د. دندشلي - مقابلة مع الدكتور نزيه البزري - شخصيته (1)
المقابلة الأولى مع
الدكتور نزيه البزري
وذلك يوم الجمعة الواقع فيه 10 آذار 1989
الموضوع: شخصية الدكتور نزيه البرزي
الإنسانية ـ الاجتماعية،
الوطنيـة ـ السياسية،
الفكرية ـ الثقافيـة…
* * *
سؤال: هل يمكن أن تحدثنا، د. نزيه (البزري) عن أصل العائلة: آل البزري، وانتمائها التاريخي؟!.
الدكتور نزيه البزري: ثمة روايات وأحاديث كثيرة كانت تُروى في الماضي، وكنت وأنا في سن الصبا، أستمع إليها وأُصغي، على لسان الكبار من أفراد عائلتي، من مسنّين ومسنّات. وكنت أطرح أسئلة كثيرة عليهم، منها: هل نحن وُجدنا هنا منذ البداية، أم أننا أتينا إلى هذه البلاد في موجة من الموجات البشريـة من المناطـق العربيـة، التي جاءت إلى هنا واستوطنت في هذه الأماكن؟!.
فكان يأتي الجواب دائماً أننا في الأصل من الجزيرة العربية وينتهي نسبنا وانتماؤنا إلى قريش. وكما كانوا يؤكدون أن لنا انتماءات تعود في جذورها وأصولها إلى زين العابدين بن الحسين بن علي كرم الله وجهه. ثم انتقلت العائلة إلى المغرب وبعدها أتينا إلى هذه البلاد منذ نحو 500 عام. ولست أدري إذا كان ثمة ارتباط بين اسم العائلة: بزري وبين اسم مدينة تقع على الحدود المغربية الجزائرية تدعى "بيزرت". هذه الملاحظة، كان قد لفت نظري إليها السفير الجزائري في لبنان. وهناك أيضاً رأي أو نفسير آخر حول الاسم: البزري، مفاده أننا تكنينا بهذا الاسم وأطلق علينا، بسبب كثرة الولادة وزيادة النَّسل وكِبَر العائلة.
ومهما يكن من شئ، فإن هذه النقطة ليست واضحة تمام الوضوح (أو ليست موضع رجحان في هذا المجال)، إلى جانب ذلك وما هو متداول بين أفراد العائلة من كبار السن، أن هنـاك مخطوطاتٍ محفوظـةٍ تعـود إلى أكثر من 200 عام وهي تحمل تواقيع بعض الأقرباء من آل البزري.
س: … هل توجد وثائقٌ أو مخطوطاتٌ لهذه العائلة تُظهر من جهة كُبْر العائلة، ومن جهة أخرى دورها الديني أو الاجتماعي؟.
ج: … في الحقيقة، لا توجد سوى مخطوطةٍ واحدةٍ، عليها أسماء الذين تدرَّجوا من ذلك الفخذ الأساس حتى انتهوا إلينا. وقد توقف القيمون في العائلة على إضافة أسماء إليها منذ حوالي 40 عاماً. وهناك صورة عن هذه المخطوطة أو بعض منها عند أقاربي هنا. أما النسخة الأصلية، فهي موجودة لدى أقربائنا في دمشق.
أما من حيث المهن أو الأعمال التي تعاطاها أفراد عائلتي، آل البزري، منذ وصولهم إلى لبنان،: وظائف، تجارة، خدمات، فإنني أستطيع أن أشير إلى أن الميِّزة العامة لعائلتي هي العلم دائماً. ولكن هذا لم يمنع من أن البعض منها، كان يتعاطى الأعمال التجارية (وذلك منذ أكثر من مائة عام). وكانت لهم أملاك واسعة وبساتين. وعلى سبيل المثال، فقد كان الحاج مصباح البزري والحاج علـي البزري يملكان قضاء النبطيـة. والمرحوم صلاح الدين البزري، هو الذي أنشأ مزرعة قرب قريـة النجاريـة في الجنوب وأطلق عليها اسم "الداودية"، وعز الدين البزري: أنشأ مكتـب سفريات وشركة أوتوبيس، وكان يعمل بالتجارة إلى جانب هذه الأعمال الخدماتية .
كان آل البزري (في البداية) رجال علم في الشريعة والفقه، وهو العلم الذي كان سائداً في ذلك الوقت.. ومعظم العلماء من آل البزري، قد درسوا على أئمة كبار أو في الأزهر الشريف. وقد تقلَّد رجال الدين من عائلتنا مراكز عديدة ومهمة. فقد شغل العديد منهم منصب الإفتاء. مثلاً في بداية القرن التاسع عشر، كان لنا نسيب شغل منصب الإفتاء في جبل لبنان يدعى يونس البزري، وهو الذي وقَّع على تعيين الأمير بشير الشهابي في الجبل.
