السيد علاء الدين الأرناؤوط - : الحياة الثقافية والصحافية والسياسية - د. مصطفى دندشلي
مقابلة مع
السيد علاء الدين الأرناؤوط
التاريخ: 21 أيار 1984
الموضوع: الحياة الثقافية والصحافية والسياسية
بصورة عامة في مدينة صيدا مــن
الماضي إلى الحاضر.
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
***
الاسم: علاء الدين الأرناؤوط
تاريخ ومحل الولادة: 1920/صيدا
المستوى التعليمي: الشهادة المتوسطة
المهنة: خيّاط وصحافي ومن ثَمَّ موظف (كاتب) في المحكمة الشرعية في صيدا
***
د. مصطفى دندشلي: سيِّد علاء الدين الأرناؤوط، هل يمكن أن تعطينا صورة عن النشاط الصحافي في مدينة صيدا في الفترة التي عاصرتها؟
السيد علاء الدين الأرناؤوط: عام 1936، كنت لا أزال تلميذاً في المقاصد، وكانت لي رغبة في اللغة والأدب العربي وفي القراءة والمطالعة... وكانت المقاصد تقيم سنوياً مهرجاناً رياضياً تدعو إليه البلد، وتستمر في تحضير هذا المهرجان مدة ثلاثة أو أربعة أشهر. وقد كان يُعتبر مرآة للمقاصد، فيُبذل فيه جهد كبير وتوضع فيه الإمكانيات المتوافرة. فأخذت أنا هذا الوضع بعين الاعتبار. فكتبت عنه ووصفته وصفاً دقيقاً في جميع مراحله من أوله إلى آخره..
فدوَّنت كل ذلك. وكانت آنذاك ثمة جريدة في بيروت تهتم بالشؤون الرياضية: اسمها جريدة "التربية"، صاحبها مصطفى المقدِّم. فقلت في نفسي، هذه مناسبة ونوع من الدعاية للمقاصد وتشجيعاً للطلاب، فيجب نشر ذلك..
فأرسلت ما دوَّنته عن المهرجان إلى هذه الجريدة. فنشرت الجريدة هذا المقال أو التحقيق بحذافيره، دون أن تحذف منه شيئاً. وقد وزعنا هذه الجريدة على الناس. فكان لهذا المقال تأثير كبير. ومن هنا اتصل بي صاحب الجريدة وشجَّعني على ذلك وطلب مني أن أكتب باستمرار عن كل ما يحصل في صيدا من أخبار وأحداث رياضية. وكما تعلم، فإن المقاصد في ذلك الوقت كانت تهتم بالشؤون الرياضية كثيراً. فكانت تقام المباريات بصورة مستمرة وكانت الفرق الرياضية المتنوعة ومن مختلف البلاد العربية، من سوريا وغيرها، تحضر إلى صيدا للمباراة مع فريق المقاصد في كرة السلة أو كرة الطائرة أو كرة القدم أو كرة المضرب... فكان هناك نشاط رياضي يتجاوز ما يمكن أن يتصوره أيُّ إنسان الآن. ويقام هذا النشاط الرياضي في ملعب المقاصد في "ضهر المير"، في داخل صيدا القديمة، حيث تقام جميع هذه المباريات. فكنت بطبيعة الحال أرسل إلى جريدة "التربية" نتائج المباريات وأعطي صورة عن النشاطات الرياضية المختلفة. واستمر الحال هكذا حتى تحوّلت الصحيفة من جريدة رياضية إلى جريدة سياسية، وتغير اسمها كذلك من "التربية" إلى "النضال".
وقد كان عندي ميل شديد، كما أشرت، إلى كتابة القصة. وكانت الحِقبة الزمنية هي أحداث فلسطين 1936. والمجاهدون يقومون بأعمال فيها كثير من البطولة وهناك أسماء مشهورة بمواقفها. فكنت أُحبك من كل ذلك قصصاً أنشرها في بعض الصحف منها، فيما أذكر، جريدة "بيروت" ورئيس تحريرها فـؤاد قاسم، وكذلك جريدة "النهار" فـي زمـن جبران التويني وجريدة "اليوم" صاحبها ورئيس تحريرها عفيف الطيبي. وفي جملة هذه الصحف كذلك مجلة "العرفان" التي كنت أنشر فيها أحياناً "قصة العدد" في حلقة أو حلقتيْن... آنذاك قصة العدد في الجريدة أو المجلة، كانت تقرأ وليس كما يحصل في أيامنا هذه، بحيث لا يلتفت إليها أحد.
