عبد الناصر والبعث.. الوحدة والانفصال عبد العال الباقورى يروى القصة كاملة
المصدر: google
عبد الناصر والبعث.. الوحدة والانفصال عبد العال الباقورى يروى القصة كاملة
عبد الناصر والبعث.. الوحدة والانفصال
العلاقة بين الزعيم جمال عبد الناصر وحزب البعث العربى الاشتراكى،(من الآن فصاعدا: العلاقة الناصرية - البعثية) علاقة متعددة الوجوه ومتعددة المراحل. عبر حوالى عشرين عاما، كانت عامرة بأحداث كبيرة، غيرت وجه الوطن العربى. صنعت أحلاما، وأدت إلى نكسات، وخلقت تأثيرات متبادلة، ولا نزال نعيش تأثيراتها إلى اليوم، إن ايجابيا أو سلبيا. فقد أدت العلاقة الناصرية - البعثية، فيما أدت، إلى تحويل الوحدة العربية من شعار إلى واقع. وعلى الرغم من أن تاريخ هذه العلاقة لم يكتب متكاملا بعد، وبرؤية موضوعية، إلا أنها حظيت بكم كبير من الكتابات، التى لا تزال تتوالى إلى اليوم. مما يخلق صعوبة فى الكتابة عن هذه العلاقة، خاصة إذا استهدفت عرض هذه العلاقة طوال سنوات حدوثها من منتصف الخمسينيات من القرن الماضى، إلى 1970، عام رحيل عبد الناصر، حتى لو اقتصر العرض على جانب واحد من جوانب العلاقة الناصرية - البعثية وإذا أضفنا إلى ذلك الكم الكبير من الكتب والدراسات سيل المذكرات التى كتبها من أسهموا بنصيب أو آخر فى العلاقة الناصرية - البعثية، فإن من يتصدى لذلك يجد نفسه فى موقف لا يحسد عليه، ومع ذلك، سيحاول المرء أن يركب الصعب، ويستند فى المحاولة إلى مصادر لم يستند إليها فى كتابات سبقت عن البعث.
وفى هذه المرة، تجنبت عامدا متعمدا عددا كبيرا من الكتابات المهمة التى تصب فى مجرى العلاقة الناصرية - البعثية، والمثال البارز هنا هو المذكرات، خاصة مذكرات السيدين محمود رياض وأكرم الحورانى لطولها، وتفصيلاتها، فضلا عن مذكرات كثيرين ممن قاموا بدور أو آخر فى نسج العلاقة الناصرية- البعثية بسلبياتها وإيجابيتها. وإن كنت مثل كثيرين أترقب مذكرات السيد عبد الحميد السراج، وقد بحثت بدأب ولا أزال عن مذكرات السيد على صالح السعدى التى قيل لى إنها صدرت فى كتاب، وفى لقائى اليتيم معه فى داره فى بغداد فى يوليو- تموز 1972 أشار إلى أنه يكتب مذكراته. ولا يحتاج الأمر هنا إيجازاً واختصاراً إلى تعريف "الناصرية" و" البعثية" بافتراض أن القارئ يعرف نشأة وتاريخ مضمون كل منهما، منذ حمل البعث" اسمه من اندماج حزبى "البعث العربي" الذى أنشأه ميشيل عفلق وصلاح البيطار مع الحزب العربى الاشتراكى الذى اسسه أكرم الحورانى. البدايات يرى محمد حيدر الذى انتسب إلى البعث منذ انشائه فى 1947 ووصل إلى عضوية القيادة القطرية السورية من 1971 إلى 1980 أنه كان للتيار " السعودى - المصري" تأثير على قيادة البعث فى موقفها من مشروعى "سورية الكبري" و"الهلال الخصيب" ويذهب إلى وجود "تطابق" فى مواقف قيادة البعث مع سياسة المحور المصرى السعودى. ويرى أن المواقف المشتركة بين البعث وهذا المحور كانت " الخلفية التى بنيت عليها العلاقات بين قيادة الحزب وقيادة مصر، بعد الانقلاب على أديب الشيشكلى فى 1954، دون أن يشير إلى ما سبق هذه العلاقة من نفور بعثى من استيلاء العسكريين على السلطة فى مصر بل والشك فى ارتباط النظام الجديد مع جهات أجنبية. ولكنه يشير إلى أن جريدة " البعث" نشرت فى 10 أكتوبر 1951 أخبار المظاهرة التى قادها الحزب فى حلب تأييدا لمصر وشجبا للمشروع الأمريكى فى " الدفاع عن الشرق الأوسط" وكانت عناوين الصحيفة هي: "الشعب السورى يحيى نضال مصر ويبدى استعداده للتطوع. آلاف المتظاهرين فى حلب يهتفون للوحدة وال حرية والاشتراكية. الجماهير الثائرة تؤيد نضال الشعب العربى فى مصر. مطالبة بالحياد ووأد مؤامرة الدفاع عن الشرق الاوسط". ومعنى هذا أن اهتمام البعث كان موجها إلى مصر وليس إلى من يحكمها.
