إطلاق فكرة شمولية تصنع مستقبلاً للعرب يتلاءم مع ماضيهم-محمد عابد الجابري
محاضرة لمحمد عابد الجابري
إطلاق فكرة شمولية تصنع مستقبلاً للعرب يتلاءم مع ماضيهم
لعل اصدق وصف ينطبق اكثر من غيره على فكر الأستاذ الراحل ميشال عفلق هو أنه فكر شمولي، فما من قضية إلا ونجده ينظر إليها في ارتباطها مع غيرها من القضايا التي تتداخل معها نوعاً من التداخل، وهذه الشمولية في فكره ترجع في نظرنا إلى ثلاثة عوامل: او لنقل أنها كانت ذات ثلاثة أبعاد:
فالرجل كان، اولاً، مؤسس حزب وقائده، فكان عليه ان يتابع الواقع في تموجه وتنوعه، في جزئياته وكلياته، حتى تأتي مواقفه السياسية والأيديولوجية، متكاملة منسجمة مع بعضها خالية من التناقض، كما كان عليه ان يرد على الأحزاب الأخرى المنافسة، مهما اختلفت مشاربها وتباينت مواقفها، من منطلق واحد مبدئي، ومن رؤية واحدة شمولية. ولم يكن الواقع الذي كان يتعامل معه الرجل واقع قطر بمفرده، بل الواقع العربي بكل عناصر التنوع التي يزخر بها، واقع أقطار من بينها ما يضم اقليات دينية او إثنية، ومن بينها ما يهيمن فيها عنصر واحد او دين واحد ومذهب واحد، هذا علاوة على اختلاف سكان هذه الأقطار على مستوى الوعي والتطور والحداثة. لقد كان الرجل مؤسس حزب يعمل على ان يكون له وجود فعلي وفعال في الأقطار العربية كافة فكان لا بد إذاً من نظرة شمولية تستوعب تلوينات الواقع العربي وتموجاته، من الخليج الى المحيط، وتستدعي من الأجوبة للأسئلة المطروحة فيها ما لا يتناقض مع الخط العام والتصور المبدئي الذي يتمسك به. اذاً فالنظرة الشمولية هنا تفرضها طبيعة الموضوع ذاته.
وكان الرجل، ثانياً، رجل فكر في الاساس، ذا نظرة فلسفية الى الامور، وبالتالي فمواقفه كانت مبدئية واستراتيجية ولم تكن مجرد مواقف تكتيكية. فعلاً، كان تخصصه ايام الدراسة هو التاريخ، ولكن نظرته الى التاريخ، والتاريخ العربي بخاصة، كما عبر عنها او كما يمكن ان يستخلص من كتاباته، لم تكن نظرة المسجل للحوادث في تسلسلها، الغارق في فرادتها وزمنيتها، بل كانت نظرته نظرة فيلسوف، فكان اقرب الى فيلسوف التاريخ منه الى المؤرخ بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. ومن هنا الجانب العمودي، او العمق التاريخي، في فكره الشمولي، العمق الذي يتكامل مع الامتداد الأفقي الذي ابرزناه من قبل. لقد نظر الى الواقع العربي من خلال مكوناته الراهنة، منفعلاً معها ومجيباً على أسئلتها، وفي الوقت نفسه كان يرى هذا الواقع الراهن من خلال ما تحقق في ماضيه من بطولات وأمجاد وما يجب ان يتحقق في مستقبله من نهوض وتقدم، فالمكان والزمان في نظرته الشمولية لا ينفصلان بل هما بعدان لرؤية واحدة تحرص على إمساك الأجزاء داخل الكل الذي يضمها.
وكان الرجل، ثالثاً، صاحب مذهب، بل صاحب رسالة. كان يؤمن بالوحدة العربية ويعمل لنشر الفكرة القومية، الفكرة التي ترى في العرب، من المحيط الى الخليج قوماً واحداً، أمة واحدة تكونت انطلاقاً من البعث المحمدي، من رسالة الإسلام التي كان يرى فيها رسالة العرب الى العالم اجمع، الرسالة التي أدوها في الماضي والتي عليهم الآن أن ينهضوا ليؤدوها من جديد. فـ «البعث» وهو الاسم الذي اختاره للحزب الذي أسسه، لا يعني مجرد انبعاث في الحاضر ومنه، مجرد النهوض، بل يعني أكثر من ذلك، بعث النموذج المحمدي الحامل رسالةَ العرب، وذلك باستلهام بطولات الرسول العربي وتضحياته والاقتداء بروحه النضالية وسلوكه المثالي. فـ «البعث» في نظره لم يكن مجرد بعث لحاضر من فراغ ولا مجرد إعادة لبعض ما مضى، على صعيد الذاكرة، بل انه إحياء ما مضى في الحاضر على صعيد الاستلهام والمعاناة من اجل صنع المستقبل الذي يتلاءم مع ذلك الماضي ويكون جديراً بأن يصبح امتداداً له. ذلك هو الخيط الموجه لتفكير الأستاذ ميشال في معالجته قضيةَ النهضة والتقدم، الخيط الذي يقود تفكيره في جميع القضايا التي عالجها وفي مقدمها قضية «العروبة والإسلام» موضوع حديثنا.
سيكون علينا اذاً ان نعمل على عرض رأيه في هذه القضية التي تشكل بحق احدى القضايا المركزية في تفكيره ان لم تكن القضية المركزية الاولى، سيكون علينا ان نعمل على عرض مجمل رأيه في هذه القضية داخل الشمولية التي يتميز بها تفكيره والتي تحددها الابعاد الثلاثة التي ذكرنا: بعد الواقع، وبعد الماضي، وبعد الرسالة التي تربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل. وقضيتنا هنا، قضية العلاقة بين العروبة والإسلام كما عالجها الأستاذ الراحل تتطلب منا الارتفاع الى شمولية فكره، اعني النظر إليها من خلال جميع القضايا الفرعية المتصلة بها والتي حرص الأستاذ الراحل على استحضارها وتقديم الجواب المناسب لها في إطار نظريته العامة.