وهكذا فقد انتقلت من النشاط الأدبي إلى النشاط السياسي، وأردت أن أبحث في شؤون البلد... في شؤون البلد، كان للكلمة معناها ومغزاها وتأثيرها على القرّاء. والأحداث تتوالى باستمرار. وكانت القضية الفلسطينية في أوجها، وفي البلد مظاهرات وإضرابات ونشاطات سياسية ووطنية. وكان معروف سعد ورفاقه يقومون بمنع السيارات التي كانت تهرِّب المواد الغذائية إلى فلسطين، فيعترضون سبيلها فيكسِّرونها ويلحقون بها الأضرار، بحيث لا يمكِّنون هذه السيارات من المرور من صيدا إلى الأرض الفلسطينية. فكنت أنا أدوّن جميع هذه الأحداث التي تقع. وكذلك أحداث سنة 1936 الدامية في صيدا، في زمن إلياس المدور قائد الجندرمة آنذاك، فوقعت اصطدامات في الشوارع. فذكرت كل ذلك وقتها. ومعروف سعد، عندما رأى الجرحى والقتلى، فثار واقتحم الشلة.. فقد كتبت عن كل ذلك ونشرته في الصحف. وكان عبارة عن نشاط ذاتي ونوعاً من الهواية، دون أي شيء آخر. وكان أصحاب الصحف يرسلون لي صحفهم تشجيعاً لي واستحساناً. وكذلك في مطلع الأربعينات وقبل الاستقلال، كانت تقع أحداث متواصلة واجتماعات، الخ.. تطالب بالاستقلال والحرية. فكنت أنشر تفاصيل ذلك في الصحف.
ومرّة حوالي سنة 1942، جاءت بالقرب من شواطئ صيدا، قطعة فرنسية بحرية (مدرَّعة حربية). فاستقبلت المطرانية في صيدا طاقمها وقادتها. وكان وقع هذا الاجتماع السّري سيئاً للغاية في نفوس أهالي المدينة... فذكرت هذه الحادثة والاستنكار الذي رافقها ونشرت ذلك في الصحف. وهنا كانت المفاجأة والدهشة: الجهات المسؤولة في الدولة لامت وأنّبت الأمن العام الذي لم يستطع الحصول على هذه المعلومات قبل نشرها في الصحف. فما يَفْعل هذا إذاً؟!... فلامني رئيس الأمن العام الذي كانت تربطني به علاقة صداقة، وقال لي: كيف لا تعلمني بخبر كهذا، قبل نشره في الصحف؟... فكان جوابي بأنه كان من المفروض أن تخبرني أنت وليس أنا... وفي النتيجة فقد حضَّر لي الأمن العام شيئاً من أجل أن ينتقم مني، فأحضرت إلى مقر الأمن العام وجرى التحقيق والاستجواب والسين والجيم.. هذا الخبر؟ كيف نشرته؟ نريد أنْ نفتح معك تحقيقاً طويلاً عريضاً، هذا الخبر ليس له أساس من الصحة، وهذه الحادثة غير صحيحة. فوقع الخلاف بيننا ووصل إلى أشده حتى هممت بالخروج وهنا قال لي: لماذا لا نتعاون أنت ونحن، فأنت تعطينا الأخبار التي تحصل عليها ونحن نعطيك الأخبار التي نحصل عليها، فقلت له: عال، لا مانع عندي أبداً. وهكذا فقد اتفقنا على هذا الأساس...
وفي يوم من الأيام، يأتي موظف الأمن العام ويتصل بي ويقول لي: إنّ شركة نقليات الأرز في بيروت، وهي شركة بوسطات، تقوم بالنقليات بين بيروت وفلسطين، وتقوم بتهريب اليهود إلى فلسطين. فقلت لهذا الموظف في الأمن العام الذي ينقل لي الخبر: هل تأكدت من هذا الأمر؟... فقال: نعم وأنا شخصياً ألقيت القبض على بعضهم...