كما أن عبد الناصر تحدث منذ 1953 فى "فلسفة الثورة" عن أن "طلائع الوعى العربى بدأت تتسلل إلى تفكيرى وأنا طالب فى المدرسة الثانوية، أخرج مع زملائى فى إضراب عام فى الثانى من شهر نوفمبر فى كل سنة احتجاجا على وعد بلفور.. ولما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعا فى أعماقى بأن القتال فى فلسطين ليس قتالا فى أرض عريبة". وبعد عامين فقط من قيام ثورة يوليو كان الاتجاه العربى خطا ثابتا فى أحاديث وتصريحات جمال عبد الناصر، الذى قال فى خطاب بالجامع الأزهر احتفالا بالعيد الثانى للثورة فى 22 يوليو 1954
"ان هدف حكومة الثورة أن يكون العرب أمة متحدة يتعاون أبناؤها على الخير المشترك"،
ويؤكد :
"حينما قمنا بهذه الثورة لم نكن نبغى عزة مصر وحدها، ولكنا كنا نبغى عزة العرب جميعا وقوتهم وكرامتهم جميعا".
وعلى هذه الاسس بدأ التلاقى بين الثورة الناصرية وحزب البعث. الطريق إلى الوحدة على أيدى ر جال المخابرات العامة بدأت اتصالات ثورة يوليو بالقوى السياسية العربية. كان هذا الجهاز "معملا لتفريخ المسئولين فى الأجهزة السياسية والإدارية ". وشارك فى هذا الاتصال عدد وافر من الضباط، كان من أبرزهم كمال الدين رفعت، وأحمد لطفى واكد وعزت سليمان وفتحى الديب، وظل الاول مسئولا عن الاتصالات بالأحزاب العربية فى المشرق العربى من أواخر 1954 إلى قيام ثورة يوليو 1958 فى العراق. كان كمال رفعت حريصا على الاتصال بجميع القوى السياسية العربية، وكان هذا موضوع شكوى بعض السياسيين العرب، فقد ارسل أكرم الحورانى خطابا إلى عبد الناصر يشكو من اتصال كمال رفعت بالشيوعيين، ويتهمة بانه يهاجم البعث فى مجالسه. وأول اتصال علنى بين رجال ثورة يوليو وحزب البعث كان فى أوائل مارس 1954، بعد الغارة الإسرائيلية على غزة فى 28 فبراير 1954، وجرى هذا على يد صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة ووزير الإرشاد، الذى زار " مقر حزب البعث العربى الاشتركى ووقع اتفاقا خاصا بإنشاء قيادة موحدة".
إذن تعددت قنوات الاتصال المصرية مع سوريا، التى عين محمود رياض وهو عسكرى سابق سفيرا فيها، وبدا أن مهمته كانت محددة فى تم هيد الطريق لتلاقى البلدين حيث نسج علاقات عميقة مع القوى السياسية السورية. كما لعب عبد المحسن أبو النور ممثل مصر فى "القيادة المشتركة" لجيشى البلدين دورا كبيرا فى الاتصال بالعسكريين السوريين.
