آراء وذكريات في حياة صيدا الاجتماعية - الدكتور مصطفى دندشلي
مقابلة مع
الحاج عبد القادر المجذوب الصباغ
التاريخ: 16 آب 1987
الموضوع: آراء وذكريات في حياة صيدا الاجتماعية
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
د. مصطفى دندشلي: عمِّي الحاج، ما هو تاريخ ولادتك؟
الحاج عبد القادر المجذوب الصباغ: تاريخ الولادة 1886، وأنني أذكر في أيام شبابي أن أكبر شنب، كان يتغاوى بصاية الزرقاء، اللباس الأزرق. لم يكن ذلك من هذا (يشير إلى لباسه). قبضاي صيدا، يلبس الأزرق ويتغاوى فيه. والولد الصغير، الطفل، عندما يريدون تلبيسه، يأتون بصاية الزرقا، ويربطون عليها داير مندارها عدس ويربطونها حتى تطلع مطبَّعة.. أكبر شنب كان يلبس صاية الزرقا. بيت الكلاس، جيراننا ، كانوا من القبضايات، فلا يلبسون إلاَّ صاية الزرقاية... يعني "غنباز" أزرق. وأنا أيضاً كنت ألبس غنبازاً أزرق. لم يكن في ذلك الوقت من هذا اللِّبس (يشير إلى لباسه).
وفي أيام رمضان، فإن شهر رمضان يأتي لعندنا قبل شهر من موعده.. قبل رمضان بشهر، كنت ترى التكبير والتهليل. وفي آخر رمضان، التوحيش. وفي ساحة باب السراي كنت ترى الناس والعالم.. كنت ترى الشوارع جنَّة قائمة، فليس كما هو الآن..
بالأول كان شي وهلَّك شي تاني. والناس كل الناس، كانوا مبسوطين، عندما يأتي رمضان، وينتظرونه قبل وقت طويل.. وكانوا ينشدون:
رمضان سارع عنا بعدما فينا أقام
حاكياً ما كان منا وعلى المولى السلام
ودِّعوا بخشوع وخضوع وقولوا: أودعتنا يا شهرنا
رمضان سارع عنا بعدما فينا أقام
على فقد شهر الصوم تجرى المدامع
وعلـى فراقـه تندبه الجوامع
أيا رمضان الذاهب الراحل قل لي بربك متى أنت علينا راجع
رمضان سارع عنا بعدما فينا أقام
حاكيا ما كان منا وعلى المولى السلام
هذه هي الأناشيد الرمضانية. وتأتي "العالم" (الخلق الكثير)، والناس، شو بدّي إحكيلك.. هنا، في ساحة باب السراي، رشّ التراب ولا ترتش من كثرة "العالم".. والناس كانت تحب بعضها البعض وتزور بعضها ويروحوا لعند بعضهم.. ليس مثل هلَّك... تسألني هل كانت "العالم" "(الناس الأهالي) مبسوطة؟! نعم، كأنها في الجنة، بس مبسوطة!!.
س: مثل أيامنا هذه التي نعيشها؟
ج: الله يلعن هاك أيام.. ويللّي فيها، الأخ ما فيه خير لأخيه..
س: هل كانت الناس تتقيَّد كثيراً بشعائر شهر رمضان من ناحية الصيام، يعني التدخين في الشارع، الأكل في الشارع، سبة الدين في الشارع، هل كانت الناس تمتنع عن ذلك أم لا؟
ج: مرة واحد من الناس سبّ الدين. سمعه الحاج عبد الحيّ، فضربه بالكف قائلاً له: يا كلب يا ابن الكلب. وأخذ يضربه حتى هرب. كل ذلك لأنه سبّ الدين. لقد كان في أيامنا تقى، تقى، تقى. قلت لك بأنّ رمضان يأتي قبل شهر من وقته. والذي كان يفطر في رمضان، يا لطيف، يا لطيف!! الحكومة تمنعه وتسجنه. الحكومة إسلامية كانت..
س: هل تستطيع أن تقول لي، إذا كنت تذكر الفرق في شهر رمضان بين الحكم العثماني التركي والحكم الفرنسي في زمن الانتداب، صار هناك تغيير بالنسبة للعادات والتقاليد في شهر رمضان عن زمن الأتراك؟
ج: طبعاً، أنظر أنت نفسك.. قلت لك في السابق إن الناس كانت تستعد لرمضان، وكان هناك تقوى وورع.. ويحسبون له حساباً.. ونخرج إلى الجوامع في الليالي، وكانت الأذكار... وكانوا يستعدون لرمضان كما لو كانوا يستعدون لسفر طويل.. وكنا نزيِّن السهلة (الساحة) والشوارع بالأنوار، كان شهر رمضان هو الشهر المفضل في كل السنة في صيدا..