طبعاً، خبر من هذا النوع له أهميته بالنسبة إليّ، فكتبت في الجريدة بأن شركة "نقليات الأزر" تتعاطى تهريب اليهود إلى فلسطين.. والشركة وهي شركة محترمة جداً ومعروفة، وليس لديْها أيّ علم بهذا الشيء. فأقامت دعوى على الجريدة لاختلاق الخبر وتشويه سمعة الشركة. فقيل لي: من أين حصلت على هذا الخبر؟ قلت: والله هذا الخبر حصلت عليه من مصدر ثقة... قيل من هو هذا المصدر الثقة؟ قلت: مصدر ثقة، أحد موظفي الأمن العام...
في الحقيقة، موظفو الأمن العام ليس لهم الحق في إعطاء الأخبار، سواءً كانت صحيحة أم غير صحيحة... فاتصلت بالذي أعطاني الخبر وقلت له بأن هذا عار عن الصحة. فكان جوابه: "كيف، الخبر صحيح"؟!... وقد ظهر لي بأن الأمن العام يريد أن يوقعني. وجرى تحقيق في الأمر، قام به المسؤولون في الأمن العام مع هذا الموظف ومعي أنا، بعد فصل هذا الموظف مدة خمسة عشر يوماً من الوظيفة. وعندما جرى التحقيق معي، أكدت بأن هذا الخبر قد حصلت عليه من الموظف في الأمن العام في الوقت الذي يجب عليه أنْ لا يعطيه لي.
هذا من جهة ومن الجهة الثانية، هل يحق لمديرية الأمن العام أن تطلع الصحفيين على البرقيات السرية التي تأتيها من المركز في بيروت، هذا الموظف هل هو جدير بأن يكون في الأمن العام؟... ففي يوم كذا، بتاريخ كذا، أطلعني أحد الموظفين على البرقية رقم كذا والتي فيها توبيخ للمسؤولين للإهمال ولعدم معرفتهم لخبر المدرَّعة الحربية الفرنسية التي أُرسيت على شواطئ صيدا ونشرت بعض الصحف الخبر دون أن يعلم به موظف الأمن العام. وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على أن موظف الأمن العام غير جدير بأن يكون في الأمن العام. وقد قام بهذه الخطة حتى يوقعني فيها. فإذا كان نفي الخبر ينهي الإشكال، فنحن مستعدون أن ننفي الخبر وننشره حسب قانون الصحافة وبالمكان والحجم الذي نشر فيه. وأذكر يومها بأن هذا الموظف قد فُصل من وظيفته.
ومن جملة الحوادث التي مرت معي، كان هناك تقصير في مستشفيات الحكومة في صيدا أو مستشفى الحكومة (الراهبات) في داخل البلدة القديمة، سوق الكندرجية. في الحقيقة كان بالاسم مستشفى، وإنما هو في الحقيقة مستوصف لا يتوفر فيه أي شيء يذكر. وقد كان ذلك فيما أذكر قبل الاستقلال. فكتبت تحقيقاً عن هذا المستشفى الحكومي وعن تقصير وزارة الصحة في كثير من النواحي، وإن هناك كثيراً من الناس الفقراء يحتاجون إلى الدواء وبعض العناية الطبية. وأنا لا أقصد في مختلف جوانب التقصير التي كتبتها، أحداً من الموظفين هنا أو الطبيب المسؤول. ووقتها بعد نشر هذا المقال، اتهمت بأنني قمت بذلك من أجل انتقاد الدكتور نزيه البزري والهجوم عليه، الذي كان هو الطبيب المسؤول آنذاك. فقام أخوة الدكتور نزيه وتعرَّضوا لي وتصلوا بي، كما اتصل المرحوم أنور البزري. ولكـن مـا دخـل الدكتور نزيه البزري في هذا الموضوع، وأنا لم أشر إليه لا من قريب أو بعيد. وقد وضَّحت لأنور البزري بأنني عندما كتبت ذلك، إنما أردت أن أظهر تقصير الدولة في ذلك، ووزارة الصحة تحديداً. وهنا جاء نزار البزري (أخو الدكتور نزيه) وقال لي بأنني أنا مدفوع من قبل الدكتور لبيب أبو ظهر، لأكتب ما كتبته. فذهب إلى لبيب أبو ظهر وأراد أن يطاله ويضربه. وهناك وقعت الواقعة والضجة الكبيرة. فاجتمع آل أبو ظهر ليدعمـوا الدكتور لبيـب وكذلك آل البزري قد اجتمعوا هم أيضاً. وكادت أن تقع من أجل شيء وهميّ وغير صحيح. أولاً لبيب لا دخل له في الموضوع، وثانياً كنا نعالج موضوع تقصير وزارة الصحة في مستشفى الحكومي في صيدا، ولولا تدخل المرحوم صلاح البزري وفرّق بين الفريقَين وأصلح بينهما! وأخذهم إلى منزل لبيب أبو ظهر....