كان عام 1955 حاسما فى تطور العلاقات المصرية - السورية، وفى علاقة مصر بحزب البعث العربى الاشتراكى. إنه عام " باندونج" وعام كسر مصر لاحتكار السلاح بعقدها الصفقة التى عرفت عندئذ بالصفقة التشيكية، وعام مقاومة حلف بغداد.
وفى هذا كانت السياسة المصرية والسورية متقاربتين، وعلى درب التقارب تحول التلاقى إلى البحث فى خطوات تؤدى إلى الوحدة أو الاتحاد. ويسجل سياسى بعثى، وهو سامى الجندى، أن الرئيس عبد الناصر " بات زعيم البعث القومى الحقيقى، والبرقية التى أرسلها إليه الحزب فى 29 يونيو 1956 شاهد على ذلك :
" سيادة الرئيس عبد الناصر - مصر
" لم يقتصر انتخابكم على أصوات الشعب العربى فى مصر، بل شارك فيه كل الشعب العربى المتحفز للحياة والحرية والوحدة". "
حررتم مصر من الطغيان والفساد والاستعمار واستجبتم للاتحاد العربى الثورى وجسدتموه، فحققتم تحولا تاريخيا فى حياة مص ر والوطن العربى كله "
"الشعب العربى يترقب متابعتكم للخطوات التى بدأتموها، وهى السير بمصر نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية السليمة، والتأييد الفعال للنضال العربى فى كل مكان، والبدء بتحقيق الاتحاد بين مصر وسوريا كنواة للوحدة العربية التحررية الشاملة".
ومنذئذ كان الحديث عن الوحدة بين مصر وسورية قد بدأ يتردد. وكان عبد الناصر " قد فرض نفسه على العرب جميعا خاصة بعد حرب 1956 التى قادها بذكاء نادر وعرف كيف يستغل كل الظروف والطاقات والخلافات الدولية ومقاومة الشعب".
ويكشف الجندى سرا، فقبل منتصف العام 1956 كانت " الاتصالات تجرى بين القيادة وبقية المسئولين فى الحزب لأخذ رأيهم، وما كان ليعترض أحد. كنا نطرح سؤالا واحدا : والحزب؟
كنا رغم كل شيء نرى فيه ماضينا وشبابنا كله. نحبه رغم كل أخطائه. وكان بيننا علاقة خاصة. أجابت القيادة أنه لا بد من إلغاء الحزب فى سورية انسجاما مع إلغاء الأحزاب فى مصر، بانتظار إنشاء تنظيم شعبى جديد تكون نواته وقيادته من الحزبين.
أكدت القيادة أن "الرئيس عبد الناصر يعتبر نفسه حزبيا". وكان البعث يعتبر نفسه حزب عبد الناصر، لدرجة أنه قيل إن الحزب رأى أن يتولى عبد الناصر قيادته. وفى تلك الفترة نشط حزبيون سوريون فى القاهرة لاستقطاب نشطين مصريين إلى عضوية الحزب، ولكنها ظلت محدودة وكانت فى غالبيتها من الطلبة الجامعيين. وإذا كان ضباط سوريون قد لعبوا دورا معروفا فى قطع أنابيب البترول عبر سويا، فى 1956 ردا على العدوان الثلاثى على مصر، فإن مصر هبت لنجدة سوريا حين حاولت حصارها دول حلف بغداد، ووصلت القوات المصرية إلى اللاذقية، وعندئذ قرر مجلس النواب السورى توجيه الدعوة إلى مجلس الأمة المصرى لزيارة سوريا ولتبادل الرأى حول الاتحاد بين البلدين. وذهب وفد مصرى برئاسة أنور السادات. وتم عقد جلسة تاريخية، عرض فيها مشروع الاتحاد. ورد مجلس النواب السورى الزيارة. وفى الاجتماعين ارتفعت الدعوة إلى إنجاز الاتحاد. وبعث الرئيس عبد الناصر ونائبه عبد الحكيم عامر بالسيد حافظ اسماعيل إلى سورية، واجتمع مع "المجلس العسكري" الذى كان يضم 24 ضابطا من العناصر المؤثرة فى الجيش والتى كانت تشكل تجمعات من الأسلحة والمحافظات السورية المختلفة وقال حافظ اسماعيل إن عبد الناصر وعامر مع تأجيل