وهناك مخطوطة قبل هذه الأخيرة موقَّع عليها اسم الشيخ محمد بن عبد الرحمن البزري. ولدينا بعض الكتب، تعود إلى أكثر من 200 عام، تُثبت وجود كبار من عائلتي في مراكز مهمة. (يقول د. نزيه البزري إنه قد كان لديه نسخة من معظم هذه الكتب، إلاّ أني فقدتها في الحريق الذي تعرَّض إليه منزلي منذ حوالي عامَيْن ونصف العام)…. (وقد صدق د. نزيه البزري عن هذه الحادثة، منير خوري في كتابه عن صيدا، أنظر ص 290)…
وهذه الحادثة هي التالية: في أوائل عام 1831، حدثت فتنة في صيدا بين الأمير بشير ملحم والشيخ الذي يشغل منصب قاضي المدينة، صيدا، وهو الشيخ يونس البزري. وذلك لأن الأمير المذكور، كان يتدخَّل في الشؤون الفقهية على غير معرفة منه بأمورها. فأثار القاضي مجموعة من أهالي المدينة وأتى معهم وهم يحملون السلاح إلى السراي، ليطردوا الأمير منها. وهناك جرى نقاش بينهما وشتام. وخرج القاضي مع جماعته إلى بوابة المدينة لطرد جماعة الأمير منها. فاصطدموا معهم، فارتد كل فريق إلى موضعه.
فأرسل الأمير ملحم يعلم الأمير بشير بالحادثة. فكتب هذا الأخير إلى نقيب الإشراف يطلب منه الحكم على أصحاب الفتنة. وبعد أن استشار نقيب الأشراف الوالي، أمره أن يفوِّض الأمير بإلقاء القبض على القاضي والمفتي ومَن ساعدهما على هذه الفتنة. ففعل الأمير وأرسل الجميع إلى عكا حيث عُقد ديوان للشورى وحكم بالسحن على خمسة عشر رجلاً منهم. كما أمر بأن تقطع رؤوس كل من رفع السلاح على الأمير، وتعلق على باب مدينة صيدا. فتم ذلك. وكان المنادي يقول: "هذا جزاء من يرفع يده على الحاكم".
أما الحديث عن عائلتي الأقرب إليَّ، فيقول د. نزيه البزري وبشئ من التفصيل: إن عائلتي الأقرب إليّ تبتدئ من جَدي الشيخ محمد البزري. وقد كان يشغل منصب مفتي صيدا. وتزوج في المرة الأولى، فأنجب سعد الدين وثلاث بنات، لا تزال اثنتان منهن على قيد الحياة. ثم تزوج للمرة الثانية من إمرأة من آل كالو، فولدت والدي وعمي وعمتيني الإثنتين.
والدي عبد الرحمن البزري، إنسان متعلم، كان قد درس في المدارس التركية في اسطنبول، ووصل إلى السنة الطبية الثانية. وعندما توفي والده ـ أي جَدي ـ اضطر لكونه أكبر الأخوة، من قطع دراسته والعودة إلى لبنان للعناية بالعائلة. وفي سنينه الأخيرة من حياته، كان مديراً للأوقاف الإسلامية في صيدا. وكان قد توفي والدي وهو في العقد الثالث من عمره (في كانون الأول 1920). وكان عندي من العمر آنذاك خمس سنوات. وهذه الحادثة، أي وفاة والدي، وعلى أثرها، كنت: أنا وأَخَوان وأخت لي يتامى. وكانت أمي هي المسؤولة عنا وهي التي تُعنى بأمرنا. ووالدتي هي ابنة عم والدي.
وقد بقينا معاً ما يقرب من العامين، حينما تزوجت والدتي من عمي الآخر، وذلك تحت ضغط العائلة. فأنجبت منه بنتَيْن، إحداهما تزوجت، والأخرى تعيش معي حتى الآن.
وهنا، لا بد من أن يتوقف د. نزيه البزري ولو قليلاً، أمام الذكريات، وذكريات الطفولة، وأمام الأحداث التي قد تكون تركت في نفسه أثراً لا يُمحى، سواءٌ حسناً أو سيئاً، فيقول: إن طفولتي ليست شبيهة بطفولة الكثيرين، بمن فيهم أولادي، وذلك لأنني كنت مسؤولاً وأنا طفل، إذ توفيَ عمي بعد زواجه من أمي بسبع سنوات. وطفولتي هذه، يمكن أن أرويها بصراحة، ذلك أنني بسبب هذه المسؤولية التي كنت أنمّيها بنفسي أيضاً، لأنني كنت أشعر أنني مقبل عليها، فهذه المسؤولية (المبكرة) اضطرتني إلى أن اُكثر من الأعمال الخارجة عن التعليم والتعلُّم.