ولبيب أبو ظهر من جهته، قعد في الساحة وأخذ يهدد الكبير والصغير من آل البزري. وضع مسدسه في جنبه والرُّجَّال يتقدم. وكان ذلك بالقرب مـن مستشفاه القديـم بالقـرب مـن البوابة التحتا. تصور هذه المعركة الكبيرة التي كادت أن تقع بين الحزبيات المحلية من أجل قضية، كنا نتوخى منها خدمة الرأي العام وتنويره، كل ذلك بسبب أوهام مغلوطة لا أساس لها من الصحة، وفي الوقت الذي كان فيه لبيب أبو ظهر لا علم له بهذا الخبر. لذلك فقد قال لي بعد ذلك: بما أنك قد هُدِّدتَ، فلماذا لم تخبرني بذلك؟!... وفي النتيجة، فقد انتهت هذه القصة بحكمة المرحوم صلاح الدين البزري...
وهناك أيضاً قصة أخرى: مرَّة، كان أحد قضاة الشرع، وبسبب الخلافات حول الأوقاف بين آل حمود، وكان هناك دعاوى وغيره في المحكمة الشرعية، قد اعتديَ عليه من قبل بعض أفراد آل حمود وانهالوا عليه ضرباً وبعدها هربوا (وكان القاضي الشرعي آنذاك هو الشيخ بهاء الدين الزين). فاتصلت ببعض الأشخاص من آل حمود لأستعلم عن الأسباب التي دفعتهم للاعتداء على قاضي الشرع في صيدا. فقالوا لي بأن دائرة الأوقاف في صيدا قد اتخذت قراراً ببيع قسمٍ من وقف آل حمود وأشياء أخرى، هي ضد مصلحة آل حمود.
ففي اليوم الثاني، نشرت الجريدة التي أراسلها بعنوان كبير: قاضي صيدا المضروب: هلى كان على اتفاق مع دائرة أوقاف صيدا. فنشرتُ الخبر كما رُويَ لي. فقام مفتي الجمهورية في بيروت بإصدار بيان طويل عريض، يقول فيه بأن دائرة الأوقاف في صيدا ليس من حقها أبداً أن تتخذ قراراً من هذا النوع إلاّ بموافقة المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في بيروت. وكذلك، فإنّ دائرة الأوقاف في صيدا، إذا قررت أيَّ شيء، لا يمكن تنفيذه إلاّ بعد الموافقة والمصادقة من بيروت. وهذا الشيء لم يتم. ولذلك فإنّ القاضي الشرعي في صيدا، ليس له علاقة بدائرة الأوقاف. وليس له علاقة بالموضوع من أساسه. فكل قرار من مجلس الأوقاف في صيدا، يحتاج إلى الموافقة من بيروت، وهذا لم يحصل. فذَيّل رئيس التحرير هذا البيان قائلاً بأنه يترك لمراسلنا الخاص في صيدا الرد على دار الفتوى...
من جهتي، أنا، أهملت الموضوع وتركته، واهتممت بالبحث عن الشخص الذي ضرب القاضي، وبقيت أتحرّى في هذه الناحية. مرة كنت في مقهى باب السراي وكـان بعـض الأشخـاص مـن آل حمود مجتمعين ويقولون فيما بينهم بأننا ضربنا القاضي الشرعي قياماً وقعوداً، والأشخاص هم – فلان وفلان - الذين ضربوه قد هربوا وذهبوا يختبؤون في "عاليه"، في المكان الفلاني.. فَلْتَأْتِ قوى الأمن والتحري وغيرهم ويعرفون أين هم ويلقون القبض عليهم...!!
