النهار - من حقيبة النهار الديبلوماسية سوريا في لبنان: من الحكم الى النفوذ تعاون وتنافس وتوزيع أدوار بين دمشق وطهران
الجمعة 22-10-2010
من حقيبة النهار الديبلوماسية
سوريا في لبنان: من الحكم الى النفوذ
تعاون وتنافس وتوزيع أدوار بين دمشق وطهران
"لبنان يعيش في ظل إدارة لبنانية - سورية - عربية - إقليمية - دولية لشؤونه وتوجهاته تتكون من العناصر الأساسية الآتية: أولاً - انتقال الدور السوري من مرحلة حكم لبنان الى مرحلة امتلاك نفوذ فيه، ثانياً - إصرار اللبنانيين في غالبيتهم الواسعة على التمسك باستقلا ل بلدهم وسيادته، ثالثاً - حرص السعودية المدعومة عربياً ودولياً على رعاية مسار العلاقات بين الدولتين اللبنانية والسورية من أجل تحسينها ومنع هيمنة دمشق على الشؤون اللبنانية مجدداً، رابعاً - وجود حماية دولية للبنان المستقل وجهود لمنع جهات إقليمية من إبقائه ساحة مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، خامساً - وجود "ضغط" أميركي - دولي - عربي على نظام الرئيس بشار الأسد لمنع حلفائه اللبنانيين من تفجير الأوضاع بسبب المحكمة والقرار الظني المتوقع صدوره قريباً، سادساً - حرص سوريا وإيران على التعاون والتنسيق والتكامل وتوزيع الأدوار بينهما في لبنان يترافق مع وجود تنافس بينهما وهو ما عكسته زيارة الرئيس محمود أحمدي نجاد التي هدفت الى تعزيز المشروع الايراني في هذا البلد وإظهار قدرة الايرانيين على التعامل مباشرة مع القيادات اللبنانية الأساسية ومحاولة إيجاد حلول للمشاكل العالقة من دون طلب مساعدة السوريين".
هذه خلاصة تقرير جديد أعده مركز ديبلوماسي تابع لوزارة خارجية دولة أوروبية بارزة يتناول طبيعة الدور السوري في لبنان وحجمه استناداً الى لقاءات في بيروت ودمشق والرياض وباريس وواشنطن وعواصم أخرى ويتضمن الأمور والعناصر الأساسية الآتية:
أولاً - لم تعد سوريا تحكم لبنان وتتصرف بقراراته وتوجهات، بل بمصيره، كما كان الحال طوال سني الهيمنة عليه، بل إن هذا الواقع تبدل جذرياً بعد الانسحاب السوري من هذا البلد في نيسان 2005 وانهيار النظام المشترك السوري - اللبناني نتيجة الانتفاضة الشعبية الضخمة التي فجرها الاستقلاليون إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه والدعم الدولي والعربي الواسع لها. كما انتهت مرحلة "العلاقة الوحدوية" التي أنشأتها معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق الموقعة في أيار 1991 وكرسها وجود قيادة مشتركة تدير شؤون البلدين وتحمل إسم المجلس الأعلى. هذه المعاهدة لا تزال نظرياً سارية المفعول ولم تلغ رسمياً، لكن العلاقات بين البلدين لم تعد تخضع، على الصعيد العملي والواقعي لنصوص هذه المعاهدة والتزاماتها، ولم تعد ثمة قيادة مشتركة سورية - لبنانية تدير شؤون لبنان.
ثانياً - لم تعد سوريا تملك تفويضاً دولياً عربياً لإدارة شؤون لبنان وحدها كما كان الحال في مرحلة ما قبل الانسحاب، ولم تعد علاقات الدول العربية والأجنبية البارزة والمؤثرة مع بيروت تمر عبر دمشق أولاً بل إن هذه الدول تتعامل مباشرة مع الحكم اللبناني وتتوصل الى تفاهمات معه ومع الكثير من القيادات اللبنانية وتأخذ في الحساب وجهات نظر اللبنانيين ومصالحهم الحيوية المشروعة لدى تحديد سياساتها حيال لبنان وسوريا عوض أن تعتمد في تقويمها لأوضاع هذا البلد على ما يقوله لها المسؤولون السوريون.