ذلك ان مسألة «العروبة والإسلام» في فكر الأستاذ ميشال لم تكن مجرد ثنائية تتألف من زوجين قد يبدو لبعض الناس أنهما متنافران او متعارضان، بل انها، بالعكس من ذلك تماماً، مسألة العلاقة الصميمة الموحِّدة بين هذين الزوجين، العلاقة الموحِّدة التي تجد فيه الازواج الاخرى، المفصحة عن بعض مظاهرها، ما يزيل عنها كل تعارض او تنافر. وبعبارة اخرى ان فهم تصور الأستاذ ميشال العلاقة بين العروبة والإسلام يستلزم استحضار مواقفه من القضايا التي لها علاقة بالعروبة من جهة وبالإسلام من جهة ثانية، لأن هذه المواقف في جملتها هي التي تؤسس موقفه العام من العلاقة المذكورة.
وهكذا سيكون علينا ان نعرج على موقفه من الدين والإلحاد، من الرجعية الدينية ومن الشيوعية، بصورة عامة، ثم موقفه من الإسلام والتراث العربي الإسلامي خاصة، مع التركيز على فهمه البعث المحمدي ورسالته، الإسلام، بصورة اخص. ثم سيكون علينا بعد ذلك ان نعرض لفهمه لفكرة القومية ولتصور للعلاقة بين القومية والدين من جهة، والعلاقة بين القومية والعروبة من جهة اخرى، عارضين في نفس الوقت لموقفه من مسألة الأقليات، سواء بالنسبة للقومية العربية او بالنسبة لدين الغالبية الذي هو الإسلام، واخيراً، وليس آخراً، سيكون علينا ان نعرج على رأيه في العلاقة بين الدين والدولة مركزين على تصوره المتميز والأصيل لفكرة العلمانية ومدلولها الخاص في الدولة القومية العربية. ان الإلمام بمواقفه المتميزة من هذه القضايا امر ضروري لأن العلاقة بين العروبة والإسلام تقع بالضبط في قلب هذه القضايا جميعاً.
قلنا اننا سنعرض، ولم نقل «سنحلل»، لأن مواقف الأستاذ من هذه القضايا مواقف صريحة وواضحة لا تحتاج الى تأويل ولا الى تعليق. واذا كان الأستاذ لم يؤلف كتاباً ممنهجاً في الموضوع وانما شرح آراءه وتصوراته في مقالات وخطب وأحاديث وبيانات تمتد على مدى أزيد من خمسين سنة، فإن الباحث لا يجد في جميع هذه السنوات الخمسين، وفي كل ما كتب خلالها، ما يشوش على الموقف المبدئي ولا ما يمكن أن يعد تناقضاً او تراجعاً. إن مهمتنا هنا ستقتصر اذاً على بناء تصوره الشمولي للعلاقة بين العروبة والإسلام من خلال نصوصه نفسها. ان حسن عرض وشرح وتحليل للفكر الواضح الصريح هو تركه يعبر بنفسه ليخاطب القارئ بلغته. لنبدأ اذاً بعرض موقفه من القضايا التي تشكل مضمون موقفه العام من القضية المركزية التي تهمنا هنا، ولننطلق من موقفه من الدين عموماً ومن الإسلام خصوصاً.
* * *
كان موقف الأستاذ ميشال من الدين واضحاً ومتكاملاً، فهو ينطلق من مبدأ اساسي عبر عنه بقوله: «ان الروح هي الاصل في كل شيء، وان الدافع الروحي العميق لا يسيطر على المادة والوسائل فحسب وإنما يخلقها ايضاً» كما يؤكد أن «الدين كما يظهر لنا من استعراض تاريخ البشر منذ اقدم العصور الى اليوم هو شيء اساسي في حياة البشر». وانطلاقاً من هذا المبدأ يعلن بوضوح ان حزب البعث «يطرح جانباً ذلك الاستخفاف الرخيص بالدين الذي يظهر عند بعض الشبان السطحيين» مؤكداً ان «موضوع الدين هو موضوع جدي ولا يمكن ان نحله بكلمة او بحكم سطحي عابر، ولكن يجب ان يفرق بين الدين في حقيقته ومرماه وبين الدين كما يتجسد او يظهر في مفاهيم وتقاليد وعادات ومصالح، في ظرف ومكان معينين».
ولكن، كيف نحدد «الدين في حقيقته ومرماه»، كيف نميز بينه وبين المفاهيم والعادات التي تجسد مظهره السطحي؟ يجيب الأستاذ ميشال قائلاً، «لا دين مع الفساد والظلم والاستثمار (= الاستغلال)، وان الدين الحقيقي هو دوماً مع المظلومين ومع الثائرين على الفساد». ان الدين في تصوره إنما وجد «ليشجع المحبة والإخاء، ليحمي الضعيف، ولكن اصبح بممثليه سياجاً لكل هذه المساوئ مساوئ الظلم والفساد والإلحاد.
ويحذر الأستاذ من «الفهم السطحي» للدين الذي يقوم على «ان نستنتج بسرعة، انه ما دام مظهر الدين في هذا الوقت وما دام ممثلو الدين الرسميون هم في صف الواقع الفاسد وليس في صف الثورة على الفساد، فإذاً: الدين من اساسه فاسد لا وجوب له ولا خير فيه، لذلك يجب التخلص من الدين لأنه سلاح بيد الظالمين والمفسدين»، يرفض الأستاذ هذا النوع من الفهم للدين قائلاً: «هذه هي النظرة السطحية والاستنتاج الخاطئ جداً، وهذه هي النظرة التي توقفت عندها الشيوعية» التي ترى: انه «ما دام الدين قد استخدم خلال التاريخ، وبصورة خاصة خلال التاريخ الحديث، حيث تفاقمت الفروق الطبقية والاستغلال الطبقي، ما دام قد استخدم لإبقاء الاستغلال واستمراره ودعمه… لذلك رأت الماركسية ان تنسفه نسفاً».
يرفض الأستاذ هذا الموقف رفضاً قاطعاً ثم يقول «نحن لا نقر هذا الدافع على ما فيه من واقعية، إذ ينبني على ضعف ثقة بالإنسان بأنه لا يتحمل هضم الحقيقة الكاملة»، لذلك «فعلى رغم معرفتنا الطريقة الرجعية التي استخدم الدين بها ليكون داعماً للظلم والتأخر والعبودية نثق على رغم ذلك بأن الإنسان يستطيع ان يثور على هذه الكيفية في استخدام الدين وعلى هذا النوع من التدين الكاذب والمشوه وان يعطي في نفس الوقت للدين الحقيقي الصادق حقه».