أنا سرقت رأساً هذا الخبر ونشرت في اليوم التالي بأن الأشخاص من آل حمود، الذين اعتدوا على قاضي الشرع في صيدا، هم فلان وفلان وفلان وموجودون في المكان الفلاني وفي المنطقة الفلانية... وصدرت الجريدة في الصباح، وبعد نصف ساعة كان هؤلاء الأشخاص من آل حمود معتقلين. هذه الحادثة بالنسبة لي وعلى الصعيد الصحافي، كان لها وقع طيّب. ومن الممكن الحصول على كل ذلك وعلى الأخبار التي حدّثتك عنها. مصطفى المقدّم لا يزال حياً يرزق وكان في كل سنة يصدر مجلداً له خاص.. وهو من مدينة النبطية ومن الممكن الاتصال به أو معرفة أين هو الآن...
على أيِّ حال، كنت أقوم بذلك تطوعاً ومحبّة بالكتابة. وكانت الظروف صعبة. ولم يكن ينشر اسمي صراحةً، ولم يُعرف أن هذه الأخبار بأنها مني. فكانت في صيدا جريدة "أبابيل"، يصدرها الشيخ حسين الحبال. فكان يُعتقد آنذاك بأن من يكتب هذه الأخبار هو حسين الحبال، حتى أنه مرة تحرشوا به وكادوا أن يضربوه بسبب مقـال دائـرة الأوقاف وقضية آل حمود. وقد استمريْت في هذا العمل الصحافي حتى أنهم طلبوا مني أن أستلم إدارة الجريدة، جريدة "النضال" في بيروت، وحتى الآن لا يزال رقم تلفون البيت باسم جريدة "النضال"، ومنذ سنة 1938. ولم يكن في صيدا صحافيون سواي..
إذن، في صيدا، لم يكن هناك من صحافيين سوى عبد الرحمن شهاب وهو صاحب محل نوفوتيه، وفي الوقت نفسه يراسل جريدة "اليوم" وجريدة "البلاغ". ثم بعد ذلك أصدر مجلة اسمها "الكشكول". وكان هناك أيضاً الشيخ حسين الحبَّال. أما خضر حسنى، فكان أحد أقرباء كامل مروة، فكلَّفه بذلك كي يخدمه ويقوم بنشاط من أجل بيع الجريدة وتوزيعها، فقال له أن ينقل إليه ما يسمع وما يعرف من أخبار. وكنت أنا أساعده كثيراً في هذا المجال. وكان يخبرني عن حدث فأكتبه له الخ...
وفي سنة 1936، فيما أذكر، كان طلاب المقاصد يخرجون دائماً في تظاهرات في ذلك الوقت. وكان المشرف عليها الأستاذ محمود الشماع وهو الذي خلق المقاصد وتعب من أجلها كثيراً. وكان الناظر كذلك الأستاذ يوسف حاج والد الدكتور اسكندر الحاج وكان أستاذي العربي الأستاذ منيف لطفي والفرنسي خليل متى والهندسة (Géométrie) الأستاذ ناشف، وكان أيضاً أستاذ الموسيقى، وهو يعزف على الكمان...
س: هذا بالنسبة للصحافة، أمَّا بالنسبة للمسرح، فما هي معلوماتك حول المسرح في صيدا؟
ج: قبل أن نقيم فرقة مسرحيّة تابعة للنجادة في صيدا، كان هناك الكشـاف المسلم. وكان نسيب البزري هو الذي أوجد فرقة كشفية، تطورت فيما بعد. وجاء بعد ذلك عبد المنعم البزري وقبل عبد المنعم البزري صلاح فارس. ولكن نسيب البزري أول من أوجد الكشفية وعمره من دون الخمس عشرة سنة... وقد نظمهم تنظيماً جيداً...
