الأخبار - ابن الأزمنة الراهنة بامتياز
ابن الأزمنة الراهنة بامتياز
ريتا فرج
لم يكن حسن حنفي أقل توجساً من المعتزلة في رصد الأسئلة المطروحة على الإسلام المعاصر. لقد سار على مسالك الفلسفة اليونانية، ومن تأثر فيها من أجيال النهضة العربية، قبله أو بعده، بدءاً بشكيب أرسلان (صاحب الإشكالية المستدامة: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟)، ومروراً بالشيخ الإصلاحي علي عبد الرازق، ووصولاً إلى نصر حامد أبو زيد. تحرّى حنفي، على شاكلة ديوجين، عن نور العقل لقراءة النصوص المقدسة والتاريخ، رغم ما أُثير حوله من تساؤلات عن هويته ومناهجه وطروحاته، وهو المؤسس لما يسمى اليسار الإسلامي. على إيقاع الحديث القرآني «من صمت تفكر»، صاغ حنفي سياقات التحديث في التراث. هذا من دون أن يسكت حتى اللحظة عن تلاوة وصية نيتشه «اجعل من اليأس الأشد عمقاً، الأمل الأشد صموداً».
العلاّمة العربي، والجامع لثلاث لغات (الإنكليزية والفرنسية والألمانية) عدا لغة القرآن، حاز الدكتوراه في الفلسفة من جامعة «السوربون» عام 1965. أطروحته «مناهج التفسير ــ دراسة في علم أصول الفقه»، أعدّ بها العدّة سلفاً لمقارعة المسكوت عنه في علم أصول الفقه، قبل أن يؤسس لرباعيته «التراث والتجديد» (أربعة مجلدات). ترافق ذلك مع تعريبه لأكثر من أطروحة. هكذا، نقل إلى العربية «الرسالة اللاهوتية السياسية» لسبينوزا، وهو الوله بالفلسفة الغربية، فلم يضنه تطبيق مناهجها على التراث الإسلامي. مبتكر «اليسار الإسلامي» ورائده، بدا ملتبساً، وهو القائل «الإخوان يعتبرونني شيوعياً، والشيوعيون يعتبرونني إخوانياً. أما الحكومة فتعاملني كشيوعي إخواني».
المنتصر للعقل، وقارئ التراث بلغة المجددين، والماركسي الجدلي، والإشراقي، ومجترح اليسار الإسلامي، الذي أكمل مهماته الإصلاحية برونق اشتراكي، إثر غياب البديل الثوري، لجأ إلى الماركسية لحل قضية العدالة الاجتماعية، وإلى الليبرالية لحل القمع المسلط على شعوبنا... لاحظ صاحب اليسار الإسلامي أن في التراث الغربي بعض الجوانب الإنسانية المضيئة، ولا يمكن القيام بنهضة فكرية واجتماعية ما لم نستفد من العقلانية والعدالة الاجتماعية والحرية. التجربة النبوية عنده ثورة على سادة قريش لإقامة المجتمع العادل. وعلى هذا الأساس، طبق معرفياً اشتراكيته الإسلامية، ونادى بيسار انتقده عليه كثيرون، من الذين لم يفقهوا مفاهيم المساواة في سيرة الرسول والوحي.
عقلانية حنفي، أتت على خطى أهل العدل والتوحيد: «العقل أساس النقل، وكل ما يعارض العقل يعارض النقل. ظهر ذلك لدى المعتزلة وعند الفلاسفة، ولم نسر في هذه الرؤية (...) وجعلنا النقل أساس العقل، واعتمدنا على سلطة الكتاب في البرهان». هذا ما طالب به صاحب «التراث والتجديد»، فهل تصلح أفكاره التنويرية ما أفسده حماة الهيكل؟ وهل سطوة التقليد والأسطرة والميتا ـ تاريخ في ديار الإسلام المترامية، تمثل أحد معطيات نكسة النهضة العربية؟ أم أن هناك استعصاءً بنيوياً؟
مستنداً إلى شطر من قصيدة لمحمود درويش «احتمى أبوك بالنصوص فجاء اللصوص»، قارب حنفي إشكاليات التتريث، وقرأ كتب التراث بمنهجية عقلانية، مرتكزاً على أدوات النص من أسباب النزول والجرح والتعديل، والناسخ والمنسوخ، والقياس، من دون أن يتوانى عن استعمال مناهج الفلسفة الحديثة التي اكتسبها من الغرب، في تفسيره لظاهرة الوحي والقرآن والسُّنة. كل ذلك بغية منع التكرار الذي عدّه «أهم المخاطر التي تهدد البحوث والدراسات الإسلامية». اتهمه العلمانيون بأنه سلفي أصولي: «عندما كتبت عن الدين، قال العلمانيون إنني تحولت إلى سلفي أصولي». وبصرف النظر عن الثرثرة التي واكبت همومه المعرفية، يمثّل نقده للمدرسة الأشعرية لبّ إشكالياته وفرضياته، وقد صرح عن ذلك مراراً، ولا سيما في أطروحته الشهيرة «التراث والتجديد».