ثالثاً - لم يعد النظام السوري هو الذي يشكل الحكومات ويختار وحده رئيس الجمهورية ويشرف على تأليف اللوائح الانتخابية في لبنان أو يتدخل مباشرة في تعيين الموظفين وخصوصاً الكبار منهم أو يمارس سلطة الوصي الحقيقي على مسار الأوضاع في هذا البلد كما كان الحال طوال سني الهيمنة عليه. وقد صارت سوريا تساهم مع دول أخرى ومع الأفرقاء اللبنانيين في تشكيل الحكومات اللبنانية لكنها لم تعد وحدها صاحبة القرار في هذا المجال، كما ان الانتخابات النيابية والبلدية وغيرها جرت وتجري منذ العام 2005 حتى اليوم بحرية، مما أدى الى فوز الاستقلاليين بالغالبية الواضحة في المعارك الانتخابية، ومما أدى الى نشوء رأي عام استقلالي قوي يمثل مختلف الطوائف ويفرض تأثيره على صنع القرارات وهو ما لم يكن يحدث في المرحلة السابقة. والحكم، ممثلاً بالرئيسين ميشال سليمان وسعد الحريري، ليس تابعاً لدمشق، بل إنه يعمل في ظروف صعبة من أجل جعل سوريا تعتاد تدريجاً استقلال لبنان وتتعاون معه على هذا الأساس، وتتفهم تدريجاً ان الاستقلال ليس عملاً عدائياً موجهاً ضدها، بل انه حق مشروع لللبنانيين مدعوم دولياً وعربياً على أوسع نطاق. ولم تعد مهمة الحكم اللبناني تقتصر على تأمين المصالح السورية أولاً.
حدود الدور السوري
رابعاً - لبنان المستقل السيد له وجود دولي حقيقي وليس رمزياً أو شكلياً، وهو يخضع لرعاية دولية - عربية نتيجة صدور عدد كبير من قرارات مجلس الأمن المتصلة به وخصوصاً منذ العام 2004 حتى اليوم والتي تدعم استقلاله وتفرض رقابة مستمرة عليه وعلى علاقاته مع سوريا وإسرائيل ودول أخرى، وكذلك نتيجة اهتمام دول أجنبية وعربية عدة بتطورات أوضاعه المرتبطة في وقت واحد بالنزاع العربي - الاسرائيلي وبالمواجهة الدولية - الايرانية وبمصير منطقة الشرق الأوسط نتيجة الصراعات المختلفة الجارية فيها. وهذه الرعاية الدولية - العربية للبنان تثير انزعاج النظام السوري لأنها تشكل عامل ضغط مهماً عليه وتضع قيوداً عدة على نشاطاته في الساحة اللبنانية وتمنعه من تحقيق أهداف عدة.
خامساً - سوريا تملك نفوذاً مهماً في لبنان لكنها لم تعد قادرة على أن تتصرف فيه وبه كما تريد ووفقاً لإرادتها وحساباتها ومخططاتها. ويمكن القول إن نفوذ سوريا المهم في لبنان ناتج من حاجة البلدين أحدهما الى الآخر ولأنهما في حال صراع مع عدو مشترك هو إسرائيل وبسبب وجود فريق بارز من اللبنانيين مرتبط بدمشق ومؤيد لسياساتها وتوجهاتها ومدافع عن مصالحها. لكن دولاً عربية وأجنبية بارزة عدة تملك أيضاً نفوذاً مؤثراً في مجالات عدة في لبنان، وهذه الدول تدعم الدور السوري بشروط إذ انها تدعم دوراً سورياً إيجابياً مسانداً للحكم وللسلطة الشرعية ومساهماً في تعزيز الأمن والاستقرار والسلم الأهلي في هذا البلد. لكن هذه الدول ترفض وتعارض أي دور سوري سلبي في لبنان يدعم استخدام العنف والقوة المسلحة في الصراع السياسي الداخلي ويزعزع الاستقرار ويشكل تهديداً لأوضاعه الداخلية ولوحدته الوطنية. ووفقاً لما قاله ديبلوماسي أوروبي مطلع: "إن النظام السوري اضطلع بدور سلبي ومهدد للاستقرار خلال سنوات المواجهة مع الاستقلاليين قبل انسحابه من هذا البلد وبعده. لكن هذا الدور السوري تبدل من جهة لأن هذه المواجهة لم تؤد الى هزيمة الاستقلاليين وعودة السوريين الى حكم لبنان، ومن جهة ثانية لأن المصالحة السعودية - السورية مطلع 2009 جعلت نظام الأسد يدرك أن مصالحه الحيوية تتطلب منه الاضطلاع بدور إيجابي في هذا البلد".