في ذلك الوقت اتصل بي نسيب البزري وقال لي: إنه يريد أن ينشىء فرقة تمثيلية. وبالفعل تكوَّنت هذه الفرقة التمثيلية وكانت تابعة للفريق الكشفي. وأذكر أننا قمنا بتمثيل رواية عنوانها: "لولا المحامي"، وكان ذلك في عام 1938. وكانت ناجحة وموفقة وقد عُرضت في مختلف مناطق الجنوب انطلاقاً من صيدا والنبطية وبنت جبيل، ونجحت وأدخلت لنا بعض المال... وكان معنا عفيف النقوزي وهو المُخرج وممثل، وزهير النقوزي والشيخ صالح القبرصلي وجميل القطب: وكان مثَّل كشكش بك. ويُمثِّل الأدوار الفكاهية التي نجح فيها نجاحاً ظاهراً. وكان لديه رغبة في التَّمثيل كبيرة ولو كان هناك من اهتم به، لبرزت موهبته. وكان يتوفَّق في أدواره دائماً، والحضور والرأي العام يحيِّيه بالتصفيق...
ثم جاءت النجادة بعد أنْ أقامت لها فروعاً في الملحقات ومنها صيدا. وكان ذلك في مطلع الأربعينات، وكان المسؤولون في النجادة محمد طه البابا (سكرتير)، بدوي النابلسي. حسيب شهاب، محمد اليماني (المدرب). ومن هنا جاءت الفكرة لتكوين فرقة تمثيلية.. وقمنا بالفعل بإحياء مسرحيتين، إحداهما تحت عنوان "فتح الأندلس"، أقيمت في سينما الأمبير. وقد تكلفنا عليها أموالاً كثيرة. وكنا نذهب إلى أناس لديهم اختصاص ونعطيهم الرسوم حتى يصمِّموا لنا الستائر والقبب والديكور وغيره. ونجحت نجاحاً عظيماً. ولكن، كما تعلم، لم يكن عند الناس القابلية للتمثيليات. وكنت أنا شخصياً أشرف على التدريب وأقوم بعملية التلقين ولم أرغب في تمثيل بعض الأدوار، وإنما استمريت من وراء الكواليس. وكـان فـي الحقيقة عفيف النقوزي هو الذي يقوم بتوزيع الأدوار على الممثلين.
يتمتع عفيف النقوزي بمواهب فنية ومسرحية. ولكن كان يفتقد إلى الجانب المادي من جهة ومن جهة أخرى كان أهله غير راضين عن هذا النشاط الفني المسرحي. وكنت أصطدم دائماً مع والده الذي كان يقول لي بأني أنا الذي "أنزَعْ" ابنه، وأنت كذا وأنت كذا. في الحقيقة، كان يأتي إليّ ويعرض علي الفكرة فأوافق وأساعده. وكنت أنا بمثابة دعاية له، وكنت أشجعه. وكذلك كان يكتب الشعر. وكان هناك شاعر في صيدا يساعده في تنقيح بعض الأبيات، فتظهر في قالب ممتاز.
باختصار، لقد كنا مجموعة من الهوات، ولم يكن آنذاك مطلوباً منا شيئاً: نسكن ونأكل ونشرب في بيت أهلنا. ولم نكن نتحمل المسؤوليات الحياتية بعد، والحياة لا تزال بسيطة والمتطلبات الماديّة قليلة...
وقد تعاون معنا كذلك مصطفي الأسير وكان ممثلاً قديراً وناجحاً. وكانت المنافسة بينه وبين عفيف النقوزي.. ولم نكن نحصل على مساعدات ماديّة من المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية أو المسؤولين ووجهاء البلد... بل أكثر من ذلك، كنا نحن ندفع ونضحّي بالقليل من المال لدينا وبخَرْجِيَّتِنا من أجل هوايتنا. وكنا نتكل على أنفسنا...
ثمَّ انتهت المقابلة بإبداء بعض الملاحظات السريعة حول الأوضاع السياسية في صيدا.
الخلافات السياسية في صيدا، كان لها طابع محلّي حزبي انتخابي، فينقسم البلد قسمين والزعامات فريقين..
المفوض السامي، عندما كان يزور مناطق الجنوب مروراً بصيدا، كان كثير من وجهاء صيدا يقيمون له الولائم والعزائـم والاحـتفالات والطـبل والزمر، الخ.. ثمَّ عندما جاء الاستقلال، تغيَّرت الأوضاع وأصبحوا مع الاستقلال.