من هنا كان رفض موقف الشيوعية من الدين يستلزم ايضاً رفض موقف الرجعية الدينية، ذلك ان «الرجعية الدينية تؤلف مع الرجعية الاجتماعية معسكراً واحداً يدافع عن مصالح واحدة، وانها اكبر خطر على الدين»، ولذلك «فبمقاومتنا الرجعية الدينية من دون اعتدال ومن دون مسايرة وبمواقفنا الجريئة المؤمنة منها ننقذ مجتمعنا العربي من تشويه الإلحاد» ويقول: نحن «لم نتوقف عند هذه النظرة السطحية السلبية… لكننا تجاوزناها وقلنا: ليس قدراً على الدين ان يبقى متحجراً دوماً.
الدين قادر على ان يعود الى حقيقته اذا وجد افراداً مؤمنين يعيدون الى الدين صفاءه الأول. الدين شيء أساسي وسيرجع الى جوهره متغلباً على النقمة».
هذا من جهة، من جهة أخرى: «نحن لا نرضى عن الإلحاد ولا نشجع الإلحاد، ونعتبره موقفاً زائفاً في الحياة، اذ الحياة معناها الإيمان، ولكننا ننظر الى الإلحاد كظاهرة مرضية يجب ان تعرف أسبابها لتداوى» واسبابها هي الظلم والفساد الاجتماعي، ولذلك يستشهد الأستاذ ميشال عفلق بقول الرسول العربي «كاد الفقر أن يكون كفراً» ويرى ان معناه هو «ان الأوضاع الفاسدة تخرج الإنسان من دينه».
وهكذا، فعلى اساس هذا الفهم لمسألة الدين يؤكد فيلسوف البعث العربي «ان الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان، وانه يمكن ان يتطور ويتبدل في أشكاله، وان يتقدم او يتأخر، لكنه لا يمكن ان يزول»، ولذلك نجده يؤكد أن «الدين في صميم القضية العربية والمواطن العربي الذي نعمل لتكوينه». لأنه، أعني الدين، يؤسس الماضي ويخص الحاضر والمستقبل معاً، كما سنرى.
* * *
هذا الموقف العام والإيجابي من الدين، الذي يرفض في آن واحد الإلحاد واستغلال الرجعية للدين، وينظر بالمقابل الى الدين بوصفه يقع في صميم القضية العربية، هذا الموقف المتعدد الأبعاد والمتكامل يكتسي معنى مشخصاً عندما يتحدث الأستاذ ميشال عن الإسلام ليس فقط كعقيدة، بل ايضاً كرسالة، كانقلاب وثورة. وهنا نلتقي مع نوع من فلسفة التاريخ العربي عند الأستاذ ميشال تميّز في هذا التاريخ بين حال الجاهلية وحال البعثة وصدر الإسلام ثم ما تلى ذلك من تراجع وانحطاط، لتربط ذلك كله بالإيمان الراسخ بإمكان، بل بوجوب البعث من جديد.
يقول: «لقد أفصح الدين في الماضي عن الرسالة العربية التي تقوم على مبادئ انسانية». لقد كانت الجاهلية تتميز بـ «طغيان المجموع (= القبيلة) على الفرد، فالقيم تستمد من هذا المجموع والفرد متقيد بها. والجاهلية تمثل ايضاً تجاهلاً للقدر (= رسالة المستقبل) كأنه لم يكن بينها وبينه اية صلة او اي تعارف واضح على الاقل. والجاهلي في شعره وتفكيره وسلوكه يعيش في عزلة المكان ووحشة الزمان، لا يتصل بالماضي ولا يتعرف إلى المستقبل او يتوقع منه شيئاً. في حياته نقطة مضيئة واحدة هي سلسلة الحاضر، انها مسرح نشاطه وبطولته ولا يمكن ان نتصور بطلاً جاهلياً من دون جمع يشاهد بطولته ويصفق له… ثم يظهر الإسلام فيحدث انقلاباً في حياة العرب وفي انفسهم. فالقيم لم تعد تستمد من المجموع كما ان الفرد ليس هو الذي يفرضها، انها تصدر من مكان هو فوق المجموع والفرد معاً، وفي هذا ضمان لحرية الفرد وانسجامه مع المجموع في آن واحد. اما صدر الإسلام فإنه من ناحية أخرى يمثل اتحاد النفس العربية مع القدر بعد أن كانت متجاهلة له فتصبح إرادة القدر هي ارادتها بعد عزلة المكان ووحشة الزمان، ويصبح العالم كله، لا بل الكون كله وكل ما هو منظور وغير منظور مسرحاً لنشاطه ولتطبيق هده القيم الجديدة التي ظهرت في الحياة العربية».
وهكذا «فالحاضر الذي كان النقطة الوحيدة التي يتمسك بها الجاهلي وينقذ بها نفسه من النسيان والعدم أصبحت في نظر العربي الجديد المسلم هي القيمة المظلمة وحدها، وكل ما عداها مضيء لأنها هي مكان التجربة والامتحان والهوة السحيقة التي لا تجتاز الا على جسر من الجهاد والتقوى».
غير أن «هذه الفترة التي انتقل فيها العربي من الجاهلية الى الإسلام، من حياة سجينة في قيم المجموع وتقاليده الى حياة تتحقق فيها الحرية الفردية والمساواة بين الأفراد كانت قصيرة جداً لم يلبث العرب بعدها ان غرقوا في بحر لا نهاية له من الشعوب الغريبة المختلفة. ومنذ أن فقدوا، بعد سنوات معدودة، شعورهم بوحدتهم القومية وغرقوا في تلك اللجة المتباينة المتماوجة من الشعوب عادوا الى عصبيتهم الجاهلية والى صراع القبائل وتنافسها… ولقد تلت هذا عصور الضعف وتبدأ منذ ان فقد العرب هذا التجانس القومي».