لذلك، كنت كثير القراءة. وقرأت (في سن مبكرة) العديد من الكتب الشهيرة، وذلك في المكتبة العامة (مكتبة: نشر العلم والفضيلة) التي كانت تقع وقتذاك في باب السراي، داخل صيدا القديمة، حيث كان منزلنا. وفي هذه المكتبة، قرأت الكثير من الكتب التي كانت تقع تحت يدي. مثلاً، فأنا في سن الرابعة عشر من عمري، أذكر أنني قرأت "مقدمة ابن خلدون". الحقيقة، فقد كانت هذه المكتبة تحوي العديد من الكتب الاجتماعية والأدبية القيِّمة والتراثية. إلاّ أن ما استهواني (وملك عليَّ فكري ووجداني) في هذه المكتبة، إنما الكتب الصوفية التي كانت متوافرة فيها، وبخاصة كتب محي الدين بن عربي.
وعندما كانت تغلق المكتب أبوابها، بانتهاء أوقات دوام المطالعة، فلم يكن يُسمح باستعارة الكتب إلى الخارج، فكنت أعود إلى البيت، لأتابع درسي في كتبي الخاصة بي. وأقول بصراحة متناهية إنه لم يكن عندي، في البيت، كتاب حساب، فقرأت في المكتبة في كتاب "حساب لجرداق". وكان يحتوي على أسئلة حسابية كثيرة، فكنت أحلها جميعاً بلا مبالغة. وكذلك، لما انتقلت للدراسة باللغة الإنكليزية، فلا تمر كلمة واحدة لا أعرفها، إلاّ وكنت أبحث عن أصلها وكيفية استعمالها. وكنت أؤلف منها وأبني عليها جملاً حتى لا أنساها وترسخ في ذاكرتي. كل ذلك لأنه كانت هوايتي المطالعة والقراءة، ولأنني لم أكن أهتم بالرياضة أو بالسينما (أو بالهوايات الأخرى). مثلاً لم أدخل إلى السينما لأشاهد أحد الأفلام، إلاّ عندما كنت في سنة ثانية في كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت. وليس ذلك لأنني لم أكن أملك المال، مثلاً، بل لأني لم أكن أرغب في ذلك، وكنت أفضل القراءة على أيِّ شئ آخر.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن ذكرياتي الدراسية، وفي المدرسة بصورة خاصة، فقد كنت بين رفاقي أصغرهم سناً. ولكن كنت أكثرهم تأثيراً فيهم، إذ إنهم كانوا يحتكمون إليّ وأحل لهم مشاكلهم. كما أن المدرسة في بعض الأحيان، كانت تطلب مني حلّ بعض المشاكل التي كانت تحصل بين الطلاب. كل هذه الأشياء نمَّت في نفسي روح المسؤولية.
كما أن هناك حوادث فردية كثيرة كانت تحدث لي وأهلي يستغربون تصرفاتي. فمثلاً، في أحد الأيام قامت فرقة تمثيلية في صيدا بتمثيل رواية عربية عن حياة صلاح الدين، وكنت حينئذ في الحادية عشر من عمري. فجأة وجدت نفسي مدعواً إلى حضور تلك الحفلة (العرض)، لأن بعض أعضاء الفرقة كانوا زملائي. وقد ألحّوا على رئيس الفرقة وهو حسيب شهاب، بأن تكون دعوتي دعوة شخصية. وفي المحفل، طُلب مني أن أُلقي كلمة. فتحدثت يومها عن التخلف وعن الاستعمار، وأن الاستعمار يزيدنا تخلفاً وتفرقة. وأنه يجب أن نتعلم وأن نقتحم تلك الحواجز التي تبعدنا عن التقدُّم والتطوُّر والرقي. وإن لنا في ديننا المجال الواسع كي نتقدَّم، لا لكي نبقى متخلفين ومتأخرين.
وفي اليوم التالي، استدعيت لدى المستشار الفرنسي، وكان يدعى "بونسو"، وذلك عام 1926. تفاجأ عمّي بهذا الاستدعـاء وأني تحدثـت في السياسيـة والاستعمار وأنَّبني قائلاً: "مالنا ومال السياسة، كي تخطب وتتكلم عن الاستعمار في المحفل". فأجبنه قائلاً: "هل هذا ما قلته، كذب؟".
