أخطر جاسوس في تاريخ إسرائيل إيلي كوهين... من جمال عبدالناصر إلى دمشق... الوقائع ولا شيء غيرها)الحلقة الأولى) إيلي كوهين... الجاسوس القادم من الأرجنتين يسكن أمام مقرّ قيادة الجيش السوري - صلاح الإمام
المصدر:google
أخطر جاسوس في تاريخ إسرائيل إيلي كوهين... من جمال عبدالناصر إلى دمشق... الوقائع ولا شيء غيرها)الحلقة الأولى)
إيلي كوهين... الجاسوس القادم من الأرجنتين يسكن أمام مقرّ قيادة الجيش السوري
القاهرة - صلاح الإمام
بعد إعلان الوحدة بين مصر وسورية في فبراير (شباط) عام 1958، أدركت إسرائيل أن الصراع مع العرب بدأ يتخذ أبعادًا جديدة، وأصبح شغل الأجهزة الإسرائيلية الشاغل العمل على تقويض تلك الوحدة، فرأى فيها ساسة إسرائيل أنها سوف تؤدي في المدى القصير إلى شل الذراع الإسرائيلية في المنطقة، وعلى المدى الطويل الى أن إسرائيل أصبحت تعيش وسط كماشة عربية، تحركها إرادة سياسية واحدة... وقيادة عسكرية واحدة.
سوري الأصل... مصري النشأة... يهودي الديانة... الغرض الرئيس من زرعه تدمير العلاقات المصريّة - السوريّة
بعد حادث انفصال الوحدة الذي وقع في 28 سبتمبر (أيلول) 1961، تنفست إسرائيل الصعداء، لكن هذا لم يكن يعني بالنسبة إليها نهاية الكابوس المفزع، لأن الشعب السوري في مجموعه ما زال مؤمنا بزعامة عبد الناصر، واحتمال عودة الوحدة ثانيا ما زال قائما، وهكذا أصبحت المهمة الأولى لجهاز المخابرات الإسرائيلي منع أي احتمال لعودة الوحدة في المستقبل بين مصر وسورية، وقال ليفي أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي لرئيس الموساد: فاجأتنا سورية بالوحدة مع عبد الناصر مرة، وتحملناها بشق الأنفس، لكن من الآن فصاعدا يجب ألا نفاجأ بها مرة أخرى مطلقًا.. وبأي ثمن.
استوعب رئيس الموساد كلمات رئيسه جيدا، وفي سبيل تحقيق الهدف قفز ذهنه فورا إلى تلك الشخصية الغامضة التي تدربها المخابرات الإسرائيلية منذ فترة, إيلي كوهين... إنه من مواليد مدينة الإسكندرية في مصر في ديسمبر (أيلول) عام 1924، وعائلته من سورية أصلا ثم نزحت إلى مصر، كان واحدًا من بين ثمانية أشقاء ولدوا في الإسكندرية، ويحملون الجنسية المصرية، وبقي هو في مصر الى أن التحق بالجامعة. عام 1944 شارك كوهين في صفوف منظمة الشباب اليهودي في الإسكندرية، وكان ولاؤه منذ ذلك الحين الى تلك المنظمة ثم الى دولة إسرائيل منذ اليوم الأول لقيامها. لما قامت دولة إسرائيل هاجرت عائلته اليها إلا هو، بقي للقيام بدور استخباراتي لخدمة الدولة الوليدة، وكانت مهمته بناء الجسور مع عدد كاف من الشباب اليهود في مصر لاستخدامهم سرًا عند الحاجة إليهم.
في 15 يوليو (تموز) عام 1954 فوجئت مصر بحدوث سلسلة من الأعمال التخريبية في بعض المنشآت البريطانية والأميركية، وكذلك دور السينما، ثم في اليوم الثاني بدأت مجموعة أخرى من الأعمال التخريبية في منشآت أخرى عدة في الإسكندرية، واتجهت أصابع الإتهام إلى الإخوان المسلمين بسبب رفضهم مشروع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، لكن السلطات المصرية اكتشفت شبكة الشباب اليهودي وعددهم 12 شابا كانوا خلف هذه العمليات الإرهابية، فقبضت عليهم وحاكمتهم، وهي العملية المعروفة باسم «سوزانا} وتعرف أيضا بـ «فضيحة لافون».