وبعد الاستقلال، الشيخ بشارة الخوري قام بزيارات واسعة في مختلف المناطق ومنها الجنوب وصيدا، فأقيمت له احتفالات جماهيرية واسعة كبيرة لم تعرفها صيدا من قبل.
كما هو الحال عليه الآن، هناك فئات تتعاون مع قوات الاحتلال أو سلطات الانتداب في الماضي، ووجهاء وأعيان وشخصيات تعاونت في الماضي مع السلطة..
ولكن هناك جانباً يجب أنْ نشدِّد عليه وهو أنَّ الاستقلال ينبعث من طلاب المدارس فهم الذين كانوا يلعبون الدور الوطني الأول والحقيقي. فالمقاصد في صيدا، قد كانت نقطة الانطلاق في طلب الحرية والاستقلال... نحن شباب المقاصد، نسير في التظاهرات وننشد الأناشيد ضد فرنسا والحماس يدبّ في عروقنا، وننشد: "نحن الشباب لنا الغد" و"بلاد العرب أوطاني" وغير ذلك من الأناشيد الحماسية في الشوارع. ونصطدم مع الافرنسيين.
وكنا كذلك كطلاب مقاصد، ندور ونذهب إلى المدارس الأخرى ونعمل على إقفالها ونرغمها على أن تسير معنا، ومن جملة هذه المدارس مدرسة "الفرير" مثلاً، التي كنا نعمل على إشراك طلابها معنا في التظاهرات الطلابية المعادية للانتداب الفرنسي، وكانوا يذهبون معنا حتى السراي ولا تزال المعركة الدامية التي وقعت بين أهل صيدا والطلاب في المقدمة وبين القوات الفرنسية في عام 1943 وذهب ضحيتها بعض القتلى وكثير من الجرحى، وهي أحداث لا تزال حيّة في النفوس.
وقد وقع هذا الاصطدام على مدخل السراي (القديمة)، ولم يكن بعد قد شُقَّ شارع رياض الصلح... وكان الشارع الوحيد هو الشارع الذي يخترق صيدا مـن القمـلة حتى بوابة الفوقا، مروراً من السراي (القديمة) شارع الشهداء، وبوابة التحتـا، الشاكريـة، وبوابة الفوقا. وكان الطلاب والأهالي ينشدون ويهتفون من أجلِ الاستقلال، وقد كوَّنوا تجمعاً كبيراً أمام مدخل السراي، وإذْ بأحد الضباط الفرنسيين، يقف على دبابة ويطلق طلقة نارية من مسدسه إشارة للجنود كي يطلقوا الناس من بنادقهم قائلاً باللغة الفرنسية feu (نار).
فينهمر وابل من الرصاص على التظاهرة الطلابية والأهلية، فقد كانوا محصورين وليس لهم من مهرب سوى الرجوع والعودة إلى الوراء. المكان مقفل علينا وتحيطنا الجدران العالية (الأسوار) من كل جانب ومن خلفها البساتين... وقد استمرت المعركة ما يقرب من ربع ساعة، وقعت الناس بعضاً فوق البعض الآخر، "خبيصا". فمن تمزقت ثيابه: قميصه، بنطلونه، أو فقد حذاءه، وآثار المعركة على الأرض، شيء رهيب ومخيف...
إذن، نقطة الانطلاق هي كلية المقاصد، هي التي تحرك البلدة، تقود العمل الوطني. وعندما كانت صيدا تُضرب أو يقع فيها قتيل، فيكون لذلك صدىً في الرأي العام في لبنان والرأي العام العربي.. صيدا تظاهرت، صيدا أضربت، صيدا فعلت.. وكانت بالمقابل تقوم تظاهرات في البلاد الأخرى، تأييداً لمطالب صيدا الوطنية.
أمّا الشخصيات الكبيرة في صيدا، فهي شخصيّات منتفعة، لها غايات ومآرب في مسايرة الأجنبي، لذلك كان بعضها يتعاون مع هذا الأجنبي.