الوحدة خمس سنوات لأن اقتصاد البلدين مختلف والحياة السياسية مختلفة والجيش فى مصر لا يتدخل فى السياسة. وطلب أن يستمع إلى رأى كل واحد من أعضاء المجلس الذين أصروا على قيام الوحدة الفورية والاندماجية. ووصل 12 عضوا من المجلس العسكرى إلى القاهرة وطلبوا الاجتماع مع عبد الناصر مطالبين بالوحدة. وينفرد سامى الجندى بالقول إن عبد الناصر هو الذى طلب لجنة من الضباط تمثل كافة القطاعات والاتجاهات ويرأسها اللواء عفيف البزرى رئيس أركان الجيش السورى. وهذه الواقعة لم يشر إليها أى مصدر آخر من المصادر المتاحة. وبالإضافة إلى ما ذكر عن حافظ اسماعيل فإن أمين هويدى مدير المخابرات المصرية الأسبق ووزير الإرشاد الأسبق فى مذكراته. يذكر أنه فى 3 فبراير 1985 تقرر سفره هو وشعراوى جمعه إلى سورية " لتقصى الاحوال هناك ومعرفة ردود الفعل على الأرض" وبعد جولة قاما بها فى ربوع سوريا قدما تقريرا إلى الرئيس عبد الناصر "أبدينا نصحنا فيه بالتريث".
ولكن هذه النصيحة جاءت متأخرة، إذ كان قد تقرر إجراء الاستفتاء على قيام الوحدة وعلى شخص رئيس الجمهورية فى 21 فبراير - شباط 1958. وجاء ذلك بعد أن وافق أعضاء اللجنة العسكرية السورية فى مباحثات هم مع عبد الناصر على شروط ثلاثة وضعها وهى حل الأحزاب، وابتعاد الجيش عن السياسة، وأن تكون الوحدة اندماجية.
ووافقت القوى السورية المختلفة على ذلك، باستثناء الحزب الشيوعى السورى بزعامة خالد بكداش الذى لم يوافق على حل نفسه، كما دعا إلى دولة اتحادية. كان الحماس للوحدة جارفا، وكان التسرع واضحا. وهذا ما أكده العسكريون السوريون فى اجتماعاتهم مع عبد الناصر، فعندما كانوا يتداولون حول صيغة الوحدة، وقف المقدم أمين الحافظ وقال مخاطبا عبد الناصر:
"بيننا وبينكم حائط يجب أن نهدمه الساعة. لماذا الاتحاد لتكن وحدة "
وأيد الجميع. ويضيف سامى الجندى أن عبد الحميد السراج قال له :
" عندما خرجنا من عند الرئيس وذهبنا للفندق، بدأ التآمر على الوحدة".
ولكنه رفض أن يفصِّل ما يعنيه. وفى الأول من فبراير 1958 اجتمع مؤتمر قطرى لحزب البعث ووافق بالإجماع على قرار حل منظمة الحزب فى سورية، "وأحس الحزبيون للوهلة الأولى أن عبئا ثقيلا نزل عن كاهلهم. فقد ارهقتهم الخلافات فى آخر أيام الحزب، حتى بات النضال فى داخله فقط. رأت الاحزاب القديمة أنها تجنبت خطر الزوال على يد البعث أو الجيش، وأملوا بمغ نم هو الوحدة. وظن العسكريون أنهم سيصبحون عسكريين أخيرا". كانت للبعث حساباته الخاصة. فقد حل نفسه فى الظاهر ولكن الاجتماعات كانت مستمرة" وكانت التعميمات تصلنا أولا بأول بعد صدورها مباشرة" كما يقول هويدى فى مذكراته. والحل وعدم الحل مسألة ستثار كثيرا، بعد مرور شهر العسل بين البعث وعبد الناصر، خاصة وأن الجماهير فى سوريا كانت فى لهفة من أمرها للحصول وبسرعة على ثمرات الوحدة. وكان البعث فى تقدير كثيرين يريد الإنفراد بالحكم فى سورية، فقد رأى نفسه الحزب الوحيد المؤهل لذلك. وكان هو الحزب الذى رفع شعار الوحدة وتحمس لها. ولكنه لم يملك تصورا محددا عن دولة الوحدة، ولم تصدر عنه - حتى قيام دولة الوحدة- أى دراسة تناقش الوحدة وكيف يتم إنجازها. كما لم يكن لديه أى تصور متكامل عن العلاقة مع عبد الناصر.