سادساً نظام الأسد أصبح أكثر واقعية وانفتاحاً في التعامل مع الأوضاع في الساحة اللبنانية مما كان سابقاً. ومن الخطأ القول إن النظام السوري تخلى عن كل طموحاته وحساباته الخاصة اللبنانية وعن مساعيه لإضعاف الاستقلاليين أو لتقليص نفوذهم، لكن الأمر الصحيح والدقيق هو ان هذا النظام طوى صفحة الهيمنة الكاملة على لبنان وصار يدرك أن ثمة قيوداً لبنانية وإقليمية ودولية على الدور السوري فيه، ولم يعد يضع في حساباته أنه سيحكم هذا البلد مجدداً بل صار أكثر استعداداً للانفتاح على خصوم الأمس من اللبنانيين، وإن بحذر شديد وضمن شروط وقواعد محددة، على أساس أن ذلك سيساعد على تعزيز النفوذ السوري ويساهم في تحسين علاقاته مع دول بارزة عدة. وضمن هذا الاطار صار نظام الأسد أكثر استعداداً لتنفيذ بعض مطالب الدول العربية والأجنبية، وأبرزها الاعتراف الرسمي باستقلال لبنان وتبادل العلاقات الديبلوماسية معه ومناقشة موضوع ترسيم الحدود ومواضيع أخرى حساسة ومهمة لم تكن المحادثات السورية - اللبنانية تتناولها سابقاً، إضافة الى العمل على تحسين العلاقات وتطويرها بين الدولتين اللبنانية والسورية على أساس الاحترام المتبادل وتفهم المصالح اللبنانية المشروعة، خلافاً لما كان الحال خلال مرحلة الهيمنة على البلد.
قلق سوري من المحكمة
سابعاً - ثمة خلاف أساسي بين النظام السوري والدول البارزة المعنية بمصير لبنان يتعلق بدعم "حزب الله"، فنظام الأسد يضطلع بالدور الأساسي في تعزيز القدرات العسكرية والتسلحية للحزب وفي تأمين الحماية السياسية له من خلال الاصرار على أن يحتفظ بسلاحه وبقرار المواجهة مع إسرائيل خارج سلطة الدولة اللبنانية، الى أن يحل النزاع العربي - الاسرائيلي ويستعاد الجولان المحتل وليس الأرض اللبنانية المحتلة فحسب. وفي الوقت الذي يرى المسؤولون السوريون أن دعم المقاومة المسلحة اللبنانية والفلسطينية "أمر مشروع وضروري وحيوي" تفرضه وتتطلبه المواجهة مع إسرائيل، فإن الدول البارزة المعنية بهذه القضية ترى أن ما يريده النظام السوري فعلاً، وبالتفاهم مع إيران، هو إبقاء لبنان ساحة مواجهة مفتوحة مع إسرائيل بديلة من جبهة الجولان المقفلة منذ العام 1974 أمام العمليات والنشاطات العسكرية والفدائية المختلفة، وذلك من أجل تعزيز الموقع التفاوضي للسوريين والايرانيين في تعاملهم مع الدول الكبرى. ولم يتم التوصل حتى الآن الى أي تفاهم بين نظام الأسد والدول البارزة المعنية بمصير لبنان على هذه القضية المهمة التي يمكن أن تفجر الأوضاع في الساحة اللبنانية، سواء اذا قررت إسرائيل مواجهة "الخطر الاستراتيجي" الذي يشكله امتلاك "حزب الله" صواريخ أرض - أرض وأرض - جو متطورة من خلال الحرب، أو اذا قرر "حزب الله"، بالتشاور والتنسيق مع دمشق وطهران، إشعال جبهة القتال مع الدولة العبرية رداً على أي هجوم عسكري إسرائيلي أو أميركي يستهدف المنشآت النووية والحيوية الايرانية أو لأي سبب آخر.
