صيدوايات - عبد الرحمن كتمتو يغفو في صيدا بعد درس استمر نصف قرن في البحرين
عبد الرحمن كتمتو يغفو في صيدا بعد درس استمر نصف قرن في البحرين
صيداويات - الثلاثاء 21 أيلول 2010
مساهمة: عبد الباسط ناصر - صيدا
مات (استاد عبدالرحمن كتمتو، أبو ناجي) خبر انتشر مثل النار في الهشيم بين أبناء المحرق حينما وصل الخبر من بيروت في تمام الساعة الخامسة من يوم الثلاثاء الماضي الموافق الرابع عشر من سبتمبر اثر تدهور في صحته أدى إلى وفاته في شقته الصغيرة بلبنان، نعرف جميعا أن (استاد عبدالرحمن) غادر البحرين منذ ما يقرب من عشر سنوات لكن لأسباب غامضة أخذتنا خطواتنا منقادة وراء الذاكرة إلى بيته القريب من سوق المحرق القديم لعلنا نشتم رائحة خبز الزعتر الذي تعده (أم ناجي) رحمها الله أو نسمع صوت (استاد عبدالرحمن) الوقور وهو يحيي الجيران، نريد شيئا يكذب الخبر أو يمنحنا فرصة لوداع أستاذنا بما يليق به ويليق بفضله على أجيال تعاقبت على مدرسة الهداية صرح التعليم الأول في البحرين، فصار يحلو للذاكرة أن تسافر في ذكريات مرت سريعا لتصل إلى آخر سطر في الورقة التي وضعها أستاذنا في جيبه وهو يغادر فلسطين متجها إلينا إلى البحرين.
طبع خطواته الأولى على رمل البحرين الغض الدافئ قادما من الجرح العربي النازف، كانت الروزنامة تشير إلى مطلع خمسينات القرن الماضي، مهندمًا حيث يلبس البدلة الفلسطينية التي تشي بعمل كثيف، وقد اكتسبت بدلته زرقة خفيفة من جراء عبوره البحار حتى وصل البحرين، في احد جيبي معطفه حفنة من الرمل المقدس يقبض عليه بوصفه جمرا كلما استبدت به (نوستالجيا) الوطن وفي جيبه الآخر ورقة كتب فيها:
الاسم: عبدالرحمن محمد ناجي قدورة كتمتو
الحالة الاجتماعية: متزوج وسيكون له ولدان وبنتان خبئهم حتى يحط رحاله ويختار المحرق القديمة بكل أحيائها وشوارعها بيتا واسعا وبكل أبواب غرفها المفتوحة مهجعا سيستقرون فيه وسيذوبون في مجتمعها طباعا ولهجة وشقاوة.
الحلم: البناء والحب والعودة.
المؤهلات: قلب مفتوح لكل طالب علم وشهادة لا تعرف التخصص.
الجنسية: فلسطيني.
ومهرت الورقة بكلام مبعثر خضع للتأويل فقيل أن مفاد ذلك الكلام أن كتمتو سيعيش ثلاثا وتسعين سنة قضى ثلاثا وثلاثين منها في فلسطين، وسيقضي خمسين منها يساهم في وضع لبنات صرح التعليم في البحرين ثم يقضي العشر الأخيرة يدعك حجر الأرض في صيدا ليكون رؤوفا بجسده وجسد أم ناجي التي ستتوفى عام 2004 ثم سيلحقها هو في الرابع عشر من شهر سبتمبر 2010 هكذا جاء التأويل لتلك الكلمات المبعثرة.