ويستخلص الأستاذ ميشال من هذا العرض الفلسفي لتاريخ العرب النتيجة الآتية يقول: «وفي حياتنا القومية حادث خطير هو حادث ظهور الإسلام، حادث قومي وإنساني وعالمي فيه عظة بالغة، فيه تجربة هائلة»، لا بل نموذج يجب ان يستلهم ويحتذى: «ان الإسلام عند ظهوره هو حركة ثورية ثائرة على أشياء كانت موجودة: معتقدات وتقاليد… ومصالح». لقد كان حركة «نادى بها فرد واحد في البدء وآمن بدعوته أفراد قلائل، واحداً بعد الآخر، وأفراد أكثرهم ضعفاء بالنسبة الى مجتمعهم وانهم جاهروا بهذه الدعوة وتحملوا الأذى والضعف».
وينتقل الأستاذ بهذا النموذج من الماضي الى الحاضر فيتساءل: «فلو تخيلنا ان المسلمين الأولين الذين عرفوا النضال من اجل المبدأ وذاقوا كل مرارته واجتازوا امتحانه ودفعوا ضريبته، هذه الفئة او بعض أفرادها لو جاؤوا اليوم وهبطوا على حياتنا العربية الحاضرة، اي وسط يستطيبونه ويهدأون اليه ويشعرون اليه بالقرابة؟ هل هو وسط الظلم الاجتماعي، وسط الأغنياء والوجهاء والمستثمرين للشعب؟». ويجيب «أنا اعتقد أن المسلمين الأولين لو رجعوا اليوم لما استطابوا العيش الا في القرى المظلمة البائسة مع المظلومين والمستعبدين، إلا في السجون مع المناضلين، فأصحاب دعوة الحق هم دائماً الى جانب الحق».
واذاً، فظهور الإسلام وتجربة المسلمين الأوائل لم يكونا، في نظر فيلسوف البعث العربي، مجرد حادث تاريخي مضى، بل انه يرى فيهما مرجعية للثوري العربي المعاصر، لا بل مرجعية للثوري العربي في أي زمان ومكان. ذلك ما عبر عنه بجلاء في محاضرته الشهيرة في مناسبة «ذكرى الرسول» حيث قال: «ان حركة الإسلام المتمثلة في حياة الرسول الكريم ليست بالنسبة للعرب حادثاً تاريخياً فحسب، تفسر بالزمان والمكان وبالأسباب والنتائج، بل انها لعمقها وعنفها واتساعها ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة العرب المطلقة، أي انها صورة صادقة ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية واتجاهها الأصيل، فيصح لذلك اعتبارها ممكنة التجدد دوماً في روحها، لا في شكلها وحروفها فالإسلام هو الهزة الحيوية التي تحرك كامن القوى في الأمة العربية فتجيش بالحياة الحارة، جارفة سدود التقليد وقيود الاصطلاح، مرجعة اتصالها مرة جديدة بمعاني الكون العميقة، ويأخذها العجب والحماسة فتنشئ تعبر عن إعجابها وحماستها بألفاظ جديدة واعمال مجيدة… فالعرب عرفوا بواسطة هذه التجربة الأخلاقية العصيبة كيف يتمردون على واقعهم وينقمون على أنفسهم في سبيل تجاوزها الى مرحلة يحققون بها وحدة عليا… وكل ما أثمر الإسلام فيها فيما بعد من فتوح وحضارات، انما كان في حالة البذور في السنوات العشرين الأولى من البعثة. فقبل ان يفتح العرب الأرض فتحوا أنفسهم.
هذه التجربة ليست حادثاً تاريخياً يذكر للعبرة والفخر، بل هي استعداد دائم في الأمة العربية – اذا فهم الإسلام على حقيقته – لكي تهب في كل وقت تسيطر فيه المادة على الروح والمظهر على الجوهر».
ويواصل الأستاذ ميشال تحليله قائلاً: «حتى الآن كان ينظر الى حياة الرسول من الخارج، كصورة رائعة وجدت لنعجب بها ونقدسها، فعلينا ان نبدأ بالنظر إليها من الداخل لنحياها… كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع ان يحيا حياة الرسول العربي ولو بنسبة الحصاة الى الجبل والقطرة الى البحر… في وقت مضى تلخصت في رجل واحد أمته كلها، واليوم يجب ان تصبح كل حياة هذه الأمة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم… كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمداً»
واضح، ان فكراً يقدر الدين حقه، سواء على صعيد الحياة الروحية للأفراد ام على صعيد الحياة الاجتماعية، فكر يرى في الإسلام بعثاً عربياً ورسالة عربية الى العرب أنفسهم أولاً ثم الى العالم، لا يمكن ان تصور العروبة والقومية تصوراً يغيب فيه الإسلام. كلا، ان العروبة في نظر الأستاذ ميشال هي من دون الإسلام مفهوم سلبي ومن دونه تبقى القومية العربية قالباً أجوف فارغاً. انه لا يفهم العروبة ولا القومية على انهما مجرد قضيتين من قضايا الحاضر وحسب، بل ينظر إليهما في امتدادهما التاريخي: فالعروبة وعاء يملأه التراث القومي الذي يشكل فيه البعث المحمدي المرجعية والمنطلق. وهذا ما يميز القومية لدى العرب عن القومية لدى الأوروبيين، وهذا ما يجعل أوروبا تخاف من الإسلام، لأن الفهم الصحيح للإسلام، الفهم القومي له يجعله القوة المحركة للعرب من اجل التحرر والانعتاق. يقول فيلسوف البعث العربي: «ان أوروبا اليوم، كما كانت في الماضي، تخاف على نفسها من الإسلام، ولكنها تعلم الآن ان قوة الإسلام (التي كانت في الماضي معبرة عن قوة العرب) قد بعثت وظهرت بمظهر جديد هو القومية العربية».
وانطلاقاً من هذا الفهم الأصيل للقومية العربية بوصفها التعبير المعاصر عن ثورة الإسلام يميز الأستاذ ميشال بين الفكرة القومية في الغرب والفكرة القومية العربية فيرى ان القومية في الغرب عندما قررت الانفصال عن الدين كانت محقة ومنطقية لأن الدين «دخل على أوروبا من الخارج فهو أجنبي عن طبيعتها وتاريخها، وهو خلاصة العقيدة الأخروية والأخلاق، لم ينزل بلغاتهم القومية ولا افصح عن حاجات بيئتهم ولا امتزج بتاريخهم». اما بالنسبة للفكرة القومية العربية فالأمر يختلف: ذلك «ان الإسلام بالنسبة للعرب ليس عقيدة أخروية فحسب، ولا هو أخلاق مجردة، بل هو أجلى مفصح عن شعورهم الكوني ونظرتهم الى الحياة وأقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم التي يندمج فيها اللفظ بالشعور والفكر، والتأمل بالعمل، والنفس بالقدر، وهو فوق ذلك كله أروع صورة للغتهم وآدابهم وأضخم قطعة من تاريخهم القومي، فلا نستطيع ان نتغنى ببطل من أبطالنا الخالدين بصفته عربياً ونهمله او ننفر منه بصفته مسلماً».