واصطحبني إلى المستشار. وكان عنده مترجم من آل البستاني، خليل البستاني. فانتهرني المستشار الفرنسي. وترجم البستاني قائلاً: "مَن أنت حتى تتكلم وتحارب الاستعمار؟". ولا زلت أذكر جوابي في حينه. "أنا ككل مواطن، لا يقبل الاستعمار، أكنتم أنتم تقبلونه عليكم؟". "وهكذا، نحن، نريد أن نربي أنفسنا على طلب المزيد من الحرية وعلى الخروج من سيطرة الاستعمار حتى نتمكن من بناء أنفسنا ونقتحم حواجز التخلف لنصبح دولة راقية". فأجاب المستشار الفرنسي وترجم لي المترجم البستاني قوله: "أفهمت ما قاله؟". أجبته: "قليلاً!.. قال المترجم: "لقد أخجلته، فاذهب إلى بيتك"….
وهناك أيضاً بعض الحوادث وأشياء أخرى كانت قد حدثت لي، ولكن، مع ذلك، لا أذكر أبداً أني وقعتُ في خلاف أو عنف مع أي طالب أو طالبة من زملائي (بمعنى أنه لم يكن يوماً عدائياً أو عدوانياً). ولا أذكر أني نلت جزاءً سوى مرة واحدة من مدير مدرسة المقاصد الأستاذ عبد الرحمن البزري، وذلك لسبب عائلي، مفاده أنني كنت أشدّد في معرفة أو الاطلاع على الكثير من المواضيع التي تحصل في البيت. وكان عمي وأمي يقولان لي: "بكير عليك، ما زلت صغير السن لمعرفة هذه الأشياء". واقتصر الجزاء فقط على لفت نظري وتوجيهي وتنبيه.
كما أنني لا أذكر يوماً أن يد والدتي امتدت عليَّ أو طالت من جسمي بشئ: لا ضربة ولا حتى قبلة. وسبب ذلك أنها كانت دائماً تريد أن تشعرني بالمسؤولية وأنني "رجل مسؤول". وأن الشئ الحسن الذي أعمله وأقوم به، هو الشئ الذي يجب أن أعمله وأقوم به، دون أن أطلب أو أنتظر المكافأة، بل لأن ما أقوم به، إنما هو واجب عليَّ.. مثلاً، عندما ترفَّعت صفَّين في المدرسة التي دخلتها (أي مدرسة الفنون الإنجيلية الوطنية في صيدا)، لم تتغير ملامح وجهها (وجه والدتي). عندما أخبرتها بالأمر، لا ابتسامة ولا حتى بدرت منها أيُّ كلمة. فقلت لها، كما أذكر: "قولي شيئاً، حتى ولو كلمة "برافو". فأجابت: "هل أنا التي نجحت أم أنت، هل أنا التي سأستفيد من ذلك. أم أنت؟!". ومنذ ذلك الوقت، وكلماتها ترنُّ في أذنيَّ، إذ إنني يجب أن أعمل وأن أتحمل أنا المسؤولية، دون أن أطلب المكافأة من أحد. ومنذ ذلك الحين، وأنا أُسَرُّ في العمل الحسن (لوحدي وفي داخلي)، دون أن يكون في ذلك لغاية أو طلب مكافأة.
عندما أختار د. نزيه البزري التخصُّص في مجال الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، هل كان في الأعماق، لوالده التأثير الضمي أو غير المباشر، وذلك بما أنه لم يكمِّل دراسة الطب في اسطنبول، فأراد الشاب نزيه البزري وأحب أن يكون طبيباً استمراراً لرغبة والده، أم أنه كان هناك سبب أو دافع آخر؟!… يقول د. نزيه البزري توضيحاً لهذه الناحية: أنا اخترت دراسة الطب ليس لأن والدي لم يتمكن من إكمال دراسته، ولكن لقد كان في حينه متاحاً لنا دراسة الهندسة، وأنا كنت أعرف اللغة الإنكليزية. بيد أنه لم يكن هناك فرع للهندسة في بريطانيا. وحاول عمي إقناعي للذهاب إلى ألمانيا لدراسة الهندسة. وقبلت هذه الفكرة. ولكن لم أتمكن (من الناحية المالية) من السفر إلى ألمانيا، فدخلت الجامعة الأميركية في بيروت، وذلك لأنني حصلت على مساعدة من الجامعة الأميركية. هذا وكنت أعطي دروساً خصوصية، وكذلك وجدت عملاً في المكتبة. فكنت في هذه الحالة أكفي ذاتي ومصروفي الشخصي، بل وحتى زيادة في ذلك. وهكذا، بقيت في الدراسة والعمل في الجامعة الأميركية مدة ثماني سنوات حتى تخرجت عام 1940. وفي عام 1946، سافرت إلى لندن للدراسة أيضاً.