ما أن قيل لأستاذنا عبدالرحمن كتمتو ان لك مكتبا في مدرسة الهداية الخليفية (غرفة العلوم)، وانك ستدرس الطلبة فيها العلوم والرياضيات والرياضة والتاريخ أحيانا حتى اخرج يده من جيبه الذي ملأه بالرمل المقدس وقال لام ناجي افتحي باب البيت وكل الشرفات واتركي راحة الزعتر تفيض وأنت تذرينه على عجين الخبز، لعلها تسري بي إلى القدس كلما أدلفت عائدا من الهداية، وكان له ما أراد من أم ناجي التي أتاحت لأجيال كاملة من أبناء المحرق تذوق الأكل الفلسطيني كان (أستاد) عبدالرحمن قد أصر على أن يكون العمل دستور عائلته في البحرين وذلك ما سيتعلمه منه عدد ليس بقليل من العوائل التي لا يزال أبناؤها تلهج ألسنتهم باسمه كلما كان الأمر بصدد نجاحهم وازدهار أوضاعهم على صعيد الأخلاق والعلم.
منذ تلك اللحظة مرورا بكل الظروف التي عاشتها البحرين خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كان عبدالرحمن كتمتو وزوجته الفاضلة رحمهما الله يصران على أن تكون حياتهما مبذولة للطلبة وكل من يطرق بابهما يسأل عن علم أو معرفة أو زعتر، خلال أربعة أجيال كاملة كان كتمتو قد أصبح أبا لأبناء كثيرين من البحرينيين يعرفهم واحدا واحدا، لو طلبت منه إحصاءهم لأحصاهم لك رغم كثرتهم وكأنه يذكر أبناءه الذين ينامون في الغرفة المجاورة لغرفته في بيته المحرقي الأصيل. لا ينقطع الدرس عند كتمتو إلا حينما يغفو الساعات القليلة التي يستعين بها على أيامه الحافلة بالتفاصيل والأسئلة والمكتشفات والجهد المتواصل، يمارس جهاده بصرامة وحزم كافيين للمحافظة على مكانة المعلم بوصفه أبا من جهة وكصاحب رسالة ودور مصيري في النهضة والحضارة على الصعيد الإنساني من جهة أخرى، وهذا تحديدا ما جعل (استاد عبدالرحمن) تلقائيا ولي أمر غالبية الطلبة في مدرسة الهداية، حيث كانت لديه صلاحية اتخاذ القرار في شؤون العديد من الطلبة باعتباره أبا منحه آباؤنا الثقة الكاملة ليحل مكانهم في تربية الأبناء وتهذيبهم وتوجيههم، وهذا ما حول بكل بساطة خبر وفاة أستاذنا عبدالرحمن كتمتو إلى خبر فاجع لكل أبناء المحرق خصوصا والبحرين على وجه العموم.
اليوم وبعد ثلاث وتسعين سنة من الوقوف معتمرا البدلة ذاتها قابضا على حفنة الرمل ذاتها والورقة ذاتها يحق (لأستاد عبدالرحمن) أن يلتفت إلينا للمرة الأخيرة ويبتسم للمرة الأخيرة ويلوح لنا للمرة الأخيرة ليس لدخول الفصل هذه المرة بل للخروج منه، يحق له أن نبادر وهو يلفظ كلماته الأخيرة أن نباغته بحبنا وبعرفاننا لرجل غادر كل أحلامه من اجل أحلامنا الصغير، تخلى عن كل طموحاته في العودة إلى وطنه بمجرد انه شعر بأن أطفال البحرين لا يزالون في حاجة له ولدرسه الذي استمر خمسين سنة - نصف قرن - مرت على (استاد) عبدالرحمن وهو يعتقد أن جهاده في التعليم في البحرين يضاهي جهاد إخوته في القدس الشريف. لعل الدرس الذي كتب منهجه (استاد عبدالرحمن) في البحرين له صداه المضيء وانعكاساته الايجابية لدى القوى الفلسطينية لعلهم اعتبروا تجربة ثرية مثل تجربته جديرة بان تكون احد النماذج التي يتشرف بها الشعب الفلسطيني لتعبر عن كوادره وعن رغبته في أداء دوره العروبي، هذا ما لمس من اهتمام بالغ بالاحتفاء بالأستاذ عبدالرحمن كتمتو وهو يودع الحياة على الأراضي اللبنانية وذلك في موكب مهيب انطلق من مسجد «الشهداء» في المدينة، حيث صلى على جثمانه قبل أن يوارى الثرى في جبانة صيدا الجديدة في سيروب.
http://www.saidacity.net