هذا التحديد الواضح والمتميز لعلاقة العروبة والإسلام، والذي يجعل الإسلام هو المضمون الحي للعروبة، يطرح مسألة العلاقة التي يمكن بل يجب ان تكون للمسيحيين العرب بالإسلام. وفيلسوف البعث العربي واضح في هذه النقطة كل الوضوح. يقول: «قوميتنا كائن حي متشابك الأعضاء، وكل تشريح لجسمها وفصل بين أعضائها يهددها بالقتل. فعلاقة الإسلام بالعروبة ليست اذاً كعلاقة أي دين بأية قومية. وسوف يعرف المسيحيون العرب، عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الأصيل، ان الإسلام هو لهم ثقافة قومية يجب ان يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصون على الإسلام حرصهم على اثمن شيء في عروبتهم». ان عليهم ان يعرفوا هم وغيرهم من العرب المسلمين انه: «ما الإسلام الا وليد الآلام، آلام العروبة، وان هذه الآلام قد عادت الى ارض العرب بدرجة من القسوة والعمق لم يعرفها عرب الجاهلية، فما احراها بأن تبعث فينا اليوم ثورة مطهرة مقومة كالتي حمل الإسلام لواءها. وليس غير الجيل العربي الجديد يستطيع ان يضطلع بها ويقدر ضرورتها، لأن آلام الحاضر قد هيأته لحمل لواء هذه الثورة، وحبه لأرضه وتاريخه قد هداه لمعرفة روحها واتجاهها».
* * *
الإسلام هو المضمون الحي والثوري للقومية العربية، هو التراث القومي للعرب جميعاً، مسلمين وغير مسلمين، واذا كان الأمر كذلك فما القول في كون الإسلام دعوة الى الناس كافة، الى جميع الشعوب؟ ان هذا الفهم القومي العروبي للإسلام لا يتنافى، في فكر فيلسوف البعث، مع عالميته وإنسانيته، ذلك ان «كل امة عظيمة عميقة الاتصال بمعاني الكون الأزلية تنزع في اصل تكوينها الى القيم الخالدة الشاملة. والإسلام خير مفصح عن نزوع الأمة العربية الى الخلود والشمول، فهو اذاً في واقعه عربي وفي مراميه المثالية إنساني، فرسالة الإسلام انما هي خلق إنسانية عربية». وهذا الطابع الإنساني العالمي للإسلام، روح القومية العربية، هو ما يشكل خصوصية هذه القومية: «ان العرب ينفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصة: ان يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية، او بالأحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية، فلم يتوسعوا بغية التوسع ولا حكموا البلاد استناداً الى حاجة اقتصادية مجردة، او ذريعة عنصرية، او شهوة للسيطرة والاستعباد… بل ليؤدوا واجباً دينياً كله حق وهداية ورحمة وعدل وبذل». وهكذا فـ «ما دام الارتباط وثيقاً بين العروبة والإسلام وما دمنا نرى في العروبة جسماً روحه الإسلام فلا مجال اذاً للخوف من ان يشتط العرب في قوميتهم، انها لن تبلغ عصبية البغي والاستعمار».
روح القومية
الإسلام روح القومية العربية، والإسلام دين عالمي وإنساني تؤمن به قوميات أخرى، فكيف يفهم فيلسوف البعث العربي العلاقة بين القومية العربية والشعوب الأخرى التي يجمعها معها الإسلام؟ يجيب الأستاذ عفلق بطرح المسألة داخل الإسلام لا خارجه. فالقومية العربية ليست معادية للقوميات الأخرى التي يجمعها الإسلام مع العرب، بل بالعكس ان قوة العرب قوة للمسلمين جميعاً، لا بل لا يمكن تصور إسلام قوي من دون عرب أقوياء، فالعرب هم الذين عليهم حمل أمانة الرسالة «وطبيعي ان العرب لا يستطيعون أداء هذا الواجب الا اذا كانوا امة قوية ناهضة، لأن الإسلام لا يمكن ان يتمثل إلا في الأمة العربية، وفي فضائلها وأخلاقها ومواهبها، فأول واجب تفرضه إنسانية الإسلام – أي عالميته – اذاً هو ان يكون العرب أقوياء سادة في بلادهم».
العلاقة بين العروبة والإسلام، بين القومية العربية والشعوب الإسلامية غير العربية علاقة تكامل وليست علاقة تصادم. وكيف يمكن ان يكون ثمة تصادم او تنافر والحال ان حب العروبة يستوجب حب الإسلام، والارتباط العاطفي بالأمة العربية يستوجب ارتباطاً مماثلاً بأمة الإسلام. ويعبر الأستاذ ميشال عن هذه القناعات بأسلوبه القوي الواضح الصريح فيقول: «بدافع الحب للأمة العربية أحببنا الإسلام منذ السن اليافعة، وبعد ان اقتربنا اكثر من فهم الإسلام أضحى حبنا لأمتنا يتلخص في حبنا للإسلام، وفي كون الأمة العربية هي امة الإسلام». ثم يضيف قائلاً: «وكان شيئاً طبيعياً ان يأخذ هذا الوعي، وهذه العاطفة كل أبعادهما فندرك ما تمثله الشعوب الإسلامية من عمق وسند للأمة العربية ونشعر نحوها بعاطفة القربى» ثم يؤكد ذلك قائلاً «ان ثمة حقيقة كبرى لا يتجاهلها إلا المكابرون وذوو الأغراض وهي ان علاقة الأمة العربية بالإسلام علاقة خاصة حيوية ومصيرية لها وللإسلام، فلا يمكن ان يفهم الإسلام شعب مثلما يفهمه الشعب العربي، ولا يمكن ان يشعر احد نحو الإسلام بمثل الرابطة والمسؤولية اللتين يشعر بهما العرب نحوه». ويوضح الأستاذ ميشال مضمون هذه الرابطة بالقول ان علاقة غير العرب بالإسلام هي كعلاقة العرب بالقضية الفلسطينية، اما علاقة العرب بالإسلام فهي كعلاقة الفلسطينيين بوطنهم فلسطين. يقول: «ان فلسطين قضية العرب جميعاً، ولكنها بالنسبة الى الفلسطينيين اكثر من ذلك: انها وطن. والإسلام بهذا المعنى هو وطن الأمة العربية الروحي والمادي بكل ما تحمله كلمة وطن من معاني حب الأرض والأهل وحب اللغة والتاريخ». ويلخص فيلسوف البعث العربي رأيه في الموضوع قائلاً «ولئن كان عجبي شديداً للمسلم الذي لا يحب العرب فعجبي اشد للعربي الذي لا يحب الإسلام».