البداية من الأرجنتين
كان كوهين أحد أعضاء الشبكة، لكن نظرا الى عدم كفاية الأدلة ضده أُفرج عنه، لكنه وُضع تحت رقابة العيون الأمنية وضيِّق الخناق عليه، فاضطر للهجرة الى إسرائيل عام 1957، وعمل كمحاسب في إحدى الشركات، لكنه ظل يحلم بأن يكون جزءاً من عالم الجاسوسية، فعرض نفسه على المخابرات الإسرائيلية مرتين، ولم يتلق إجابة، ثم فوجئ ذات يوم بشخص يزوره في عمله يبدي له استعداده للتوصية بقبوله في جهاز المخابرات الإسرائيلي بشرط أن ينجح في الاختبارات المطلوبة، ويتنبه للمخاطر التي عليه أن يتحملها. عندما وجد كوهين أن المخاطر المتوقعة أكبر مما اتسع لها خياله، تردد قليلا، ثم صدر بعد ذلك بعشرة أيام قرار بفصل خمسة موظفين كان هو واحدا منهم، فشعر بحسه الفطري أن المخابرات الإسرائيلية وراء فصله، ولم يكن لديه دليل على ذلك، لكنه في النهاية سلَّم نفسه لهم.
التحق كوهين للعمل بالموساد، وبدأ يتلقى تدريباته واجتاز بعضها، ثم كان التدريب الأخير يتضمن سفره من تل أبيب إلى القدس بأية وسيلة يختارها هو، وجاءته التعليمات قبل سفره تقول له: سوف تتجه إلى مكتب السياحة، وبعد إشارة متفق عليها سوف تحصل على جواز سفر فرنسي، باسم أحد اليهود المصريين الذين هاجروا إلى جنوب إفريقيا وهو الآن في زيارة لإسرائيل، بهذا الجواز سوف تتجه إلى القدس وستبقى هناك عشرة أيام لا تتكلم سوى الفرنسية أو العربية وباللهجة المصرية فحسب، واسمك من الآن فصاعدا هو مارسيل كويان، لا تنس أن لك اسما غير اسمك الأصلي، ولا يغرب عن بالك لحظة أنك قد تكون مراقبا، وأن أي إهمال من جانبك قد يؤدي إلى قتلك.
قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) عام 1960، كانت الإستعدادات لمهمة كوهين على قدم وساق، وأصبح جاهزا للعمل في إحدى الدول العربية، وكانت المهمة العاجلة التي تسعى إليها إسرائيل في تلك الفترة هي فك الوحدة بين مصر وسورية بأي ثمن، ولذلك فلا بد لإسرائيل من التسلل إلى الطبقة الحاكمة وتدبير انقلاب في إحدى الدولتين، إما مصر وإما سورية، لكن بعد مناقشات عدة استبعدت مصر من أن تكون مسرحا لتلك العملية، واستقر الرأي على سورية.