وحول نوعية الكتب التي كان يقرأها د. نزيه البزري أثناء الدراسة، والكتب التي تأثر بها وأثرت فيه، فهو يحدِّدها على الشكل التالي: قرأت كتباً أدبية واجتماعية كثيرة جداً، مثلاً: مقدمة ابن خلدون، وكتب جغرافية: رحلة ابن بطوطة. وكنت شغوفاً بقراءة القرآن الكريم وتفسيره أيضاً، قرأت تفسير ابن كثير. وفي التاريخ، قرأت "التاريخ العالمي" في كتاب مترجم، وهو ترجمة قربان أستاذ في الجامعة الأميركية. كنت أتمتع بقراءتها وتعلمت منها الشئ الكثير. كما أن هذه القراءات المتعدِّدة رفعت من شأن فكري ومستوى حياتي التي كنت أعتمد فيها على نفسي، كما أنها أثّرت في صقل عقلي منذ الصغر.
والدتي كانت تقول عني: "إني كنت حاداً في صغري، حاد الطبع، دون أذىً أو عنف. أرفض دائماً. ولكن بعد وفاة والدي، هدأتُ وتحمّلتُ الكثير من أخوتي. وعند حدوث شئ تعرف أنه يغضبني، تقول: إنه "سيثور الآن!!". إلاّ أني مع الوقت قد مرَّنت نفسي على التحمَّل وعلى أن تكون إجاباتي ليست صادرة عن ردّات فعل أو انفعالية، بل هادئة. فكنت أحب القراءة بشكل كبير. وكذلك السفر، إذا توافر المال لذلك.
ومَن مِن الأصدقاء القدامى، سواء في المدرسة أو في الجامعة، لا يزال د. نزيه البزري على علاقة وصداقة معهم حتى الآن؟.. يقول إن هناك أصدقاء كثيرون، ولكن البعض منهم أعتبرهم مميزين. فهناك مثلاً عبد الله البساط وسعد الدين حشيشو كانا زميليّ في مدرسة المقاصد. وفي مدرسة الأميركان، هناك المحاسب وليم وأخوه قسيس متري والمهندس سامي البستاني والسفير رامز الشماع وغيرهم كُثُر…
أما الأساتذة الذين كان لهم دور أو تأثير في حياته سواءٌ في المدرسة أو في الجامعة، فيشير د. نزيه البزري قائلاً: بصراحة، عندما كنت في السنوات الدراسية المدرسية، كان الأساتذة كالتلاميذ، يشعرون أنني "مُستعلي" على أيِّ طالب. وكانوا ينزعجون من وجودي، خصوصاً أستاذ الهندسة والرياضيات سليم عموصي وأستاذ الفيزياء وكان أرمنياً، واسمه إيغوزيان، وذلك لأنني كنت أحل المسائل في البيت وأحضِّر الدرس تحضيراً جيداً أيضاً. وعندما يشرح الأستاذ، كنت الأكثر مبادرة بين الطلاب لحلِّ الأسئلة المطروحة. وكان لديَّ في البيت لوح خشب، كنت أحلُّ عليه المسائل، لأنه أرخص من الورق.
وعندما كنت في سنة التحضير للطب saphamore a Freshmen ـ جونيور ـ تأثرت كثيراً بأستاذ العلوم، علوم الحيـاة، وهو بريطانـي الجنسية واسمه ديفورست Deforest، كان أستاذاً بكل ما للكلمة من معنى، عميق الفكر والمعرفة الواسعة في فرعه العلمي. وكانت له مسحة (نزعة) فلسفية في محاضراته. كنا نهتم في محاضراته التي أثَّرت فيّ كثيراً وفي جميع الطلاب إجمالاً، لدرجة أننا كنا نهتم به اهتماماً كبيراً، وبالتالي بالمادة التي كان يدرِّسها لنا أكثر من غيره. وفي كلية الطب، كان هناك طبيب جراح اسمه كروكشنGrocsen كان يدرِّسنا (ويعطينا) القضايا الأساسية، ويشدِّد عليها تماماً، وكان يقول لنا دائماً: "كل تقدم يُبنى على القواعد الأساسية وكل مهنتكم وتجاربكم ستنطلق من القضايا الأساسية".. وهناك طبيب أرمني وهو مدرِّس علم الكيمياء والبيولوجية، الذي كان بحّاثاً، وقد علمنا كيفية التفكير العلمي للبحث.