ومع ذلك فإن هناك حقيقة لا يمكن إنكارها وهي ان «العصر عصر القوميات والدول القومية» وبالتالي فـ «لئن كان مفهومنا – يقول الأستاذ – للقومية ينكر التعصب العنصري ويلح على الجانب الإنساني الذي اكسبه الإسلام للعروبة ويحرص على خصوصية العلاقة بين العرب والشعوب الإسلامية الأخرى، فإن هذا المفهوم يحول دون ذوبان الأمة العربية في شخصية غيرها وتنازلها عن سيادتها واستقلالها لأحد تحت اية ذريعة كانت وباسم أي شعار او مبدأ». وفي هذا الإطار يؤكد فيلسوف البعث العربي انه في الوقت الذي يقدر فيه كامل التقدير «ما تمثله الشعوب الإسلامية من عمق وسند للأمة العربية» وما يربطها معها من عواطف القربى فإنه لا بد من الحرص في الوقت نفسه على «الاحتفاظ بالوضوح التام في الفكر وببعض الحقائق الأساسية وهي ان للأمة العربية شخصيتها القومية الحضارية المتميزة وحدود أرضها الواضحة وان اشتراكها في العقيدة الدينية مع غيرها من الشعوب لا يجوز ان يجر الى طمس هذه الشخصية والعدوان على هذه الأرض». ان في ذلك ضرراً، ليس للعرب وحسب، بل وللإسلام ايضاً، فـ «تجارب التاريخ دلت على ان غياب معالم الشخصية العربية القومية وفقدان العرب لسيادتهم لم يكونا لصالح الأمة العربية ولا في صالح الإسلام».
نهوض الأمة
ليس هذا وحسب بل ان التاريخ يدلنا على انه لا يمكن ان ينوب احد عن العرب في حمل رسالة الإسلام، فالإسلام عربي والقرآن عربي، وبما ان القومية العربية روحها الإسلام فهي حاملة رسالة الإسلام الإنسانية الكونية وبالتالي فهي لا يمكن ان تكون قومية ضيقة معصبة، لا يمكن ان ترضخ لغيرها ولا ان تكون تابعة لهم. يقول الأستاذ ميشال: «ان الأمة التي ظهرت فيها رسالة بحجم رسالة الإسلام ترفض الخنوع وترفض التبعية الفكرية والحضارية. ان لها طريقها الخاص… الأمة التي حملت الى العالم رسالة الإسلام لا يمكن ان تكون قوميتها سلبية تعصبية عدوانية، فقوميتها هي في أساسها أخلاقية إنسانية تحمل مبادئ العدل والمساواة». ثم يضيف قائلاً: «مستوى الأمة العربية هو مستوى الأمم التي لها رسالات إنسانية، وانبعاث القومية العربية في هذا العصر يحمل معه بذور رسالة إنسانية الى العالم. ولقد حدد التراث لهذا الانبعاث مستواه منذ البداية، فهو على مستوى الدور الرسالي في عمقه وصدقه وشموله. وهذا المستوى يكون حافزاً وملهماً، كما يكون مراقباً صارماً. فالأمة العربية مطالبة بأن تنهض… التاريخ يدعوها، والعالم الحاضر يطالبها بأن تنهض لتؤدي دورها الأساسي الضروري: تصحيح سير البشرية وتقدمه».
* * *
تلك كانت نظرة الأستاذ ميشال الى موقع الإسلام داخل القومية العربية وموقع القومية العربية داخل الإسلام: الإسلام روح القومية العربية، والقومية العربية حاملة رسالته الثورية الإنسانية. ولكن العلاقة بين العروبة والإسلام لا تتحدد فقط بموقع كل منهما داخل الآخر او إزاءه، بل ان لها بعداً آخر ينتقل بهذه العلاقة الى مستوى آخر، مستوى الدولة القومية، حيث تتخذ تلك العلاقة بين الدين والدولة وتطرح بالتالي مسألة العلمانية. وفيما يلي وجهة نظر فيلسوف البعث في هذه المسألة.
يحدد الأستاذ ميشال هوية الدولة القومية العربية بالقول: «ان الدولة العربية التي يعمل لها البعث العربي هي التي تتيح لجميع المواطنين ان يعملوا متعاونين على تحقيق إمكانات الأمة العربية في مجال الروح والمادة، وذلك بتحقيق إمكانات كل فرد من أفرادها دونما عائق مصطنع. فالدولة اذاً تقوم على أساس اجتماعي هو القومية وأساس أخلاقي هو الحرية» فهي اذاً دولة عربية تضمن لجميع أفراد الأمة العربية حرية المعتقد، وهي ليست هدفاً في ذاتها، بل يجب ان «نرى فيها مجالاً لبعث الأمة وبعث قوى أفرادها وتصحيح القيم وإزالة الكذب والزيف والضغط من حياة المجتمع، ودفع هذا المجتمع في طريق إيجابية مبدعة لأداء رسالة الأمة الى الإنسانية»، وبالتالي فالدولة التي يعمل البعث لها هي «نقيض الإلحاد والفساد وكل ما هو سلبي وهدام» بما في ذلك شعار العلمانية» كما روِّج له في الغرب، وكما تروِّج له بعض الفئات العربية المستوردة له. وهكذا فإذا كان البعث ينادي بنوع من العلمانية فإن ذلك ليس ضداً على الدين ابداً. ان علمانية الدولة كما يفهمها فيلسوف البعث العربي «ليست إلا امعاناً في الحرص على اتجاهها الروحي والأخلاقي، لأنها ليست إلا إنقاذاً للروح من شوائب الضغط والقسر ووضع العراقيل المصطنعة امام يقظة الروح واستقلال الخلق وانطلاق النشاط في نفس كل عربي». ويضيف الأستاذ ميشال قائلاً: «وما دام الدين منبعاً فياضاً للروح فالعلمانية التي نطلبها للدولة هي التي بتحريرها الدين من الظروف السياسية وملابساتها، تسمح له بأن ينطلق في مجاله الحر في حياة الأفراد والمجتمع وبأن تبعث فيه روحه العميقة الأصيلة التي هي شرط من شروط بعث الأمة».
