأمين القطري الرئيس بشار الأسد، وهو عهد يسير على نهج الرئيس الراحل حافظ الأسد، مع رفع شعار إعطاء الأولوية لعملية التطوير والتحديث والإصلاح عنواناً للحاضر والمستقبل.