عمل على إعادة بناء العلوم النقلية الخمسة (القرآن، والحديث، والسيرة، والفقه، والتفسير)، وسعى إلى تظهير جدلية الوحي والتاريخ، واستعان بأدوات النص، غير أنه دخل في قلق وجودي لا يمر به إلاّ العارفون: «لا أدري في أي عصر أعيش، هناك ماضٍ يعيش فيّ وأنا ابنه، وهناك مستقبل أحاول أن أقفز إليه، وهناك واقع أعيش فيه لا أدري كيف أشخصه». ورغم ثقل الزمان، هل نحن على مشارف مرحلة ثالثة بدأت إرهاصاتها منذ فجر النهضة العربية الحديثة؟ هذا ما خلص إليه حنفي بصيغة التأكيد لا التساؤل.
حنفي هو ابن الأزمنة الراهنة والتساؤلات الكبرى، وسليل الهزائم والانكسارات، لكنّها لم تكبّله، فنظر إلى التاريخ بروح العصر، ولعل ما قاله يكفي للتعبير عنه: «لست ماركسياً ولا ناصرياً ولا أصولياً، أعبّر فقط عن روح العصر».
عدد السبت ١٣ تشرين الثاني ٢٠١٠
مقالات أخرى للكاتب
• الداعية الحداثوي تحت راية «الإصلاح الراديكالي»
• عن الجاهليّة وحماتها في فجر الإسلام
• هل المعتزلة «فرسان العقل» في الإسلام؟
المثقّف ــ النبي... صوت صارخ في البرية؟
خليل عيسى
جاءت محاضرة حسن حنفي عن «أسباب فشل النهضة»، دعوة كلاسيكية مثالية إلى تغيير الواقع، عبر تغيير الأفكار والثقافة قبل كلّ شيء. في «المعهد الألماني للدراسات الشرقية» في بيروت، حيث حاضر المفكر المصري الأربعاء الماضي، سأل حنفي: «كيف نحصل على نهضة لا تكبو؟». تتوحّد عند حنفي النزعة الوطنيّة المصرية، مع نظرة أيديولوجية رومانسية إلى القومية العربية، لتصبح النهضة المصرية عنده هي «روح النهضة العربية»، وهذا خيار منهجي لم نسمع له مبرّراً. بالنسبة إليه، فشلت النهضة في الفترة العثمانية مع محمّد علي، وفي ثورة 1919 مع حزب «الوفد»، وفي عهد عبد الناصر وثورة الضباط الأحرار عام 1952. شرحُ أسباب هذا «الفشل المتكرّر»، سيتيح لنا الوصول في المستقبل «إلى نهضة لا تنتكس»، بحسب حنفي. المفكّر المصري الداعي إلى ما سمّاه «اليسار الإسلامي»، فنّد سبعة أسباب أدّت إلى فشل النهضة: حبّ السلطة، والتعلّق بالزعيم، والحكم عن طريق النخبة، والمبادرة التي يجب أن تأتي دائماً من الدولة، والتدخل الغربي الدائم «تغريباً أو عدواناً»، ومساواة النهضة «بالتنمية والتصنيع»، وأخيراً ثبات الموروث الثقافي الشعبي «منذ أكثر من 1400 سنة».
لم يوضح حنفي لمَ جاءت نظرته إلى النهضة منمّطة، حسب السردية الليبرالية التقليدية للنهضة الأوروبية، من دون الالتفات للظروف المادية التي يعيشها العالم العربي. فإذا به ينعى «أشعريتنا القابعة»، ويدعو إلى «إحياء الاعتزال القديم كاعتزال جديد»، أي كإيديولوجيا معاصرة. ما يؤلمه خصوصاً هو ثبات الثقافة الشعبية. «شرط النهضة الأساسي إمكان تغيير الثقافة الشعبية»، ويسأل: «هل يمكن الجامعات أن تقوم بذلك؟». موقفه هذا أقرب إلى موقف نخبوي للمثقف، إلى جانب احتقار الجماهير التي يدّعي المثقف عادةً العمل من أجلها. يخبرنا حنفي في المحاضرة أنّ الراحل «نصر حامد أبو زيد راح ضحية الإعلام، لأنّه خرج من الجامعة إلى الإعلام».