حكاية تروى: مرة رجل، كلما اشترى أغراضاً ومونة لبيته، يقول لزوجته هذه الحاجات لرمضان.. يموّن لرمضان. جاء مرة سائل فقير يطلب شيئاً لله. فقالت له زوجة الرجل: ماذا تريد؟ قال السائل: من مال الله؟ فقالت له: ما اسمك؟ أجابها: رمضان. فقالت له: "تعال، أسرع، أحمل هذه الأغراض هي لك صحْتين على قلبك".
الزوج يشتري الحاجات ومونة البيت من أجل شهر رمضان، والزوجة اعتقدت أن رمضان إنسان، رجل.. فأعطته ما اشتراه زوجها... وعندما جاء زوجها، قالت له الزوجة: الآن استرحت، لقد أعطيت الأغراض والمونة إلى رمضان. فأجابها: الله يخرب بيتك، رمضان، شهر الصيام...
كان شهر رمضان، له قيمة، له قيمة في كل شيء: في السهر، ترى الناس ساهرة حتى الإمساك. تسهر الناس حتى السحور، خاصةً في آخر رمضان، في الأسبوع الأخير منه عندما يبتدئ التوحيش..
س: (إسماعيل حبلي): في شهر رمضان المبارك، أيُّ كان أهيب: على زمن الأتراك أم على زمن الفرنسويين؟
ج: ترى الزمان كأهله وأهله كما ترى. فكيف ترى أنت الزمان الآن؟
س: (إسماعيل حبلي): يا حاج، إنني أسألك عن شهر رمضان في زمانَين: زمان دولة بني عثمان وزمان دولة الفرنسوية في فترة الاحتلال، في أيّ منهما كان الناس يهيئون لرمضان...
ج: الواحد زيّ ما يكون عند أبيه (فيما بين أهله)، هو نفسه زيّ ما يكون عند الغريب؟.....
س: (إسماعيل حبلي): في زمن الفرنسويين، كنا نقوم كذلك بالشعائر الدينية، ولكن ليس كما كان الوضع في زمن الأتراك...
ج: في زمن دولة بني عثمان، كنا لا ننام في شهر رمضان..
س: هل ذهبت إلى العسكرية؟
ج: نعم، ذهبت إلى إسطنبول، وبقيت هناك سبع سنوات.. وتنقلنا في مختلف البلدان.. وكنا معزوزين مكرمين.. فأخذت الأنباشية والشيويشيّة والباتشيوشية.(....)
س: هل الناس هنا، في صيدا، كانت تحب الأتراك؟
ج: طبعاً، تركيا دولتنا، كنا نحب تركيا لأنها مسلمة...
س: عندما عدت إلى هنا، في صيدا، ماذا فعلت؟
ج: عندما عدت وجدت الأرض نفرة حفرة.. لم أجد أحداً... والذي مات قد مات.. مات الغنم وتفرقت العشاق..
س: هل دخلت إلى المدرسة؟
ج: نعم، إلى الكتّاب، فـي بيت بالقرب مـن بيتنا، وكانوا يعلموننا: ب و: بو، ب ألف: با، ب ي: بي، وقد كنا أولاد الحي، وكنا نهرب.. (هنا يتدخل ابنه ويقول: يا أبي، كنت أسمع منك بأنك تركت المدرسة لأسباب نظافة.. فهل المحل (الكتَّاب) الذي كنتم فيه، هل كان نظيفاً أم وسخ).. فيجيب: طبعاً لم يكن المكان كما الآن، وسائل الراحة لم تكن متوفرة.. غرفة واحدة وسيعة، (وكانت تنتشر فيها رائحة كريهة). (والكتّاب في بيت الحنش، في مدخل "مقهى الجامعة" بالقرب من مدرسة المقاصد تحت بيت صبحي الددا.. بالزاويـة بالقرب مـن بيـت بشير الحلاق.. والمعلم الشيخ خليل النطناط، والشيخ مصطفى البزري...