إذا أردنا أن ننتقل إلى إعطاء صورة بعض المظاهر الاجتماعية في صيدا، فإننا نقول بأن صيدا كانت في حُلَّة من الزينة في مواسم الأعياد وفي الموالد وغيرها.. وكانت المناظر الجميلة في حيّ المصلّبية وبحر العيد.. في المصلّبية، مثلاً، كانت الناس تقيم هناك بركة ماء في مكان تقاطع الطرق وتنطلق منها النوافير، ويضعون السجاد في الشوارع احتفالاً واحتفاءً بهذه الذكرى. وكما تعلم، لم يكن هناك بَعْدُ كهرباء في المدينة... وأذكر بأنّ صيدا كانت تضاء في الليل عن طريق الفوانيس وكانت البلدية واضعة في كل حارة من حارات صيدا وعلى كل مَفْرقٍ من الطرق والزواريب القديمة الفوانيس بعد المغرب. هناك موظفون يحملون السلَّم على الكتف ويذهبون لكي "يَعَمِّروا" الفوانيس بالكاز ويشعلونها. وفي الصباح يأتون ويطفئونها. ثم بعد ذلك، جاءت الكهرباء إلى صيدا عن طريق شركة أهلية.
وكانت الحياة سهلة والمعيشة رخيصة. أذكر بأنني كنت أشتري ثلاث أوقيات اللحمة بعشرة قروش وكنت أفطر فول وخبز بقرش واحدٍ.. الناس مبسوطة والحياة رغيدة والهموم قليلة. وفي السابق كانت صيدا مرتبطة بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً. والناس تحب بعضها البعض لا عن مصلحة ذاتية أو أنانية. والشعور بالأخوة التي توحد والارتباط الاجتماعي الوثيق يشعر به كل واحد. وكما يقول المثل: "الجار لأربعين دار"، وقد كان أكثر من ذلك...
ومن ناحية ثانية، صحيح إن المرأة كانت منزوية، إلاّ أنه كان هناك نشاط نسائي، وتقام الاجتماعات من أجل تطوير أوضاع المرأة في صيدا والحصول على حقوقها. لقد كانت المرأة، في ذلك الوقت، محجَّبة. المرأة كبيرة السن ترتدي زيّاً أبيض، ملايا بيضاء. والأصغر سنَّاً زيَّاً أسود. هكذا، فالمرأة محجبة كلِّياً من فوق حتى القدميْن.
وفي النهاية، فقد أتت النساء وأقمن الاجتماعات والمحاضرات واللقاءات من أجل أن يُلغى هذا اللباس. ووقعت الخلافات والصدامات وحصلت مظاهرة ضد مظاهرة أخرى، وكانت ردَّة الفعل عنيفة كان: يُردْ أنْ تسير المرأة سافرة بدون حجات وتقيم سفور المرأة، فوقعت مشاكل كثيرة. فأذكر في الواقع أنه في فترة ما، كان هناك نشاط نسائيّ بارز من أجل إلغاء الحجاب وزيّ المرأة القديم، فحصلت الصدامات في صيدا وعمَّتها، وكان ذلك له تأثير كبير على الوضع العام في صيدا، إذ إنَّ صيدا قد كانت المدينة الوحيدة التي تحافظ على التقاليد في الحِقبة الزمنية الأخيرة. ومع ظهور الشباب، حصل هناك نوع من التطور وأخذوا يرغبون في إلغاء الحجاب وسفور المرأة، الخ... طبعاً، في بادئ الأمر، وجدت هذه الحركة كثيراً من الصعوبات، إذ إنَّ المرأة التي تخرج من بيتها بدون حجاب تُضرب، ولكن أخيراً وتدريجياً تطور الوضع العام...
أما رجال الدين، في تلك الفترة، فقد كان الوحيد المشهور هو الشيخ أحمد جلال الدين (والد الشيخ محمد سليم جلال الدين) رجل فهيم ومحترم ويحمل لقب نقيب الأشراف، ولا يقوم شيء في صيدا دون أخذ مشورته ورأيه.. وهو خطيب، كان يخطب في صلاة الجمعة دائماً في جامع العمريّ الكبير.. وكانت تلاقي خطبه صدىً واسعاً آنذاك. ومن محبَّته بالدين، حثّ ابنه على الاتجاه الديني وأرسله إلى الأزهر الشريف في مصر. وهنـاك أيضـاً قضاة الشرع الشيخ بهاء الدين الزين والشيخ المقدم وغيرهما...