حياة جديدة
تقرر أن تبدأ مهمة كوهين في الأرجنتين، ويرجع ذلك الى سببين: أولهما أن الملحق العسكري السوري هناك هو اللواء أمين الحافظ، وكان معروفاً عنه معاداته للوحدة مع مصر ولنظام جمال عبد الناصر، ومن ثم فلديه الدوافع كافة لتنظيم انقلاب يقوم به أنصاره داخل الجيش السوري، وثانيا كي تعد لكوهين قصة محبوكة تؤهله لأن يعيش بها بين القوم الذين سيعمل بينهم حينما يذهب إلى سورية، قال له ضابط المخابرات الإسرائيلي: «إليك الآن تاريخ حياتك الذي ستعيش به في الأرجنتين، إنك ولدت في بيروت، وعندما بلغت الثالثة من عمرك انتقلت إلى الإسكندرية مع عائلتك، واسمك من الآن فصاعدا «كامل أمين ثابت»، واسم والدتك سعيدة إبراهيم، وعائلتك سورية، وهجرتكم من الإسكندرية كانت بعد سنة من وفاة شقيقتك، ووالدك كان تاجر نسيج، وفي عام 1946 هاجر عمك إلى الأرجنتين، وبعد وقت قصير كتب إلى والدك ينصحه باللحاق به، وفي عام 1947 وصلت إلى الأرجنتين مع عائلتك، حيث دخل والدك وعمك في شراكة مع رجل ثالث في تجارة النسيج في بيونس أيرس، لكن الأمور لم تمض كما يجب، وأفلس الشركاء، وفي عام 1956 توفي والدك ولحقت به والدتك بعد ستة أشهر، وذهبت أنت لتعيش مع عمك ثم عملت فترة في وكالة سياحة، ثم انفردت بالعمل وحدك، وحققت نجاحا كبيرا». أنهى ضابط المخابرات الإسرائيلية حديثه لكوهين قائلا: «الآن تستطيع أن تذهب وسنتولى نحن بالنيابة عنك الإجراءات الرسمية كافة، وعليك أن تتصل بنا غدا»، وعندما هَّم بترك الغرفة ناداه الضابط فجأة: «كامل»، فالتفت كوهين نحوه بسرعة، فقال له الضابط: «حسنا جدا، يسرني أن أراك وقد بدأت تفكر كعربي، كل ما تحتاج إليه الآن لتصبح مقنعًا هو شارب كبير».
من وقتها أصبح للمخابرات الإسرائيلية في الأرجنتين مندوب دائم يتابع نشاط كوهين ويقابله بانتظام، ومن اللحظة الأولى لوصول كوهين إلى هناك وجد كل شيء معدا له، فهناك حساب باسمه في البنك، وشقة مستأجرة باسمه «كامل أمين ثابت» في حي كولي تاكيدا، في قلب مدينة بيونس أيرس، وثمة مدرسة ستعطيه دروسا في اللغة الإسبانية، وعنوان نادي العرب المسلمين في المدينة مع قائمة بأهم رواده، خصوصاً كان عليه أن يهتم بجورجيت الإبنة الصغرى لهواري مشهور، المهاجر السوري القديم الذي يشغل منصبا مهما في الفرع المحلي لشركة «إسو» للبترول.
بدأت شهرة كامل أمين ثابت تنتشر بين أفراد الجالية السورية، باعتباره من أشهر العزاب الظرفاء، خصوصاً بين الجنس الآخر، ثم بدأ يبذل مجهودا مكثفا للتعرف الى الشخصيات البارزة، فبدأ يتردد على النادي العربي ثلاث مرات أسبوعيا، وكانت ثقافته وكراهيته للصهاينة وإعلاناته المتكررة في جريدة «العالم العربي» التي يصدرها أبناء الجالية، سببًا في أن يستحوذ على إعجاب عبداللطيف حسان صاحب الجريدة الذي أصبح صديقه، ومن ثم حصل له على دعوة لحضور حفل استقبال رسمي تقيمه السفارة السورية، وفي الوقت نفسه أيضا ستحتفل زوجة الملحق التجاري بعيد ميلادها، وقال له حسان: «إنك اثرت اهتمام زوجة الملحق التجاري، قالت لي إنك شخصية مؤثرة إلى حد كبير».
لكن كامل قال له إن من يلفت انتباهه حقا هو ذلك الضابط هناك، الذي يبدو فعلا شخصية مؤثرة وفي أوائل الأربعينات من عمره، فصحبه حسان إلى الضابط قائلا: «سيدي اللواء... إسمح لي أن أقدم لكم رجلا وطنيا سورياً بكل ما في الكلمة من معنى»، ثم نظر نحو كامل قائلا: «هذا هو اللواء أمين الحافظ الملحق العسكري للسفارة».
لم يكن الحافظ من النوع المحب للكلام، مع ذلك وبعد قليل من الوقت قال له كامل: «سيدي اللواء... سمعت أن ثمة قلاقل بين جموع شعبنا في سورية في الوقت الحاضر»، فقال الحافظ: «نعم... استغل جمال عبد الناصر الوحدة معنا كي يحاول أن يستولي على سورية ويسيطر على الأمور، ولو أن الأمر بيدي لحطمت هذه الوحدة وقضيت على عبد الناصر وإسرائيل معا».