ولكن السؤال الذي يُطرح دائماً وهو أنه قبل أن يدخل الدكتور نزيه البزري المعترك السياسي، وخوض الانتخابات النيابية لأول مرة، ومن ثمَّ كرئيس لبلدية صيدا. وبعدها نائب عن المدينة، ألم يكن له توجه أو موقف أو نشاط سياسي معيَّن سواءٌ في المدرسة أو في الجامعة الأميركية في بيروت، فإن الجواب يأتي على الشكل التالي: في الحقيقة، لم يتثن لي وقتٌ للسياسة، ولم أكن أهتم بها. وأذكر عندما كنت في الجامعة الأميركية أن بعض الأحزاب السياسية حاول، عن طريق زملائي المنتسبين إليها، استمالتي إلى جانب حزبهم. فجلست معهم وناقشتهم وأوضحت لهم رأيي وهو أنني لا أؤمن بأفكار حزبهم. وبقيت صديقاً لهم، إلاّ أني لم أنتمِ وأتورط معهم.
وحاولت مرة أخرى في الجامعة الأميركية، حينما طغت بعض الأحزاب ذات النَّزعة القومية الضيقة (ولربما الحزب السوري القومي أو حزب الكتائب اللبنانية) النشاط السياسي في الجامعة، سعيت مع عدد من أصدقائي، إلى تأليف "حزب"، دون أن يكون لنا أو أن نحصل على ترخيص بذلك. ومن هؤلاء الأصدقاء الجامعيين، فيما أذكر، نظيم الشرابي وصديق آخر من آل مفرج وغيرهما… كنا جماعة صغيرة أو نواة "حلقة حزبية": الحزب العربي، فقط حتى نبشر بالفكرة العربية أو القومية العربية في الجامعة في مواجهة الأفكار والآراء الضيقة التي كانت قد أخذت تنتشر آنذاك، وكان ذلك في عام 1932..
فكنت أؤمن بعروبتي منذ كنت طالباً. وإن كل محاولة لإخراج التفكير السياسي عن التفكير القومي العربي، سيؤدي إلى خسارة كل قطر بمفرده. وكنت أرى منذ حداثتي وأفكر بالوحدة العربية وبضرورتها. ولكن ليس كوحدة جغرافية فقط، فإن هذا النوع من الوحدة هو آخر ما يجب أن يتحقق. وإنما التركيز يجب أن يكون على وحدة الأهداف: وحدة التعليم والثقافة والمؤسسات الاقتصادية والمالية. فكل هذه الأفكار ينبغي أن تكون سابقة ويجب أن تتحقق تدريجاً حتى تزول كل العوامل والفواصل التي تفرِّق ما بين الشعوب التي أمست مقسَّمة ومجزَّأة منذ زمن طويل، ليس على زمن الفرنسيين وحسب، وإنما أيضاً على زمن الأتراك، إذ كان كل والٍ يعمل (ويحكم ويتحكم) ما يحلو له ضمن ولايته…
كما أني لم أتأثر بأي شخص، في ما يتعلق برأيه في السياسة، ذلك أنني أنا لم أفكر إلاّ تفكيراً قومياً عربياً، وكنت وما زلت تقدمياً، وأطلب التقدم وأسعى إليه، ليس عن طريق "الثورة" بل عن طريق التطوُّر، وأسعى دائماً إليه لتطوير كل الفئات في المجتمع حتى نصل إلى مبتغانا. ومن مراجعاتي التاريخية، وجدت أن الثورات التي يقال إنها دفعت إلى التقدم هذه الشعوب وغيرها من الشعوب والدول في العالم، تبين لي أن هذه الشعوب أخذت وقتاً كبيراً حتى تمَّ تطوُّرها وتقدمها ووصلت إلى مبتغاها وظهرت بهذا الشكل من التقدم.
فأنا من دعاة التطوُّر التقدمي (الديمقراطي) دون أيِّ عائق أو أيِّ حاجز أو أيِّ شئ من هذا القبيل. ولهذا السبب، أنا أفضل أسلوب الدين على أسلوب السياسة. فأنا مسلم ملتزم، دائماً أدعو إلى أن تكون لدينا "جمهوريات إسلامية" وقاعدة الحكم أن تكون ديمقراطية. والإسلام يدعو إلى الشورى وإلى نظام الشورى. وأعتقد أني متأثر جداً ولدرجة كبيرة بتعاليم الإسلام ومفاهيمه حول قيام الدولة وأنا هنا لا تغريني النظريات الجديدة حتى أذهب إليها وأتبناها. لذلك، فلم أنتم إلى أيِّ حزب من الأحزاب السياسية
وحول سؤالٌ يُطرح على د. نزيه البزري، إذا كان أحد أفراد عائلته له ميل للسياسة، فهو يجيب عن ذلك بأن أولاده وإخوته بعيدون عن السياسة. أحدهم حالياً في بيروت بعد عودته من المهجر منذ فترة، وأخي الآخر في باريس. ولكن ابني عبد الرحمن له علاقات واسعة بالسياسة وله اهتمام كبير بها على صعيد لبنان والعالم العربي.