ويعود الأستاذ ميشال الى شرح موقف البعث العربي من العلمانية بتفصيل فيميز بين «اتجاهات قومية تقول بالعلمانية وتعتبر أن القومي العربي هو الذي يتجرد من معتقداته الدينية ويلتقي مع أخيه العربي على صعيد القومية العربية الحقوقية والرابطة الوطنية» وهو اتجاه يقول عنه فيلسوف البعث العربي انه من تأثير المستعمر الأجنبي ان لم يكن هو الدافع له: «ان المستعمر الأجنبي الغربي الذي كان يحتل اقطارنا لم يكن يخفي ارتياحه لهذه العلمانية، بل كان يشجعها لأن ذلك كان يؤدي الى إفقار قوميتها من دمها ومن نسغ الحياة فيها، من أصالتها، من روحها» ان العلمانية بهذا المعنى تعزل القومية العربية عن تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وتفرقها من الإسلام الذي «هو تاريخنا وهو بطولاتنا وهو لغتنا وفلسفتنا ونظرتنا الى الكون والى اشياء كثيرة يصعب حصرها وتعدادها»، وبالتالي تضع القومية العربية في خصام مع هويتها، ومع حاضرنا و«واقعنا الحي» الذي هو «العلاقة العضوية بين العروبة والإسلام».
واذا كان الأمر كذلك فما هو مضمون العلمانية التي يقول بها «البعث»؟ يجيب الأستاذ ميشال قائلاً: «العلمانية بمعنى ان الدستور والقوانين لا تميز مذهباً عن آخر في القبول للوظائف او في كذا وكذا، هذه أمور بسيطة ونسلم بها، ونحن نمشي في هذا العصر ولا نجادل في ذلك، اذا كانت المسألة مسألة نصوص دستورية وقانونية. لكن البعث وضع الأمور في نصابها عندما وضع الإسلام كثورة أخلاقية وفكرية واجتماعية حاسمة في تاريخ البشر، وضعها في صلب القومية العربية». ثم يضيف: «بهذا المعنى لا يوجد عربي غير مسلم، هذا اذا كان العربي صادق العروبة وإذا كان متجرداً من الأهواء ومتجرداً من المصالح الذاتية». ويؤكد المعنى نفسه حينما يقول: «العروبة تعني الإسلام بهذا المعنى الرفيع الذي لا تعصب فيه ولا تمييز ولا أي شيء سلبي».
* * *
هذا الربط بين العلمانية والقومية من جهة وبين القومية والإسلام من جهة أخرى يسد الباب أمام التصور العلماني للوطنية وأمام اي تصور وطني ضيق للعلمانية التصور الذي يؤدي في كلتا الحالين الى «تشويه وخنق لانطلاقة الأمة على المستوى الحضاري والإنساني» من ناحيتين: فمن ناحية أولى: إن هذا التصور «بحجة التقاء جميع فئات وطوائف الشعب على صعيد الوطنية يطلب من الأكثرية الساحقة من الجماهير العربية – وهي مسلمة – ان تنسى او تغفل التراث القومي او على الأقل ان لا يكون لقاؤها به لقاء صريحاً مطلوباً وحاراً وانما لقاء له طابع الشيء الخاص، الفئوي، المتهم بالتعصب بدلاً من ان يكون الغذاء الروحي والفكري والنضالي للأمة كلها». ومن ناحية أخرى يؤدي هذا التصور العلماني للوطنية الى «حرمان الطوائف الأخرى من غير المسلمين من التراث العربي الذي هو تراثها بالتالي إبعادها عن تحقيق شخصيتها الكاملة وتركها فريسة للأيدي والتوجهات الأجنبية ولشتى التيارات التي تسلب جزءاً من شخصيتها وتترك الفجوة بينها وبين القسم الآخر والأكبر من بني قومها وشعبها لتتسع مع الزمن، لتصل أحياناً الى التناقض» وهذا المفهوم المشوه للعلمانية الذي يعزل الأمة من تراثها وتاريخها كان يروج له الاستعماريون وأدواتهم «ويريدون من ورائه ليس لقاء الجميع على صعيد الوطنية، كما كان الادعاء، بل نسيان الأمة لتراثها، يقابل هذا النسيان ترويج وتعميم للثقافة الغربية والحضارة الغربية، أي انه كان هناك عملية احتيال».
رفض التعصب والرجعية
هذا الفهم القومي للعلمانية والإسلامي للقومية ينجم عنه بطبيعة الحال رفض كل من التعصب الطائفي والرجعية الدينية. والأستاذ ميشال صريح في هذه المسألة صراحته في المسائل السابقة. انه يرفض موقف «العناصر المسيحية المتعصبة المستغلة للتفريق الطائفي – التي – تكافح الفكرة القومية بحجة ان العروبة معناها سيادة وسيطرة الإسلام كدين وتشريع وتقاليد وحضارة». هذه الحجة واهية كاذبة بل هي مغرضة، ويجب «اكتشاف بطلان ما يختبئ وراء مكافحة الفكرة العربية من مصالح خاصة من رجال الدين او زعماء بعض الاقليات العنصرية او من إقطاعيين والاستعمار وراء الجميع». والجواب الذي يقدمه فيلسوف البعث العربي لهذه المسألة، مسألة الاقليات، هو «ان البعث حركة قومية تتوجه الى العرب كافة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وتقدس حرية الاعتقاد وتنظر الى الأديان نظرة مساواة في التقديس والاحترام، ولكنها ترى الى جانب ذلك في الإسلام ناحية قومية لها مكانتها الخطيرة في تكوين التاريخ العربي والقومية العربية وتعتبر هذه الناحية وثيقة الصلة بتراث العرب الروحي وبمميزات عبقريتهم… فالإسلام من حيث هو دين صرف مساوٍ لغيره من الأديان في الدولة العربية التي تساوي بين جميع مواطنيها وتحترم حرية معتقدهم. والإسلام من حيث هو حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب واصطبغت بعبقريتهم وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى له مكانة خاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها. إلا ان هذه المكانة لا تفرض فرضاً، بل تولد من الحرية وتستمد من قوة الروح ومن مدى اتصال العرب بروحهم وتجاوبهم الحر العميق معها وبهذا المعنى تستلهم حركة البعث العربي من الإسلام تجدده وثورته على القيم الاصطلاحية، تستقي من نبعه فضائل الإيمان والمثالية والتجرد من المنافع الشخصية والمغريات الدنيوية في سبيل نشر المبادئ التي تنقذ العرب في هذا العصر من ضعفهم وتفككهم وانخفاض مستواهم الروحي والاجتماعي».