نهضة حنفي يجب أن تحدث ببساطة في الجامعات، لكنّها لا ينبغي أن تسمح للنخب الجامعية، بأن تتحكّم في الدولة، فالحكم عبر النخب من أسباب الفشل المبرم. لا يجوز أن ترغب النهضة الموعودة في السلطة أو في وجود زعيم لها. هذه النهضة لا تعجبها جماهيرها، بل تريد جماهير أخرى، لأنّ ثبات الموروث الشعبي من «قدرية وإيمان بالمعجزات»، يمنع الجماهير من سماع نصيحة المثقف. المثقف ـ النبي، خارج الزمان والمكان، تلك هي الصورة التي طالعنا بها في «المعهد الألماني». حسن حنفي، صوت صارخ في البرية؟...
مقالات أخرى للكاتب
• ردّاً على الردّ: المسافة بين الإبدال والوهم
• ردّاً على الردّ: المسافة بين الإبدال والوهم
• العراق: خطّان مستقيمان... يلتقيان!
المفكّر الزئبقي يقاوم «ألف عام من التخلف»
القاهرة ـ محمد شعير
«لا أريد أن أكرّر مأساة نصر حامد أبو زيد». هكذا تحدث الدكتور حسن حنفي (1935) عندما طلبنا منه حواراً لـ«الأخبار» لمناسبة زيارته البيروتية. أضاف: «أنا بعيد عن الإعلام حتى لا تفلت كلمة من هنا ويجري تكبيرها وتضخيمها، وأجد نفسي متهماً».
هذا أحد مبادئ صاحب «التراث والتجديد»: التخفي. فقد وجد نفسه أكثر من مرة عرضةً لاتهامات عدة لم تلبث أن تلاشت. هو يرى أن مناقشات الفلاسفة والأفكار الكبرى ليست حقاً للجمهور العادي، ولا ينبغي أن تخرج عن قاعات المحاضرات. هو مؤمن بأنّ الزمن كفيل بأن ينشر أفكارك لو كانت ذات قيمة. طريقته في مواجهة الأصولية هي طريقة حرب العصابات: ازرع قنابل موقوتة في أماكن متعددة، ثم تنفجر وقتما تنفجر. ليس مهماً الوقت بل تغيير الواقع. إذ إنّنا نقاوم «1000 عام من التخلف»، كما قال ذات مرة في ندوة «الجمعية الفلسفية» التي يرأسها منذ سنوات.
في تلك الندوة، وصف نفسه بالمفكر «الزئبقي» الذي يصعب تصنيفه. إذ إنّ الجماعات الإسلامية تراه ماركسياً، والشيوعيون يرونه أصولياً، والحكومة تتعامل معه على أنه شيوعي إخواني. وأفكاره أيضاً تحتمل هذا النوع من الالتباس. هو صاحب فكرة «اليسار الإسلامي» التي «حاول فيها أن يجمع بين شرعيتين: شرعية الماضي وشرعية الحاضر، شرعية التراث، وشرعية الثورة» على حد قوله. وقد وجدت هذه الصياغة صدى كبيراً في الثمانينيات من القرن المنصرم. لكن الكثير من النقاد رأوها محاولةً توفيقية، لم تلبث أن تلاشت. إذ لا يمكن التصالح بين متناقضات كما فعلت سلطات ما بعد التحرر الوطني التي حاولت المصالحة بين الاشتراكية والإسلام لأسباب سياسية.
حسن حنفي ظل مخلصاً لمشروعه الفكري. حاول أن يفكك آليات النقل في كتب التراث العربية في عمله «من النقل إلى الإبداع»، ثم كان كتابه الشهير «مقدّمة في علم الاستغراب» الذي أكد فيه ضرورة أن نخضع الغرب للدراسة من منظور «الذات» مثلما أخضعَنا الغرب للدراسة من منظوره هو، بوصفه يمثّل «الآخر».
وعلى الرغم من إيمانه بضرورة مناقشة قضايا الفلسفة ودرسها في «الحجرات المغلفة»، إلا أنّه يؤمن بأنّ أي مشروع نهضة عربي لا يمكن أن ينهض إلا بالجماهير. مشروع النهضة العربي سيفشل حتماً لأن «الضباط الأحرار» لم يهتموا بأن يكون المفكرون أحراراً... وتلك هي الأزمة الحقيقية!
عدد السبت ١٣ تشرين الثاني ٢٠١٠
مقالات أخرى للكاتب
• ريشار جاكمون: لعيون الضاد... هجر حياة التصعلك
• صنع الله إبراهيم: أنقذه الوزير النبيل
• قريباً مذكّراته: «من القرية إلى المنفى»