وهنا، وفي هذا السياق، يلفت إلى أن آل البزري منذ القدم، كانوا من المتعلمين في المدينة ـ كما ذكرنا سابقاً. نعم، كانوا في مجال الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي. وهناك أسماء ومخطوطات ـ كما قلت آنفاً ـ تشهد بأن العديد من آل البزري كان لديهم أو كانوا يشغلون مراكز مهمَّة في هذا النطاق، مثلاً: الإفتاء والقضاء الشرعي أو المدني في مدينة صيدا أو في المنطقة. وفي العلوم الحديثة، أول مَن اقتحمها وحمل شهادة عالية كان الدكتور محمد البزري. ثم تبعه أجيال عديدة. كان قبله محمد أفندي في جبل لبنان وآخرين في برجا وبيروت والشام.
في بيروت، هناك عددٌ من الأفخاذِ والأسباطِ أبناء عمي اللزم، الدكتور محمد وأبناؤه فؤاد وسليـم وأمين والدكتـور سعد، وابن خالي منح دكتور في الهندسة، كان مهندساً في المرفأ، ثم انتقل إلى مؤسسة الحريـري. وهناك إبراهيـم البزري في حمص، مسؤول الكهرباء، فؤاد البزري مديـر الكهرباء في صيـدا، وأمين البزري وزير الأشغـال العامة. وكان قد تولى هذا المنصـب أكثـر من مرة، وله دور وتأثيـر كبير في عمليـات التنقيب والآثار يُشهد له بها وفي غيرها…
وفي الواقع، يبدو أن الدكتور نزيه البزري عائلي جداً، فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هل لأهله المقربين، مثلاً، أمه، زوجته، أولاده أو غيرهم من المحيطين به، تأثير في توجُّهه السياسي وآرائه السياسية وغيرها من الأمور؟!… في هذا الجانب يأتي تأكيد د. بزري قاطعاً عندما يقول: أمي، أعتبرها غير (بمعنى مختلفة عن) كل الأمهات. فهي صبورة، جديّة، قليلة الكلام. وهي من النساء اللواتي حافظنا على كرامتهن. وقد كانت موضع احترام الكثيرين، رجالاً ونساءً، ولها آراء مهمة وقادرة على التأثير في أفراد المجتمع (المحيط بها) وفي أفراد العائلة. وكانت ككل أم تتدخل في شؤون أولادها.
ولكن علاقتي، أنا، مع أمي، ومع باقي أفراد العائلة، كانت جيدة. لم أكن أتأثر بهم، بل علاقتي بهم، كانت تتأثر بما أريده أنا. طبعاً كنت آخذ بعين الاعتبار وجودهم وآراءهم ورأيهم. ولكنهم، في المقابل، لم يرفضوا لي طلباً أو يعارضوني في أيِّ أمر كان. لأنهم كانوا يدركون وهم متأكدون من أن أي قرار أتخذه يكون بعد دراسة معمَّقة ومن جميع الجوانب. ودائماً أو معظم الحيان وفي كثير من الأمور، كنت أتمكن من إقناعهم بما أريد….
أما في ما يتعلق بموضوع، إذا كان لدى آل البزري رابطة عائلية من جهة، وكيف كانت علاقة الدكتور نزيه البزري مع آل البزري، القريبين أو البعيدين منهم، من جهة أخرى؟.. فإن إجابة د. نزيه البزري في هذا الشأن تأتي واضحة ومفصَّلة وهو يقول: أولاً، لا يوجد لدى آل البزري رابطة عائلية، مؤسَّسة ورسمية، ولها أسبابها، أهمها: أنهم أحرار في تفكيرهم ولا يحبون التقيَّد بأي قرارات مهما كانت، أو أي تفكير آخر. مثلاً، أنا وأبناء عمي على علاقة طيِّبة في بيروت. عندما كنت أتعلَّم وأتابع دراستي في الجامعة الأميركية في بيروت، فلم نكن بحاجة إلى رابطة. ويوجد بين آل البزري مَن هم في حالة جيدة. وهناك أيضاً مَن هم من المهنيين والحِرفيين. وآل المرقي، مثلاً، محسوبون على آل البزري. فهم، في الواقع، ليسوا (لا ينتمون إلى العائلة) أصلاً منّا (من آل البزري) ولكن أنا على خطى والدي، أتعامل معهم على أنهم من العائلة وغير مميَّزين منا وأنهم من آل البزري.