سأله كامل: «أتعتقد أن سورية قادرة على ذلك بمفردها؟» رد الحافظ: «إني أؤمن بذلك حقا، لكن علينا أولا أن نغير نظام الحكم الراهن، فقد ضللتهم شعارات عبد الناصر الزائفة»، وقال له كامل: «سيدي... لو أن السوريين من أمثالك لكان مستقبل سورية مختلفًا تمامًا. لا يتحقق مثل تلك المعجزات الكبرى إلا على أيدي زعماء مثلك».
كلمات في الصميم
أصابت كلمات كامل ثابت الهدف في الصميم، فقد خاطبت غرور الحافظ الذي كان في تلك اللحظة على اتصال وثيق بمجموعة في دمشق تدبّر لقلب نظام الحكم، وخلال فترة قصيرة توثقت علاقات كامل أمين ثابت تمامًا بالملحق العسكري السوري في الأرجنتين.
استدعت المخابرات الإسرائيلية كوهين، حان الوقت كي يدخل سورية، ونظرا الى أنه يحتاج أجهزة إرسال واستقبال وأدوات أخرى تلزمه في عمله كجاسوس، أُعدت ترتيبات خاصة قبل دخوله سورية: سافر بالبحر إلى بيروت أولا، وتعرف الى شخص معين كان تاجرا من أصل سوري، له علاقات وثيقة برجال الجمارك السوريين على الحدود مع لبنان، وصحبه التاجر فعلا وبعد أن قال الأخير لضابط الجوازات على الحدود إن حقائب كامل لا تضم سوى صور جنسية، وأعطاه مبلغا من المال، مرت الحقائب بسلام.
حمل كامل أمين ثابت في طريقه الى دمشق اسم وعنوان تاجر في دمشق، كي يتصل به ويدبر له «فيللا» بالإيجار. كانت الفيللا تطل على مركز قيادة الجيش السوري في حي «أبو رمانة»، وفي مواجهة المدخل الفاخر لبيت الضيافة حيث ينزل ضيوف الحكومة السورية، وعندما طالبه المالك بإيجار سنة مقدما لم يتردد لحظة ووضع في يده 1300 جنيه نقدا، مستغلاً الميل الطبيعي للثرثرة وتناقل الأخبار، وهو أمر من شأنه أن ينشر بسرعة أخبار الساكن الجديد الثري، ما يجعل من يطرقون بابه كثيرين.
كان حادث انفصال الوحدة بين مصر وسورية وقع قبيل وصول كامل إلى دمشق بأسابيع قليلة، وكان ذلك سر قرار المخابرات الإسرائيلية توجيهه بضرورة ذهابه الى دمشق، فقد كانت التوقعات كافة تشير إلى احتمال قيام انقلاب مضاد يكون مواليا لزعامة عبد الناصر، لذلك لم تكن مكافحة الجاسوسية تشغل أي جزء من اهتماماتهم، ولم يعرف أحد منهم أن هذه الغفلة الكبرى ستكون مقبرتهم جميعًا.
لم يكن كوهين يفضل الوجود في سورية بل كان يريد الذهاب إلى مصر والعمل فيها كجاسوس لحساب إسرائيل، فهو من مواليد الإسكندرية وتعلم في مدارسها، ويجيد اللهجة المصرية، فضلا عن أنه يريد الانتقام من الشرطة المصرية بنجاحها في كشف عملية سوزانا، أو «فضيحة لافون» كما عرفت بعد ذلك، لكن جهاز المخابرات الإسرائيلية رأى أن يرسل كوهين إلى سورية بدلا من مصر، وكانت أسباب ذلك عدة: أولها أن الإجراءات الأمنية في مصر أكثر تطورا وصرامة من سورية، خصوصا بالنسبة الى القادمين من الخارج، وأصبح لمصر جهاز أمني هو الأكثر كفاءة بين الدول العربية كافة، ثم إن سورية، لا سيما بعد الانفصال، أصبحت بابا جديدا لضرب عبد الناصر في مصر وإسقاط هيبته في العالم العربي، والهدف الإسرائيلي العاجل الآن يركز على منع احتمال عودة الوحدة بين مصر وسورية مستقبلا، وهكذا... أصبح إيلي كوهين أو كامل أمين ثابت في دمشق باعتباره أخطر جاسوس لإسرائيل.