ولعل خير من عبر عن ذلك هو الدكتور منيف الرزاز الذى تولى منصب الأمين العام القومى لحزب البعث لفترة، إذ يقول:
" إن عبد الناصر ليس شخصا، إنه ظاهرة تاريخية فذة وليس بالإمكان معالجة أية قضية عربية دون معالجة هذه الظاهرة، ومعالجة أثرها فى تلك القضية. إن وجوده يفرض نفسه على كل مشكلة وحدث وحزب وحركة وحكم ومعركة فى الوطن العربى. إنه ظاهرة طاغية عملاقة. فرضت نفسها سلبا وإيجابا على التاريخ العربى الحديث وأثرت فى مجراه تأثيرا عميقا، وبعثت فيه تيارات هزت كل المعطيات السابقة"،
ومن هذا التقويم يخلص الرزاز إلى أن البعث ظل حتى 1967، تاريخ صدور كتابه الذى ننقل عنه، بعيدا عن تقييم هذه الظاهرة الناصرية تقييما صحيحا وعميقا. وكانت مواقفه منها "مواقف ناتجة عن ردود فعل آنية أقرب ما تكون إلى الانطباعت الشخصية منها إلى النظرة العملية التحليلية السليمة".
وقد كلفت القيادة القومية للبعث فى 1962، أحد أعضائها بكتابة مشروع تقييم لعبد الناصر. فمضت شهور دون كتابة التقرير." وبقيت هذه القضية نهبا للأحداث تقيم كل يوم تقييما جديدا ارتجاليا انعكاسيا.
وفى خريف عام 1964، بعد محادثات جرت بين وفد الحكومة السورية لمؤتمر عدم الانحياز وبين عبد الناصر أحال المجلس الوطنى لقيادة الثورة فى سورية، نتائج هذه المحادثات للقيادة القومية لتبدى رأيها. واغتنمت القيادة هذه الفرصة لتتقدم بتقييم مختصر يساعد على رسم السياسة المطلوبة، ولكن القيادة القطرية آنذك حالت دون توزيع التقييم على القواعد.
وهكذا بقيت النشرة هى التقييم الوحيد للظاهرة على الرغم من اختصارها وعدم كفايتها وإحاطتها". فى المقابل، كان عبد الناصر يعرف البعث جيدا، وإن لم يعرف سوريا. وهذا الحكم مبنى على تجربة شخصية لاحقة. وعلى أى، فإن البعث لعب دورا واضحا ورائدا فى رفع شعار الوحدة العربية، كما قدم أفكاراً قومية واجتماعية اثارت الانتباه. ولكن الحزب تبنى " عقيدة كونه الحزب الوحيد المؤهل لقيادة الأمة العربية.. يرفض الاحزاب والأنظمة الحاكمة لأنها رجعية، ويرفض التيارات اليسارية والشيوعية بمنطق أنها ترتوى من نبع غير عربى، وهو منطق لم تثبت الأيام صحته على مدى التجارب التاريخية. وهذه العلاقة المركبة بين عبد الناصر والبعث هى التى قادت إلى التصرفات التى أسهمت بدور أو آخر فى وقوع الانفصال فى 1961 على أيدى عسكريين سوريين، فى حين كان العسكريون السوريون هم الذين فرضوا الوحدة الشاملة، ورفضوا دعوة الداعين إلى الاتحاد الفيدرالى.