ثامناً - حدود الدور السوري تعكسه عدم قدرة نظام الأسد على منع تشكيل محكمة خاصة بلبنان، بقرار صادر عن مجلس الأمن استناداً الى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، مكلفة النظر في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وفي جرائم سياسية أخرى متصلة بها، وعدم قدرته كذلك على وقف عمل المحكمة أو منع المدعي العام الدولي دانيال بلمار من إصدار قراره الظني. ووفقاً لمعلومات باريس وواشنطن وعواصم أخرى، فإن القيادة السورية متخوفة جدياً من مضمون القرار الظني المتوقع صدوره قريباً، خصوصاً انها ليست قادرة على التحكم بمسار العملية القضائية الدولية وانعكاسات مضمون القرار على الساحة اللبنانية وعلى سوريا وعلى علاقاتها مع جهات عدة.
وكما قال ديبلوماسي أوروبي مطلع "ان مذكرات التوقيف الغيابية التي أصدرها القضاء السوري في حق 33 شخصية لبنانية وعربية ودولية تعكس قلق نظام الأسد من المحكمة وقراراتها وعجزه عن منع إصدار القرار الظني، وهي ليست دليلاً على نفوذ سوري طاغ وواسع في لبنان، كما انها تظهر عدم قدرة النظام السوري على التأثير على دول عربية وأجنبية عدة معنية بمصير لبنان". وأضاف: "المهم ليس المطالب التي يقدمها النظام السوري الى المسؤولين اللبنانيين، وهي كثيرة، بل المهم أن يكون هذا النظام قادراً على تأمين تنفيذ مطالبه. والواضح إن نظام الأسد لم يعد قادراً على الحصول على كل ما يريد في لبنان لأن هذا البلد لم يعد خاضعاً لوصايته".
تاسعاً - مسار العلاقات بين لبنان وسوريا ينسجم ويتلاءم مع مطالب القوى الاستقلالية، ولو لم يؤمنها كلها، أكثر مما ينسجم مع مطالب حلفاء دمشق، فالاستقلاليون المدعومون من الغالبية الواسعة من اللبنانيين يرفضون أي هيمنة أو وصاية سورية على لبنان لكنهم يؤيدون إقامة علاقات طبيعية جيدة ومتينة مع سوريا على أساس المساواة والاحترام المتبادل والحرص على تأمين المصالح اللبنانية الحيوية المشروعة وليس مصلحة بلد على حساب الآخر. والتقارب بين الدولتين اللبنانية والسورية يجري، مبدئياً ونظرياً، على هذا الأساس لكنه يصطدم بعقبات مهمة ناتجة خصوصاً من رغبة نظام الأسد في فرض مطالب عدة على اللبنانيين. وفي المقابل، يتمنى الاستقلاليون أن يتخذ البلدان قرارات واضحة وحاسمة تتعلق بقضايا مهمة عالقة أبرزها إنهاء دور لبنان ساحة مواجهة مفتوحة وترسيم الحدود نهائياً ومعالجة مشكلة المفقودين المعتقلين وتكريس لبنانية منطقة شبعا رسمياً وخطياً لتسهيل استعادتها بالوسائل الديبلوماسية. أما حلفاء دمشق فإنهم يرغبون في إعادة ربط لبنان بسوريا في كل المجالات، كما كان الحال سابقاً، لكن هذا الاحتمال لم يعد وارداً إطلاقاً لأسباب جوهرية عدة لبنانية وإقليمية ودولية.
بقلم عبد الكريم أبو النصر