وكما يرفض فيلسوف البعث العربي النزعة الطائفية ويرى في الإسلام حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب… يرفض بالمقابل الرجعية الدينية التي جعلت التدين يفقد «كل صلة بالروح والحوافز التي كانت مصدر الدين بالماضي والتي جعلت منه حركة إحياء وتجديد وبناء فآل الى حالة من الجمود والمحافظة والجهل». كما يرفض وللسبب نفسه «الدولة الدينية»:
«فالدولة الدينية كانت تجربة في القرون الوسطى وتجربة انتهت بالفشل وكلفت البشرية كثيراً من الجهد ومن الدماء ومن المشاكل، وحدثت تقريباً في أوقات متقاربة في البلاد الإسلامية وفي أوروبا المسيحية». غير أن الدولة التي يسعى البعث لإقامتها لا تعادي الدين، بل بالعكس هي تعادي، الإلحاد، كما رأينا: «الإلحاد والفساد وكل ما هو سلبي هدام» كما ترى في الإسلام بالذات روح العروبة «العميقة الأصلية التي هي شرط من شروط بعث الأمة».
واذاً «فالبعث العربي الذي هو حركة روحية إيجابية لا يمكن ان تفترق عن الدين او تصطدم معه، ولكنه يفترق عن الجمود والنفعية والنفاق» انه يفهم علاقة الدين بالدولة على انها «علاقة الأمة بماضيها وموقفها من مستقبلها كما انها تعني الأسس الروحية والحقوقية التي تقوم عليها القومية العربية في المستقبل».
وهكذا: «فالماضي الذي تحن إليه الأمة وتجد فيه ثورة لها وقوة هو الزمن الذي تحققت فيه روحها، والمستقبل الذي يناضل التقدميون في سبيل بلوغه ليس إلا ذلك المستقبل الذي تستطيع فيه الروح العربية ان تتحقق من جديد، ولكن بينما يحسب البعض ان هذا السير نحو تحقق الروح العربية يجب ان يكون رجوعاً وهبوطاً، اي إيغالاً في الجمود والشكليات، يرى التقدميون انه يجب ان يكون سيراً حراً صاعداً… فالروح لا ترجع ولا تهبط ولكننا نحن الذين نتقدم نحوها ونرتقي اليها لنلتقي بها».
* * *
تلك كانت جولة سريعة في فكر الأستاذ الراحل ميشال عفلق ركزنا فيها القول على مسألة العلاقة بين العروبة والإسلام وما يرتبط بها من قضايا. ومن هذا العرض يتبين بجلاء ان الأستاذ لم يكن ينظر الى القضية نظرة مجردة، بل لقد نظر إليها في علاقاتها المتعددة الأبعاد مع الواقع العربي الراهن بكل تعقيداته وتلويناته. لقد نظر اليها بفكره الشمولي الذي أبرزنا دعائمه وأبعاده عند مستهل هذا العرض والفكر الشمولي فكر جامع موحد، وقضية الأستاذ ميشال عفلق هي جمع شمل العرب وتوحيدهم، ولذلك نجده يتعامل مع العلاقة بين العروبة والإسلام، لا كمشكلة يجب ان يلتمس لها الحل، بل لقد رأى فيها بالعكس من ذلك علاقة إيجابية، جامعة موحدة: فالإسلام يجمع العرب مع ماضيهم ويعود بهم الى ما يشكل صميم هويتهم، وفي الوقت نفسه يجمعهم مع الشعوب الأخرى المسلمة، غير العربية، تماماً مثلما ان العروبة تجمع العرب، جميع العرب، مع ذاتهم وتعود بهم الى روح قوميتهم. ومن هنا يمكن القول ان القومية العربية، في فكر الأستاذ هي إطار مكاني سكاني ذو روح عالمية إنسانية هي روح الإسلام، إسلام البعث والثورة والتحرر والتحرير وليس إسلام الانغلاق والانحطاط والجمود. ومن هنا كانت وحدة العرب وقوتهم شرطاً اولياً لانبعاث الإسلام وقوته ولوحدة الشعوب المؤمنة به.
وبعد، فلقد كان رجال الإسلام يصنفون قديماً الى صنفين: اهل الشريعة وأصحاب الحقيقة. الصنف الأول هم الفقهاء اما الصنف الثاني فهم المتصوفة. واذا كان لا بد من وضع فيلسوف البعث العربي في مكان ما في هذا التصنيف فإنه يمكن القول من دون تردد انه يمثل نوعاً جديداً من «التصوف»: لقد احب الأستاذ الراحل العروبة واحب الإسلام، احبهما حب المتصوف، ولكن لا المتصوف من اجل خلاصه الشخصي، من اجل «نجاة» نفسه من آلام الدنيا ومعاناتها، بل المتصوف المتقمص لآلام أمته ومعاناتها، الداعي الى نهضتها وتقدمها. ولما كان الإسلام قد شكل عقد ميلاد هذه الأمة عند ظهوره وانطلاق بعثه، فإن استئناف نهضتها لن يكون، في نظر الأستاذ، إلا باستعادة تجربة الميلاد تلك، تجربة البعث المحمدي. ومن هنا كانت العلاقة بين العروبة والإسلام عنده من تلك العلاقات التي لا تقبل العزل ولا التحليل، انها من نوع علاقة الخبر بالمبتدأ، اللذين بدونهما معاً لن تتكون جملة مفيد.