كان الاندفاع نحو الوحدة، بالشكل التى قامت عليه، اندفاعا عاطفيا محموماً. والسياسة لا تعرف العاطفة، خاصة فى الأمور المهمة والخطيرة، والتى تحتاج إلى وضوح فى الرؤية، وإلى عقلانية فى ا لتصرف واتخاذ القرار. لقد كان الطرح، منذ 1955، هو إقامة اتحاد فيدرالى بين مصر وسوريا. وظل عبد الناصر مؤيدا لذلك ولم يتغير رأيه إلا بعد لقاء مع الضباط السوريين الذين تحدثوا بحماس وتصرفوا بحماس أكبر. وينقل عبد المحسن أبو النور عن المشير عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية يومئذ بعد اللقاء مع الوفد العسكرى السورى أنه أى - عامر - موافق على الوحدة الفورية " ولكن الرئيس عبد الناصر ما زال مترددا، وأن الوحدة محتاجه إلى وقت وخطوات مدروسة". فما الذى جعل عبد الناصر يغير رأيه ويقبل الوحدة الفورية والاندماجية؟
وافق السوريون والمصريون فى الاستفتاء على قيام الجمهورية العربية المتحدة، كما وافقوا على أن يكون عبد الناصر رئيسا لدولة الوحدة. وبعد الاستفتاء، ذهب عبد الناصر إلى دمشق، التى استقبلته كما لم تستقبل أحدا من قبل، لقد "بات الرئيس أسطورة وطنية شعبية ملأت خيال البسطاء وقلوبهم، وكشفت دمشق عن سرها وسريرتها: مدينة الوحدة العربية".
وبسرعة أثار قيام دولة الوحدة تفاعلات كثيرة عربيا وإقليميا، طلبت اليمن الانضمام إلى دولة الوحدة، وأعلن قيام الاتحاد الهاشمى بين العراق والأردن، و قال العدو الإسرائيلى إنه وضع بين فكى كماشة. 3- الطريق إلى الانفصال فى كتاب " جيل الهزيمة من الذاكرة " يروى بشير العظمة الذى عمل وزيرا مركزيا فى دولة الوحدة، كما رأس الحكومة السورية خلال أشهر من عام 1962، يروى واقعة طريفة، ولكنها عميقة الدلالة. يذكر أنه رافق الرئيس عبد الناصر فى زيارة الى مدينة المنيا، فى صعيد مصر، حيث شهد مهرجان عكاظ الخطابى، ودعا المشير عبد الحكيم عامر أحد نواب الرئيس عبد الناصر عندئذ، الوزراء السوريين ليتحدثوا الى الجماهير المصرية، وصعد أمين النافورى، وكان وزيراً مركزيا للمواصلات، وبادر سامعيه ببشرى كبيرة، وهى أنه سوف يعمل المستحيل لتعميم " المخابرات " فى كل مدينة وقرية. " نزلت كلماته على المساكين كالقدر الرهيب. وارتفعت أصوات الهمهمة والزئير المكتوم احتجاجاً واستنكارا للوعد غير الكريم. قفز فورا المشير عامر، يقاطع الخطيب، وأعلن للحاضرين بأن إخوتهم فى الإقليم الشمالى يطلقون تسمية (المخابرات) على الاتصالات السلكية واللاسلكية، بينما (مخابرات) بمعنى أجهزة التجسس والمداهمة من زوار الصباح هى تسمية خاصة بالإقليم الجنوبى ".