الحاج الصباغ عند عودته من العسكرية، من تركيا، أشتغل بالبقالة، فتنقل في فتح محلات البقالة، من محل إلى آخر، في حي المصلبية، وكان في فترة في محل الميسي الآن، قبل أن يأتي محله المعروف حتى الآن..
ابنه يوضّح: في السابق كان يُقال بأن الواحد قد استأجر سنة محرّمية، بمعنى أنه بعد مضي سنة، يجب على المستأجر أن يخلو المأجور في ظرف أربع وعشرين ساعة، البيت أو المحل. وتسمى سنة محرّمية. لهذا كنت ترى في أول السنة، في شهر محرّم، ترى الناس ينقلون عفشهم وأغراضهم من بيت إلى آخر، فلا يستطيع المستأجر أن يعصي بالبيت كالآن. إلاّ إذا كان المالك راضياً على المستأجر، فيبقى في البيت، مع الزيادة المتفق عليها، إلاّ إذا كان هناك ظروف خاصة، ذلك أنه يريد البيت لابنه أو بنته...
س: هل كان في زمانكم خلافات كثيرة بين الناس، أو خلافات عائلية...
ج: الناس كانت تحب بعضها البعض كأخوة، والجيران كذلك تغار بعضها على بعض. فإذا كان واحد من الجيران قد مرض أو أصابه مكروه.. فكان الجيران يلتفون حوله.. وهناك مثل: جارك القريب ولا خيّك البعيد. وساعة الضيقة، الجار أقرب من الأخ أو من الأهل.. في حالة المرض، أو الحادث أو الحريقة..
س: الزواج: الشاب كان يتزوَّج صغيراً وكذلك البنت
ج: الشاب كان يذهب إلى العسكرية.. فكان يبحث لنفسه عن إمرأة مقطوعة أو يتيمة، فيتزوجها.. أي أنه كانوا يشجعون من يتزوج بيتيمة أو مقطوعة ليس عندها حدا، ويُعفى من العسكرية.. كذلك يعفى من العسكرية من كان فيه عاهة أو وحيد أهله..
س: وكما قيل لي بأنه أنثاء الحرب العظمى، كنت تمشي في شوارع صيدا، فلا تجد شاباً، كل الشباب أُخذوا إلى العسكرية، ولا تجد في صيدا إلاّ النسوة وأطفالاً وشيوخاً وكانت النساء تبيع الخبز..
ج: حصلت مجاعة.. (ابنه يتدخل: كانت الناس تأكل بذرة الأكدنيا، وكانوا يذهبون إلى المسلخ ويجمدون الدم ويأكلونه..)
(إسماعيل حبلي: كانت صيدا تعد آنذاك 16 أو 17 ألف نسمة أثناء الحرب، فأخذوا إلى العسكرية الشباب والرجال، فلم يبق إلاّ النساء والأطفال والشيوخ، أي أنهم أخذوا إلى العسكرية نصف السكان تقريباً.. ولم يبق للأهالي معين لا من أهل ولا من حكومة.. فحصلت المجاعة، والأطفال تموت والجرب انتشر والأمراض كذلك، كل ذلك سببه الحرب...)
س: اصل العائلة، هل أنتم صبّاغ أم مجذوب؟
ج: (ساعد الابن): أصل العائلة من المغرب. جاء ثلاثة أخوة مع بعضهم وأقاموا في صيدا، وبنوا جامع المجذوب. منهم من ذهب إلى بيروت ومنهم من تفرَّق.. إثنان تزوجا والآخر لم يتزوج: وهـم عبـد القادر وعبـد الكريم وعبـد السلام.. هنـاك آل المجذوب وآل الملاّ وآل الصباغ.. ومجذوب، يعني ملموسين، أي مجذوبين لله.. ويقال إنه في فاس، هناك مقام يُسمَّى المجذوب.. (كما في صيدا، ست نفيسه، أبو نخله، أبو الروح، النبي يحيي، مار الياس). وهو يبدو أنه كان ولياً من أولياء الله الصالحين، كما عندنـا نحـن هنـا النبي يحيي.. أمـا آل الصباغ، فالكنية أسبابها أنه كان عندنا مصبغة، في محلة البوابة، في مقابلة "التربة". وقد كان عمِّي رجب يشتغل فيها... ويعمل صبَّاغاً، فاللقب غلب الكنية، كما يقولون. عند النجَّار، عند الحداد، عند الفحَّام..