* * *
هنا، التعليقات والانطباعات الشخصية حول
المقابلة الأولى
بداية، من الواضح أن آل البزري قد كانوا في الأصل ذات مناصب ونفوذ ديني واجتماعي، وبالتالي سياسي كبير في مدينة صيدا والمنطقة. ولعل هذا النفوذ قد تأتَّى وحصلوا عليهم لكونهم أهل علم وشريعة وفقه، الأمر الذي قربهم من الناس والتعاطي معهم. بمعنى أن هذه العائلة قد كانت إلى حد كبير عائلة دينية، تعمل من خلال الدين وما يمليه ويقتضيه عمل الشريعة الإسلامية من عدل ومساواة بين الناس واعتناق الأفكار الصحيحة والتقيد بموجبها (حادثة الشيخ يونس البزري).
والحقيقة، يبدو الدكتور نزيه البزري للقريبين منه والمحيطين به والذين يعرفونه معرفة جيدة، يبدو أنه إنسان مثقف، واسع الإطلاع، ليس فقط من الناحية الطبية، وهذه مهنته، وإنما أيضاً من الناحية التاريخية الحضارية والتراثية. إضافة إلى كل ذلك، إنه ملتزم دينياً. وأن معظم مواقفه تأتي من خلال الدين. كما أن طروحاته وأفكاره نجدها على علاقة، إلى هذا الحدِّ أو ذاك، بالدين. مثلاً، موقفه من الشورى، كما كان يجري في الماضي بين القبائل العربية ضمن مجلس موحَّد. لذلك فهو يدعو العرب حالياً إلى هذا النوع من الوحدة وتطبيق الشورى فيما بينهم، أي الديمقراطية المستوحاة من مفهوم الشورى الإسلامي.
ويمكننا أن نضيف في هذا المجال أيضاً أن الدكتور نزيه البزري، هو إنسان اجتماعي وعائلي. فهو لم يتخل عن عائلته ولم ينتقل للحياة وللعيش في بيروت، بل بقيَ طوال حياته في مدينته صيدا. ولم يبتعد عمَّن أوصلوه إلى الزعامة السياسية، بل بقي قريباً من الناس ويزاول مهنته حتى آخر رمق من حياته. هذا، ومن الملاحظ أن معظم السياسيين من المناطق اللبنانية لهم بيوتهم في بيروت، في حين أن الدكتور نزيه البزري حافظ على بيته القديم ـ الجديد في صيدا. وكان دائماً يردِّد هذا القول: "أنا من صيدا، وابن صيدا، ولصيدا".
الدكتور نزيه البزري، منذ طفولته ، عاش بعيداً عن أترابه ومَن هم في عمره من أبناء جيله. وتربى وتثقف بطريقته الخاصة، وحيداً هو وطموحه لمعرفة كل شئ ما يدور حوله، ومطالعاته وحبه للقراءة والدرس الذي لا حدود له. وكان قد عاش أيضاً مع أمنياته وأحلامه أن يصبح شخصاً مرموقاً في المجتمع، وذلك كله بالاعتماد على النَّفس والمجهود الشخصي. وهذا الابتعاد عن الجماعات أو التجمعات، جعله إنساناً محايداً، صاحب مشورة في المدرسة أو بين أصحابه لحل الخلافات، ولربما ذلك سيترك أثراً، كما سنرى لاحقاً، في مواقفه السياسية فيما بعد.
يظهر لنا الدكتور نزيه البزري، من خلال الأحاديث التي أجريناه معه على فترات طويلة، أنه قد نشأ وعاش منذ طفولته وكان إنساناً يبدو أكبر من عمره. لم يعش طفولته كطفولة أيِّ طفل، بل عاش هذه الطفولة كابن عائلة مسؤول أو كطفل أكبر من عمره الحقيقي بعشر سنوات، مما جعله حادَّ الطبع، لا يقبل المساومة، الصح هو صح والخطأ خطأ. واثق من نفسه، رغم صغر سنه (حادثة مع المندوب الفرنسـي). تحمَّل المسؤوليـة منذ الصغر، فكان لها تأثير كبير في تكوين المبادرة الفردية لديه وحرية وصواب التعامل مع الناس على الكبر. وعندما تحدث عن أساتذته، فقد قال: إنهم كانوا ينظرون إليه وكأنه إنسان متعالٍ. وذلك بسبب تفوُّقه في الدراسـة…
وأخيراً وليس آخراً، فإننا نحكم على رجاحة عقله ونضجه المبكر وذلك بالنسبة لسنِّه، ومن خلال قراءاته الكثيفة التي كان يواظب عليها، وهو في سن مبكرة، الأمر الذي زاده ابتعاداً عن الأقران والأتراب، أبناء جيله وطفولته. بدليل أنه عندما نسأله عن الصداقات، يبتدئ الحديث عن مرحلة التعليم. من هنا كانت النظرة إليه بين زملائه التلاميذ وحتى الأساتذة، على أنه يتصرف تجاههم بشئ من الاستعلاء والثقة بالنفس المبالغ فيها.