هذه الواقعة عميقة الدلالة، وتؤكد كم كانت الوحدة بين مصر وسورية فى حاجة الى تمهيد، تمهيد طويل وشامل، فى كل مناحى الحياة، بما فيها اللغة بمفرداتها ومصطلحاتها، ومعانى كلماتها. غياب هذا التمهيد يرجعه البعض الى ان الوحدة بدت "وكأنها انضمام من سورية الى مصر، أكثر منها وحدة حقيقية بين طرفين". إن الضم له آلياته وأساليبه، وهى مختلفة عن آليات الاندماج. وهذا لم يحدث طوال سنوات الوحدة. بل وقعت تطورات أعاقت عملية الاندماج. وهذه التطورات أدت وبسرعة الى إعاقة عملية التوحيد. فقد أصبح حزب البعث " أكبر حزب منظم " فى سوريا، على الرغم من انه حل نفسه "صوريا" وانضم الى الاتحاد القومى، إلا أن كوادره ظلت مترابطة وتعمل فى الخفاء. وكان عبد الناصر يرى ان الوحدة تمت بموافقة وتأييد جميع السوريين، ولذلك يعتبر نفسه منحازاً إليهم جميعاً وليس إلى البعثيين فقط، حتى لو كانوا فى برنامجهم أقرب إليه من غيرهم، كما أنه كان يؤكد أن الوزارة فى سورية يجب أن تكون وزارة قومية وليست وزارة ينفرد بأغلبيتها حزب البعث.
ولكن البعثيين كانت لهم وجهة نظر أخرى، كانوا يريدون حكم سوريا لهم وحدهم.
وبعد شهور الوحد ة الأولى بدأت العلاقات تفتر بين عبد الناصر والبعثيين، و"عملت أجهزة وأشخاص كثيرون على التشكيك بينهما". وتزايد الخلاف بعد ثورة العقيد الشواف فى العراق فى 8 مارس 1959. وكان عبد الكريم قاسم قد أطاح بعبد السلام عارف ثم سجنه، وانقلب على البعثيين، وتطاير حلم انضمام العراق الى الوحدة المصرية - السورية، وهو أمل داعب خيالات كثيرة، بعد ثورة 14 يوليو 1958 التى أحاطت بالأسرة الهاشمية. وحين جرت انتخابات " الاتحاد القومى " بالنسبة للجان القاعدية وتشكلت الحكومة الثانية لدولة الوحدة، وتم انتقال صلاح البيطار واكرم الحورانى، وكان عضوى قيادة البعث بالإضافة الى عميد الحزب "ميشيل عفلق، تزايدت الخلافات، وبدأت أحاديث البعثيين فى اللقاءات الخاصة، ضد عبد الناصر، تختلف عما هو معلن. وقادت هذه التفاعلات الى استقالة الأعضاء البعثيين من الحكومة. ويعتبر البعض هذه الاستقالة أنها أنهت الوحدة.
ويرى الجندى ان " البعث " أصبح عنصر فوضى فى ظل حكم عبد الناصر، وأخذ الرئيس عبد الناصر يهاجم البعث وعقيدته " هجوما مقذعاً "، واشتد البعثيون فى تهجمهم على حكم الجمهورية العربية المتحدة.
وأسلوب الاستقالة البعثية يستحق أن يروى.
ففى 23 ديسمبر 1959، ذهب أكرم الحورانى نائب رئيس الجمهورية وصلاح البيطار وزير الثقافة المركزى مع الرئيس عبد الناصر فى قطار الى مدينة بورسعيد لإحياء ذكرى خروج قوات العدوان فى 6591. وتناولا الغذاء معه، وعادا فى القطار نفسه وفى اليوم التالى، تلقى استقاليتهما، ثم تلاهما الوزيران مصطفى حمدون وعبد الغنى قنوت، ويصف عبد المحسن أبو النور الاستقالة بأنها كانت مدبرة مع ميشيل عفلق وقيادة حزب البعث. وتزايد الاضطراب بين البعثيين السوريين. قبل هذه الاستقالة، وفى مارس 1959، دُعى سامى الجندى الى اجتماع فى حلب، حيث تبين له ان بعض القياديين قد عادوا الى التنظيم منذ شهور على شكل لجنة تتداول دراسة الأوضاع وتتخذ قرارات. والأهم من ذلك، كما يذكر الجندى، ان بعض الضباط البعثيين