يعود مرة أخرى إلى الحالة العامة في شهر رمضان، مثلاً: في شهر رمضان الناس لا تنام، نفتح محلاَّتنا في أول يوم من شهر رمضان ولا نقفلها إلاّ في آخر أيام العيد.. فيبقى المحل مفتوحاً ليل نهار.. فكنا نتناوب نحن (أولاد الحاج) الواحد بعد الآخر.. ولدان والأب والعم الحاج علي الصباغ والد حكمت الصباغ)، فكان الوالد يبقى حتى السحور، ثم يذهب إلى النوم ومن بعده عمِّي من السحور إلى الصبح ونحن نساعده.. الفرّانة شغّالة في الليل ومحل النعماني يفتح ليل نهار.
كان هناك راحة بال، قناعة: فما يكسبه الفرد يكفيه. فالبيع والشراء يتم في شهر رمضان، في الليل، خاصةً قبل السحور. تشتري الناس ما تحتاج إليه للسحور.. مثلاً: جبنة ولبنة (لم يكن هناك بَّرادات).
- مثلاً: الحاج كان عنده بسطة خارج المحل في المصلبيَّة، تحتاج إلى عدة أنفس حتى يُدخِلوها أو يخرجوها. لذلك كان يتركها طوال شهر رمضان حتى أيام العيد، والبسطة مفروشة في الخارج.. فيتناوب الوالد والأولاد على حراستها والبيع وخلافه.
- مداخلة من أحد الحضور: وإننا نذكر أيضاً أن كثيراً من المحلات، كانت تضع على أبوابها شبكة تغلق بها المحل أثناء الغياب لسبب أو لآخر، من أجل الصلاة أو قضاء حاجة.. فلا تحصل أي سرقة، فلا أحد يفكر في تناول أي شيء.
- مداخلة أخرى: فالأمان الذي كان موجوداً في البلد، (في مدينة صيدا القديمة آنذاك) أحسن من الآن، مثلاً: إذا كنت تمر في أحد الأحياء القديمة، فتجد أبواباً ليس فيها باب خشب، إنما هناك ستارة بيضاء أو قطعة جنفاص أو أي شيء آخر، فلا يتجرأ إنسان (القط)، كما نقول، أن يدخل إلى البيت أو يتطلع إلى الداخل (ينظر)، مِشْ بني آدم.. لأنه كان هناك حشمة ومحبة للجيران وأمان..
يقول الحاج: كان يقال أن جبرائيل كان يوصي بالجار حتى اعتقدت الناس أن الجار يرث الجار. يقول المثل: الجار للجار، ولو عاد الزمان وجار. جارك القريب ولا خيّك البعيد..
مداخلة توضيحية: فإذن، كانت البيوت تضع على المدخل ستارة، الآن كل واحد يضع أبواب حديد للبناية وكل باب له أقفال، الخ..
س: هل كان يحصل شيء من الفساد وقلة الحياء وعلاقات زنا..
ج: كلا، أبداً، لا أحد يتجرأ أن يعتدي على أحد.. "الحرمة هي نفسها أقوى من الرجل..." الناس أوادم والعُرض مُصان.
مداخلة الابن: صيدا، في الأحياء، هناك عدة عيل،وليس فيها غريب. فالواحد، عندما يريد أن يقدم على شغلة من هذا النوع، يعرف أن هذا البيت يخص فلاناً، فيحسب حساباً كبيراً إن كان في أيِّ تصرف فيه إساءة للجار أو للقريب..
إسماعيل حبلي: قبضيات الأحياء كُثُر وهم يجمعون حولهم بعض الشباب ويقومون بفعل الخير والمراجل والحماية (موسة البيومي، أحمد المجذوب، مصطفى أرقه دان أبو سعد الدين)
الألقاب: ما سبب الألقاب، أبو المراجل، أبو الرجال، العقاب الخ.. مثلاً، زمن الحكواتي: هذا العقاب أو إبراهمي أو عنتر أو معروف، فكان كل واحد ينتمي إلى بطل من الأبطال.
بوابة الشاكرية وشارع المطران، فقد كان فيه الوحل يصل حتى الركب في الشتاء..
رجال الأربعين: أسباب التسمية يقال: أربعون رجل صالح، يأتون من أبي روح، وهم من الطاهرين والصالحين.
- الفواخير: بيت الأسد، بيت الريش، بيت الفاخوري (أبو عدنان)
- الفوانيس في صيدا.