أخذوا يعدون العدة لانقلاب " واتصل بالقيادة يعلمها ان كل شيء جاهز فنهته عن ذلك". فى العام 1959 أيضا، تألفت لجنة باسم "اللجنة العسكرية" أعادت التنظيم البعثى العسكرى. وقد تكونت هذه اللجنة فى مصر، وكانت لها قيادة خماسية، هم المقدم محمد عمران والرائد صلاح جديد والر ائد أحمد الأمير والنقيب حافظ الأسد والنقيب عبد الكريم الجندى. وفى أكتوبر من العام نفسه، عين عبد الحكيم عامر نائبا وحيداً لرئيس الجمهورية فى سوريا، بصلاحيات الرئيس، بينما كان عبد الحميد السراج وزير داخلية الاقليم السورى ينفرد بسلطة شبه مطلقة فى مجال الأمن، وارتكب رجاله جرائم بشعة منكرة وكانت هناك علامات على ان خطراً حقيقيا يهدد الوحدة. ولم تكن هذه العلامات بعيدة عن عبد الناصر، ولا عن عبد الحكيم عامر، وكانت المعلومات بهذا الشأن متعددة المصادر. ولكن عبد الحكيم عامر لم يقدر الأمر حق تقديره. وكانت الوحدة قد دخلت فى طريق الانفصال، الذى وقع فى 28 سبتمبر 1691. وفى البداية رفض عبد الناصر المساومة مع المتمردين وقال : إن الوحدة لا تقيمها أنصاف الحلول. ولذلك تم إرسال قوات مظليين هبطت فى اللاذقية وحين رأى عبد الناصر ان خطر الحرب الأهلية يلوح فى الأفق، قرر إيقاف إبحار قوات كانت قد تجمعت فى الإسكندرية، ودعا القوات التى هبطت فى اللاذقية الى عدم المقاومة.
صحيح انه كان للوحدة أخطاؤها غير الهينة، ولكن الثابت ان مؤامرة الانفصال حيكت فى عاصمة أوروبية وبتمويل نفطى عربى ومشاركة أوروبية.
وبعد الانفصال، دخلت سوريا مجدداً فى دوامة الانقلابات والانقلابات المضادة، الى ان وقعت حركة 8 مارس 1963، وكانت قد سبقتها حركة أخرى فى العراق، فى 8 فبراير - شباط من العام نفسه وكان البعث حريصاً على ان ينفرد بالحكم فى سوريا. ولكن قوى أخرى شاركت فى الانقلاب دعت الى إعادة الوحدة فورا. وخرجت مظاهرات جماهيرية كبيرة تطالب بذلك. وجرت محادثات الوحدة الثلاثية فى القاهرة، وتم توقيع ميثاق 17 أبريل 1963، لإقامة وحدة مصرية - سورية - عراقية. ويتحدث سامى الجندى عن أحداث 1960، ويقول " فى تلك الفترة، كان الرئيس - على ما سمعت - يقرأ لينين، ولا أنكر أننى استغربت سنه 1963 مدى اطلاعه عليه. ومن يدرس لينين يتردد فى إقامة علاقة متينة مع البعثيين على رجرجة تنظيمهم" وهذا ما حدث بالضبط، وأدى الى ان يعلن عبد الناصر فى ذكرى ثورة يوليو، فى العام 1963 انسحاب مصر من الوحدة الثلاثية. وبقى " البعث " مسيطراً على الحكم فى سوريا والعراق دون ان يبنى بينهما وحدة أو اتحادا. وتوالت الانقلابات والتحركات الانقلابية فى البلدين، وخرج البعث من الحكم فى العراق، ثم عاد إليه، فى حين فرضت "اللجنة العسكرية" سيطرتها على سوريا. وشهد حزب البعث فى البلدين صراعا داخليا عنيفا، ربما لا يزال يعيش تأثيراته الى اليوم، على الرغم مما شهده المشرق العربى من أحداث خطيرة، بدأت بعدوان 5 يونيه 1967، ثم حرب أكتوبر المجيدة، ثم الحرب العراقية - الإيرانية، وغزو الكويت من جانب العراق، ثم حرب تحرير الكويت التى تحولت إلى حرب تدمير العراق الذى تعرض للحصار، ثم الغزو الأمريكى فى 3002. وخلال ذلك تراجعت الدعوة للوحدة العربية... ولا تزال.